الوردة الشامية

حملتُ اسم أقدم عواصم العالم، وتجذَّرت فيها واستوطنت. كلُّ الذين مرُّوا من هنا أغراهم جمالي الآسر الأخَّاذ، ورائحتي العطرة النفَّاذة، ومنظري الذي يبعث في النفس الطمأنينة، ولون أزهاري الذي يَسر الناظرين؛ فحملوني مع قوافلهم التجارية، ومع قوافل الحُجَّاج المسلمين، وانتقلت أطوف معهم إلى معظم بلاد العالم القديم؛ إلى فرنسا وبلغاريا، وإلى بلاد المغرب العربي، وتركيا، وإيران، والهند، ولبنان. ومن سوق البزورية في دمشق شُحنَت عشرات الأطنان من أزهاري إلى أوروبا؛ لأحط رحالي ضيفةً عزيزةً في معامل الخبرة الفرنسية، يستخلصون مني زيتًا ثمينًا، وماءً سلسبيلًا، فيه الصفاء، والعطر والطيب، والدواء.

تُوِّجتُ ملكةً على الورود، وأصبحت سفيرة سوريا إلى العالم، وخُلِّد اسمي في روائع الأعمال الأدبية العالمية؛ في الأوديسة والألياذة. وفي إحدى روايات الكاتب البريطاني الشهير وليم شكسبير عندما أراد وصف جمال امرأة في إحدى مسرحياته فقال: جميلة كجمال وردة دمشق.

أنا شجيرة قائمة كبيرة الحجم، قوية النمو، كثيرة التفرُّع، معمِّرة متساقطة الأوراق، واسعة التحمُّل للظروف البيئية المختلفة.

غرسني المزارع منذ قديم الزمان حول بستانه في غوطة دمشق، وحول منزله الريفي، فكنت حارسًا أمينًا، يُضفي على البستان جمالًا، ويوفِّر له حمايةً وأمانًا، يساعدني في ذلك أشواكي الحادة التي أتسلَّح بها، والمنتشرة على فروعي الكثيرة المتشابكة، تشكِّل حزام أمان للمنزل والبستان وأصحابه، ولأعشاش الشحرور التي وجدت في حضني سكنًا وملاذًا آمنًا تأوي إليه وتحتمي به من المتطفِّلين والمفترسين.

أزهاري عطرية وردية اللون، تخرج في عناقيد مشطية المظهر، تتفتَّح في فصل الربيع خلال شهر أيار، وقد تتفتَّح ثانيةً في الأراضي المروية، فتُضفي على الكون جمالًا بألوانها المتميِّزة، ناشرةً أريجًا يعطِّر النسمات، ويعبق الأنفاس ويبعث النشاط في النفوس.

figure
figure

منذ ساعات الفجر الأولى وقبل شروق الشمس، تستقبل أزهاري فتيات القرية ونساءَها، وقد اجتمعن يحملن السلال فرحات يتبادلن الأحاديث والنكات، ويقطفن برفق أزهاري التي تفتَّحت للتو تشرشر عطرها، ناشرةً شذاها، يتسابقن في قطاف أكبر كمية منها قبل ارتفاع حرارة الشمس حفاظًا على زيوتها العطرية، والتي ستتحوَّل بعد ساعات من قطافها إلى سائل عطري يسكن زجاجات جميلةً تملأ رفوف المحلات، وتحتَل مكانًا في مطبخ الأسرة، أو خزانة ربة المنزل، سائلًا عطريًّا نقيًّا فيه خلاصة الجمال الطبيعي ونكهته دون إضافات.

يجمعن بتلات أزهاري ويفرغن الحمولة كلما امتلأت السلال في ذلك المكان بعيدًا عن أشعة الشمس، ومنه إلى جهاز التقطير الخاص بالأسرة.

وجهاز التقطير هو حلة نحاسية كبيرة لها غطاء، والغطاء هو أيضًا على شكل طنجرة أصغر، يمر منه أنبوب يسمح للبخار المتصاعد من الطنجرة الأساسية بالمرور خلاله والتكاثف فيه إلى قطرات تتجمع داخله وتسيل؛ لتُصب في إناء الجمع، وهو عادةً قارورة زجاجية. يسمُّون جهاز التقطير هذا بالكركة، والنوع الجيد يُصنع من النحاس، ويُعطي ناتجًا أفضل بكثير من تلك المصنوعة من معادن أخرى كالألمنيوم أو التوتياء.

توضع أزهاري المقطوفة في الطنجرة وتُغمر بالماء، بحيث تكون كمية الماء مساويةً لكمية الأزهار، وحسب سعة الطنجرة، فإذا كانت كمية الأزهار في وعاء التقطير خمسة كيلوغرامات، يُضاف فوقها خمسة ليترات من الماء، فيكون ناتج التقطير خمسة ليترات من ماء الورد الطبيعي دون أية إضافات. يتم تعبئتها في زجاجات تستقبل قطرات ماء الورد من أنبوب التقطير، أمَّا الغطاء فيُملأ بالماء البارد لتبريد الأنبوب من أجل تكاثف البخار المار به وتحويله إلى سائل، ويتم إبدال ماء التبريد الموجود في الغطاء كلما سخن؛ لزيادة نسبة تكاثف بخار الماء المتصاعد من الكركة داخل أنبوب التقطير.

وتتوقَّف جَودة مائي وجَودة الزيت الناتج عن تقطيره على كمية أزهاري الموضوعة في الكركة، وعلى قوة وحجم النار المستخدمة في الغلي؛ فكلما قلَّت كمية الأزهار بحيث لا تُرص كثيرًا، كانت النكهة أجود والرائحة أزكى، وكلما كانت النار هادئةً قليلة الاتساع، طال زمن تكاثف البخار، وبالتالي يتم الحصول على مائي الغني بحمض الفال، وحمض الليمون، والزيت العطري بجَودة عالية.

الماء المستخلص من أزهاري هو ماء الورد الطبيعي، يُفيد بشرتكم ويغذِّيها ويرممِّها وينقِّيها ويرطِّبها، ويدخل في العديد من صناعاتكم الطبية والصيدلانية ومستحضرات التجميل والنظافة، وفي صناعاتكم الغذائية الكثيرة، ومنه تصنعون شراب الورد الطبيعي الذي يتكوَّن من مقطَّر مائي، ومغلي بتلاتي، إضافةً إلى السكر، يُشرب باردًا، مفيد لكم ينعشكم صيفًا وشتاءً، وهو غني بالفيتامين (سي)، منظِّم للهضم، وملطِّف لتَهيُّج الأغشية المخاطية.

أمَّا زيتي الصافي المستخلص من تقطير أزهاري، فهو ثمين جدًّا؛ فلحصولكم على واحد مللي ليتر منه يلزمكم «٦٠٠» زهرة.

وهو المكوِّن الرئيس في تحضير خلطات العطور العالمية، وله خواص طبية علاجية؛ فهو مضاد فطري، بكتيري، وفيروسي لكل المشكلات التي تتعرَّض لها البشرة، وهو مفتِّح للونها وقابض لمسامها، يُستخدم في الالتهابات العينية الخفيفة، ومغطِّس للأطفال في حالة الحساسية والاحمرار، ولمعالجة حموضة المعدة، وتنظيم ضربات القلب.

أمَّا عن أزرار وردتي المشهورة؛ فهي براعمي الزهرية التي يتم قطفها قُبيل تمام تفتُّحها، وتُجفَّف للحصول على الزهورات الشامية التي تضم البتلات الملوَّنة، وأعضاء التأنيث والتذكير في الزهرة الحاوية على العديد من العناصر الغذائية المهمَّة مثل: البكتين، والسكر، ونسبة عالية من فيتامين ج، وعلى العديد من المواد الصباغية وأحماض الفواكه، ممَّا يجعلها من النباتات المفيدة والمهمَّة لأجسامكم، تساعد على زيادة مناعتها حين استخدامها مشروبًا صحيًّا طبيًّا على مدار العام؛ وذلك بنقعها بالماء المغلي عدة دقائق للحصول على مشروب زهورات الوردة الشامية. ولها فوائد كثيرة في معالجة أمراض الجهاز التنفُّسي والهضمي؛ لغناها بزيوت طيَّارة مضادة للأكسدة، إضافةً إلى عناصر كثيرة غيرها.

ليس هذا فحسب، بل تُطحن براعمي المجفَّفة ويضاف مسحوقها كبهار منكه إلى الحلوى والكعك والقهوة، فيُضفي عليها طعمًا ونكهةً لطيفة.

أمَّا عن ثماري فهي كبسولية الشكل، حمراء اللون، غنية جدًّا بفيتامين «سي»؛ ولذلك كانت رفيق البحَّارة، يحملونها معهم في أسفارهم، ويتغذُّون عليها للوقاية من مرض الأسقربوط. تُغلى ثماري مع بذورها وتُشرب لمعالجة الحصى والرمل في الكُلى.

وكما ترون ممَّا سبق، فأنا منجم طبيعي يُستخرج منه كل ما يفيد بني البشر؛ فمن أزهاري الطازجة المتفتِّحة، ومن براعمي الجافة غير المتفتِّحة، ومن ثماري الطازجة والجافة، حصلتم على الغذاء والدواء، وعلى الشراب البارد المنعش، والشراب الساخن المدفِّئ، وعلى المنظر الجميل والهواء النقي العليل.

منتجاتي عديدة منها: «زيت الورد، ماء الورد، مربَّى الورد، أزرار الورد أو زهورات الوردة الشامية، والعشرات من منتجات أدوات التجميل والمساج ولوازم النظافة الشخصية كالصابون والشامبو، وملطِّفات الجو والعطور، والمركَّبات الصيدلانية الكثيرة».

تنجح زراعة شُجيراتي في بيئات قاسية لا تصلح لزراعة نباتات أخرى فيها؛ فأساعد بذلك على نشر الجمال والغطاء الأخضر، والحد من التصحُّر، إضافةً إلى زيادة رُقعة الأماكن المشجَّرة وما يتبع ذلك من إشادةٍ للمنشآت العمرانية، والنشاط السكَّاني، وتوفير فرص العمل في قطاعات عديدة.

وهكذا اكتسبتُ شهرتي وأهميتي لكثرة فوائدي العطرية والطبية والغذائية والتجميلية والجمالية والاقتصادية التي أقدِّمها لكم؛ فأولتني الدولة الرعاية والاهتمام الكبير بهدف التوسُّع في زراعتي وتقديم كل ما يلزم لاستثمار وتسويق منتجاتي بالشكل الأمثل؛ فهي أغلى من الذهب، وأبقى من النفط.

وقبل أن أودِّعكم أذكِّركم بنفسي فأقول: أنا الوردة الشامية، ملكة الأزهار. اشتُهرت بالوردة الدمشقية، لا روزا داما سكينا، وأنا الورد السلطاني، والورد المحمَّدي. أحتَلُّ المرتبة الأولى من حيث الأهمية. عطري من أغلى عطور العالم. أثمن من الذهب، وأبقى من النفط. منجم مهم من مناجم الطبيعة؛ فمن أزهاري حصلتم على زيت الورد؛ ذلك السائل الثمين المشهور عالميًّا كأساس لصناعة العطور، متعدِّد الاستعمالات. وحصلتم على ماء الورد، الذي لا يخلو منه منزل، أو صناعة غذائية، أو صيدلانية طبية، أو وصفة شعبية. وحصلتم على أزرار الورد، وشراب الورد، ومربَّى الورد. يمكنني التلاؤم مع البيئات المختلفة، وأساهم في الحد من التصحُّر، وتنشيط السياحة البيئية، وتوفير بيئة مناسبة لتربية النحل وإنتاج العسل الذي جعل الله فيه شفاءً لكم.

fig17
مخطط يبين طريقة تقطير الوردة الشامية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤