المحاورة السادسة والعشرون

٥ من أبريل ١٩٤٢م

وأخيرًا حل الربيع. وكان المساء من ليالي الربيع اللطيفة الأولى، التي تهب فيها نسماتٌ منعِشة لا تعرف مِن أين مأتاها، ويُغرد فيها الهزار، حيث تزدهر في فِناء الكلية أزهارُ الربيع الصفراء اليانعة، وأزهارُ شجر اللوز القَرَنفُلية. وبعدما تناولتُ العشاء في نادي هيئة التدريس، اتصلتُ تليفونيًّا بمسز هوايتهد، وسألتُها: أأستطيع أن أؤديَ لهما زيارة؟

فقالت: «تعالَ فورًا، ولن تُقابل لدينا أحدًا سوى جريس دي فريز.»

ولا يَبعد فندق أمباسادور عن النادي سوى مسيرة خمس دقائق، وكانت السماء ناحية الغرب تتلألأ بلون أحمرَ داكنٍ ملتهب، يبدو من فوق قِمم أشجار الدردار. ولم أكن قد رأيتُ آل هوايتهد منذ شهر فبراير، وهكذا تسير المدينة في الشتاء؛ بغير قلب. وكان يبدو على مسز هوايتهد التعب، ولكنها متألِّقة كعادتها، وكان باب مكتب الأستاذ مغلقًا، فجلَسْنا بُرهة نتحدث في غرفة الجلوس، حيث كانت تحتفظ بآنية مليئة بزَهْر البنَفْسج الإنجليزي، ووُضِعَت على النَّضَد المجاور لمقعدها. والزهر يَنشر أريجَه في أنحاء الغرفة، وتحدثَت عمَّن تعرف من النساء اللائي يستَطِعْن أن يُبعِدن عن أذهانهن البتةَ كلَّ ما تثير الحرب من أفكار.

قالت: «لا يجب أن يَحدث ما تنقبض له نفوسُهن؛ فالسعادة ضرورية لصحتهن … ويجب أن يحصلن على ثياب جديدة كلَّ الجِدَّة، وإلا كن مُشعَثات! كيف تُفكِّر هذه العقول؟! إنها فوق مستواي. إنني — من الوجهة النظرية — أَغبِط هذا الانعدام في الإحساس. ولكني في الحقيقة أوثر أن أموت على أن أتجاهل ما يدور حولي من حوادثَ إلى كل هذا الحد.»

– «ما دمتِ قد قدَّمتِ الاعتراف، فسوف أقدمه كذلك. وأنا أعرف واحدًا من هؤلاء الذين يُثيرون الحسدَ من الوجهة النظرية؛ إنه نموذجٌ لصاحب مزرعة، رجل غايةٌ في الرقة، الدنيا كما هي تُلائمه كلَّ الملاءمة، ويُلائمها كل الملاءمة. وأشك في أنه شعَر ذات يوم بحاجةٍ إلى غيرِ ما يملك؛ بيتٌ كبير، وملعبٌ للتنس، وزوجة، وأسرة، ودخل طيب. وفي لحظاتِ يأسي أقول لنفسي: لماذا لم تَستطِع أن تكون على غراره؟»

– «ولكنك لا تَعني ما تقول لحظةً واحدة في حياتك.»

– «كلا ولا شك؛ كيف حال ألفرد في طقس هذا الفصل من العام؟»

– «إنه دائب على العمل، وهو في بعض الأيام أصحُّ منه في بعضها الآخر. ولكنه لا يُعاني أمرًا خطيرًا.»

ثم نهضَت وفتحَت باب المكتب.

وقالت في صوت منخفض: «إن لوشيان هنا.»

ونَمَّ صوته في الداخل عن ترحيبٍ قلبي.

ووَلَجت الغرفة، وكان يجلس على أحد المقاعد الكبيرة، وتحت قدَمَيه ما يُسنِدهما إليه، يقرأ مكتوبًا بحروف مطبوعة كبيرة في ضوء مصباح للمطالعة.

وقال وهو ينهض من مكانه: «هذا المكتوب يدلُّنا على الطريقة التي نحقق بها نظامًا عالميًّا في خلال ثلاثمائة عام، إذا أدرك ما يَتحدث عنه الكاتب عددٌ كافٍ من الناس.»

فعلقت بقولي: «إن أكثر أمثال هذه المشروعات تَفترض أن جميع سكان العالم بعقليَّة أساتذة الجامعات.»

فقال: «أجل، ويتطلب ذلك مدةً أطولَ من ثلاثمائة عام بكثير، وهذا فوق أن المشروع ذاته يُحاط بالشك في الرغبة في تنفيذه.»

ودق جرس الباب. وفتَحه، وكانت القادمة جريس دي فريز.

فقال مبتهجًا: «سنَقضي وقتًا طيبًا.»

وذكَر أحدُنا بهذه المناسبة أنشودةً من أناشيد الأطفال، وأُثيرَ سؤال عن تاريخ هذه الأناشيد.

فقال: «أعتقد أن بعضها يَرجع إلى مصر. ويطرأ على هذه الأناشيد شيءٌ من التهذيب كلَّما انحدرَت في عصور التاريخ المتقدمة، ولكنها لا تتغير في صميمها.»

قلت: «الأطفال عندكم هم المحافظون المناضلون. أناشيدهم تنتقل خلال الأغاني الشعبية — بما فيها من كلمات بذيئة — من جيل إلى جيل دون أن تَحيد، وبعض الألفاظ إقليميٌّ بَحت، وهناك لفظة ألِفتُ الاستماع إليها وأنا صبي في الغرب الأوسط، لم أسمع بها شرقيَّ إليجنيز، حتى استعملها صبي من منتانا كان في زيارتي، واللفظة تحريفٌ مَحلِّي على الأرجح لكلمة [جهنمي].»

فقالت جريس: «إن أطفالي يعودون إلى بيتهم بنفس القصص والفكاهات التي كنتُ أسمعها وأردِّدها حينما كنت في مثل سنِّهم، ولم تطرأ على ذهني منذ سنوات.»

وقال هوايتهد: «إن المكان الوحيد الذي يَعجز فيه تأَمْرُكي هو النِّكات التي تَرويها صحيفة نيويوركر، وأستطيع بوجه عام أن أدرك الفكاهة في الصور، ولكن التعليق كثيرًا ما يَخرج عن دائرة إدراكي.»

وقالت جريس: «لا ينبغي أن تأسف لذلك؛ فإن أطفالي كثيرًا ما يُفسرون النكات لي. ويحملني ذلك على إدراك مقدار بُعدي عن لون الفكر المعاصر.»

وأردت أن أعزِّيَهما فقلت: «ولا ينبغي أن يأسف المرء لهذا البُعد أيضًا؛ لأن كثيرًا من النكات إقليمي بحت، وقد يتصل بنيويورك وحدها.»

وقالت مسز هوايتهد: «أستطيع أن أفهم النِّكات التي تدور حول السيدات البدينات.»

– «نكات هلن هوركنسن؟»

– «نعم، ولكني لا أعتقد أن السيدات البدينات يُثِرن الضحك، إنني أشفق عليهن، هؤلاء المسكينات.»

– «ما أشبهك بروبرت ابن سر رتشارد لفنجستون، ذلك الصبي الطيب، الذي اعتاد أن تقع عيناه على صحيفة نيويوركر فوق أحد مكاتب المطالعة في أكسفورد، فيقول: «إنني أضحك على النكات، ولكني أحس أنه لا ينبغي لي أن أفعل ذلك.»

وقالت مسز هوايتهد: «إنني أحس أن هذا اللحم الزائد قد يكون نتيجةً لخلل في إحدى الغُدَد، ولا ينبغي لنا أن نضحك منه.»

– «إني أستطيع أن أريح ضميرك؛ تعالَيْ معي إلى محل هايلر بشارع ترمنت ذات يوم بعد الظهر في الساعة الثالثة، وسأريك عشَراتٍ من النساء يلتهمن الفطائر الحلوة المكسوَّة بالسكر والمحشوَّة بالقشدة المخفوقة.»

فقالت وقد قطَّبَت جبينها: «أفٍّ لما تقول! لا تتوقَّعْ مني أن أرافقك!»

وبعدما تحدثنا فيما إذا كان وزن المرء — كمُيوله وزواجه — مقدَّرًا له، انتقل الحديث إلى موضوع حرية الإرادة. وقالت مسز هوايتهد: إن من رأيها أننا لسنا أحرارًا في إرادتنا إلا إلى حد ضئيل جدًّا، وليس لدينا إلا فرص وقتيَّة ننحرف فيها عن المصير المحتوم، وإن كُنَّا نستطيع — في حدود هذه الفرص — أن نسيطر على أنفسنا إلى حد كبير.

وقال هوايتهد: «إن التفكير السابق اللاشعوري يُكيِّف تصرُّفَنا النهائي حتى يَبدُو لنا كأنه تلقائي، ولكني أعتقد — بالرغم من ذلك — أنَّا كُنَّا في الواقع نحدد هذا التصرف بقدر كبيرٍ من الانتقاء والاختيار. ويتوقَّف الأمر كلُّه على أي الآراء نَقبل، وكيف نَقبلها؛ بعضها يُنبَذ فورًا؛ لأنه منفِّر مزعِج، وبعضها يُستبقَى؛ لأنه سارٌّ بهيج. وبعدما تستمر عملية الانتقاء والاختيار ردحًا كافيًا من الزمن، يصبح التصرف النهائي مشروطًا، ولكن بعدما كان لنا في تحديد نوعه نَصيب موفور.»

وتقدمت بهذا الاقتراح: «هل تسمح لي أن أتابع أسلوبَ تفكيرك قليلًا، وأدفعه إلى الإمام؟ أليس وراءَ ما ننتقي أو ننبذ ظروفنا الاقتصادية، التي قد تُحدِّد للمرء سهولةَ الوصول إلى المعايير العُليا أو صعوبتَه، ثم أليس هناك الميلُ الموروث، الذي قد يتلاءم وبعضَ ألوان الاختيار وقد يتَنافى وبعضها الآخر؟»

فوافق على قولي، ثم أردَف قائلًا: «الظاهر أنَّ نطاق الاختيار يقَع بين هذه المقدَّرات السابقة والتصرف النهائي الذي يَبدو تلقائيًّا. ولكنك تستطيع أن تشهد نفسَك وأنت تُرحِّب — بحكم العادة — بأنماط معيَّنة من الفكر، وتنبذ أنماطًا أخرى. وهنا — فيما أعتقد — تتقرَّر إلى حدٍّ كبير مَصائرُنا الشخصية.»

قلت: «إذا استطعتما أنتما الاثنان أن تخرجا لِتَشهدا فِلم «ميجرباربرا» لبرناردشو لجذَبتُكما إلى هناك. لقد شهدَتْه جريس، وتناقشنا فيه من قبلُ نقاشًا طويلًا، ولبُّ الموضوع أنَّ شو قد أعاد كتابة ذلك المنظر الأخير الضعيف، في مصنع الأسلحة، وكأنه يقول الآن: إنَّ قُوى الطبيعة هذه ليست في حد ذاتها طيِّبة أو سيئة؛ إنما يتوقَّف الأمر على طريقة استخدامها، ووظيفة الإنسان التي يَنفرد بها هي أن يتعلَّم كيف يستخدمها استخدامًا صحيحًا، وإن تكن القيم الخلقية التي نُسبِغها عليها هي بأسْرِها مِن وضعنا. فإذا كانت مما يوفِّر الراحة والانسجام نعَتْناها «بالخير»، وإذا كانت على عكس ذلك نعَتناها «بالشر»، ولا يزال اللُّغز العظيم قائمًا، وهو: كيف ظهرَت إلى الوجود على هذا الكوكب أيةُ حياة تستطيع أن تفكر في أمثال هذه القيم على الإطلاق؟»

فقال هوايتهد: «مَن ذا الذي كان يحلم — حينما كانت هذه الأرض مجردَ كتلة منصهِرة — بأية صورة من صور الحياة التي ظهرَت؟! الظاهر أن طريقة الطبيعة هي إنتاج الجديد؛ فهي تتجه اتجاهاتٍ مبتكَرةً لا يتوقعها البتةَ أحد. وبمرور الزمن بردَت الأرض، وظهرت البحار، وبعد دهور طويلة ظهرَت الحياة النباتية، ثم الحيوانات.»

وقالت مسز هوايتهد: «ويا لها من حيوانات عجيبة مفزعة!»

وواصل حديثه قائلًا: «وأخيرًا ظهر الإنسان بعد نحو مليون عام. ومَن ذا الذي يشك ممن يَرقُبون السموات أن صورًا من الحياة لا تقل عن هذه دهشةً توجد فوق الكواكب الأخرى؟ وللسديم كذلك دورته الحيوية؛ فهو يظهر في الوجود، ثم يُمحى، ويتلاشى في صورة أخرى؛ أين تظهر الأفكارُ الخلقية أوَّلًا؟ إنها في الواقع تظهر «قبل» الإنسان؛ فللحيوانات أفكارها الخلقية، والطيور تعرف متى تفعل الخطأ.»

وقالت مسز هوايتهد: «إن الكلاب أعلى من الإنسان في المستوى الخلقيِّ بكثير؛ إنها أشدُّ منه مَحوًا لذاتها وتضحيةً بنفسها! راقِبْ كلبًا وهو يحاول أن يساعد فردًا يحبه؛ إنه يُخجِلنا.»

وقال هوايتهد: «أعتقد أن قدرتنا على الابتكار الواعي هي مجالُ حرية الإرادة. إننا نختار دائمًا بين ما هو خير وما هو أقلُّ خيرًا، سواءٌ أدركنا ذلك أم لم ندرك، حتى الأطفال يكادون يَفعلون ذلك قبل أن يتكلموا، حينما كان أحدُ أولادنا صغيرًا كان له ناموسه الخاص بكل تأكيد، وكان يخرق هذا الناموسَ أحيانًا (ولم نكن في ذلك الوقت نعاقبه؛ لأنه لم يفعل شيئًا مما يُعاقَب عليه). والطريقة الوحيدة التي كُنَّا نعرف بها أنه يخالف ناموسه هي حينما نراه زاحفًا تحت السرير! ولما كُنَّا نَشهد حذاءه الصغير مُطلًّا من تحت السرير، كُنَّا نعرف دائمًا أنه مذنِب، وإن كُنَّا لا ندري قطُّ أيَّ ذنب اقترف، ولم نسأله لأنه لم يكن بوُسعه أن يُجيب. وما كان يَخرج إلا إذا سحَبْناه من عَقِبَيه، فإن فعلنا ذلك غفَر لنفسه. ولا شك أنه كان يَعتبر سحبه من عَقِبَيه تكفيرًا تامًّا.»

وقالت جريس: إنها تود لو عرَفَت طريقة تُجذَب بها من عقبَيها من تحت السرير؛ فإن ذلك يُبسِّط كثيرًا من المشكلات الخلقية المعقَّدة.

وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «ولاحِظوا أنه لا بد أن يكون لدى الأطفال أمثالُ هذه الأفكار قبل أن يَستطيعوا الكلامَ بوقت طويل. وكان هذا الطفل يُسمِّي نفسه «جو»، وقد سمعتُه ذات يوم وهو يَمر تحت النافذة المفتوحة بمكتبي يُتمتِم لنفسه قائلًا: إن جو يستطيع الآن أن يمشي، وهو يستطيع الآن أن يتكلم.»

وقالت جريس: «حدَث ما يُشبِه ذلك حينما كان أيفنز صغيرًا؛ كان طفلًا ثقيلًا، ولم يكن خفيفَ الحركة على قدَمَيه كما كان بولي، كان أشبهَ بعرَبة الثلج الصغيرة. وعرَف بغتةً ذات يوم أنه يستطيع الوقوف، فاضطرَب اضطرابًا شديدًا وصاح: «تان! تان!» وظل يتعثَّر، ثم يقف على قدمَيه ثانية، وأعتقد أنهم يرَون من يَكبَرونهم وهم يقومون بهذه الأعمال المدهشة، وقبل أن يستطيعوا الكلام بوقت طويل، يُصمِّمون على أن يقوموا هم بها أيضًا.»

قال هوايتهد: «إن جانبًا كبيرًا من تَجارِبنا الناضجة أيضًا لا يمكن التعبيرُ عنها بالكلام.»

قلت: «لقد قال الدكتور ماك في كامبل، أستاذ العلاج النَّفْساني في مدرسة هارفارد الطبِّية، شيئًا شبيهًا بهذا منذ بِضع ليال؛ قال: إن الكلماتِ قاصرة، أو هي لا تَفي البتة بالتعبير عن بعض التجارِب أو العواطف.»

وقال هوايتهد: «ذلك ما يَفعله الشعر حينما يبلغ قمة الإجادة؛ إنه يكاد يتصيَّد في شبكة من الألفاظ لحظةً من تلك اللحظات القوية الزائلة من لحظات السعادة أو الألم. إن الكلمة — مهما تَكُن — ليست سِوى صوت، والعلاقة بين هذا الصوت والتجرِبة علاقة مصطنَعة تَحكُّمية؛ اكشِفْ عن كلمات الشاعر في المعجم، وستجد أن المعنى الذي يُقدِّمه المعجم لا يُحيط بما يَجول في نفس الشاعر؛ فلقد «أضاف» إلى المعنى بالنغمات العاطفية، حتى إنك تَستطيع في بعض الحالات أن تُتابِع درجات النمو في معنى الكلمة التي أضافها إليها الشعراءُ بالتتابع. ولكن في الشعر ذاته دائمًا عبير التجرِبة الذي استطاع الشاعرُ وحده أن يَستنشقه، وإن كُنَّا نُحسِّه كذلك كأنه من تَجارِبنا الشخصية.»

وسألت: «ألا تمر بنا جميعًا أمثالُ هذه اللحظات من الوجود القوي، حينما نحيا بصورة فريدة خاصة، وتستقرُّ هذه اللحظات في نفوسنا، ينابيعَ دائمة، نغترف منها حينًا بعد حين، وبعد سنوات، دون أن يَنفَد الْمَعين؟»

وقالت مسز هوايتهد مُصحِّحة قولي: «أجل، ولكن ليس ذلك هو الخبرة؛ إنما هو «ذكرى» اللحظة التي عِشناها عيشة غزيرة؛ هل ترى تلك المِرْآة فوق الجدار الداخلي؟ لقد أعطَتْني إياها برناردين، وأصلها من فلورنسة، ولم يُقدَّر لي أن أرى غيرها؛ إنها مرآة «سوداء»، لو كانت بيضاءَ لكانت الصورُ والأشخاص الذين ينعكسون فيها مجردَ أوجُهٍ جديدة لنفوسهم في ضوء النهار. ولكنا حين نراهم في هذا الوسط الأسود العجيب، يَبدون لنا كأنهم بغير أجساد، إنهم ذكريات. إن مِرآتي السوداء هي عالَم الذِّكْرى، وما يستطيع الشعراء عمله بالألفاظ لكي ينقذوا من هوَّة النسيان هذه اللحظاتِ الغزيرةَ من البهجة أو الألم هو كالمرآة السوداء.»

وقالت جريس: «حينما أتيتُ أولَ الأمر لرؤيتكم عندما كنتم تُقيمون على شاطئ النهر، كانت هذه المرآة أولَ شيء وقعَت عليه عيني في حجرة جلوسكم.»

وقال هوايتهد: «إنها تختلف في كل ساعة من ساعات النهار، وفي موضعِها المعلَّقة به تعكس غروب الشمس، ولذلك أثر عجيب. ثم إن هذا الغروب — كما تقول أفلن يبدو كأنه ذِكرى الغروب — أو ذِكرى فكرة مبهَمة هرَبَت من الذهن. إنني كلما سمعتُ — وأنا أسمع أحيانًا — أحدَ زملائي يقول: إنه ليست هناك آراء لا يمكن التعبير عنها بوضوح في لغة بسيطة، قلت: إني أعتقد أن آراءك لا بد أن تكون سطحية.»

وذكَّرتُه: «أنه قال لي مرة: إن بعض الكُتَّاب — ومن بينهم الفلاسفة — يفكرون بالألفاظ، ولكنه يفكر بالصورة الذهنية، ثم يحاول أن يجد الكلماتِ التي يُعبِّر بها عنها، فما الذي يَحدث بين الصورة والكلمة؟ وكيف يُترجِم إحداهما إلى الأخرى؟»

وقال في حماسة: «الله يعلم! إن العبارة تأتي أحيانًا، ولا تأتي أحيانًا أخرى.»

وأضافت زوجتُه معترِضةً قولَه: «إنه يُمزِّق صفحاتٍ عديدةً من الورق المكتوب.»

وقلت: «هل تبصر آراءك، حتى ما كان منها مجردًا؟»

– «لستُ أدري، هل تُبصرها أنت؟»

– «دعني أوَّلًا أعدِّل من ملاحظتي؛ إنني لا أتناول الأفكار المجردة على المستوى الذي تتناولها به، ومع ذلك، فإني بعد اشتغالي بها رُبعَ قرن من الزمان، أُدرِك المشقة التي يُلاقيها المرءُ في نقل أبسط الأفكار المجرَّدة نسبيًّا إلى لغة بسيطة.»

وقال مؤكدًا: «إنك تتناول أفكارًا مجردة على كثير من الصعوبة، وقد قرأتُ مقالاتك.»

– «وإذن فأنا أستطيع الإجابة، حينما يكون تركيز الذهن على أشُدِّه، تبدو الفكرة المجردة كأنها مادة بغير جسد، تطفو في الفضاء، وتحتها مباشرةً مشهدٌ منظور لا يَمُتُّ إليها البتةَ بصِلَة، وكثيرًا ما يكون مُستمَدًّا من طفولتي، كمَرعًى في ضوء الشمس في فصل الصيف مثلًا.»

– «هذا أمر عجيب جدًّا، كلا؛ لا أعتقد أني أبصر أفكاري بهذه الصورة.»

وقالت جريس للفيلسوف: «أرجو أن تشرح لي ما تقصد بالصورة الذهنية.»

وقال وقد بدأَت عيناه تتلألآن: «سأُحدِّثكِ بما أعني؛ هذا لوشيان برايس يجلس مواجهًا لي. إن في ذهني صورةً عنه؛ عن شخصيته، ومظهره، ومن أي ضَرب من ضروب الناس هو … كل ذلك محدَّد في ذهني. ولكن حينما أحاول أن أُصوِّره في ألفاظ، ماذا أجد؟ أستطيع أن أقول: إنه صديقٌ قيِّم، ويسرني دائمًا أن أراه، ومظهره الشخصي من نوع … ولكني أستطيع أن أقول مثل ذلك تمامًا عن لورنس لول.»

وضحكَت السيدتان أشدَّ مما ضحكتُ.

وقالت جريس: «لقد بلَغ هذا الحديثُ القمة يا ألفرد! وقلَّما تستطيع أن تَبُزَّه بعد ذلك.»

قال: «هل فهمتِ الصورة الذهنية؟»

– «فهمتها تمامًا! ولكني لا أعتقد أن لوشيان قد فعل؛ إنه يبدو في غير وعيه. هل فهمت؟» ووجهَت إليَّ السؤال.

– «لستُ على يقين من أني أريد أن أفهَم.»

وقالت: «تناول قليلًا من شراب الجنجر؛ فإنه ينعشك.»

وبعد الحديث الرائع الذي انتهى بمستر لول، واصل هوايتهد حديثَه في صوت منخفض، قال: «إن بعض الخواطر البديهية الخلقية الرائعة تَطرأ لقوم غايةٍ في السذاجة. إن هبوط الآراء الشامخة لا يتوقَّف على التعليم المدرسيِّ النظامي. وأذكر في هذا الصددِ الفلاحين الجليليِّين.»

وقالت مسز هوايتهد: «إن ماري التي قامت على خدمة بيتنا ما يَقرب من عشرين عامًا لها ابنةٌ صغيرة اسمها مارغريت، وفي عيدٍ من أعياد الفُصْح سألَت عن قصة المسيح وصَلْبه، وأرادت لها تفسيرًا. فجلسَت معها ماري وقصَّت لها القصة. فسألَت الطفلة: وهل مات يسوع على الصليب؟ وقالت أمُّها: نعم. قالت الطفلة: وهل كانت أمه واقفةً إلى جواره طوال الوقت؟» قالت الأم: «نعم.» فذهلت الطفلة وقالت: «ولماذا لم تَمُت أمه في سبيله؟»

وأُثيرَ بعد ذلك هذا السؤال: لماذا وكيف تنحطُّ الفكرة النبيلة أو الفكرة الأصيلة — بعد إعلانها — إلى درجةٍ تَكاد تختفي فيها مَعالِمُها؟! إن الاختراع يتحوَّل من البناء إلى الهدم، والمسيحية تُتَّخَذ ذريعةً للاضطهاد، والموسيقى السيمفونية الكلاسيكية تُباع رخيصةً في النوادي الليلية في أداء مزيَّف يكاد يكون بذيئًا! هل تَبلغ مثلُ هذه الفكرة — في صورتها الأصيلة — مستوًى شامخًا فريدًا، ثم تنحطُّ حتمًا بتعرُّضها للشيوع؟

وتناول هوايتهد الموضوع فقال: «قد تكون البداهة مَلاكًا، ولكن الذِّهن قد يَلعب دور الشيطان، ولا بد أن يكون لك ذِهن بطبيعة الحال؛ لكي تتناول الأفكار التي تأتي بها البداهة، غير أن الشرَّ يدخل حينما يبدأ تحقيق الأفكار وتَبْويبها وتنظيمُها وصياغتها في قواعدَ صارمة. والمسيحية مثالٌ مُريع، كان لليهود أصلًا قواعد خُلقية بَربرية، أخذَت تدريجًا تتَّخِذ صفة إنسانية على أيدي أصحاب الأرواح العالية منهم، وإن كانت هذه القواعدُ تعود إلى البربرية من حينٍ إلى آخر على أيدي أصحاب النفوس الدَّنيئة، ولستُ أذكر أن الديانة البوذية قد ارتكبَت في أي وقتٍ من الأوقات إثمَ أمثالِ هذه الأفكار التي تَنحرِف عن الأخلاق السَّليمة انحرافًا شنيعًا، كما فعلَت علوم الدين اليهودية في صورتها الأولى، أو علوم الدين المسيحية في صورتها المتأخِّرة. إن البشرية إمَّا أن تنجوَ وإمَّا أن تلحَقها اللعنة، ويُحكَم عليها بالعذاب الأبدي. أمَّا البوذية فتقول — على خلاف ذلك: إننا جميعًا ناقصون، بحيث يَنبغي لنا أن نعود إلى الحياة مرة بعدَ أخرى؛ لكي نتَطهَّر بالمِحَن؛ حتى نستحق أن نفقد ذاتيَّاتِنا في الكل. ولكن اليهود تلَفَّتوا حولهم، فلم يجدوا أبدًا غيرَ حاكم شرقيٍّ مستبِد، ومن ثَم تفكَّروا في الدنيا بأسرها، فظنُّوا أنه لا بد أن يكون لها حاكمٌ يستبد بالجميع، وترتَّب على ذلك أنهم تصوَّروا إلهًا أبعدَ عن الأخلاق من أيِّ إله آخر تصوَّره من قبلُ إنسان.»

وقالت مسز هوايتهد: «تصوَّر أن يَهْوَه يطلب من إبراهيم أن يُضحِّي بولَدِه!»

واقتبست هذه العبارة من صمويل بتلر: «إن الإله الأمين أنبلُ عملٍ من أعمال الإنسان.»

وقالت جريس: «حقًّا؛ لقد فعل يَهْوه أشياءَ يتردَّد أيٌّ منَّا في فعلها.»

وقالت مسز هوايتهد: «تقولين: يتردد! بل قولي: يفزع.»

وسألتُ: «هل تَذكر تلك الملاحظةَ التي أبداها توماس هاردي عن «الإله الغيور» في قصته «تسي سليلة دوبرفيل»؟»

قال هوايتهد: «كلا، وما هي؟»

وقالت مسز هوايتهد: «إني أذكرها، ارْوِها له.»

«وقد يكون حلولُ خطايا الآباء بالأبناء قاعدةً خُلقية تَرضى عنها الديانات السماوية، غير أن الطبيعة البشرية العادية تنفر منها.»

وقالت مسز هوايتهد: «إن آلهةَ الإغريق يَبْدون بالمقارنة أقربَ إلى النفوس؛ قد تكون لهم جرائمُهم وحَماقاتهم، وقد لا يَكونون أفضلَ مما ينبغي أن يكونوا، ولكن إساءاتهم كانت أشدَّ ظرفًا.»

قلتُ: «نعم، حتى إن ذهَبوا هم أيضًا إلى الشيطان في النهاية، فإنهم يَذهبون إليه بعد قضاء وقتٍ مرِح، والمهم هو أن الإغريق احتفَظوا لأنفسهم دائمًا بحق الضحك من آلهتهم.»

وعلَّق على ذلك هوايتهد بقوله: «إن انعِدام الفُكاهة من الإنجيل انعِدامًا تامًّا من أعجب الأمور في جميع الآداب.»

قالت: «لقد لاحَظ ذلك جيته في مقدمته لفاوست، ونرى مفيستوفيليس يُعيِّر الله بانعدام الفكاهة لديه، ويقول: «كان لا بد أن تُثير أشجاني في جلالتك الضحك.

لولا أنك أقلعتَ عن الضحك من زمانٍ بعيد.»

وقال هوايتهد: «إن انعدام الفكاهة من كتابات اليهود القُدامى قد يكون مَردُّه إلى أنهم كانوا دائمًا شعبًا مُكتئِبًا، تعرَّضوا دائمًا للغزو والهزيمة، وتشتَّتوا هنا وهناك، أمَّا الإغريق — فمَهما يكن ما حدث لهم، وسواءٌ كانوا في القمة أم لم يكونوا — فقد كانوا دائمًا يَعُدون أنفسهم متفوقين.»

وشرَعْنا نوازن بين الإلياذة التي يَضحك فيها الآلهة، والإنجيل. إن واضِعي الإنجيل كانوا يتصوَّرون أن مهمَّتهم التثقيف؛ إذا لم تكن تُحب كذا من الأمور فينبغي لك أن تحبَّه. أمَّا واضِعو (أو واضع) الإلياذة، فكانوا يَعُدون أنفسهم فنَّانين؛ إذا أخفقوا في تشويقك، فليس الخطأ منك، إنما هو خطؤهم.

واعترضَت جريس بقولها: «ولكن هل كان للإلياذة ما كان للإنجيل من أثرٍ في نشر الخير! لقد قرأتُ قصص الإنجيل في السنِّ المناسبة، ولم ينطفئ بريقُها قط فيما بعد.»

فقال هوايتهد: «ربما كانت الإلياذة مَنشأ فكرتنا عن الرجل المهذب، ولكن الرجل المهذب لا يستطيع أن يُجابِهَ جميع المواقف.»

ولما تقدم المساء أخَذْنا نتباحث في القيمة النسبية لشراب الإسفندان والحلو الممزوج بالدهن.

وقالت مسز هوايتهد: «شراب الإسفندان؟ تلك المادة اللزجة؟ إني أمقَته.»

وناشدتُ زميلي الأمريكيَّ قائلًا: «إنها تشمئزُّ من أنفَس ما تستطيع إنجلترا الجديدة أن تُنتجه؟»

وقالت جريس: «هوِّن على نفسك؛ إنني لا أميل إلى شراب الإسفندان كثيرًا أنا نفسي.»

واعترفَت مسز هوايتهد على نفسها قائلةً: «أمَّا إن أردتم فعلًا أن تمَسوا نقطة الضعف في نفسي، فجربوا معي الحلو الممزوج بالدهن!»

وصاحت جريس قائلةً: «هذا الحلو الممزوج بالدهن! ذلك المزيج المزعِج؟»

– «إنه ليس مزعجًا، إنه طعام سماوي، إنني في إيثاري له قد أكون في غاية الضلال.»

وقال هوايتهد: «هذا ما بلَغْناه بعدما تناقَشنا في أسمى المعاني المجرَّدة، انحدَرْنا إلى الحديث في الحلو الممزوج بالدهن، لقد تمَّت الدورة التاريخية، إنه هبوط المدَنية إلى مستوى الحلو الممزوج بالدهن!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤