الجستابو في مطبخ الفلاحين

كان لا بُدَّ من إلقاء القبض عليهما في فيردا، جيورج وأناليزه. في الثالث من سبتمبر وشَى باول هاتشيك بالأسماء. في الرابع من سبتمبر كان البوليس السِّري قد عرف أنه لن يعثر على آل جروسكورت في برلين، بل في القرية؛ حيث كان يقضي منذ عشرة أيام إجازته لدى أخته لويزه دورينج، وحيث بقي الأطفال أيضًا. أرسلوا ثلاثة موظَّفين من كاسل في سيارة رسمية عبْر الطريق السريع المُتَّجه إلى الجنوب، وفي الجيب الرسالة المطبقة التي تضم مواصفات الخائن الأعظم وزوجته. يَمرُقون بأقصى سرعة بجانب جبال هيسن، ويفحصون أرقام السيارات التي يسبقونها، فربما يكون المطلوبان على طريق الفرار. ليس هناك كثيرون يمتلكون سيارة خاصة مثل هذا الطبيب الأول. يحيدون في كيرشهايم عن الطريق السريع، وبسرعة مجنونة يجتازون طرقات نيدرأولا الواقعة على ضفاف نهر الفولدا، صاعدِين المنعطَفات حول فيتسلوس، وببصرهم يتعقَّبون من أعلى جبل شتوبل الطريق المؤدِّي إلى شلتسنرود، ثم يَرَون القرية الهدف الواقعة في المنخفَض، والمحاصَرة تقريبًا بالغابات، وفي منتصفها برج بَصَلي الشكل، مَكْسوٌّ بأحجار الإردواز الرمادية.

أعترف أنني أشعر بالانزعاج في كل مرة أتخيَّل فيها رجال الجستابو الأفظاظ، وعبيد الصليب المعقوف الآخَرِين، يمرقون بسياراتهم التي يقودها سائق خاص وسط هذه الطبيعة ذات التلال اللطيفة، بين مراعي الأبقار وحقول القمح المحصود والمنازل الخشبية العريقة. وكأنَّ الرجال الذين يرتدون الأحذية ذات الرقبة الطويلة لا يتناسبون مع المكان، كما لا تتناسب مع تلك الجرائم المنكرة الشنيعة. كان عليَّ أن أدافع عن وهْم العالم الجميل البريء في هيسن. أو كأني لا أعرف أن سكان هذه الناحية تحديدًا تَميَّزوا بالجد والاجتهاد الشديد فيما يخص السُّخرية من جيرانهم اليهود وطَرْدِهم.

لا فائدة، لن يمكن إيقاف الجستابو، خلف لافتة تحمل اسم المكان يسألون عجوزًا عن مزرعة آل دورينج، ويدورون بسيارتهم حول الكنيسة، ثم يَقفون خلف بيت القساوسة، أمام أول بيت من بيوت الفلاحين، بين الحديقة الأمامية وكوم السباخ. يظل السائق في الخارج بعد أن تلقى تكليفًا بأن يراقب البيت ومخزن الغلال والطريق المؤدِّي من الحديقة إلى منزل الجيران حيث تسكن حماة جروسكورت. يمسك كلٌّ من الشرطِيَّين الآخَرَين بالمسدس المستعِد لإطلاق الرصاص، ويدخلان المنزل دون أن يَطرقَا الباب، ويسيران حتى يَصلَا إلى مطبخ الفلاحين.

يرتدي كل منهما معطفًا جلديًّا طويلًا أسود اللون وقبعة عريضة الحافة لم يخلعها أي منهما، يتعمدان أن يكونَ المسدسان وَاضِحَين للعيان. أحدهما يَنْبَح: من هو جروسكورت؟

العائلة كلها مُتحلِّقة على مائدة العشاء، على الأطباق سلطة البطاطس، كلهم يُحملِقون، حتى العمال الغرباء. المطبخ مُظلِم ودافئ، حول المَوقِد شبكة لصيد الذباب وأسراب من الذباب. الصورة — هكذا قالت شاهدة عيان فيما بعد — لن تستطيع أن تمحوها من ذاكرتك طيلة حياتك: كِلا الرجلين بالمعطف الجليدي الطويل الأسود في إطار الباب، سَلطة البطاطس اللذيذة بقطع من الخيار وشحم الخنزير على الأطباق، الرائحة الذكية تفوح في الأنوف، أنتَ مُمسِك بالشوكة ولا تجرؤ على تناوُل الطعام، لا يجرؤ أحد على تناول الطعام.

– حان الوقت، أيها السيد الدكتور! ومَن هي السيدة الدكتورة؟

يتمالك الأب دورينج نفسه، ويكون أول المُتحدِّثِين: ليسَا هنا.

– هه؟ وأين خبَّأتُموهما؟

قال دورينج: سادتي، فلنذهب إلى غرفة المعيشة!

ياكوب دورينج، الذي تقذف به الكوابيس تقريبًا كل ليلة إلى معارك الحرب العالمية الأولى وخنادق القنَّاصة، يشغل الآن منصب نائب عمدة القرية، وهو لم يَقبل تعيينه قائدًا للفلاحين في المنطقة إلا بعد ممانعة طويلة، حسبما يقولون، فلا بد من أن يتولَّى واحد هذه المهمة، كما تم تعيينه رئيسًا للبروباجندا، لكن كل ذلك على الورق فحسب. نازي يمنع أولاده من التلفظ بالعبارات المُعادِية للسامية. نازي يثق في زوج ابنته جيورج أكثر من ثقته بالحزب. لا يعترض عندما ترسل زوجته مواد غذائية إلى برلين دون أن يعلم لمَن. على الكنبة في غرفة المعيشة أطلع جيورج حماه والبارون كامبنهاوزن على عمليات إبادة اليهود والموقِف الحربي المتدهوِر والميئوس منه، الباب مُغلَق، ليس مسموحًا لأي طفل بأن يتواجد في الممر. قبل الأمس قال ياكوب لجيورج وأناليزه: لديكما جواز سفر، اهربَا، ما زال هناك وقت، سافِرا إلى سويسرا، سنعتني نحن بالأطفال. لا، أجاب جيورج، أنا لم أرتكب شرًّا. وفي الصباح سافَر مع أناليزه إلى ابن عمه في مدينة فايسنهازل بالقرب من ببرا.

– ألم يحن الوقت، يا قائد الفلاحين؟

لا يريد السيدان أن يجلسَا.

– إنه زوج ابنتي، لا أستطيع أن أقول عنه شيئًا.

لا يريد السيدان أن يشربا شيئًا.

– إذن فالدور عليك، ألم تسمع أبدًا عن المحسوبية؟

– لقد انطلقَا بالأمس، لا أعرف إلى أين، نعم، لقد رحلَا فجأة.

– القرية محاصَرة، يا قائد الفلاحين، وسنفتش منزلك.

– تفضَّلَا، فتِّشَا يا سادة، ليسا هنا.

– وفي مخزن الغلال؟

– ليسا هناك.

– إذن سنفحص الأمر، ونشعل النيران في مخزنك الجميل، كيف كان حصاد هذا العام؟

يسير أحدهم ناحية الشباك ويفتح ويهتف للسائق: بوما، ابدأ بمخزن الغلال!

– لقد سافرَا صباح اليوم إلى فايسنهازل إلى ابن عمه هاينريش جروسكورت الذي يمتلك الطاحونة.

– ولماذا لم تَقل هذا من البداية؟! ولكنْ إياك أن تكون كذبْتَ على البوليس السري، عندئذٍ سنعود في الليل مرة أخرى، ويمكنك من الآن أن تُجهِّز فرشاة أسنانك، يا قائد الفلاحين. ولا تفكر مجرَّد تفكير في الاتصال تليفونيًّا بفايسنهازل، فسنراقب تليفونك. القرية محاصَرة، وإذا تسلَّلتَ إلى أيٍ من جيرانك حتى تتصل من عنده، فلن يمر ذلك علينا، وَفِّر تعبك؛ لأن هذا سيكون تقديم المساعدة لارتكاب الخيانة العظمى!

يقفز الرجال إلى السيارة وينطلقون بها، بينما راح ياكوب دورينج يتحسس طريقه عائدًا إلى المطبخ بوجه أكثر بياضًا من الثلج. لم يَتفوَّه بكلمة.

حسب رؤية أخرى للحكاية تم تحذير جيورج قبل أيام، أو أنه شعر بأنه مُراقَب، فطلب من آل دورينج بأن يخبئوه عندهم، أو يبحثوا له عن مخبأ. غير أنهم أنفسهم كانوا يتعرضون لتهديد الجستابو منذ فترة طويلة: إذا ساعدتم هذا الرجل، فهذه محسوبية؛ ولذلك رفضوا الطلب رغم مخاوف لويزه، ولكن من غير المرجَّح أن يكون جيورج جروسكورت أحمق إلى هذا الحد ويبحث عن مخبأ له في قرية نازية بالقرب من أخته وحماته والأطفال. الأرجح أن يفعل ذلك بالقرب من الطاحونة في فايسنهازل.

حسب رؤية ثالثة للحكاية فإن منزل دورينج تم حصاره بالفعل، وتمَّت مُراقَبة الطرق المُؤدِّية للقرية. حاوَل ياكوب دورينج أن يسير عبْر الحقول ويحذر نسيبه مستخدمًا تليفون الجيران. غير أنه رأى في الظلام الرجال المُرتدِين الزي الرسمي فتحتَّم عليه الرجوع. ولكن من غير المحتمل أن يكون الجستابو قد استخدم مثل هذا العدد الكبير من الأفراد لإلقاء القبض على جروسكورت.

المُؤكَّد أنه في مساء ذلك السبت نبتت بذرة الصدمة النفسية التي أصابت العائلة بأكملها. مساعدة؟ خيانة؟ ماذا يمكن عمله؟ يبدأ الأمر بالطفل رولف البالغ سنتين الذي يتم تفتيشه ونقله إلى كاسل، في الوقت الذي يتم فيه اعتقال والديه على بُعد نحو ٤٠ كيلومترًا في فايسنهازل بالقرب من ببرا. يصرخ الطفل صراخًا فظيعا ولا أحد يهدئ من روعه ساعات طويلة إلى أن تأخذه العمة لويزه والعم ياكوب إلى فراشهما. وبينما كان العم يواصل في كوابيسه مَعارك الحرب العالمية الأولى، كانت العمة تُحمِّل روبرت هافَمان ذنب قتْل أخيها، وستظل تلعنه في أحلامها حتى وفاتها.

يبدو مؤكَّدًا أيضًا أن لويزه دورينج التي كانت تعيش منذ سنوات في قلق على جيورج، ذهبت إلى خياطة في هونفلد لتقرأ لها الطالع، وكانت دائمًا تعود من عندها مستبشِرة غاية الاستبشار. ولكن قبل الاعتقال بأسبوع واحد رفضت الخياطة أن تخبر الفلاحة بطالعها. لم تُبِح بالأمر إلا بعد الإعدام: لقد رأيت أخاك ميتًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤