مبدأ الولاء

لا تريد أناليزه جروسكورت أن يكون لها أي علاقة بالسياسة. لا تريد أن تَحيَا في حرب مرة أخرى، حرب يَصِفونها الآن على سبيل التغيير بالباردة. منذ نهاية الحصار تنتقم المصالح الحكومية الغربية من السوفييت لما سَبَّبوه من تقسيم وبُؤْس شديد، ضارِبِين بيد من حديد على كل الذين لا يعادون الشيوعية. تلتزم السيدة جروسكورت ضبْط النفس. تَصمُت في اليوم التذكاري لضحايا الفاشية، في سبتمبر ١٩٥٠م، عندما تقوم شرطة برلين الغربية، وأغلب أفرادها من بقايا النازيِّين، بفتح النار على اليهود والشيوعيين الذين كافَحوا ضد هتلر. تسمع بأن عصابات من الشبيبة يجري تمويلها من الغرب للقيام بأعمال تخريبية في محطات القطار، أو لإشعال الحرائق في أكشاك الصحف بالقطاع الشرقي، ربما تكون هذه الأنباء بروباجندا. ولكن المؤكَّد هو ما فعله مجلس الحكومة البرلينية، لقد وصف الاستفتاء الشعبي بأنه مُناوَرة وفق النموذج النازي. لم تعد أناليزه تفهم هذا العالم المقلوب، فتلتزم الصمت. يُلقى القبض على شميت، المُعِد المسرحي ورئيس اللجنة، أمام مقر الحكومة البرلينية في حي شونيبرج؛ لأنه يتظاهر ومعه دستور برلين، ويتم التحفظ على الدستور كدليل على ذلك. يتناهى إلى سمعها ما يتعرَّض إليه أطباء وصحفيون يناضلون من أجل السلام على يد عصابات الشبيبة من اعتداءات وضرب على قارعة الطريق. يُلغُون التعويضات التي تُدفَع لضحايا النازية، ويمتنعون عن دفْعِها للناجين من معسكَرات التصفية؛ لأنهم شيوعيون أو كانوا شيوعيين، أو مِن المُفترَض أنهم شيوعيون، كل ذلك يثير سخطها، غير أنها تلتزم بضبط النفس.

لا تريد أن تشترك في هذه العداوة الشرق غربية. مَن لا يلتزم بالخط الرسمي في الشرق، يسوء وضْعُه؛ ومن لا يلتزم في الغرب بالخط الرسمي، فعليه ألا يتوقع أزمنة وردية. في الشرق تحكم رءوس عنيدة، هناك يرسلون الناس إلى سيبيريا أو إلى السجون، ولكنهم في الغرب أيضًا يسلكون سلوكًا صارمًا فيما يخص موضوعات الرقابة والعنف والمنع. المعركة مع الشرطة في الخامس عشر من أغسطس بينت لها بوضوح: ليست هي الضحية الوحيدة. إنها تتعرض للانتهاكات القانونية فحسب، بمواد وضعها النازيون في القانون. لكن محكمة العمل، هي متأكِّدة من ذلك، ستلتزم بمواد القانون لا بالافتراءات.

مَن لا يشارك في العداوة الشرق غربية، يشعر بوحدة كبيرة. ليس لها حزب يعضد موقفها، لا تريد حزبًا، لا تريد أن تتبع أحدًا. ليس لديها سوى بضعة أصدقاء تحوم حولهم شبهات مماثِلة.

لحسن الحظ هناك روبرت الذي أصبح رجلًا مُهمًّا. ودَّع روبرت الغرب عندما نشر مقالته عن أخطار القنبلة الهيدروجينية التي كتبها وهو مدير لمعهد القيصر فيلهلم. ما زال يحتفظ بشقته الثانية في تسيلندورف. أستاذ في جامعة هومبولت في برلين الشرقية، عالِم ذَرَّة، مناضل من أجل السلام ذو شهرة عالمية، دائمًا في الصفوف الأمامية، مشهور، نشيط.

بعد أن مرَّت عدة أيام على أحداث الخامس عشر من أغسطس وقف أمام الباب، رجل فارع الطول، جذاب ودافئ القلب، مُشجِّع كعادته. كان يظهر كثيرًا في اﻟ «ليندن-أليه»، مرةً كمريض، ومرةً ليتبادَل الدردشة معها. في هذه المرة — هذا ما تلاحظه فورًا — كان مكلفًا بشيء. يتحدثان عن حادث الاعتداء، تَجمعُهما الصدمة والخوف من فاشية الشرطة والمصالح الحكومية والقلق بشأن اندلاع حرب جديدة. لم يمر وقت طويل حتى — هكذا أتخيل — أثار ارتباكها بالجملة التالية:

– يجب أن نقوم بعمل رمزي.

– أي عمل تقصده؟

– لا بُدَّ من مقاوَمة كل ما يحدث. طريقة تعاملهم معك ومع مُناهِضي الفاشية الشرفاء، لا يمكن أن نبقى صامِتين فترة أطول، ولا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي.

ربما تكون أناليزه جاوبته بكلمات مثل هذه:

– ولكني أدافع عن نفسي. الدعوى تُحقِّق تقدُّمًا!

– لا بُدَّ من فعل المزيد. مثلًا أن نفحص بدقة كيف حدث الاعتداء الذي نفَّذَته الشرطة في الخامس عشر من أغسطس، بكل التفاصيل، علينا أن نحدد المُذنِبين، المسئولين، وأن ننشر أسماء الجناة على الرأي العام.

– وكيف؟

ربما يكون روبرت أجابها على النحو التالي تقريبًا:

– سنؤسِّس لجنة لتقصِّي الحقائق، لرفع أسباب الظلم عنكِ وكشف المؤامَرات الفاشية في برلين الغربية. أعتقد أنَّنَا بحاجة إلى رمز، إلى تقاليد راسخة، شخصية قيادية، اسم أحد مناهِضي الفاشية المثالِيِّين، ولهذا أرجوك أن تَمنحِينا موافقتَك على أن نطلق اسم جيورج على اللجنة، «الاتحاد الأوروبي»، حركة المقاومة التي أسَّسناها، اعذريني عندما أقول ذلك، طواها النسيان تمامًا، وباسم جيورج يمكننا إحياء صراعه ضد الفاشية والحرب وإبقاء ذكراه حية؛ إني متأكد من أن هذا يتناسب مع مبادئه.

تشعر دومًا بالضعف عندما يتعلق الأمر بجيورج، هذا ما يعلمه روبرت.

– نعم، قالت بلا صوت تقريبًا، إنه يتناسب مع مبادئه.

– وأنتِ، أشهر ضحايا الفاشية الجديدة في برلين الغربية، لن تكوني بالطبع بعيدة عن هذه اللجنة. ولذلك نرجوك أن تعملي معنا، وأن تُوجِّهي نداءً للرأي العام باعتبارك أرملة جيورج.

يجاملها روبرت، إنه يعبدها عبادة، تشعر بذلك. لقد غزا قلوب نساء عديدات، تعرف ذلك، والآن هو متزوِّج، ولكن عليها — مع ذلك — الحذر.

– أنتَ تعلم يا روبرت، ليست هذه طريقتي. بعد غدٍ لدي موعد في المحكمة، ولا بُدَّ من أن أنهي قضيتي أولًا.

– بالتأكيد، ولكن بعد أن فُصلتِ، وبعد القضية، لم تعودي على الحياد، لقد غدوتِ شخصية عامة منذ فترة طويلة.

– لا أريد أن أدخل حزبكم، كنتُ وسأظل بعيدة عن الأحزاب.

– إننا نُقدِّركِ بالذات؛ لأنكِ لستِ في الحزب.

– لا تستخفَّ بي يا روبرت!

في الحادي والعشرين من أغسطس سار كل شيء بسرعة شديدة في محكمة العمل الواقعة في «بابلسبرجر شتراسه». راحت السيدة جروسكورت تشرح — بدون محامٍ — الانتهاكات الثمانية الواضحة للقانون والدستور. تؤكِّد على أن البند الثاني من المادة رقم ١ من اللوائح التأديبية لم يُطبَّق حتى الآن إلا على مُدمِني الشراب والعاهرات والمُجرِمين، ولم يُطبَّق حتى الآن لأسباب سياسية أبدًا.

أكَّد ممثِّل إدارة الحي أنهم لم يتدخلوا إلا بسبب ما نشرَتْه صحيفة «تاجيس-شبيجل» في الأول من مايو عن «فرع الشيوعيين في برلين الغربية». ثم كان عقْد المؤتمر الصحفي هو البذرة التي زرعتها الطبيبة للقضاء لاحقًا على ربِّ عَملِها. هذا أمر لا يمكن قبوله، أن تُهدِّد رَبَّ عملها؛ ولذلك فهي غير جديرة بممارَسة عملها، كما أنها انتهكَتْ مبدأ أساسيًّا، وهو مبدأ الولاء، فَتوجَّب فَصْلها بدون إنذار.

بعد خِبرتها السيئة مع فرايزلر كانتْ تأمل أن تلاقي قاضيًا طيبًا يتصرف كأب. ولكن هذا الرئيس الشاحب، المريض بالمَعِدة، لا يبدو أنه يُصغِي إلى الحجج، أو أن انتهاك القوانين والرعب الذي تلاقيه من المكالمات التليفونية قد يثير سخطه، لا يبدو أنه يُدرِك فقرها، ناهيك عن مصيرها.

تحتاج المحكمة إلى مزيد من المداوَلات، كما أنها تريد الاستماع إلى إفادات شهود جدد، ولذلك تُحددُ يوم التاسع من أكتوبر موعدًا للجلسة القادمة.

سبعة أسابيع! أي شهود إذن؟ لا تستطيع أن تفهم الأمر، تشعر وكأن الديمقراطية قد لفظتها من فمها، وكأن الحرية تسخر منها، وكأن القانون يهزأ بها. ولكن واحدة مثلك، تقول لنفسها، لا تستسلم.

بعد ثلاثة أيام يحضر روبرت مرة أخرى. تسمعه يتحدث، تعرف عباراته، ولا تستطيع سوى الإيماء بنعم.

– أنا أشعر بالسخط. من غير اللائق أن يعاملوكِ هكذا. هذه فضيحة. ولكن هذا هو ما يتوقعه المرء! إنهم يريدون أن يصنعوا منكِ عِبرة لمن يعتبر. تمامًا كما فعلوا يوم الخامس عشر من أغسطس. أساليب فاشية. إنهم لا يَطردون المُعِد المسرحي شميت من مسرح شيلر، وهو الرجل الذي قضى الحرب صائدًا للدبابات، لا يفعلون ذلك، لكنهم يقيلونكِ أنت، المرأة، أرملة رجل المقاوَمة. ولماذا؟ لأنك تذكرينهم، يا أناليزه، بأن هناك من لم يَصرُخ مثل غيره بالعبارات النازية، بأن هناك مَن اعترض، لذلك يحاولون القضاء عليك.

– اسكتْ، يا روبرت، اسكت.

راح يرسم لها الحياة الأفضل في دولة بلا نازيين. إنه يحترم قراراها بالبقاء في الغرب، ومع ذلك، عليها أن تصدر قرارها، حتى بدون الانتقال إلى الشرق. يسحب من جيبه — وهو شيء لا يدهشها — نداء لإنشاء لجنة باسم جروسكورت. تجد الأسباب مقنعة، والنص لا غبار عليه. لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي، هذا شيء تدركه. إنها تفعل شيئًا لصالح جيورج، حتى لا يُمسِي موته بلا طائل. عليها ألا تفكر في نفسها فحسب. روبرت لديه حق، وهو دائمًا لديه حق، وبوضوح تسمع صوت جيورج يقول: ستقومين بالأمر على خير وجه، لا تَيئَسي أبدًا. فَكِّري فيما كنتُ سأفعل.

تُوقِّع، وبعد عدة أيام كان بإمكان الناس أن يَقرءُوا في «برلينر تسايتونج»:
أيها البرلينيات والبرلينيون! في يوم الخامس عشر من أغسطس من عام ١٩٥١م، تم الاعتداء على عديد من المشارِكين الشباب في المهرجان العالمي، وذلك عندما كانوا في برلين الغربية يتظاهرون من أجل السلام والصداقة ويَتغَنَّون بأغاني السلام. حدث هذا أمام أعين شبيبة العالم كله وهو ما يُعتبَر عارًا كبيرًا بالنسبة لمدينتنا.
ولهذا فإني أرى أن علينا التحقيق فيما حدث، وعلينا تقديم الدَّعم للجرحى والمُعتقَلين. ولهذا أتوَجَّه إلى كل أهالي برلين الشرقية والغربية، وبصورة خاصَّة إلى الشخصيات العامة، وأرجو منهم أن يعلنوا موقفهم مما حدث، وأن يقوم الشهود والضحايا بكتابة تقارير عما حدث.
لقد فقدتُ زوجي — الذي أُعدم عام ١٩٤٤م — بسبب الإرهاب الفاشي، ولهذا أعتقد أن علينا ألا نسمح بتكرار مثل هذه الأحداث، ومواجَهة الأمر بكل حسم منذ البداية.

هل تجاوزتْ أناليزه جروسكورت الحد؟ هل سمحَتْ للآخَرِين بأن يستخدموها وسيلة لأغراضهم؟ هل كانت ساذجة؟ أم أنها كانت تتصرف وفق مبدئها: الاهتمام بالآخَرين أكثر من الاهتمام بالذات؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤