شليزفيج ضد المكسيك

وسط الثلوج المتراكمة على بحيرة ليتسن راحت كاترين تتحدث بحماس عن المكسيك. تساقطت الثلوج طيلة النهار والليل، فسادت الفوضى، وخرجت المدينة من إيقاع حياتها، وأصبح الناس أكثر مرحًا. في أيام قليلة في العام يُظهر البرلينيون مزاجهم الرائق. تحدث المعجزة في أول أيام الربيع الدافئة، أثناء المشي على سطح البحيرات المتجمدة، وبعد هطول الثلج الكثيف للمرة الأولى، عندئذٍ يَتطلَّعون إلى السماء، ويتبادلون نظرات مندهشة، ثم يرسلون البصر إلى الأفق البعيد وكأنهم تحرَّرُوا من نِير التذمر الذي يثقل كاهلهم. لوقت قصير يعتقد أهالي المدينة أنهم تآلفوا مع الطبيعة، فلا يَعودُون يكبتون ميلَهم إلى السعادة.

بعد أن مَهَّدَت كاسحات الجليد الطرق تمهيدًا مبدئيًّا لحركة السير، انطلقْنَا بالسيارة إلى بحيرة ليتسن، لنتمشى احتفالًا بهذا اليوم المعجزة. كاترين بكاسكيت أسود فوق شعرها البُنِّي المحمر، ومن خلفها الثلوج. سِرنَا وقد اشتبك ذراعانَا، وكنَّا في أحسن مزاج — ورغم ذلك أفسدْنَا كل شيء.

انطلقَتْ تتحدَّث عن حضارَتَي المايا والأزتيكن كالعاشقة، وراحت تتلو القصائد في مديح تلك الأجواء المجهولة، والأدغال، والعمارة الحديثة. كانت متحمِّسة للبراكين البعيدة، وجدرايات دييجو ريفيرا. لم تكن لديَّ أدنى فكرة عن المكسيك، ففُوجِئت بتحمُّسها ومعلوماتها التي قطفَتْها يانعةً من أحد الكتب السياحية، أو التقطتها من هوجو. نبرة صوتها وحْدَها كانت تَشِي بأنها عقَدَت عزمًا أكيدًا على السفر إلى المكسيك. لقد قابلتَ هوجو مرَّتَين، بدوني، قبل أن نُودِّعه معًا في محطة برلين الغربية للقطارات، محطة «تسو»، في طريقه إلى لندن. أذهلَتْني قُدرَته على إشعال نيران الحماسة هذه لديها. أعماني ضوء الثلج الباهر، وكتمتُ الغيرة التي بدأَت تنهش أعماقي.

راحت تحكي وكأنها تحتفل باكتشافها — رغم أنه اكتشاف هوجو — للرسامة المجهولة فريدا كاهلو Frida Kahlo. في عام ٦٩ كان الاسم قد وصل ربما إلى أعتاب باريس ولندن، دون أن يتغلغل إلى برلين؛ إذ إن «موضة» كاهلو لم تزدَهِر إلا متأخرًا جدًّا. عبَرْنا «نويه-كانط-شتراسه»، وبعد عِدَّة خطوات، على الطريق المُحاذِي للضفة الواقعة على الخليج الغربي الضَّحْل، رأيت المنظر المُنْساب المُؤطَّر بأشجار الحور، وتحته البحيرة التي تجَمَّد سطحها الرقيق والممتدة ناحية المدينة، وصولًا إلى صف المنازل في «فتسليبن-بلاتس».

طلبتُ من كاترين أن تخلد هذا المنظر بكاميرتها. إلى اليسار خلف الغصون العارية يختبئ على ناصية «الكايزردَم» المنزل الذي يضم شقة جروسكورت، وإلى اليمين مبنى المحكمة الرمادي الذي يشبه الصندوق، والمُشيَّد على الطراز الباروكي الجديد، مقر السادة الذين جرَّعوها العذاب بأحكامهم القضائية. ثلاثة منازل تفصل بين الضحية والجناة، كنت أريد كل هذا في صورة واحدة.

ربما عبَّرتُ عن رغبتي بطريقة فظة، وربما شعَرَت بأنني قطعتُ حبل أفكارها الذكية المسترسِلة عن الرَّسامة السياسية، كما أسْمتْها، عن المرأة ضحيةً، وعن الرسم والتصوير الفوتغرافي، على كل حال كان ردُّ فعل كاترين عنيفًا على نحو غير مألوف.

صورة تصلح لوضعها في كتاب مصوَّر! هذه أشياء لا أقوم بالتقاطها، وخاصة في أجواء تصوير مثالية كهذه. ألا أستطيع أن أُنصِت إليها مرة لمدة خمس دقائق؟ هل لا بُدَّ من أن أقاطعها دومًا بحكاياتي عن جروسكورت؟

فلماذا إذن، ردَدتُ عليها، تحمل الكاميرا في جو التصوير المثالي هذا؟

باختصار، انفجر شجار جميل، ثم التقطتِ الصورة رغم ذلك؛ إذ إن طبيعتها تميل إلى التصالُح، وكانت مثلي تمامًا، لا تتحمل هذه الصراعات، لكن الشرخ بيننا كان قد امتد، ومنذ ذلك اليوم ونحن نخوض مباراة — في معظم الأحيان نُدارِي ذلك بلطف — بين جروسكورت والمكسيك.

عندما اقترَبْنا من «الكايزردَم»، عند حديقة شيلر، حيث ينهض نصب شيلر التذكاري على قاعدة بسيطة، وهو اليوم يُزيِّن ميدان «جندارمن ماركت»، تَشاجَرْنا حول السؤال: إلى أين سنسافر في إجازة عيد القيامة، إلى شليزفيج هولشتاين أم إلى لندن؟ كنتُ قد عقدتُ النية الأكيدة على السفر إلى شليزفيج كي أراقب «ر»، وأتعرَّف على المنطقة التي يعيش فيها. كنتُ قد تخلَّيتُ عن خطط القتل، إلا أني كنتُ أودُّ أن أراه مرة على الأقل حتى أستطيع أن أنساه وأدفنه تمامًا. بصورة في الرأس، وليس بمسدس في اليد. قلتُ لكاترين: عليَّ أن أعرف كيف يعيش القاضي «ر»، وإذا كان ما تكتبه الصحف عن البيت الريفي المريح صحيحًا، وبقدر الإمكان أن أجري معه حوارًا، كما أنَّنا نستطيع أن نقضي إجازة في شليزفيج هولشتاين، بحر الشمال، أبريل، مكان جميل لا يعرفه إلا القلائل … إلى آخره.

وبينما راحت كاترين تسب وترغي وتزبد، أخذتُ أنقل نظرتي المُحملِقة بين منزل جروسكورت والمحكمة، بين الأطفال المُتزحلِقين على الجليد وفريدريش شيلر بقبعته التي علاها الثلج.

سمِعتُها تقول: ولكني وعدْتُها بأن أسافر معها يومًا إلى لندن، وأني قضيتُ عامًا بأكمله هناك، وهي تريد أن تقضي على الأقل أربعة عشر يومًا. إنها مُصمِّمة أن تقوم بالتقاط الصور في المكسيك، في سبتمبر على وجه التقريب، بصحبة صديقة أو مع هوجو، ولذلك علينا أن نزوره، فهو الخبير. إنها تفضل السفر معي، ولكن: هل سأقضي ستة أسابيع بدون المُخدِّر الذي يُدعَى العمل؟ هذا غير ممكِن! أنا ليس لديَّ اعتراض بالتأكيد على سَفرِها مع لوطي؟

كان شيلر ينظر إلى بعيد. كان شيلر يعلم ما يريد. كان قويًّا تجاه كل ما لاقاه من مقاوَمة في عصره، وتجاه توقُّعات النساء. شيلر يُدعِّمُني: أنا أعرف ما أريد، وعليَّ أن أصمد أمام كل نوع من المقاوَمة. وظيفتي هي أن أجعل الناس ترى العلاقة غير المرئية بين هاتين البنايتين، أن أكشف عن فَضيحَتَين قَضائِيَّتَين بضربة واحدة. كاترين تجري وراء مصالحها، وأنا وراء مصالحي، هذا شيء مقبول، وسوف نتحمله.

ولكن سرد تلك الأسباب التي تتسم بمنتهى العقلانية، ثم النطق بها بعقلانية شديدة، أدَّيَا إلى تحطيم قلبها. كانت تنتظر مني على الأقل — هذا ما أدركتُه بعد فوات الأوان — أن أفصح عن حبي. ولكننا ظللنا سجناء الجِدِّية المُفرِطة والمَطالب السياسية الصارمة. أحسستُ بوخزات الضمير؛ لأنني كذبت عليها بسبب «ر». وهي أيضًا؛ لأنها وجدَت نفسها مرغَمة على التمرُّد علي.

بدلًا من أن نتقاذَف بِكُرات الثلج، واصلْنَا سيرَنَا حول بحيرة ليتسن، كما واصلنا نقاشنا المتعثِّر. برلين كلها كانتْ تتجادل، فلماذا لا نتجادل نحن أيضًا؟ كلٌّ كان يقيم الحدود بينه وبين الآخر؛ لذلك بدا لنا طبيعيًّا تمامًا — ونحن نتسم بالعناد مثل الآخَرِين — أن نظل نناقش السؤال: شليزفيج أم لندن؟ جروسكورت أم المكسيك؟ ما كان أسهل التوصُّل إلى حل وسط!

لم تعد كاترين — عمومًا — تود التصوير إلا في البلاد الفقيرة، في العالم الثالث، هذا هو — برأيها — حل مأزقها، إنها هناك تَجِد مرة أخرى معنى للتصوير والتحميض. أما آخِر الدوافع لكي تعمل في المكسيك، فقد وجدَتْه في إعلان لأحد مُصنِّعي المَقاعد، ٥٠ من الأرداف العارية. هذا هو الطريق الذي تسير عليه الفوتوغرافيا، قالت لي: كل شيء يتحول إلى إعلان، والإعلان إلى بورنوغرافيا، عنف وبورنوغرافيا. عما قريب سيعرضون ٥٠ فَرجًا كدعاية للعصائر الرخيصة. هذا هو ما حدث مع صاحبتك يوكو أونو، من تحت الأرض إلى التسويق التجاري في دقيقتين!

– في سنتين.

– لن أشارك في ذلك، بدون رغبة في ذِكْر حكاية أونو، لا بُدَّ من أن أذهب بالكاميرا إلى المكان الذي أستطيع أن اكتشف فيه شيئًا، إلى العالم الفقير، العالم البكر.

كلَّا، لن يوقفها شيء، لا الإرهاب في المكسيك، ولا المذبحة التي حدثت قبل الدورة الأوليمبية، لقد أكَلَت علقة ساخنة أمام مبنى البلدية في شونيبرج وتعلَّمَت أن تحترس من الجماهير. الإنسان الفرد، بين الفقر والجمال. هذا هو مشروعها، وبه ستبدأ في المكسيك، ولن تحيد عن طريقها، لا بسببي ولا بسبب أحد القضاة النازيين.

هذا التصميم كان يعجبني فيها، لكني كنتُ أكثر جبنًا وكسلًا من أن أعبِّر لها عن إعجابي. رغم ذلك، لم أشعر بالانجذاب إلى المكسيك، وكان يزعجني للغاية احتمال سَفَرها مع هوجو. ولكن لم يمكن مسموحًا لي بقول ذلك، وإلا كنتُ تعدَّيت على أحدث الوصايا العشر: وصية تَحرُّر المرأة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤