أوسكار وكوبونات الزبد

من يستسلم لإغراء الاعتراف، يميل سريعًا إلى تجميل فعلته وتزويدها بأمثلة على الشجاعة وبُعد النظر وأفضل النيات. الوضع يختلف بالنسبة لي؛ إني أدرك يومًا بعد يوم كيف كنتُ بليد الحس وفاشلًا. ماذا كنتُ سأستخرج على سبيل المثال من الرجل الذي كنَّا نطلق عليه «القبعة الصغيرة»، من السِّكِّير العظيم ونجم المقاوَمة! كان يتردَّد على دائرة الشاعر فوكس، وسط أجواء إباحية مُشبَّعة بالخمر والتمرُّد البهيج ضد القواعد البورجوازية ولوائح الشرطة.

كيف استطعتُ في خضم تلك الأوقات الخشنة، أيام المظاهرات والإضرابات والسجالات التي كانت تُخاض حول العنف، في تلك الأشهر التي غلبها التعاطُف الاشتراكي مع يان بالاخ ومع التشيكك والفيتناميين، وسط كل تلك الخطط التي نسجتُها عن جروسكورت، وفي غمرة غضبي الهادف إلى فضْح قضاة برلين، كيف استطعتُ بين قراءة الروايات وفِراش كاترين أن أجد الوقت لأذهب إلى محاضَرات الجامعة، كل ذلك لا أكاد أستطيع تصوُّره اليوم؛ أني كنتُ أذهب، مثلًا، إلى تسيلندورف لزيارة مانفريد بيلر، وجونتر برونو فوكس في المنزل المُطل على بحيرة فالد، وعلى بُعد عدة مقاعد مِنِّي كان أوسكار هوت١ يضحك، وأنا المغفَّل لم أتحرك لأتحدث معه!
التاريخ مكتوب في مُفكِّرة الجيب، غير أنه لا يعني شيئًا. كان ذلك خلال السنوات التي علَت فيها مَوجَة المبادئ وحاوَل كثيرون ركوبها، آنذاك كانت العقول البسيطة تقرأ في العدد رقم ١٥ من مجلة «كورسبوخ»٢ إعلان موت الأدب، في عصر كان على الكتابة أن تكون مفيدة على الأقل؛ لم تكن هناك قراءات تُعقد لأن أي منظم لندوة قراءة كان يَخشى الشوشرة والتشويش. في ذلك الوقت جلسنا ذات أمسية، نحو خمسين أو ستين شخصًا، وانطلقْنَا نضحك ونُقهْقِه على التقليد الهزلي الذي قام به بيلر، وهو الذي كان قد هرَب من ألمانيا الشرقية قبل ثلاث سنوات، راحلًا إلى براغ، ثم فرَّ إلى ميونيخ بعد الاجتياح الروسي، ثم ضحكنَا على مزاح فوكس ونكاته السخيفة. لقد مرَّت بي ساعات مثل هذه كنتُ أنسى خلالها أني كنتُ حتى الأمس عاقدًا النية على أن أصبح قاتلًا.

بالرغم من ذلك فإن هذه الأمسية جزء من اعترافي؛ لأننا بعد ذلك — كنا عشرين أو ثلاثين شخصًا — بعد أن حلَّقْنا تحليقًا رائعًا على أجنحة الأدب، تَجمَّعنا في حانة جنوبي تسيلندورف، مباشرة بجوار السور، ثم تحدَّث صديقي هانيس عن أوسكار هوت، المُسمَّى «قبعة صغيرة»، الذي يعمل ضابطًا لآلات البيانو، الرجل القصير النحيف الصاخب الذي كان يجلس إلى المائدة المجاوِرة مع فوكس وبيلر.

تساءلتُ: وهل يكتب أيضًا؟

كلَّا، لا بُدَّ أن هانيس أجاب هكذا، كل الأصدقاء كانوا يَحثُّونه على الكتابة فهو عايَش بالفعل قصصًا وروايات، لكنه يمتنع عن الكتابة. لقد نجا من أهوال الحرب في برلين، دون أن يصبح جنديًّا، ينبغي أن تجعله يحكي لك ذلك. لم يتهرَّب من التجنيد فحسب، لقد اختبأ بأوراق مُزوَّرة، كانت لديه آلة طباعة، وبها زوَّر أوراق هوية وطبع كوبونات المواد الغذائية وقام بتوزيعها، على اليهود والأشخاص المختبئين، حكايات لا تُصدَّق، وإذا كان في حالة تَجلٍّ، فستجد نفسك تضحك على هذا الخراء النازي.

على الفور ذهب فكري إلى آل جروسكورت والاتحاد الأوروبي، ربما كان هناك اتصالات. لم أكن أعرف سوى الشائعة التي تحوم في الأجواء بأن «القُبَّعة الصغيرة» فعل شيئًا ما ضد النازيين، والآن أنظر إليه بدهشة. أعرف نفسي جيدًا، وأعتقد أني كنتُ شِبْه مُتحجِّر من الرهبة وأنا أتطلَّع إليه. وجه نحيف، ذو شارب، مليء بالتجاعيد، ساخر، يصلح هذا الوجه كي تصوره كاترين، وجه من وجوه الأنقاض، لكنه بشوش. لم يكن الرائي يلاحظ أفعاله البطولية، فمثل هذا الإنسان لم يكن يحب التباهي بالمجد والفخار. لم أجرؤ على الاقتراب منه حتى بعد أن احتسيت الكأس الثانية، كان يَعبُّ الشراب عبًّا، كان يتباهى بكونه سكيرًا متفرغًا. أنا لم أكن سكيرًا، ولم أطمح في أن أكون واحدًا، كما أن عليَّ أن أقود سيارتي الواقفة أمام الحانة. بالطبع لم يكن بوسعي أن أثرثر معه كما يفعل الصحفيون: سيد هوت، ماذا فعلتَ، يا تُرى، أثناء المقاومة؟ كان سيصفعني، بسبب كلمة «تُرى»، وبسبب «السَّيِّد»، والسؤال كله. فرصتي الوحيدة كانت في الاقتراب بمقعدي إلى المائدة المجاوِرة، وأن أقدِّم نفسي على الأقل لضابط البيانو الماكر حتى أجس النبض تحيُّنًا لفرصة قادمة أفضل.

ولكن، ولا حتى هذا نجحتُ فيه، مع أن الأمسية طالَتْ وامتدَّتْ. لم يكن الحياء وحده هو ما منعني من استغلال الرجل الطيب للوصول إلى أهدافي، إنه الخوف من اللعب أمام سكير يصعب للغاية حساب رد فعله، ثم الخجل من شخصية أظهرت خلال ست سنوات من الحرب شجاعةً كانت أكبر ربما من شجاعة كل الشعراء السكارى وصديقاتهم وأصدقائهم معًا. غير أني في الحقيقة — لم أدرك ذلك إلا فيما بعد — كنتُ خائفًا من نفسي، من عدم تَمكُّني من إلقاء الأسئلة. كنتُ أشعر بالإعاقة لدرجة أنه لم يخطر على بالي أن أتخذ من كاترين حجة وأن أصطحبها مع كاميرتها لزيارة أوسكار ثم إمطاره بالأسئلة.

حسب ذاكرتي الخئُون انتهَتِ الأمسية بما طالب به بيلر: هيَّا، فلنتبول كلنا على السور! وأرانا نترنح في تلك الليلة المحتملة البرودة ونحن نسير عدة أمتار حتى وصلنا إلى السور، عشرة رجال تقريبًا يتبوَّلُون ناحية السور الخرساني. كنا زمرة من الظرفاء، فلم نكتفِ بهذه «المعمودية»، بل رُحنا نَتبادل المزاح، واستخدَمْنا القول الشائع في دورات المياه: اقترب أكثر، فهو أقصر مما تعتقد!

أثناء رحلة العودة إلى المنزل، بعد أن احتسيتُ أربع كئوس من البيرة على أقصى تقدير، انتابني الغضب تجاه نفسي؛ لأن غريزة البحث والتَّقصِّي تَنقصني، ثم عقدْتُ النِّية على أكثر الأشياء جنونًا، وكما هي العادة عندما أعود متأخرًا وحدي إلى المنزل. لا بُدَّ من توجيه الأسئلة التفصيلية إلى أوسكار، وفي أقرب وقت ممكن. توجيه الرسائل إلى كل الأشخاص المحيطين ﺑ جروسكورت والذين يمكن الوصول إليهم، الاتصال تليفونيًا، زيارتهم، توجيه الأسئلة، في البداية السيدة رينتش والسيدة ريشتر. ثم التوجه إلى اليهود المختبئين، بالتأكيد يمكن البحث عنهم والعثور عليهم في أحد أحياء برلين. لماذا لا يعرفهم أحد؟ لماذا لا يزالون مختبئِين حتى اليوم؟ كنتُ أعرف أين أبدأ، عند أصدقاء أناليزه، آل بلوخ. هي تعمل سائقة تاكسي، وهو يهودي وشيوعي. تخبئه في شقتها المكونة من غرفة ونصف، يحالفهما الحظ، ألف مرة يحالفهما الحظ، يَتحابَّان، يعيشان بالقرب من أناليزه، حتى اليوم في الشقة ذات الغرفة والنصف في «هورست-فيج». يا للحكايات الدرامية ذات النهاية السعيدة التي يمكن قراءتها! يا للكنوز التي يمكن التقاطها!

لم أفعل شيئًا من كل ذلك، باستثناء السيدة جروسكورت لم أتحدَّث مع أي أحد كان عضوًا في المقاوَمة، ولا حتى مع الأرمَلتَين رينتش، وريشتر. حقًّا، لم يكن بإمكاني أن أتحول إلى مؤرِّخ بقدرة قادر، باحث ميداني يتنقل بالمُسجِّل والورق من مكان إلى آخر في ربوع الوطن مقتفيًا كل أثر وكل اسم. لم أُرِد — وكان هذا عين العقل — أن أثقل كاهلي بالمزيد، وأن تتضخم خططي إلى ما لا نهاية، ولكن هذا ليس عذرًا. كان بإمكاني — بدلًا من مطاردة قاضٍ نازيٍّ عجوز متحجِّر وجَمْع الأدلة ضده — أن أبحث عن المختبئين في صمت، والمجهولِين الذين قدَّموا العون، أن أسألهم وأكتب عن أفضالهم، وهو ما تم تداركه بعد ذلك بخمسة عشر أو عشرين أو ثلاثين عامًا. كما كان بإمكاني أن أُحمِّس آخَرين كي يقوموا بمثل هذه الأبحاث. لكني — أعترف — لم أفكِّر إلا في نفسي. مَن يبحث عن فضيحتي، فهي تكمُن هنا، في الكسل والأنانية، لا في جريمة القتل.

هذا ما أعنيه بكلمة «فاشل»: ها هنا شاب بِاسْم مزور وبأوراق قام بتزويرها بنفسه، يعيش وسط نازيين لا حصر لهم في شقة تم إخلاؤها كانت تملكها صديقة، ليس لديه مال، ثم يقرر عام ٤٢ وبمساعدة آلة طباعة، ماكينة يدوية ليتوغرافية، أن يواصل الحياة. يفهم بعض الأشياء عن الطباعة، عليه ألا يظهر بمظهر المبالغ المهول، بل بمظهر المتواضع. يدعي أنه رسام فني في متاحف داليم، وأنه يمر على مطابع برلين ليسأل إذا كانت لديهم هذه الماكينات القديمة. بعد مشاوير لا تنتهي يحصل أخيرًا على نصيحة، يقابل مدير مطبعة يبدو عليه أنه ليس نازيًّا. يكفي ما بذله من جهد لكي يتحدث بطريقة لا تجعل المرء يلقي به خارجًا بعد أول كلمة، أن يتحدث بطريقة مُقنِعة كمتخصص في آلات الطباعة، التحدث وكأنه يعمل على نحو مشروع، التحدث بطريقة تجعل المدير شخصيًّا ينزل معه إلى القبو ويقدم له أصغر الماكينات، بل ماكينة يمكن فَكُّها، التحدث بطريقة تجعل الرجل يعطيه الآلة مجانًا تقريبًا، بل ويعيره عربة يد ينقل بها الشاب ماكينة الطباعة، التي يبلغ وزنها تسعة أرطال على كل حال، بدون مساعدة أحد، متنقلًا عبر نصف مدينة برلين إلى أن يخفيها في قبوه، بل ويقدم له أبشع النازيين في المنزل يد العون، ثم الحصول على ورق، وطباعة كوبونات الزبد، وتوزيعها وإهداؤها بعد مشاوير لا تنتهي على قدميه عبْر برلين المدمَّرة، وتوصيلها إلى المختبئين. مثل هذا الرجل يجلس على بعد مترين منك، وأنت تعجز عن أن تجعله يحكي لك، أو أن تستدرجه لكي يبوح ولو بإحدى ذكرياته الأسطورية. بعد سنوات طويلة فعَلَها شخص آخر، ولم تقرأها أنتَ إلا في التسعينيات بعد أن مات تشارلي تشابلن المقاوَمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤