دفاع أيمن

هل كنت بالفعل مشغولًا ليلًا ونهارًا بالقاضي «ر» وآل جروسكورت؟ عندما أمعن في التفكير، وإذا استثنينا كاترين، فلا أجد سوى كُرَة القدم. قرب نهاية الشتاء البرليني الرصاصي، ومع البشائر الأولى للربيع المُرتقَب بشوق وهدوء، بدأ موسم الكرة الجديد. على الأقل مرة في الأسبوع، وعلى الأقل في أيام الآحاد أستريح من الملفات، وطوال ساعتين أظل أجري وراء الكرة، في الغبار، وعلى العشب المبتل بماء المطر.

غير أني — حتى في أول أيام اللعب بعد استراحة فصل الشتاء — كنت أريد مواصلة العمل في ملعب كرة القدم. كنَّا في مارس، أخيرًا كان بالإمكان الاطلاع على الحكم الصادر على «ر» من هيئة المحلفين بمحكمة برلين. أعطوا قاتل جروسكورت شهادةً تثبت أنه التزم بمواد القانون، وأن أحكام الإعدام كانت صحيحة ومشروعة باعتبارها رادعًا لمَوجة الانهزامية الخطيرة التي تَفشَّت بين الشعب. غَلى السخط في صدور الصحفيين مرة أخرى واستمر الغليان يومين كاملين.

بالإضافة إلى الباقة المُنوَّعة من اللاعبين في يوم الأحد، وإضافة إلى الفنانين والصحفيين والممثلين الكوميديين والأطباء والمُصوِّرين، كان هناك رجلان أو ثلاثة من رجال القانون. بعد المباراة أو في الاستراحة أردتُ أن أسأل أوتو أو يوخن عمَّا إذا كانَا يعرفان القضاة الذين برَّءُوا ساحة القاضي «ر»؟ وإذا ما كان أحد سَيطعَن في الحكم؟ وما هي فرص الطعن؟

كان حظُّنا جيدًا مع الطقس، لم تمطر السماء، وفي عصر ذلك الأحد كنَّا واحدًا وعشرين شخصًا في الملعب المهمل بالقرب من أتوستراد المدينة؛ أي إنه تَحتَّم علينا أن نلعب عشرة مقابل أحد عشر لاعبًا. كالمعتاد، اختار لاعبان من أقوى اللاعِبِين بالتبادل، أفراد الفريقين، هارون بدأ باختيار أوفه، أرنو باختيار نويس، ثم نودي الواحد تلو الآخر. كنت، مثل أوتو وبيتر، من اللاعبين غير المرغوب فيهم، كان مكانُنا في الربع الأخير بين أضعف اللاعبين الذين كانوا في نهاية الأمر يُوزَّعون على كِلا الفريقين بدافع من الرحمة. المهم هنا بالنسبة لاعترافي هو أن أوتو وأنا كنا في فريق أرنو.

لم أكن مُهاجمًا، ولا ظهيرًا حرًّا، ولا حتى حارس مرمًى. لم أكن سريعًا، وكنت أتجنَّب الكرات العالية، لم أكن أجيد السير بالكرة، ولا أن ألقي بكل قوتي في حومة اللعب. وهكذا لم يبق إلا الدفاع، وكان عزائي الوحيد في قاع هذا الترتيب أن ألعب مدافعًا أيمن، وأن يقنَع لاعب أكثر ضعفًا مني، هو أوتو هذه المرة، بمركز المدافع الأيسر.

مثل كل يوم أحد كان هدفي الأهم ألا أتسبب في إحراج نفسي. مَن لا يجيد لعب كرة القدم يلقى نفسه وحيدًا؛ لأنه كلما حرك قدميه، ارتكب خطأ، وكل خطأ صغير يُعاقب بالأحكام المسبقة من قِبل الخصم وباللعنات من ناحية الزملاء. إذا سار الأمر سيرًا جيدًا كان بإمكاني أن أظهر في صورة براقة كلاعب دفاع، بشجاعة وغريزة صائبة أقوم بإزعاج المهاجم الخصم وإعاقة طريقه إلى المرمى، أو منع وصوله إلى الكرة وقطع تمريراته إلى زملائه. كانت النظرات مُوجَّهة إلى وسط الملعب وإلى اليسار، إلى الخلف ناحية حارس المرمى، وعلى أقدام الخصوم المهاجِمِين وحركات أجسادهم حتى أخمن مبكرًا بقدر الإمكان ما إذا كان الواحد منهم سيمرُّ من يميني أم من يساري، أم أنه سيمرر الكرة قبل ذلك. لم يكن لاعبو يوم الأحد الهواة مثلنا يرتدون فانلة مميزة، كلٌّ يرتدي اللون الذي يروق له، الأمر الذي جعل الدفاع عسيرًا، كان عليَّ أن أكون في غاية الانتباه عندما تنتقل الكرة في منتصف ملعبنا.

ليس المهم كم هدفًا دخل مرمانا في ذلك الأحد، بالتأكيد صوَّب هارون الضخم السريع — وأمامه كان على أوتو أن يبذل مجهودًا أكثر مني — كالمعتاد ثلاثة أهداف أو أربعة. ولكني ما زلتُ أتذكر، ولهذا أَقصُّ ذلك، أنني لم أستطع خلال المباراة نسيان القاضي «ر». إذا نظرتُ يسارًا، أو إذا مرَّرتُ الكرة ناحية أوتو، كنتُ أتذكر — شئتُ أم أبيتُ — قضيتي المُلحَّة.

بين الحين والآخَر كانت لحظات هادئة تمر علي، عندما كان مهاجمونا يحاصرون المرمى الآخر، فنتقدَّم نحن المدافعِين إلى الأمام. غير أننا كُنَّا نقف على مبعدة من بعضنا البعض بحيث تعذر علينا أن نتبادل جملًا بأكملها، وحتى بالنسبة إلينا نحن الهواة لم يكن سيغفر لنا أحد لو التقينا في منتصف الملعب بدلًا من تغطية الأماكن الشاغرة. وسط التصويبات والتمريرات والصرخات بدت لي نيتي ساذجة. منذ البداية كنت أشعر بالحرج من محاولة أن أدير دفة الحديث ناحية القاضي «ر»، في الاستراحة أو بعد النصر أو الهزيمة، على كل حال في تلك اللحظات غير المناسبة على الإطلاق؛ كنتُ عرقانًا ومصابًا ومجهدًا مثل الآخَرِين.

مررتُ الكرة تمريرة جيدة على غير عادتي، وحصدت من أرنو بسرعة كلمة «جميل!» بعد المديح الذي شتَّتَ ذهني عن فكرتي المِلحاحة، تميَّز لعبي بسهولة أكثر. ثم الضربة الحرة المعتادة من نويس البدين خفيف الحركة. لحسن الحظ لم أكن أنا خصمه في تلك الكرة. كان نويس أكثر مهاجم أخشاه؛ لأنه كان يغضب سريعًا، وعندئذٍ يدهس خصمه بلا رحمة أو يمسك بخناقه أو يركله في كعبه. كان كريستوف — الذي رقد على الأرض في منطقة جزاء الخصم — ضحيته هذه المرة. «فاول» حقير للغاية، كل حكم سيصفر فور حدوثه. ولكن، لم يكن لدينا حكام، وعندما لا تتفق الأغلبية على إعطاء ضربة حرة، كانت معارك كلامية عنيفة تندلع بيننا. مَن يصرخ أعلى من الآخَرِين، ومن يحرك يديه على نحو أعنف، من يدافع عن حقه الموهوم بطريقة أكثر حسمًا، هو الذي يفرض رأيه. في هذه الأمور كان نويس الساخر وسليط اللسان أستاذًا أيضًا. قال بصوت عالٍ سُمع في الملعب كله: «أنا لم أكسر القانون، بل الركبة فقط! إذا كان «ر» قد حصل على البراءة، فالبراءة لي أيضًا!» ضحكنا. وعندما تم تنفيذ الضربة الحرة أخيرًا، بقي نويس رغم ذلك هو المنتصر؛ إذ إنه استقطب كل المشاعر، وحصد رفضنا لعنفه، وإعجابنا ﺑ «الشو» الذي قام به.

في الاستراحة تشاجرْنا حول الضربة الحرة، فما زال كريستوف يشعر بالألم. ظللتُ بجوار أوتو وكأنني أنتظر أن يبادرني بالحديث. لم أزعجه بالأسئلة؛ لأني كنت آمل أن أتحدث معه بعد المباراة ونحن نحتسي البيرة.

في الشوط الثاني كثُرتْ أخطائي. كالمعتاد كانتِ المهارات والسرعة والقسوة تنقصني، ولكن ما دامت الكرة تتدحرج، كنت أنسى القاضي «ر». عندما خَسرْنا المباراة، لم نضيع — أوتو ويوخن وأنا — وقتًا طويلًا في التعليقات والشكاوى، وذهبْنَا إلى السيارة. تحدث الاثنان مع بعضهما البعض، ولم أرَ فرصة في طرح أسئلتي. كان أوتو أول من غيَّر حذاءه، ثم اختفى عن أعيننا وهو يلوح من السيارة متوجهًا إلى أتوستراد المدينة. في أيام الآحاد اللاحقة لم أجرؤ كذلك على الحديث في موضوع تخصصي — وهل كان «ر» يهم الآخَرِين في شيء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤