لا بد للأمر من نهاية

لن تذهب أناليزه جروسكورت إلى السجن. حالَفها الحظ؛ ولأنها كانت خلال القضية الجنائية مُشتبَهًا بها، ومُدَّعًى عليها، تقريبًا عميلة، فقد تمهلت محكمة الولاية في النظر في دعواها بشأن التعويض. ثم هناك القضية الأخرى في المحكمة الإدارية العليا بخصوص جواز السفر. ورغم أن الطبيبة أوضحت للمحكمة الإدارية العليا بِلُغة موضوعية مَن هم المُحرِّضون على الحروب ومَن هم الفاشيون، فإن السادة القضاة تمهَّلُوا عامًا كاملًا قبل أن يُرسِلوا إليها قائمة بعشرة أسئلة حول لجنة جروسكورت، طالِبين منها الإجابة عليها في غضون أربعة أسابيع؛ لأن الموضوع يحتاج إلى توضيحات أكثر. يُطلب منها مثلًا أن تُسلِّم المَحاضر الكاملة لكافة جلسات لجنة جروسكورت، وأن تُقدِّم كذلك أوراق اللجنة بخصوص كافَّة الحالات التي تم تقديم المساعدة فيها لأشخاص أفراد وفقًا لأهداف اللجنة.

تعنُّت ومضايَقات، أشياء متقادِمة لا تعلم عنها السيدة جروسكورت أي شيء. إنهم يريدون التنصت ومعرفة كل شيء، يريدون تخويفها، لا شيء غير ذلك.

ولكن كيف يكون ردُّ فعلها بعد أن خارت قواها تمامًا بسبب القضايا الأخرى؟ هل تجيب بأنها لا تستطيع إطلاقًا الإجابة على معظم الأسئلة المطروحة بخصوص اللجنة؟ وبذلك تجلب لنفسها الجرعة التالية من السُّم، أم سحب الدعوى؛ لأن القضايا الأخرى أكثر أهميةً، قضايا وجودية؟ هل تستسلم إذن، وهي المنهكة إنهاكًا تامًّا من جرَّاء تكرار الحُجج نفسها في كل مرة؟ ولأنها ستدفع هنا أيضًا مئات من الماركات؟ هل تستغني عن جواز السفر؟ عن السفر إلى الغرب؟

كلَّا، لم تَعُد قواها تتحمَّل ثلاث قضايا. تعرف المحامية طريقًا منقِذًا. لا تقوم بسحب الدعوى، لن تمنح رئيس الشرطة الفرصة ليشمت منتصرًا. يجب صدور الحكم في القضايا الأخرى أولًا التي تتعرض لنقاط الخلاف نفسها، ولهذا تَطلُب تعليق هذه القضية مؤقتًا.

ولكنها لا تنعم بالهدوء؛ في ديسمبر ١٩٥٧م كان قد مَر عام كامل على النزاع حول «الإضرار بالحياة والإضرار بالحرية»، الحجج تزداد وتتكرر.

لا ترى المحامية سوى فرصة وحيدة. الابتعاد عن المُصطلَحات المتداوَلة في صراع الحرب الباردة. ولأن كل رأس من رءوس الأفعى يثبت بصره على صورة الشيوعية المتنكرة بخبث شديد، تُذكر المحامية القضاة بأن ما أثَّر في السيدة جروسكورت تأثيرًا طاغيًا هو ما عايَشَتْه في «الاتحاد الأوروبي»، وما مرَّت به بسبب مصير جيورج ووالدها، وليس أيديولوجية بعينها: لا تتصف المدعية بطبيعة قتالية على الإطلاق. إنها في الحقيقة إنسان غير سياسي، بمعنى أن الصراع السياسي بمصطَلَحاته الدعائية ولغته التي تجنح كثيرًا إلى المُبالَغة الضرورية أمر لا يتفق مع طبيعتها. إنها طبيبة عن ميل واقتناع، ومهنتها تشغل وقتها كله. بعد فصلها من مكتب الصحة في حي شارلتنبورج كان عليها أن تؤسِّس عيادة لكي تطعم أطفالها ونفسها. لقد مُنعت آنذاك من الحصول على أي نوع من أنواع الدعم، إنها لم تحصل على دعم حتى لأطفالها. في ذلك الموقف لم يكن لديها الوقت الكافي لكي تخوض بشكل فعَّال كفاحًا سياسيًّا، أو أن تقوم بمبادرة خاصَّة من وحي أفكارها. من ناحية أخرى كانت لديها أُذن منتبهة للتحذيرات الواضحة التي صدرت عام ١٩٥١م والتي كانت تشير بقوة إلى إعادة تسليح البلاد.
تشير المحامية إلى المنع المُثير للجدل للاستفتاء الشعبي، إلى الفصل غير القانوني، والعصبية التي سادَت شَطْرَي برلين في السنوات الأخيرة، وعدم موضوعية الصحافة في الشرق والغرب معًا، والتعتيم على الفضائح التي تُرتكَب داخل كل بلد. أيًّا كانت الظروف التي أدَّت إلى حوادث الخامس عشر من أغسطس ١٩٥١م فمن الثابت أن ما حدث آنذاك مَرفوض جملة وتفصيلًا. لا بُدَّ من التحقيق في الحوادث، ولا سيَّما وأن صحافة برلين الغربية صمَتَت عن جزء منها صَمْت القبور، أو غضَّت النظر عن بشاعتها ولم تَقُم بالكشف عنها. في مثل هذا الموقف العصيب استجابت أناليزه جروسكورت إلى طلَب أفضل أصدقاء زوجها، روبرت هافَمان؛ لأنه يمثل بالنسبة لها سُلطة أخلاقية.
يُرفِقان الكلمة التي ألقتها السيدة جروسكورت في أوشفيتس أمام أمهات القتلى وأراملهم وأيتامهم، وخطابًا ألْقَته عام ١٩٥٢م في مُلتقى المُلاحَقين من النازية، وكذلك الكلمة التي اعترضَت بها على حكم محكمة العمل عام ١٩٥١م، لم تستخدم الطبيبة كلمة هجوم واحدة على النظام الأساسي الديمقراطي الليبرالي للبلاد، ولا كلمة دفاع عن سياسة ألمانيا الديمقراطية، قد يكون وضعها «بين الجبهات» غير مألوف. ولكن موقفها واضح: لا للفاشية والحروب، نعم لتحقيق وصية زوجها المضحي بذاته، ولكنها ليست ضد النظام الديمقراطي الليبرالي.

وبينما راحت محكمة الولاية تفحص هذه الحجج، أو تدَّعي فحْصها، تحرَّرَت أناليزه من الخوف: لم يسبق لمذكرة قانونية من المذكرات الكثيرة التي قُدِّمت أن كانت بمثل هذه الموضوعية، وبمثل هذا الاتقان والوضوح والتفصيل والحماس، لن يستطيع أحد الآن أن يُشهِّر بها باعتبارها شيوعية شريرة.

عندئذٍ تبخ عليها أفعى مصلحة التعويض جرعة السم الجديدة القديمة: نازية! الرابطة النازية للنساء! كذابة!

تَمْرَض، لم تَعُد تستطيع؛ لقد مرَّت بثلاث قضايا، وأُجبرت على خوض قضيتين. القضيتان تُؤجَّلان، وملفها يتضخم مع الأيام. شرَحَت كل شيء مئات المرات، وعليها أن تشرحه مئات أخرى. ولكن أن تفتري عليها محكمة الولاية وتَصِفها بالنازية، فهذا شيء يصيبها في مَقتل ويجعلها تترنَّح ويُوقِف نبْض قلبها. طوال خريف ١٩٥٧م وحتى منتصف الشتاء كان عليها أن تُصارع وباء الإنفلونزا، ليلًا ونهارًا، غربًا وشرقًا. المَرضَى أولًا ثم القضايا، شعارٌ كثيرًا ما أثار غضب محاميتها النشيطة. والآن ها هي الأنفلونزا الرهيبة ترمي بها هي أيضًا على الفراش، طيلة شهر يناير، العيادة مُغلَقة، لا بُدَّ من البحث عن طبيب ينوب عنها. تُصارِع للبقاء على قيد الحياة. محمومةً ترى نفسها وسط أدغال آلاف الإهانات الوضيعة التي أصابتها من الأحكام القضائية والمُذكِّرات القانونية، خلال حرب الاتهامات، تعود بها الحُمَّى إلى إرهاب المكالَمات التليفونية الليلية، إلى الأيام التي كانت تسمع فيها سِباب الزملاء والمَرضى. تقذِف بها الحمى إلى سنوات الماضي الذي لم تكن تريد أن تَتذكَّره أبدًا، زنازين الانتظار الانفرادي قبل أن يحقق الجستابو معها في قبو «برنتس ألبرشت شتراسه»، الصَّمْت أثناء التحقيقات، الليالي التي قضَتْها وهي تسمع صفارات إنذار الغارات في الطابق الأعلى من سجن الشرطة، عندما سُمح لكل السجناء بالنزول إلى المخبأ، ولم يسمحوا لها. محمومةً تقف أمام محكمة الشعب العليا، وتسمع صوت فرايزلر، وترى المنشورات. لا، لا، لا تريد مرَّة أخرى أن تشعر بوخزات ألم تلك المنشورات السياسية. روبرت هو الوحيد الذي يستطيع مساعدتها اليوم، لا بُدَّ أن ينقذها روبرت.

أخيرًا استطاعَت الاتصال بالصديق. يكتب إقرارًا شارحًا لماذا كانت العضوية في الرابطة النازية للنساء ضرورية للتمويه آنذاك. يُوضِّح عمل المجموعة، يتحدَّث عن اليهود الذين خبَّأَهم آل جروسكورت في شقتهم، يمتدح — مبالِغًا بعض الشيء — المُساعَدة متنوعة الأوجه التي قامت بها أناليزه لدى تقديم المخبأ لليهود وإمدادهم بالمواد الغذائية، في الحصول على أموال وفي تزوير الجوازات واستخراج شهادات طبية مزوَّرة، وكذلك في توصيل المعلومات. يصف روبرت الأخطار التي عرَّضَت نفسها لها من أجل المجموعة. يشرح بالتفصيل الأسباب التي حملت المجموعة على الإلحاح عليها للانضمام إلى الرابطة النازية للنساء. ويعلن عن استعداده للشهادة بذلك.

تظن أن الإقرار هو خلاصها، لكن المحامية تطالب بالمزيد: هل هناك يهود نَجَوا من المُلاحَقة؟ أسماء؟ مَن زوَّر الجوازات؟ مَن وزَّع المواد الغذائية؟ مات الشهود، لم يقم أحد بالبحث والتقصِّي عن نشاط المجموعة، والشبكة التي اعتمدَت عليها، أفراد يمكن عَدُّهم على أصابع اليد الواحدة، هم الذين ما زالوا يعرفون مجموعة الاتحاد الأوروبي. رغمًا عنها تستكمل شرح روبرت، وتصف بالتفاصيل الوضع المأساوي الذي وجد جروسكورت فيه نفسه بعد أن طالبه هيس بالانضمام للحزب. كلما تَذكَّرَت تفصيلًا، وخَزَها الألم.

وبماذا يجيب رجل القانون في مَصلحة التعويض؟ إنه يَتحدَّث عن أعمال مقاوَمة مزعومة، ويَدَّعِي أنها لم تتعرض لمدة الحبس القصيرة بسبب عدائها للنازية. إن مدة الحبس القصيرة دليل على أنها لم تكن مُلاحَقة؛ أي إن منطقه هو: ما داموا لم يقطعوا رأسها، فلا بد أنها كانت نازية!

مثل هذا المنطق قد يتبناه محامي الخصم، وليس قضاة محكمة الولاية. القضاة، أين هم؟ ماذا يفعلون؟ فيمَ يفكرون؟ إنهم يتكئون باسترخاء على مَقاعدهم، طوال أشهر، يدرسون الأحكام الصادرة من محكمة العمل والمحكمة الإدارية، يَستقصون الأمر لدى المحكمة الإدارية العليا فيما يخص الجواز المُعلَّق، طوال أشهر كانت تنتظر خلالها تعويضًا هي في أَمسِّ الحاجة إليه.

وأخيرًا تقرر صدور الحكم في جلسة ٦ / ١٠ / ١٩٥٩م. بعد ثلاث دقائق لا غير؛ إذ لا بُدَّ للأمر من نهاية، رُفِعَت الجلسة للمداوَلة. تَعترِض المحامية إذ إن المحكمة لم تناقش موضوع القضية في أي جلسة من الجلسات حتى الآن، ولا سيَّما وأن المدعية حضرت للإدلاء بأقوالها، وكما جاء في إخطار المحكمة. الأفعى الرئيس تبقى باردة، لقد تمَّ شرح كل شيء في المذكرات القانونية التي قُدِّمت، وسوف تنظر هيئة المحكمة فيها بالعناية الواجبة. هيا، إلى المنزل! وبعد ساعتين نضج الحكم: رُفضَت الدعوى.
يريد السادة القضاة أن يكونوا أكثر معرفةً بمقاوَمة النازية من روبرت وأناليزه وكل الخبراء: لم يتضح للمحكمة سبب عضوية زوجة أحد المقاوِمين في الرابطة النازية للنساء، ولماذا كانت هذه العضوية تمويهًا لكفاح زوجها. طوال ثلاث صفحات والأفعى تُطلِق تكهُّناتها وتُواجِهها بالاتهام التالي: لم تَقُم المدعية بعرض وقائع تسمح بالتوصُّل إلى نتيجة مُفادها أنها كافَحَت ضد النازية، مُعرِّضة حريتها ونفسها وحياتها للخطر. إلى ذلك، وعبْر سبعة سطور، يتم الحط من شأنها مرة أخرى باعتبارها شيوعية تُحارِب النظام الديمقراطي الليبرالي، وكالمعتاد باسم الشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤