مهم للحرب

حالتي جيدة، هكذا كتب الطبيب في شهر فبراير من زنزانة الموت إلى حماته في فيردا، السيدة إيلزه بلومبه التي كانت ترعى مع أخته لويزه شئون وَلدَيه، حياتنا هنا منظمة نظامًا غير عادي، وهو ما يساهم في الشعور بالراحة. أنام جيدًا، تقريبًا ١٢ ساعة يوميًّا، صفارات الإنذار لا تزعجنا. خلال النهار أكتب أبحاثًا علمية، وأقرأ، أحيانًا في الطب، وأحيانًا قراءات عامة. وهكذا يمكن تَحمُّل فقدان الحرية. وستفهمينني بالتأكيد عندما أقول إنني أشعر بالاختناق أحيانًا بسبب الغموض الذي يكتنف مصيري.

في مارس وأبريل سيكون هناك بعض التغيير؛ إذ سيُنقل عندئذٍ مكبَّلًا بالقيود إلى برلين ليُستَمع إلى أقواله شاهدًا أمام محكمة الشعب العليا. أما الثلاثة الآخرون الذين ينتظرهم حكم الإعدام فيُنقلون في سيارات أخرى، كلٌّ على حدة، ليس هناك فرصة لنظرة أو إشارة أو كلمة. أمام رايات الصليب المعقوف يرى جيورج المتهم هاتشيك العصبي مرة أخرى، ويحاول أن يشهد لصالحه. لكنه اعترف بكل شيء، هذا ما يلاحظه على الفور، إنه مُحطَّم الأعصاب. لقد أخطَئُوا؛ لأنهم لم يتصرفوا بصرامة بعد الانطباع الأول الذي تولَّد لديهم؛ لأنهم لم يقولوا «لا» قاطعة وحاسمة، ويتجنبوا هاتشيك كليةً. رأى أيضًا الطبيبة رومانوفا والرجل الطيب تسادكيفيتش، الوسيطين بينهم وبين عمال السخرة الروس. يبدو أن الجستابو لا يعرف أن رجال الاتحاد الأوروبي استطاعوا في بعض الأحيان أن يحذروهما من حملات الشرطة. ويرى القاضي القصير مرة أخرى الذي يبذل كل جهده لكي يزأر بحدة مثل فرايزلر. كلَّما علا صياحهم بالسِّباب والشتيمة، اقتربت نهايتهم.

يقوم الجلاد روتجر بفلاحة حديقته، فيما جيورج يُجرِي أبحاثًا عن العلاج بالحديد، وعقار البروجينون. جروتر، صاحب شركة الأدوية — الذي يتعاون جيورج معه منذ عشر سنوات، وطوَّرَا معًا عقار الأويفيلين — يكافح يومًا بعد يوم لتأجيل تنفيذ الحكم. يتحدَّث مع مُمثِّلي النيابة لدى محكمة الشعب العليا ورجال الادعاء العام في وزارة العدل، ويمتدح الباحث الممتاز الذي يطرح مشكلات جديدة تمامًا ويستطيع حَلَّها بفضل تبحُّره في الفيسيولوجيا والكيمياء والفيزياء. يستطيع أن يبدأ في تنفيذ أحد عشر مشروعًا مهمة للحرب، بل لقد بدأ في بعضها، وذلك للوصول إلى طرق علاج أفضل لفقر الدم، والتيفوس، والالتهاب الرئوي، والتسمم بثاني أوكسيد الكربون، واضطرابات الدورة الدموية. وباستطاعة جروسكورت أن يقدِّم توضيحات أكثر بشأن الموت تجمُّدًا، وسُبل إطالة مفعول الكافيين، ومستحضَرات الحديد التي تزيد من الصفائح الدموية. إنه يقوم بأبحاث هدفها تحديد مفعول الغازات الحربية ودرجة التسمم الناتجة عنها، مستخدمًا في ذلك وسائل بسيطة مثل تحليل الدم.

ينجح جروتر في الحصول على إذن بزيارة صديقه.

لكن الفوهرر يريد رؤية جثث، يريد أن يرى خلفه موظفين قساة. يُقدِم أعوانه على الفعل؛ إذ إن الفوهرر سيحتفل قريبًا بعيد ميلاده ويريد هدايا. بعد إشارة الإبهام الصادرة من السادة: ألتماير، والدكتور بارنيكل، وكرامر، والدكتور فرانتسكي، وياجر، وتيسين، وفيلمان، يَحين قرار وزير العدل في الرايخ الدكتور تيراك. من الممكن تأجيل القرار بشأن هافَمان قليلًا؛ لذا يحصل على مُهلة قدْرُها ستة أسابيع. أصدقاؤه الصيادلة لهم اتصالات مع الطبيب أول في مصلحة تسليح الجيش، بل وحتى مع المارشال كايتل، وفي تلك الأوقات العصيبة لا يغضب المرء السادة الجنرالات.

يريد الفوهرر أن يرى رءوسًا تتدحرج، عيد ميلاده يقترب، ولهذا يأمر تيراك في الثامن عشر من أبريل عام ١٩٤٤م، وبتوكيل من الفوهرر، بتنفيذ الحكم الصادر ضد جروسكورت، ورينتش، وريشتر. يشعر الموظفون بالراحة، عما قريب سيضعون الملفات التي تحوي التماسات الرأفة المزعِجة على الأرفف.
يوم الحادي والعشرين من أبريل تطلب وزارة العدل من كبير وكلاء النيابة في محكمة الشعب العليا باتخاذ الإجراءات الأخرى اللازمة بأقصى سرعة ممكنة، وتكليف الجلاد روتجر بذلك. وفي حالة تسليم الجثث لمعهد علمي وفق الفقرة ٣٩ من المرسوم الصادر بتاريخ ١٩ فبراير ١٩٣٩م، فالأولوية لمعهد التشريح بجامعة برلين. مع رجاء عدم نشر خبر الإعدام في الصحف أو في مطبوعات المحكمة.

في الحادي والعشرين من أبريل يُنقل جيورج جروسكورت من زنزانته الانفرادية إلى قسم السُّل لإجراء تجارب علمية هناك.

في السابع والعشرين من أبريل يُحدِّد كبير وكلاء النيابة لدى محكمة الشعب العليا تاريخ وساعة الإعدام، الثامن من مايو، الساعة الثالثة عصرًا، على أن يُبلغ المحكوم عليه بالموعد ابتداءً من الساعة الواحدة والنصف ظهرًا. ويتم تعيين المدَّعِي العام كورت مشرفًا على تنفيذ الحكم. في براندنبورج يتم دائمًا تنفيذ أحكام الإعدام يوم الاثنين.

في الثامن والعشرين من أبريل يؤكد المحامي هندلر أهمية الأبحاث التي ذكرها جروتر لسير الحرب.

في الثامن والعشرين من أبريل يشرح جروتر للجهات المختصة ثلاثة مشاريع أخرى مهمة للحرب: الدراسة الخاصة بقناع الغاز، وبحث يجريه عن تخثر الدم، وطريقة جديدة لقياس عدد كريات الدم الحمراء.

في التاسع والعشرين من أبريل يطلب المحامي هندلر من السكرتيرة أن تطبع على الآلة الكاتبة البحث الخاص ﺑ زيادة قدرة الإنجاز البدني أثناء العمل بقناع الغاز، ويرسل نسخة إلى كبير وكلاء النيابة في الرايخ.

في الأول من مايو يكتب جروتر إلى المصالح الحكومية أن مدير معهد القيصر فيلهلم للأبحاث الطبية ورئيس الجمعية الكيميائية، البروفسور كون، يرى أيضًا أن دراسات جروسكورت مُهمَّة للغاية للحرب، وسيبعث في القريب العاجل بعدة تقارير تبين حيثيات رأيه.

في الثاني من مايو يتلقى الجلاد روتجر تكليفًا بإعدام المحكوم عليهم بقطع الرأس.

في الثاني من مايو يتحدث جروتر مع البروفيسور لانج من الأكاديمية الطبية العسكرية الذي يؤكد أهمية أبحاث جروسكورت للحرب، ثم ينطلق لفوره إلى وزارة العدل لإخبار الموظف المختص في الوزارة.

في الثاني من مايو تلتمس الوزارة من محكمة الشعب العليا أن ترجئ تنفيذ الحكم حتى تقدم وزارة العدل توجيهاتها بهذا الشأن.

في الثالث من مايو يُرسل قرار تنفيذ الحكم للمحامين الذين عينتهم المحكمة للمحكوم عليهم جروسكورت، ورينتش، وريشتر، وكذلك بطاقات تسمح لهم بحضور الإعدام. عليهم التزام الكتمان التام وارتداء البدل الداكنة.

في الثالث من مايو تصل الدراسة عن زيادة قدرة الإنجاز البدني … إلى كبير وكلاء النيابة.
في الثالث من مايو تُعرض مرة أخرى حالة جروسكورت وكذا رأي جروتر وتقارير الخبراء الجديدة على وزير العدل في الرايخ الذي يقرر: كلا، إن الأبحاث ليست مهمة إلى هذا الحد بالنسبة للحرب.

في الرابع من مايو يطلب كبير وكلاء النيابة من الوزارة أن تفيده بشأن ما إذا كانت رسائل جروتر قد أرجأَتْ تنفيذ الحكم المقرَّر.

في الخامس من مايو تَرُد الوزارة بقرارها الصادر في الثالث من مايو: ليست الأبحاث مهمة للحرب.

في السابع من مايو يقوم جروتر بإخطار الوزارة بأن البروفيسور الطبيب مونتش يشدد هو أيضًا على الأهمية القصوى لأبحاث جروسكورت بالنسبة للحرب، وأنه سيرسل تقريرًا بهذا الشأن في أقرب وقت.

في ليالي تلك الأيام كان عدد لا يحصى من القنابل يسقط على برلين، ولكن السُّعاة كانوا في النهار يجدون طريقهم وسط الأنقاض، بين الوزارة في «فيلهلم-شتراسه» ومحكمة الشعب العليا في «بلفو-شتراسه»، وسجن براندنبورج-جوردن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤