هذيان الساخطين

عبْر نهاية الأسبوع كانت الانتقادات المُوجَّهة إلى الحُكم قد زادت وتضخمت، فأفْرَدَت صحف يوم الاثنين أكثر من عمود لها، كما أظهرت الأحزاب كلها والنقابات جميعها الاستياء والسخط، وفي الخارج علا صوت الاعتراضات، حتى صحافة «شبرينجر» اليمينية سبَّت الحُكْم قائلة: إنه «استهزاء بدولة القانون». كنتُ في خير صحبة إذن، حتى صحافة شبرينجر تُواتِيها أحيانًا الجرأة وتنطق بالحقيقة. شعرت بالمؤازرة من كل جانب، ما منَحنِي شعورًا نادرًا بالسعادة.

«فليحيا رولاند فرايزلر»، هكذا لخَّصت مجلة «شبيجل» الأمر خير تلخيص. لقد وَجدتُ المقالة في العلبة الكرتون التي احتفظتُ فيها بالقصاصات القديمة، السطور التي كنتُ وضعتُ تحتها خطًّا: «أثناء حكم هتلر كان بمقدور المرء أن يشنق الآخرين، ويضربهم حتى الموت، أن يعدمهم بالغاز ويُطلِق عليهم الرصاص وينثر السم في وجوههم — وبالطبع يُعاقَب الآن من اقترف هذه الجرائم، ولكن القضاء شيء آخر — كان بمقدور القاضي أن يصدر الأحكام في زمن هتلر، ويبقى الأمر بلا عواقب بعد هتلر. كان المرء «خاضعًا» للقانون، وهذه حالة لا يعاقب عليها القانون، بل حالة تراجيدية تفيض شرفًا وكرامةً. ما أروع إصدار الأحكام! مَن يجرؤ على إصدار الأحكام بِنِيَّة مُبيَّتة على خرق القانون، ثم يسمح للآخَرِين أيضًا فيما بعدُ أن يَثبُتوا ذلك عليه؟ مَن يستطيع بعد حكم البراءة هذا أن يَدَّعِي أن «القضاء مستقل» وأن يشكو إذا ضحك الآخرون عليه؟»

في منتصف المقالة كنتُ قصصتُ مستطيلًا: صورة «ر». تدَّعِي ذاكرتي أني ثَبَّتها بالدبابيس على الحائط. بروفيل نصفي، وجه مستدير، رجل مُسِن يرتدي بدلة داكنة اللون، الشعر ممشط إلى الخلف، وجه موظف صغير، عاديته تثير النفور. شخص ينساه المرء على الفور. شخص لا يريد الإنسان أن ينشغل بأمره لحظةً. شيء واحد يلفت الانتباه، نظرة الكلب هذه، العينان الناظرتان إلى أعلى في خنوع.

الصورة المقتطعة من المقالة ضاعت مني، لم أتعرف عليها إلا في الأرشيف الصحفي، التذكر والاعتراف في حاجة إلى مثل هذه القرائن. لا بُدَّ أن الصورة على الحائط بجوار مكتبي ظلت بضعة أسابيع أو شهور نقطة جذب لبصري، هدفًا لنظراتي.

Monday, Monday, so good to be …

لم أتحدَّث مع أكسل في التليفون إلا بعد ثلاثة أيام من صدور الحكم، مساء الاثنين. قلتُ له: وقاحة لا حدَّ لها، أنا غاضب، بالفعل غاضب.

لا أتذكَّر ما قلتُه بالحرف الواحد، لكنني أتذكر الخجل الذي اعتراني؛ لأنني لم أجد لغة مناسبة أعبِّر بها عن شعوري المتضامِن معه، لم أجد إلا هذيان الساخطين، لم أكن أود أن تبدو كلماتي مثل برقية تعزية، ولا مثل تصريح سياسي. إن الحكم الذي يبرئ قاتِل والده كان شيئًا حميميًّا وعامًا إلى أقصى حد، كيف أستطيع التوفيق بين الأمرين في جملة تُقال لصديق مُرهَف الحس، وعلى التليفون؟ حتى لا أتصيد كلمات أخرى، سألتُه بسرعة عن شعوره لدى سماع الحُكم.

– لم أَعُد أتذكَّر. الأمور لا تتغير، منذ عشرين سنة.

– ولكن على الأقل كانت هناك قضية. ومانشتات.

– اسكت، اسكت. الأسبوع القادم سيكون الناس قد نسوا كل شيء.

– وما رأي والدتك؟

– لم تنتظر شيئًا آخر.

– في رأيي، علينا أن نفعل شيئًا.

– أنت طيب جدًّا! منذ عشرين سنة وأمي لم تتوقَّف عن فعل أشياء ضد هذه العصابة، فماذا كانت النتيجة؟ لا شيء، لا شيء. لقد أثارت كل محاكم المدينة ضدها، حتى محكمة الشعب العليا، ولا أحد يهتم بذلك. يمكنك أن تحتج، إذا أردْتَ، وسنرى النتيجة.

لم تجرحني مرارة أكسل، كنتُ أعرف نبرته والملاحَظات القاسية التي يرميني بها. كان يدعوني «مثاليًّا»، وأنا أدعوه «متشائمًا»، لعبة قديمة بيننا، حتى صديقي لم أَبُح له بشيء عن الفكرة التي تملَّكتْنِي. ليس من المفروض أن يعرف أني كنت أقصد أكثر من مجرَّد رسالة احتجاجية عندما تفوَّهت بالجملة الغبية «علينا أن نفعل شيئًا». ثم سألته: هل شاركتم في القضية على نحو ما؟

– كنا نريد ذلك، بصفة مدَّع ثانٍ، لكن المحكمة رفضَت.

– رغم أنه لَفَّق حكم إعدام والدك؟

– رَفضَتْ، قلتُ لك.

– وهافَمان، هل حاول أيضًا؟

– على حدِّ علمي لا، الرجل لديه هموم أخرى الآن.

– لم يقبلوا أن تكونوا طرفًا في القضية، هذه فضيحة! فضيحة أخرى!

– لم أعُد أطيق سماع كلمة فضيحة يا عزيزي، هذا شيء طبيعي جدًّا، الأمر يسير وفق نظام مُعيَّن، بالإضافة إلى ذلك، جروسكورت لا يهم أحدًا. في ألمانيا الشرقية يحتفلون بحفنة من الشيوعيين الذين كانوا في حركة المقاوَمة، في الغرب بالضباط الذين حاولوا متأخرًا جدًّا أن ينفذوا انقلابًا على هتلر، وبذلك فإن الجانبين لهما مَن يقف وراءهما ويقدِّم الدعم لهما، أما الناس الذين هم مثل أبي، الذين فعلوا الكثير وخاطَروا بالكثير، ربما أكثر من عديدين من أولئك الرفاق، فإن الجميع ينساهم، إنهم سَقَط المتاع. هافَمان وحده هو الذي أبقى المجموعة قوية؛ ولأنه الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة فإنهم في الغرب يعتقدون أنه شيوعي، وهو لهذا كاذب ومتفاخِر؛ ولهذا لا يعرف أحد في الغرب اﻟ «ألِف ألِف». والآن، هل تعرف ماذا يفعلون معه؟

– ألِف ألِف! ما معنى: ألِف ألِف؟

– اتحاد أوروبي، هكذا كانت المجموعة تسمي نفسها. كانوا سبَّاقِين لعصرهم، سبَّاقِين للغاية، هذا هو سوء حظهم. هافَمان، هل تعلم ماذا يفعلون الآن معه، وهو المعارِض لأولبريشت؟١ إنهم الآن قد محوا اسمه تمامًا من «المقاومة».

– ولكنهم لن يستطيعوا قلْب التاريخ!

– بلى! منذ فترة قصيرة نشرت مقالة عن «الاتحاد الأوروبي»، في مجلة ألمانِيَّة شرقية. المقالة لا تأتي على ذكر هافَمان، وفي المقابِل فإنهم يُعظِّمون من قدر أبي. لو كان حيًّا لقذف المقالة في وجوههم!

– هل من الممكن أن أقرأ المقالة؟

– عليك إذن أن تزور أمي، لديها كل هذه الأشياء.

مع العبارة سمعتُ اتهامًا مبطنًا؛ لأنني منذ عام أو أكثر لم أر أناليزه جروسكورت.

(عندما أحاول إعادة كتابة الحوارات السابقة كي أدخلها في اعترافي، أسمع النبرة الغليظة والأفكار الفجَّة، ولكن الأمر كان هكذا، لم نتحدَّث آنذاك حديثًا أكثر أناقة وسخرية وذكاء؛ لذلك على مَن يريد أن يعرف كيف أصبحتُ قاتلًا أن يتقبَّل هذه الحوارات الجافة. التجميل لن يجدي شيئًا؛ إنه لَضرْب من الكذب أن أرسم صورة أكثر ذكاء ومهارة لي. إن خططي لم يكن لها أن تنبت وتزدهر إلا في هذه اللغة الضَّيِّقة، المنبرية بعض الشيء، التي يغلب الحماس السياسي على كل حرف من حروفها.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤