سبت طويل

أمام دار بلدية شونيبرج ارتفعتْ شجرة عيد ميلاد ضخمة، مزيَّنة في جانبها الأيسر بملصقات لنجمة داود، وفي الجانب الآخر بصور لماوتسي تونج. لا أحد يضحك على الصورة، أنا أيضًا لم أضحك: مَذبَح مسيحي بجناحين، أحدهما يهودي والآخر شيوعي، وفوق المكان كانت تحوم روح جون ف. كندي الذي قال هنا قبل خمسة أعوام جملته الشهيرة،١ كالبابا عندما يُوزِّع بركاته. هنا تجمع عدد كبير من مختلف الأطياف، على أكثر تقدير ثلاثة آلاف إنسان، للاحتجاج على الحكم ببراءة «ر».

عندما يتجمع الناس في مظاهرة علنية — قلت لنفسي بعد أن أخذتُ إجازة ساعتين من الفيلسوف روسو — فإنَّ تجمُّعهم يلفت أنظار العالم كله؛ الألمان لم يقبلوا الحكم ببراءة من هُم على شاكلة فرايزلر. بِسَيْري في الشارع كنتُ آمل في أن أشتري سلامي على المكتب: دع «ر» في حاله! يكفي أسبوع من الفوضى في الرأس!

في إحدى العلب الكرتونية التي تضم أوراقًا قديمة وجدت منشورًا من تلك الأيام: كفى! إننا نطالب قوات الحلفاء الأربعة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى وفرنسا، أن تمارس حقها المباشر الممنوح لها كقوة احتلال في برلين الغربية، لتأمين تنفيذ قرارات مؤتمري يالطا وبوتسدام. إن هاتين الاتفاقيتين تلزمانِنَا بمكافحة النازية في ألمانيا واقتلاعها من الجذور. إننا نطالب قوات الاحتلال بأن تضع الاتفاقيتين أخيرًا موضع التنفيذ الجدي!

تحت شجرة عيد الميلاد كانت تقف بيآته كلارسفلد التي أضحتْ نجمة عندما صفعتِ الرجل المناسب في المكان المناسب. مَظهرُها يذكر بممرضة، كانت تتحدَّث ببساطة، مُتخِذة موقفًا صريحًا معاديًا للنازية. كان من الصعب فَهْم ما تقول؛ إذ إن مجلس الوزراء في ولاية برلين٢ لم يُسمَح للمنظِّمِين بالحصول على أي مساعدة تِقَنِيَّة، لا مُكبِّرات للصوت ولا توصيلات كهربائية، كان على المتظاهرِين الاكتفاء بأصواتهم دون أي وسيلة تقوية، حتى الشموع في الشجرة كانت مطفأة. احتفظَتْ ذاكرتي بجملة: على كل فرد أن يخوض كفاحه وحده. لم يصفق أحد على هذه الجملة، بل انطلقَتْ صفارات استهجان، لم يكن الوقت ملائمًا للذين يُناضِلون وحدهم. في الأسابيع التالية عِشْتُ متوهمًا أن السيدة كلارسفلد قالت تلك الجملة لها ولي.
كان أصعب شيء في تلك الفترة أن تجد مكانًا يبعدك عن المجموعات الكريهة التي لا تَوَد أن يحسبوك ضمنها — وهؤلاء كانوا يمثلون الأغلبية. كنتُ أَودُّ أن أقف في الأمام تمامًا، عند الطلبة الذين يعلقون نجمة داود وعند بيآته كلارسفلد. بعد خُطبتها سيطرت عليَّ لوهلة فكرة أن أسير إليها وأهنئها، لكنني بالطبع لم أمتلك الشجاعة الكافية؛ معظم مُتظاهِرِي الاتحاد الاشتراكي للطلبة الألمان كانوا يثيرون عندي شعورًا بالانزعاج لغرورهم وإحساسهم بالأهمية، أما الشيوعيون الألمان الغربيون، الذين كانوا يُعبئُون أيديولوجيًّا من برلين الشرقية، فكنتُ أشعر ناحيتهم بانجذاب أقل. كانوا يطالبون كعادتهم بالقيام ﺑ «عمليات موحَّدة ضد الفاشية». عدة مئات من المُسنِّين كانوا يسيرون شاحبين تَرتَسم على وجوههم سمات الطاعة. كان الحكم يؤكد صورتَهم عن ألمانيا الاتحادية: الجلادون يحصلون على معاش من الدولة، أما الضحايا فلا يجنون سوى الاستهزاء! كانوا يُدافِعون عن الإرهاب الرُّوسي ضد التشيك، ولهذا أيضًا تَجنَّبْتُهم.

أما شباب المَاوِيِّين فَهُم أكثر المجموعات التي أثارت اشمئزازي. كانوا يطلقون على أنفسهم «الحرس الأحمر»، يرفعون صور ماو في الهواء ويزأرون بصوت جماعي متقطع: «ماو-تسي-تونج!» كانوا يُلوِّحون باللافتات التي علَّقوها على عيدان خشبية عالية، في كل مكان نفس الصورة التي تفوق الحجم الطبيعي، وعليها ابتسامة البروباجاندا الوديعة للزعيم الصيني. الصورة الوحيدة التي سمحوا بعرضها في التلفزيون يوم الاعتراض على تبرئة القاضي، مئات المرَّات، أثار ذلك أعصابي. ليس لرئيس الصينيين أي علاقة بالقضاة النازيِّين وضحاياهم، مطلقًا. بنظرته السلطوية يكسحهم من طريقه كسحًا، وبابتسامته يستهزئ بهم. وهو بذلك يساعد على تَناسي الماضي. إن الصور التي تظهر زعيم بكين في زيه الرسمي — هكذا شعرت — تقتل مُناضِلي المقاوَمة مرة أخرى.

ينبغي أن أنزع هذه الراية المقدَّسة من أحد تلاميذ ماو على الأقل، غير أني كنتُ أكثر جبنًا من أن أفعل ذلك. كل ما فكرت فيه: لماذا لا نحمل على الملأ صور النساء والرجال الذين لقوا مصرعهم شنقًا أو رميًا بالرصاص أو بقطع الرأس بعد أن أصدر «ر» أحكامًا قضائية بذلك؟ ٢٣٠ قتيلًا، حتى لو كان الأمر صعبًا، قلت لاحقًا لكاترين: إني سأجمع خلال أسبوع صورًا لهؤلاء، ليس عسيرًا العثور على عشر صور أو عشرين صورة، أنا نفسي عندي عدد منها في البيت، صورة جروسكورت وهافَمان.

لم تكن جملة كلارسفيلد وحدها هي ما جعلتْنِي أنحرف عن درب الفضيلة، وأن أهجر روسو وواجباتي الجامعية، لم تكن هي وحْدَها التي حرَّضتْنِي على مُعاوَدة التفكير في فعلتي، كلا، إنه السخط على أتباع ماو. أحد خطباء حزب الوحدة الاشتراكي في برلين الغربية وقف خلف الميكروفون، فاستقبله الجمهور بصيحات الاستهجان وصفارات الاستياء. عندما قال: إن «ر» حكم عليه شخصيًّا بالسجن مدى الحياة، رانَ الصَّمت بُرهة، ثم راح جناح ماو يصفق متهكمًا. حاول أن يقرأ جمله القصيرة الحادَّة، وكان عليه أن يناضل ضد الصفارات والصيحات الجماعية: «ماو تسي تونج!» أو «دوبتشك!»

قابلتُ أحد معارفي من سيمنار روسو، فقلت له: يجب أن نسمح له بالكلام!

فأجاب بلا اكتراث: ليس من حق أتباع مراجعة التاريخ أن يظهروا هنا.

كان يتميز بالذكاء في مناقشات السيمنار، يفوقني بمراحل في البلاغة والثقافة، والآن يَدَّعِي أنه من الخطأ أن نتوقع من القضاء البورجوازي الفاشي شيئًا آخَر غير أحكام بورجوازية فاشية. وأضاف: سيقولون: إنه كان علينا خدمة الشعب، وبالنسبة للشعب كانت مثل هذه الأحكام سواء؛ لأنه يعلم أنه ليس للقضاء البورجوازي الفاشي مهمة أخرى غير الدفاع عن الإمبريالية. بادرتُه بالقول: إننا نتحدث عن النازيِّين.

– يبدو أنك أيضًا من الأتباع السِّرِّيين لمراجعة التاريخ. لا يمكن إجراء قضايا ضد هؤلاء المجرمين إلا إذا قامت الجماهير بذلك، عندئذٍ فقط سيكون من المستحيل صدور أحكام بالبراءة كهذه.

كنا على وشك الوصول إلى محكمة الشعب العليا، فأعرضْتُ عن مواصلة السير. أحسستُ بغُصَّة في الحلق، وبحجر في أعماقي، في البداية شعرتُ بشيء كالبَحَّة في حلقي، ولم يكن السبب تلوث الهواء في شهر ديسمبر أو ضوء العصر الرمادي الثقيل العكر. عدوتُ، ربما وحيدًا، إلى محطة المترو، وكنتُ أعلم تمامًا: لن تجد هواء ولا مكانًا ولا كلمة بين الأحزاب القديمة والجديدة.

ما أثار امتعاضي كان ذلك التسابق الطفولي على التظاهر والمزايدة كما وصفته كاترين. كان خطباء التمرد، في صراعهم حول الأماكن المتقدمة في الحركة التقدمية، يزايدون على بعضهم بعضًا بعبارات وأفكار تزداد تطرفًا. ما أشادوا به بالأمس باعتباره الطريق الثوري الوحيد للخلاص، يلعنونه اليوم بلا خجل ويصمونه بأنه «إصلاحوي» و«مراجعوي». لم يكن في مقدروهم أن يبقوا على رأي واحد — هكذا بدا — لمدة شهر، كل وضع جديد، أو كل زعم بوضع جديد، كل نظرية يدرسونها تؤدِّي إلى تقديرات واستراتيجيات جديدة — وهو أفضل عذر كي لا يتم المرء أي مشروع على الوجه الصحيح. أسرع، أبعد، أعلى، وبقدر الإمكان بأعلى صوت … من يُتقِن هذه اللعبة، دانْت له الغلبة على المنصة. أما الأتباع المحدثون للأيديولوجية الماوية والأتباع المتعالمون للأيديولوجية الروسية فكانوا أسوأ من ذلك بكثير. لم يكن حكم براءة القاضي النازي بالنسبة لهم سوى ذريعة للبروباجاندا.

لقد وصلَت الحركة الطلابية إلى طريق مسدود — لم تخطر على بالي هذه الرؤية واضحةً كما حدث في تلك الدقائق. ركبت مترو الأنفاق حتى ميدان «فيتنبرج»، ثم صعدتُ إلى غسق ذلك العصر الديسمبري، شاعرًا بالأمر كأنه خَبطة على رأسي وسط الجماهير الغفيرة التي تموج بها شوارع التسوق. إنهم هنا، تلك الجماهير التي نبحث عنها، في يوم السبت، قبل أسبوعين من عيد الميلاد، مثقلون بأكياس التسوق، يركضون بتوتُّر رائع من متجر إلى آخر، ويتدافعون إلى أماكن وقوف السيارات ومحطات الباصات. لم أعد أرى وجوهًا، ليس سوى الأكياس والشنط، رجال متنكرون في زي بابا نويل يقفون أمام المتاجر ويبتسمون ابتسامتهم الصفراء، في واجهات الصيدليات غُصون من شجرة عيد الميلاد، كُريَّات حمراء مُعلَّقة في الشجرة أمام جدار من الورق المفضض في محلات مستحضرات التجميل، بين المَعاطِف والتَّنُّورات والبلوزات يتأرجح ملائكة ذَهَبِيُّو اللون على حبال ذهبية.

في أحد الأركان وقف شاب يعزف على الساكسفون، وعلى اليافطة الكرتونية التي علقها كتبَ: «تبرَّعوا لموسيقي من براغ!» وسواء كان هجَر براغ فعلا هربًا من الروس، أم إنه كان يَستغل شفقَةً وَلَّدَها التلفزيونُ لصالح التشيك المقموعِين، رُحت أُصغي إلى عزفه على بعد مناسب. كان يرتجل تنويعات على أغنيات مشهورة، ما زلتُ أتذكر نغمات من أغنية: All you need is love. كان يبدأ النغمة المعروفة، لكنه لا يسترسل، بل يشرع في عزف تنويعاته. بين نغمات الساكسفون شعرتُ بوطأة حزني المتسلِّل. وعندما وصل إلى Strangers in the night، وراح يعزف نغمات رقيقة بسيطة، اغروْرَقت عيناي بالدموع. في الوقت نفسه سمعتُ صفارات الإنذار تصرخ مقترِبة، وتوارَت نغمات الساكسفون، عربات الشرطة تمرُق في اتجاه المتجر الشهير «كا ديه فيه» Ka De We. نفس اللعبة، شجار أو عراك مع جماعة ماو، كما سمعتُ لاحقًا في نشرة الأخبار. عدوتُ مبتعدًا حتى لا أنفجر في البكاء، ولم أجرؤ حتى على تأمل حزني. لأسابيع ظللتُ ألوم نفسي؛ لأني لم ألقِ على الأقل بمارك لعازف الساكسفون، نعم، لقد غدرتُ بالشاب التشيكي.
الماويون، الجماهير، لاجئ براغ، كيف يتناسب كل ذلك مع بعضه البعض؟ كيف يُكَوِّن صورة متكاملة؟ لماذا لا يركز الاستراتيجيون من صفوفنا على أهداف قليلة، مثلًا صحافة شبرينجر، أو براغ، أو فيتنام؟ ما سبب تَضخُّم العبارات الثورية والمفاهيم واليوتوبيات؟ لم تصل المجموعات للجماهير، لماذا تَحتَّم عليها مواصلة الابتعاد؟ ولماذا تسير مع ماو ولينين وجيفارا وتروتسكي؟ أينما ذهب المرء، في كل اجتماع، في كل مُظاهَرة، وفي كل مقالة جديدة، كان من الواضح أن القوى الخلاقة الاستفزازية المعادية للسلطة آخذة في الاضمحلال، وأن الأهداف قريبة المنال تُرفض باعتبارها «إصلاحوية». كانوا يريدون تجنيد كل فرد — أيضًا تجنيدي — في حزب ما. في كل مكان يقابل المرء الأتباع الجدد لهذا الحزب أو ذلك، للحزب الثالث أو الرابع أو الخامس أو السادس، وكل حزب ينهش في لحم الحزب الآخر. كانوا يريدون مِنِّي أن أومن بهذا الإله أو ذاك، برئيس ما، صغيرًا كان أم كبيرًا، أن أعتقد بطريق محدَّد يقود إلى الخلاص السياسي. افعلوا ما يحلو لكم بدوني، قلتُ لنفسي، وفي أذني تَتردَّد نغمات Strangers in the night، ولذلك لن تروني في أي مظاهَرة بعد اليوم.

وهكذا عُدتُ إلى الصور السحرية الثلاث وإلى حكاية جروسكورت، وكلي عزم على أن أجعل الناس يرون على الأقل وجهًا أو وجهين أو أربعة من وجوه الرجال الذين قتلهم «ر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤