مختاراتٌ من رسائل تبادلها المؤلف وبعض أقطاب السياسة
أُسس الحق الصحيحة
كان غوستاف لوبون قاسيًا في تشريحه أحد آلهتنا الأخيرين حينما قال: إن الحق ليس غير قوةٍ تدوم، فيا للتدنيس في تحليل الإنسان إلهه!
أوَليس حقُّ الخلق الآتي إله الإنجيل الحديث الذي لم يصنع غوستاف لوبون غير ردِّه إلى مصدر جميع آلهة الأرض، وذلك بتوحيده مع قوة الأشياء الدائمة التي ينشأ عنها كلُّ نظامٍ للموجودات؟ ولم يُمكن في المذهب الجديد أكثر مما في العلوم اللاهوتية الأخرى، تعيين غير المعيَّن ومسُّ ما لا يُمَسُّ وبلوغ ما يَفِرُّ وتثبيته.
مبادئ مختلفة حول كلمة «ديموقراطية»
أستاذي العزيز، حقًّا إنك رجلٌ باهر، ولكنك تسألني عمَّا يقع وراء وسائلي، وأنت الذي تجد وقتًا للتأمُّل ووضع كتب أمكنني أن أُقَوِّمُ بها كثيرًا من أفكاري، وهذا ما أُعرِبُ لك به عن شكري.
أنت تطلب مني أن أُعَرِّف الديموقراطية، ولا تسألني أكثر من ذلك!
لقد اعتصرتُ دماغي، وإليك ما استطعت أن أجده: زيادةُ أقسام الذكاء في الأعلى مُصَفَّاةً بزيادة الذكاء في الأسفل، رجوعًا إلى نقطة انطلاقهما إلى جهات عامة مقبولة ميسورة في سبيل مجموع الأمة.
أستاذي العزيز، أُجيب عن كتابك، فالديموقراطية: هي الحكومة التي تمنح الشعب — أو تحاول أن تمنحه — وهم كونه سيدًا. أجل، إن أدوات هذا الوهم كانت مختلفةً باختلاف الأزمنة والشعوب، غير أن الأساس والأهداف لم تتغيَّر قط. وهذا هو رأيي الصريح، وهذا يُتيح لي فرصة تقديم تحياتي القلبية لك.
دلَّت التجربة على أن «الديموقراطية» الحقيقية كانت تقوم على الحكم في سبيل الأمة بواسطة صفوةٍ تضيف إلى هبة السلطة مُحَصَّلًا من الفنية الكافية، وذلك أكثر مما على الحُكم بالشعب لتعذُّر هذا.
وتزدهر ديموقراطيَّات المستقبل ضمن النطاق الذي تتكوَّن به هذه الصفوة وتُلقي به قيادها إليها.
ولم أحتَج إلى سؤال البلاشفة لأعرف أن دِكتاتورية الصَّعلكة — أي: كون حكم الطبقات العليا من قِبَل الشعب — يُلَخِّص مبادئهم حول كلمة الديموقراطية.
مبدأ القوميَّات
يوجب مبدأ القوميَّات، الذي قُسِّمَت النمسة باسمه إلى دُوَيلاتٍ منفصلٍ بعضها عن بعضٍ، نتائج جالبةً للنوائب، ومن أشدَّ هذه النتائج خطرًا: توسُّع ألمانية كثيرًا، بأن تضم إليها جمهورية النمسة التي ضعفَتْ ببترها كثيرًا لتبقى مستقلةً.
أستاذي وصديقي العزيز، أُعجَبُ بألمعيَّتك المدهشة دائمًا.
ولكن كيف تستطيع ألَّا تُبالي بما تنطوي عليه روح القوميَّات البعيدة الغور والكثيرة الصواب؟ أو لماذا تقول بها من أجل بعضهم وتتجاهلها لدى الآخرين؟
أجل، كانت النمسة تشتمل على قوميَّاتٍ مختلفة كثيرًا، ولكن فرنسة تشتمل أيضًا على قوميَّاتٍ كالبريتون والنورمان والأُفرِنيين والبروفنسيين، إلخ، فهذه القوميات كثيرة الاختلاف، وإن كانت تنمُّ على عروقٍ أقلَّ انفصالًا من مختلف قوميَّات إمبراطورية النمسة على ما يُحتمل، فلو تمَّ النصر لألمانية فقَسَّمَتْ فرنسة باسم القوميات كما قُسِّمَت النمسة لقُضِيَ على عمل ألف سنة من التاريخ.
الانتفاع بالوثائق النفسية في حكومة الأمم
طَبَّقَ جميع أعاظم أقطاب السياسة علم النفس تطبيقًا غريزيًّا، غير أن هذا العلم بقي إلى حدٍّ كما كانت عليه الكيمياء قبل لافوازيه.
ومن ذلك مثلًا كون مدرسة العلوم السياسية بباريس المشتملة على عددٍ كبيرٍ من كراسي التدريس لا تحتوي أيَّ كرسيٍّ خاص بتعليم علم النفس.
لديكم في الحقل الفلسفي والعلمي رجالٌ تُفاخِرُ البشرية بهم كثيرًا، كغوستاف لوبون الذي قرأتُ جميع كتبه، ومما لا يُحصى عدد المرات التي طالعتُ فيها كتابه «روح الجماعات»، فكنتُ أرجع إليه في الغالب.
إذا أُتيح لكم ذات يوم أن تتعرَّفوا بغوستاف لوبون، فقولوا له إن رئيس جمهورية الشيلي أشدُّ الناس إعجابًا به، فقد تغَذَّيتُ بكتبه، وأطلب أن تُبلغوه أنني ما فتِئتُ أجد في عملي السياسي فرصة وقوفي على صحة ملاحظاته العجيبة.
ومثل هذا الرأي ما أبداه غير مرة رئيس جمهورية الولايات المتحدة السابق، مستر روزفِلت حول كتب غوستاف لوبون، ولا سيما: «السنن النفسية لتطور الأمم»، هذا الكتاب الصغير الحجم الذي لم يُفارقه قَطُّ في رحلاته، والذي كان يستوحيه في سياسته كما قال.
وقد كرَّرَ الادعاء نفسه في وليمة غداءٍ أقامها له مسيو هانوتو في رحلةٍ له إلى باريس.
وكذلك رجال السياسة الفرنسيُّون يُعَدُّون من القراء المواظبين على مطالعة روح السياسة، وذلك كما يدلُّ عليه بوضوحٍ ما تلقيته من رسائلٍ أكثرهم فضلًا.
ولا يُحصَى عدد مُعضلات علم النفس التي تُعرَض على رجال الحكم كلَّ يومٍ، فيمكن أن تتوقف على حَلِّها حياة الأمة. ومما ذكرته في كتابٍ آخر أن الصدر الأعظم العثماني كان قُبَيل الحرب قد عرض عليَّ بواسطة سفيره بباريس أن أذهب إلى الآستانة لإلقاء عددٍ من المحاضرات في روح السياسة.
ومما أثار أسفي كثيرًا كَون حالتي الصحية لم تسمح لي بقبول هذا العرض، فهو يُثبت على الأقل أن الترك لم يكونوا سيئي الوضع نحو فرنسة.
ومن الراجح جدًّا أنه لو وُجد في الأسطول الفرنسي قائدٌ بالغٌ من الإقدام ما يتعقَّب معه «غوبلن» و«برسلاو» حين إبحارهما إلى الآستانة لظلَّ الترك محايدين ولكانت الحرب قصيرة الأمد.
تعيين التطوُّر الاجتماعي بدراسة أحوال الأمم
درس الدكتور غوستاف لوبون في أحد كتبه الأولى «الإنسان والمجتمعات وأصلهما وتاريخهما»، تطوُّر الإنسان والمجتمعات منذ أصولهما البعيدة حتى أيامنا، ومما بحث فيه: كيف وُلدت الصناعة والفنون والأسرة والمجتمعات ومبدأ الخير والشر، وكيف تكونت النظم والقوانين، وما عِلَلُ تحوُّلاتها مع الزمن، ثم كيف كان طراز تفكير كل دورٍ وأمة ومعتقداتهما وأخلاقهما وحقوقهما …
وبدراسة الحضارات الأولى يُطَّلَع على الأطوار القديمة لنُظمنا وعاداتنا ومعتقداتنا.
… وفي كتابٍ عن: «روح الأزمنة الحديثة»، نُشر في سنة ١٩٢٠، ذكر الدكتور غوستاف لوبون كَون معظم المسائل السياسية والحربية والاقتصادية والاجتماعية من نطاق علم النفس، وكَون الألمان خسروا الحرب عن جهلٍ به، وكون خطئهم في روح الشعوب أقام ضدهم أممًا لم تطلب غير البقاء على الحياد. (أثر غوستاف لوبون)
الاشتراكية معتقد ديني
أثبت غوستاف لوبون منذ زمنٍ طويل كون ما تنطوي عليه الاشتراكية من قوةٍ عظيمة ناشئًا عن أنه يتألف منها دينٌ جديدٌ قريب من النصرانية في أوائلها، لا عن أنها أمرٌ سياسيٌّ.
طاف ابن مستر رَمْسِي مُكدونَلد بعد أبيه في الولايات المتحدة فصرَّح أمام أعضاء النادي الاشتراكي في جامعة شيكاغو قائلًا: «ليس مذهب اشتراكيِّي إنكلترة وعملهم السياسي لعبًا أو عَرَضًا، بل دين.» وليست الكلمة جديدة، فقد قالها غوستاف لوبون منذ منٍ طويل، وذلك «أن الاشتراكية معتقدٌ دينيٌّ أكثر من أن تكون نظريةً عقليةً بدرجات …» ويتألف من الاشتراكية والبلشفية خطرٌ عظيم لانتشارهما على نمط الأديان، «من غير دليل وبالتوكيدات والخيالات والوعود الوهمية.» كما قال غوستاف لوبون.
عجز المنطق العقلي تجاه بعض القوى الجماعية
يبرز بين المصاعب العظيمة للسياسة الحديثة حركات رأي ناشئة عن حساسية الكرامة الجماعية.
ومن أطرف الأمثلة على مثل هذا الصدام: ما وقع في المؤتمر البحري بلندن في يناير سنة ١٩٣٠ لنقص التسلُّح.
وكلٌّ يعلم أن محادثات ثلاثة أشهر انتهت بحبوطٍ تام.
وقد استندتُ إلى مبدأ عجز العقلي عن مناهضة الحسَّاسيَّات والبُطلانات الجماعية، فأُتيح لي منذ افتتاح المؤتمر أن أُنبئ سفير إنكلترة في فرنسة بأن حبوطه سيكون تامًّا، على الرغم من جميع جهود السياسيين.
حتى إن إيطالية وجدت من مقتضيات نفوذها ألا توافق بأي ثمنٍ كان على رفض حقها النظري في أن يكون لها أسطولٌ مُساوٍ لأسطول فرنسة.
فأمام كلمة «المساواة» البسيطة تحطمت جميع جهود أرفع سياسيي العالم.
مبادئ التاريخ الممكنة
تبلغ معارفنا عن العالم والموجودات من التجزُّؤ والتحوُّل ما يُفيد معه دائمًا أن يُعرف ما يصوغه مختلفو الأمزجة من تفسيرٍ حول الكون.
فليولا روكبرُون كاب مارتن (ألب ماريتيم)
في ١٥ من فبراير سنة ١٩٣٠
صديقي العزيز، أتخذ كلمة «الحكمة الإلهية» وكلمة «صادر عن الحكمة الإلهية» ضمن المعنى الذي كان يتخذهما بوسويه وبسكال.
هذه ضمانات!
ولا أزعم أنني أمثل «المؤرخين المعاصرين»، ولكن التاريخ علَّمني أنه لا يوجد تمدُّن إلا عند الأمم التي تحتفظ بالإيمان على أنه مثلٌ إلهيٌّ عالٍ، أي: بالإيمان بخالقٍ صانعٍ للناموس الأدبي.
وهل حرَّرَ العلم من غوامضه هذا الأمر الخفي أو ذاك؟ أي أمر الخلقة وأمر الروح؟ …
ولا أدري أهذا عن عدم علمٍ، ولكن بما أنني أقتصر قبل كل شيء على الانسجام العام والأدبي فإنني أظلُّ مخلصًا لِما اختاره آباؤنا، وللمعتقدات التي أقامت المجتمعات البشرية والتي تحفظها.
أخافُ موسكو.
صحةٌ وعافيةٌ، فتعمَّقْ إذن في هذه المعضلات! ولا تخف! وثِقْ بأنني صديقك البالغ الإخلاص.
باريس في ١٧ من فبراير سنة ١٩٣٠
صديقي العزيز، إدراكك للتاريخ سهل جدًّا، ولكنه يبتعد كثيرًا عمَّا قال به كثيرٌ من العلماء.
فالعالم عند هؤلاء العلماء يتعقَّد كلما أُريد التبحُّر فيه.
وقد قام مقام مبدأ الخلقة مبدأ كون لا نهاية له، أي: عالمٍ لا أول له ولا آخر.
يفصلنا سبعون مليون سنة عن الدور الذي نشأَتْ فيه على السديم المُبَرَّد خَلِيَّاتٌ دقيقة تُعَدُّ أول الموجودات، فكان آخر نسلٍ لها أولئك الأجداد الوُضعاء الذين ظهروا قبل حضاراتنا التي هي بنتُ ستة آلاف سنة، وذلك في أثناء ما قبل التاريخ الذي دام مائة ألف سنة.
وأما الناموس الأدبي الذي تتكلمون عنه فإن من المستحيل أن يُتصوَّر كما كان يُصنع في زمن كَنْت، ولكن كضرورةٍ اجتماعية تُلاحَظ في جميع المجتمعات، حتى الحيوانية.
ولم يعرف مجتمعٌ بشريٌّ أدبًا أشدَّ من الذي يسيطر على بعض مجتمعات الحشرات، وليس الأدبي غريزيًّا فقط ما اختلف باختلاف مقتضيات الوقت، أي: بهذه الظاهرة التي هي من مميزات العقل.
وتجدون في كتاب زميلكم الأستاذ في المُوزِيُوم، بوفيه، صفحاتٍ ممتعةً عن حياة الحشرات الاجتماعية، حتى إنه انتهى إلى النتيجة القائلة بأن الإدراك لدى الحشرات مماثلٌ لِما عند الإنسان.
وهكذا ترانا أيها الصديق بعيدين من الحكمة الإلهية، كما أنك ترانا بعيدين من الأسباب الأولى للأشياء.
وترى العالم الذي كان يَسهُل إدراكه في زمن بُوسُويه مُعقَّدًا كثيرًا في هذه الأيام.
إن اختلافنا حول فلسفة التاريخ كبيرٌ كما ترون، ومع ذلك فهو غير تام لاتفاقنا على الأمر القائل بضرورة وجود مثلٍ عالٍ لتوجيه حياة الأمم.
ومع ما ينطوي عليه المثل الديني الأعلى من أوهامٍ فإنه بقي الأقوى حتى الآن.
والواقع أن التاريخ يُعَلِّم أن الحضارات الجديدة تولد مع الآلهة الجُدد، وأن هذه الحضارات لا تبقى حيَّة بعد موت آلهتها.