الفصل الأول

مبادئ التاريخ الروائية واللاهوتية والفلسفية

كان قدماء المؤرخين كهيرودُوتس قليلي الاكتراث لصحة الحوادث، وكان شأنهم مقتصرًا على استنساخ ما يسمعون من أقاصيص، وكانت هذه الأقاصيص تتألَّف حصرًا من ذكرياتٍ باقيةٍ في ذاكرة الناس والتاريخ إلى وقتٍ حديث، تألَّف من شهادة المعاصرين فقط.

ولم تبدُ أولى الكتب عن تاريخ رومة وأثينة — ولا سيما تآليف بلوتارك وتِيطُس ليفيوس — أكثر دقَّة، وإن وُضعت بعد يسوع، فمن هذه المؤلفات يُعلم على الخصوص أن إينِه بن أنشيز وفينوس الفارَّ من خرائب تِروَادة زار لَسْيوم وتزوج ابنة ملك لاتينوس، وأن هركول هجم على أفِنتِن ليقتل اللص كاكوس، وأن رومولوس وريموس أُرْضِعا ذِئبة، وأن أُراسيوس كوكلس دافع وحده عن جسر سُبلِسيوس تجاه جيش كامل من الإتروسك، فجميع هذه الأقاصيص لها من القيمة كما لقصة مفاسد الغول المعروف بالمينوتور، والمولود من اقتران بازيفَايِه بثور، فقتله تِيزه بالسيف السحري المأخوذ من أريانِه بنت مِينوس.

وليست الأحاديث عن الأزمنة التي عقبت تلك أكثر صحةً في الغالب، وإذا كُنَّا لا نجادل فيها فذلك لأنها تلوح أقلَّ بُعدًا من الصواب. ويَعُدُّ أصلح مؤرخي الرومان مثل تاسيت، التاريخَ فنًّا يجب أن يُزَيِّن الكاتبَ، والتاريخ خاصَّةً هو عند هذا الأخير «عمل الخطيب». وهؤلاء المؤرخون كانوا يعالجونه كخطباء إذن، فيرتِّبون الوقائع ترتيبًا يُسوِّغون به رأيهم أو يُزوِّدون الأعقاب بأمثلة حسنة، وكذلك لم يترددوا قط أن ينسبوا إلى المحاربين والأبطال والأباطرة أقوالًا، وأن يضعوا في فمهم خُطبًا رائعة، ومناجياتٍ نفسية أيضًا، كالتي جُعلت على لسان أوتون وفِسبَازيان، إلخ. وكانت هذه الأقاصيص الوهمية تُؤلَّف استنادًا إلى بضع قطع من الحقيقة تُجمع مصادفةً وإلى كثير من الخيال، فتعدُّها الأجيال صحيحة بقوة التكرار.

ولم ينقضِ مبدأ التاريخ الروائي بانقضاء قدماء المؤرخين، فقد عاش بعد جميع الانتقادات، وقد ظلَّ باقيًا قويًّا حتى في أيامنا، ومن السهل إيراد أمثلة مشهورة على ذلك، فإذا عدوت وصف المنظر لم تجد سطورًا كثيرة صحيحة في «حياة يسوع» لرينان على ما يُحتمل، ولكن يا لها من قصة مقبولة!

ومع ذلك فإن نجاح مثل هذه الكتب لا يقوم إلا على روائيتها، وفي التاريخ يبحث القارئ العادي على الخصوص عن المغامرات العجيبة المرويَّة بشاعرية الدعاء والغضب والتفاؤل، أي: بموسيقا الكلمات المُسكرة. ولرينان الباع الطويل في هذا المضمار، فليس لهيامه حدٌّ في «دعاء الأكرُوبول». حتى إنه يهذي فيه بعض الهَذَيان: «فيا كورا: أنتِ وحدكِ فتاةٌ، أيتها العذراء: أنتِ وحدكِ طاهرة، أي إيجي: أنتِ وحدكِ قدِّيسة، أيا نصرة: أنتِ وحدكِ قوة!» ومن الواضح أنه لا يوجد لهذه الكلمات غير معنًى مُبهم، ولكن القارئ يجد هذا الجمع من الأوصاف الرفيعة، وتساعد هذه الغنائية على بيان قدرة الخيال المبدعة. ولم تكن أثينة حينما زارها رينان غير قرية عفراء قذرة، وقد رآها من خلال ذكرياته الكلاسية مع ذلك، فكتب يقول: «إن ما ألقَته أثينة من أثرٍ فيَّ يفوق جميع ما أحسسته في حياتي بدرجات، فمكانٌ واحدٌ، لا مكانان، هو ما يتجلَّى فيه الكمال، ذلك هو المكان، ولم يحدث قط أن تمثَّلْتُ نظيرًا له.» فيا له من شاعر! سيُقرأ زمنًا طويلًا، ولكن كما تُواصل قراءة «ألف ليلة وليلة». أي من غير أن يُصدَّق كثيرًا، وذلك مع الاحتراز إلى الغاية من تصويراته وتصنيفاته. والواقع أنه ليس من تصوير الأمور تصويرًا صحيحًا أن يُوصف نيرون بالمشعوذ، وأن يُقال مع التوكيد إن مَرْك أوريل رمزٌ لنهاية العالم القديم الذي ظلَّ باقيًا قرونًا كثيرة بعده في الحقيقة، ومن الممتع على وجهٍ آخر — ولكن مع الصعوبة — أن يُبيَّن كيف تحوَّل هذا العالم بدلًا من بيان نهايته.

وبالتشويهات الحماسية والمسرحية ننال وهم حقيقةٍ يعرف المؤرخ الفيلسوف جيدًا أنه لا يستطيع بلوغها.

ثم إن من الواضح أن المؤرخ كلما كان متفنِّنًا قلَّ تدقيقه، فالواقع أن عيانه الشخصي البالغ الشدة يقوم مقام الحقائق، ويكفي عددٌ قليلٌ من المبادئ غير الثابتة لتزويد خياله.

ويدل هذا الدور الخصيب الذي يمارسه الخيال في الأقاصيص التاريخية على السبب في كون إدراك الحادث عينه يختلف باختلاف المؤرخين تبعًا لمبادئ كل زمن.

•••

كان الأغارقة في عصور البطولة على الأقل يجعلون الآلهة تتدخل في الأعمال البشرية بلا انقطاع، ففي كل صفحة من قصص أوميرُس تُبصر عمل أهل الأُلِنْب، وليس أقلَّ من هذا ظهور الرب في الكتب اليهودية، وكان الرومان يخلطون الآلهة بحوادث البشر.

ويُسفِرُ انتصار النصرانية عن مبدأ لاهوتي خالص في التاريخ، ويتحرك هذا المبدأ قرنًا بعد قرن.

قال غيزو: «تصفَّحوا تاريخ ما بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر، تجدوا أن علم اللاهوت هو الذي يسيطر على الروح البشرية ويوجِّهها، فتُطبع جميع الآراء بطابع علم اللاهوت، ويُنظر إلى المسائل الفلسفية والسياسية والتاريخية من الوجهة اللاهوتية دائمًا … والروح اللاهوتية من بعض الوجوه هي الدم الذي جرى في عروق العالم الأوروبي حتى بِيكُن وديكارت.»

وتدل الكتب التاريخية التي أُلِّفَتْ في ذلك الزمن الطويل على درجة ما يمكن العوامل الدينية أن تؤثر به في أفكار الناس، وعلى مقدار بساطة المبدأ العامِّ عن الكون في ذلك الحين.

وكانت تسيطر على مجرى التاريخ قدرةٌ ربَّانيةٌ عاطفيةٌ أو ساخطة، فكان لا بد من خشيتها أو التضرُّع إليها بلا انقطاع، وكان أقوى الملوك يرتجفون أمامها، ومن ذلك أن كان لويس الحادي عشر يُنفق لُبَّ ماله محاولًا أن ينال، بأثمن التَّقْدِمات، حماية العذراء وأبرار الفردوس، قانعًا — على رواية مؤرِّخٍ له — بأنهم يتدخلون في أعمال الإنسان دائمًا، قادرين وحدهم على ضمان الانتصارات الحربية أو الدِّبلُمِيَّة.

وإلى وقتٍ قريب نسبيًّا كان على هذا الاعتقاد الصبياني فلاسفة فُضلاء. وقد ساق هذا الاعتقاد لبْنِتْز إلى أفكارٍ كثيرة التفاؤل، فكان يقول إن العالم بالغ الصلاح بحكم الضرورة؛ وذلك لأنه لا حدَّ لحكمة الرب وكرمه.

ولم تأخذ مبادئ التاريخ اللاهوتية في الزوال إلا بعد أن أثبت تقدُّم العلم كون جميع حوادث العالم خاضعةً لسُننٍ وثيقة لا تعرف الهوى.

•••

وبما أن المبادئ الروائية واللاهوتية تُركت وجب اكتشاف مبادئ أخرى لإيضاح مجرى الحوادث، وقد نشأ عن هذا الواجب ما يُمكن تسميته: مبدأ التاريخ الفلسفي.

ويقول لنا هذا المبدأ: إن الحوادث تابعة لضرورات غريبة عن المصادفة أو عن عزائم عُلْوِيَّة، ويَجِدُّ العلم في تعيين هذه الضرورات، ولكنها من التعقيد ما لا يُرْجى معه تعيينها في كلِّ وقت.

وكل حادثة تاريخية عقلية ضمن المعنى القائل بصدورها عن علة، ولكن هذا لا يعني أنها ملائمة لخطةٍ ما، وإنما يدل على وجود بعض العلل العامة دلالةً واضحةً تأثيرُ العوامل الكبرى المتجبِّرة، كوجوب القيصرية في الحياة الرومانية حينًا من الزمن، وكسَيْر بلدان أوربة المختلفة نحو الوحدة في زمنٍ معين، وكالإصلاحات التي تَعقُب الثورات، إلخ، ومع ذلك فالتاريخ مملوءٌ بالحوادث التي أمكن أن تكون بالغة الاختلاف عن التي وقعت، وذلك لأنه لم يوجِب ضرورتها أيُّ سُنَّةٍ ثابتة.

ومن المحتمل أن كان تطوُّر إنكلترة يقع على وجهٍ آخر لو خسر النورمان معركة هَسْتِنْغس، والواقع أنهم كادوا يخسرونها لولا أن تصوَّر الدوك وليم في الدقيقة الأخيرة فقط خُدعة حربية حال بها دون نكبةٍ كانت تؤدي، لا ريب، إلى القضاء على فكرة النورمان في تجديد غزوهم، ولو وُفِّقَ أنيبال في تجربته حين حاول الاستيلاء على رومة تحويلًا لها إلى مستعمرة قرطاجية لتغيَّر جميع مجرى التاريخ القديم وشكل الحضارة تغيُّرًا عميقًا.

وفي زماننا كان مصير أوربة تم على خلاف ما وقع لو لم يُكرِه الإمبراطور غليوم بسفرائه أمريكة على الاشتراك في الصراع العالمي.

•••

ويَظهر أمرًا حقيقيًّا إذن كونُ التاريخ ينطوي على علل عامة، ثم على ما لا يُحصيه عدٌّ من العلل الصغيرة الاستثنائية التي يمكن أن تُشتقَّ من الأولى، ولكن من غير أن تنشأ عنها في كل وقت.

ومن العلل العامة — ولا سيما ثِقَل الماضي البالغ — ما أدَّى بعد انقلابات الثورة الفرنسية بحكم الضرورة إلى عَوْدٍ ملكي سبقته دِكتاتورية، ولو لم يكن ذلك الطاغية بونابارت لكان مورو أو غيره، ولكنه إذ يكون وقتئذٍ أقل عبقرية، ومن ثمَّ أقل نفوذًا، فإنه يكون أقلَّ دوامًا ويُرجَع إلى الملَكية بما هو أسرع من ذلك.

ومن المحتمل أيضًا ألا يُفكِّر القائد العادي الذي يكون قد ظهر في تأسيس آلٍ، فلا يظهر في فرنسة نابليون الثالث ولا تقع معركة سِدان ولا الغزو ولا الكومون ولا الوحدة الألمانية، فهذه الحوادث قد نشأَتْ قِسمًا إذن عن تلك العلة الاستثنائية المستقلة عن كل سُنَّة مُنظَّمة، أي عن تفوُّق قائدٍ ظافرٍ كان قد مات منذ نصف قرن، وفرضيات مثل هذه تدلُّ دلالة واضحة على شأن العَرَضِي في التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤