الفصل الخامس

العادات والأخلاق والتربية

مهما تكن العوامل الأولى لتطور الأمة، سياسيةً كانت أو دينية أو اقتصادية أو غيرها، لا تؤثر تأثيرًا عميقًا إلا بعد أن تُحَوَّل إلى عاداتٍ غير شعورية يعود البرهان غير مؤثر فيها، وللعادات سلطانٌ لا يُقاوَم، وذلك لأن الفرد الذي يزعم أنه يتفلَّتْ من تأثيرها لا يلبث أن يرى عدوًّا له جميع الزمرة التي ينتسب إليها، أجل، يمكن أن تتحول ولكنها تكون ذات سلطان مُطلَق في أثناء دوامها، وتكفي قوة الموضة١ التي لا تتجلَّى في اللباس فقط، بل أيضًا في كثيرٍ من عناصر الحياة الاجتماعية، فنيةً كانت أو ذهنية، لإثبات أهمية هذه المناحي الجماعية في حياة الأمم.

وتُعَدُّ العادات من العوامل الأساسية في استقرار المجتمعات، فالأمة لا تخرج من الهمجية إلا بعد أن تخضع لنِير العادة، وهي تعود إليها منذ فقدان عنصر الاستقرار هذا لقوَّته.

نعم، إن القوانين تساعد على تثبيت العادات، غير أنها لا توجدها، ويجب على القانون لكي يكون مؤثرًا أن يستوحي العادة لا أن يسبقها.

•••

وتظهر العادات بين بواعث الأخلاق الحقيقية، أي: العلم الذي يُنَظِّم السلوك كما جاء في المعاجم.

وما انفكَّت الفلسفة منذ قرنٍ تبحث في الأخلاق عادَّةً إيَّاها من المسائل الداخلة ضِمن نطاق العقل مع عدم خضوعها له إلا قليلًا جدًّا، وفي الأخلاق كان يتطرق وهمٌ كبير إلى كَنْت الذي لا تزال نظرياته العقلية تسيطر على الدراسة الجامعية، وكان كنْت يستنبط وجود حياةٍ آخرة ووجود إلهٍ مُجَازٍ من ضرورة المكافأة على الفضيلة والمعاقبة على الرذيلة.

والحق أن القوانين الخُلُقية تقوم على ضروراتٍ اجتماعية تفرض قُوَّتها على جميع المجتمعات، ومنها المجتمعات الحيوانية، قواعد ثابتة قسرًا، ما دامت هذه القواعد تمثل شروط الحياة في المجتمع.

وبما أنني عالجتُ هذه المسائل في كتابٍ آخر فإنني أكتفي بأن أذكر أن الأخلاق المؤثرة لا يُمكن أن تُوجد إلا بعاداتٍ لا شعورية، تبقى مبادئ المزية وعدمها غريبةً عنها تقريبًا، فالرجل الذي يجد شيئًا فيَرُدُّه بعد كفاح باطني في آخر الأمر يُعَدُّ صاحب مزية، ولكن مع اتِّصافه بخُلق ضعيف، وهو إذا ما ردَّ الشيء بغريزته عُدَّ صاحب خُلق قوي، ولكن مع عدم اتصافه بأية مزيةٍ كانت.

ويجب أن يهدف تعليم الأخلاق إلى تثبيته حِسَّ الواجب في منطقة اللاشعور مهما كان الحال، لا أن يقوم على استظهار المبادئ العقلية التي يندُرُ تأثيرها في سلوك الإنسان.٢

ويستلزم اكتساب مبدأ الواجب ذلك نظامًا بالغ الشدة في البُداءة، ويستقرُّ هذا النظام في منطقة اللاشعور بعد معاناته بجهدٍ، وهنالك يُصبح عادةً تُزاوَل بلا مشقة ويوجِّه الإنسان في مجرى جميع حياته.

ومن الصواب قول أحد أرباب الصناعة المشهورين في ألمانية، هِلفِريخ: إن المدرسة والثُّكنة أوجبتا من عادات النظام والتدريب ما أسفر عن قوة ألمانية وما يؤدي إلى نهوضها السريع في هذه الأيام.

•••

ويتألف من الدساتير الخُلقية والعادات عوامل زاجرةٌ قادرة على ردع الإنسان عن الإذعان لاندفاعاته الطبيعية التي هي دليل سلوكه. وتتجلَّى أفضلية المتمدِّن على المتوحش في كون الأول قد نال في نهاية الأمر مجموعة من ردود الفعل الزاخرة التي تُعلِّمه أن يسيطر على نفسه وأن يُنَظِّم حياته على هذا الوجه.

ولا يوجد عند الأمم التي يُمكن أن تُوصف بالمتقلبة: كالروس وأمم البلقان مثلًا، عنصر ثباتٍ آخر غير ما يُرى من إرادةٍ مؤقتةٍ لدى رؤسائها القادرين على فرض قوانينهم، فإذا ما توارى هؤلاء الرؤساء زالت الوحدة، وبهذا تُفَسَّر السرعة التي تمَّ بها انحطاط الإمبراطوريَّات الآسيوية العظمى كما تمَّت عظمتها.

•••

وهل يمكن الاعتماد على عمل القوانين الزاجرة بلوغًا لثبات السلوك؟ كان جواب التجربة سلبيًّا منذ زمن طويل، حتى إن هذه القوانين الزاجرة تُعَدُّ من أعظم أوهام العصر الحاضر خطرًا، والواقع أن الإحصاءات تدلُّ على أنه ليس لمؤيِّداتنا القضائية نتيجةٌ غير إيجاد أُناسٍ من ذوي السوابق، وهذا هو خلاف الغاية المنشودة.

ويميل مبدأ الضرورة بالتدريج إلى القيام مقام المبادئ القديمة التي قام الحق القديم عليها، فباسم الضرورة، التي هي وليدة الخط الحديدي مثلًا، يرى المالك نفسه مطرودًا، وباسم الضرورة أيضًا كون القوانين الآتية ستقتصر — كما ذهبتُ إليه منذ زمنٍ طويلٍ — على مؤيِّدَيْن، وهما: أن يُحكَم في الجُرم الأول مع وقف التنفيذ، وأن يُحكَم في الجُرم الثاني بالإبعاد إلى إحدى المستعمرات البعيدة؛ وذلك لأن تسعة أعشار المجرمين ممن لا يُرجى إصلاحهم، ولأن عدد أرباب السوابق يزيد بلا انقطاعٍ، فيزيدون خطرًا بعد كل حُكمٍ.

•••

وشأنُ التربية عظيم، ولا سيما عند الأمم التي لم يستقرَّ مزاجها النفسي بماضٍ طويل بعدُ، شأن ألمانية الحديثة مثلًا.

وإلى كتابي «روح التربية» أُحيل القارئ الذي يُعنَى بهذه المسائل، ففيه يُرى السبب في كون التربية التجريبية التي انتحلتها ألمانية وأمريكة أعلى بمراحل من تربية الأمم اللاتينية المحزنة القائمة على مزاولة الكتب.

وقد حاولتُ استخلاص المبادئ التي تؤدي إلى إصلاح شخصية الطالب، فأبصرتُ وجود اثنين، وهما: (١) التَّناديات بالملاصقة. (٢) إقامة الانطباعات القوية — ولكن مع قليل تكرار — مقام الانطباعات الضعيفة المكررة كثيرًا.

وبما أن قيمة المذهب لا يُمكن أن تَثبُتُ إلا بالتجربة، فإنني طبَّقتُ المبدأين السابقَين على ترويض بعض الحيوانات، كالحصان الذي استطعت أن أُغَيِّر عادته على هذا الوجه.٣

وكذلك سير الأمم يقوم على المبدأين المذكورَين آنفًا، وليست الصعوبة في معرفتهما، بل في ممارستهما ممارسةً صائبة.

•••

وينتشر مختلف عناصر الثبات التي لخَّصناها سابقًا بفعل ذات العامل النفسي، أي: العدوى النفسية، وهذه هي تلقينٌ معمَّمٌ من فصيل المنومين، ويبدو شأنها في الحياة الاجتماعية عظيمًا، وهي إذ كانت موجِدة المشاعر والأفكار، فإنها تُهيمن على الطبائع والعادات والزِّيِّ والرأي وأهم عناصر السلوك، ولا يتخلَّص أعلى ذكاءٍ من تأثيرها دائمًا، وتنشأ نقائصنا وفضائلنا وعزائمنا عن ظاهرة التلقين بالعدوى النفسية غالبًا، وهي تسيطر على مجرى التاريخ.

١  La mode.
٢  يقوم استبدال التعليم العلماني بالتعليم الديني في المدارس على خطأ نفسي عرف معظم الأمم أن يتخلص منه، فالفتى يجد عناءً كبيرًا في التعقل قليلًا، وبما أن الولد لا يتعقل مطلقًا فإنه لا يحوز غير أفكار تلقينية. ويُعدُّ وجود إله قادر عالم بأكثر الأعمال خفاءً زاجرًا خلقيًّا للولد أشد فعلًا من جميع عقليَّات الأساتذة، ومتى اكتشف الولد مع العمر ما تنطوي عليه الأوهام الملائمة جيدًا لصباه من قيمة عقابية ضعيفة أدرك كذلك مقدار ما لها من تأثيرٍ عظيم.
٣  عرضت تطبيق هذه المبادئ في كتابٍ عن الفروسية مشتمل على صورٍ كثيرة خاطفة، وقد اعترف بفائدة هذه المبادئ الكولونيل بلاك بلير الذي يُعدُّ من أعظم المتخصصين بالفروسية في فرنسة، والذي كان رئيسًا لمدرسة فرسان سومور في ذلك الحين، فإليك ما قاله عن تلك المبادئ: «أرى في هذا الكتاب أعظم محول! … ففصل «الأسس النفسية للترويض» من الروائع، ومن لم يستوحوا القواعد التي يشتمل عليها لا يمكن أن يطمعوا في شيءٍ من الفروسية … ويُلقي هذا الكتاب نورًا على تعليم فننا بإبداعه مناهج ستبقى ثابتة …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤