الفصل الرابع

تطوُّر الحضارات

لقد عانت جميع الموجودات منذ ظهور الحياة على وجه الأرض سُنَّة الولادة والنمو والانحطاط والموت، وتعاني الحضارات هذه السُّنَّة أيضًا.

ويتصف التطور الحديث بسرعته العجيبة إذا ما قِيست ببطء الحضارات السابقة العجيب.

واقتضى تحوُّل المادة الجامدة إلى مادةٍ حية أكداسًا من الأزمان، وكان لا بد من انقضاء ملايين من السنين لخروج الأشكال الحيوانية التي سبقت ظهور الإنسان من الخليَّات الابتدائية التي بدأت بها الحياة على سطح الكرة الأرضية. وكان لا بد من انقضاء أقلَّ من مائة ألف سنة حتى وُفِّقَ الإنسان للخروج من دور ما قبل التاريخ والوصول إلى عتبة الحضارات.

وكذلك كان التقدُّم بطيئًا جدًّا في سِنِي الحضارة المترجِّحة بين السبعة آلاف سنة والثمانية آلاف سنة التي عقبت تلك.

ومنذ قرنٍ واحد تقريبًا ظهر البخار والكهربا وجميع الاكتشافات التي حوَّلَتْ حياة الأمم تحويلًا تامًّا.

وجميع الاختراعات العظيمة مدينةٌ لنمو الذكاء فقط، ولم يعقب نشوء الذكاء نشوءٌ مماثل في المشاعر، ومن هذه الناحية لم يُجاوز الرجل العصري مستوى الأجداد الفطريين كثيرًا، وكل ما حُقِّقَ من تقدمٍ في هذا المضمار هو اكتساب قدرةٍ على مقاومة الاندفاعات الابتدائية قليلًا بتمثُّل نتائجها البعيدة تمثُّلًا زاجرًا، بيد أن المشاعر حافظت على قوتها، ويُجَهِّزها الذكاء العاجز عن السيطرة عليها دائمًا بوسائل تخريبٍ قادرةٍ على إهلاك العالم.

وهكذا يُحرَّك الإنسان الحاضر بنوعين من الاندفاعات، يرجع أحدهما إلى ما قبل التاريخ ويرجع الآخر إلى أصلٍ قريب.

•••

وللحضارات العظمى كيانٌ موقت نسبيًّا، فالحضارات تذبل ثم تزول بعد ازدهارٍ يدوم قليلًا أو كثيرًا، وترى نِينوَى وبابل ومدنًا أخرى مدفونةً تحت الغبار.

ومن الطبيعي أن اختلفت سرعة تطور الحضارات باختلاف شروط الحياة، وفي بعض الأحيان يعقب أدوار الانقلابات العميقة وجوهٌ للتطور البطيء ذات ثباتٍ في المظهر.

وفي الغالب تُمثِّل أزمنةُ السكون النسبي هذه أدوار تاريخ الأمم العالية، شأن اليونان في عهد بِرِكْلِيس، والإمبراطورية الرومانية في عهد أُغسطس، وإسبانية في عهد فليب الثاني، وفرنسة في عهد لويس الرابع عشر.

ومع ذلك فإن أدوار السكون الموقت خاتمةٌ للحوادث السابقة، وكان لا بد من سلسلة منازعاتٍ اجتماعية لتظهر دِكتاتورية أُغسطس، وكان لا بد من سلسلة منازعاتٍ دينية وسياسية لتمام ملكية لويس الرابع عشر المطلقة.

وتُجاوِز أوربة الحديثة دور انقلابٍ شوهد مثله غير مرةٍ في مجرى تاريخها، أي شوهدت انقلاباتٌ في المعتقدات السياسية والدينية وانقلاباتٌ في الأفكار، وقد أوجب ضَعف المُثُل العليا القديمة الموجِّهة والبحث عن مُثُل عالية جديدة اضطرابًا عميقًا في النفوس، ويهزُّ الجزع والهلع النفوس، ويظهر الوعيد في كل مكان، ولا يُبصَر أمل السكون النسبي أيضًا.

•••

ومن العوامل الأساسية في انحطاط الحضارات ذلك العامل الذي يُلاحَظ في جميع الأزمان، وهو ذبول مبدأ السلطة وما يوجبه من نفوذٍ شيئًا فشيئًا.

وسواءٌ أكانت هذه السلطة سلطة الآلهة أم سلطة العادات أم سلطة الملوك تُنعِم وحدها على الأمة بالتحامٍ لا تستطيع أن تدوم بغيره.

وبما أن الناس يحتاجون احتياجًا عامًّا إلى الشعور بأنهم مَقودون عند عدم اتباعهم عددًا قليلًا جدًّا من الأفراد قادرًا على توجيه نفسه بنفسه، فإن من الثابت أن النظم السياسية لا تزول بزيادة الاستبداد، بل بضعفها. وكان لويس الرابع عشر سيدًا لأنه عرف أن يسيطر على طبقة الأشراف والإكليروس والبرلمان، وعاد لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر على الخصوص، لا يكونان سيِّدَيْن لأنهما تركا السلطات المتنافسة تسيطر عليهما بالتعاقُب، مع أن سلفهما عرفوا أن يَزجُرُوها.

وعملُ مبدأ السلطة الأساسي هذا ينشأ عن كونه وحده هو الذي ينطوي على القدرة الضرورية لإيجاد وحدة الفكر والفعل، التي تُحوِّل نقعًا من الناس إلى جماعةٍ متجانسة؛ ولذا يمكن عَدُّ مبدأ السلطة في السياسة والدين والأخلاق من القواعد الأساسية لحياة الأمة.

وكان من أكثر العوامل التي يتوارى بها مبدأ السلطة تأليف أحزابٍ مختلفة ذات منافع متباينةٍ ضمن المجتمع، ومتى شعرَتْ هذه الأحزاب المتنافسة بأنها بلغت من القوة ما تدخل معه الصراع ضعُفَ مبدأ السلطة وبدأ دور الأُفول، وهكذا هلكت اليونان في الزمن القديم عندما أضاعت استقلالها بعد ازدهارٍ لا يزال يُبهرنا، وهكذا هلكت الجمهورية الرومانية عندما حُمِلَتْ، بعد سلسلةٍ من المنازعات التي لا تعرف الرحمة، على معاناة دكتاتورية الأباطرة المهيمنة.

وهكذا هلكت في القرون الوسطى جمهوريَّات إيطالية، ولا سيما فلورنسة، نتيجة مخاصماتٍ داخلية. فبما أن الخصومات بين النقابات المتنافسة كانت يومية في هذه المدينة الأخيرة فإن حياتها أصبحت مثل الجحيم، فكان من عوامل السُّلوان الشامل قَبْضُ آل مِدِيسِيس على السلطة وقضاؤهم على الجمهورية.

وهكذا هلكت بولونية بعد حينٍ عندما قُسِّمَتْ بين جيرانها نتيجة انقساماتٍ ومنازعاتٍ داخليةٍ مستمرة.

•••

وإذا أمكن أن يكون انحطاط الحضارة سريعًا جدًّا فإنه يقع بطيئًا جدًّا في بعض الأحيان، شأن الإمبراطورية الرومانية تمامًا، ولا مِراء في أن دِكتاتورية الأباطرة وضعت حدًّا للمنازعات المدنية، ولكنها لم تصنع غير عَوْقِ الانحطاط، وقد أصبح هذا الانحطاط تامًّا عندما جُهِلَ أمرُ السلطة، فانتحلت الكتائب حقَّ انتخاب الأباطرة وعزلهم بعد أن كان خاصًّا بالسِّنَات.

ويَلوحُ أن أوربة الحديثة محكومٌ عليها بقطع أدوارٍ مماثلة، وتُجاوز أوربة دورًا من أعقد أدوار التاريخ على الرغم من وجوهها الساطعة المدينة بها لتقدم العلم، وتغرق أوربة في فوضى عميقة، فيزيد فيها كل يومٍ حقدٌ بين الأمم وحقدٌ بين طبقات الأمة الواحدة.

وبلغت الفوضى مقدارًا اضطرَّ معه كثيرٌ من الدول كإيطالية وإسبانية واليونان، إلخ، إلى معاناة دِكتاتوريَّاتٍ ثقيلة، وليس وضع بلاد أوربة الأخرى أحسن من ذلك. وتحاول دُويلات شبه جزيرة البلقان استئناف منازعاتها المتأصِّلة، وتُخَرَّب روسية تمامًا بتطبيق أحلام المتعصبين الذين يودُّون فرض دينهم الجديد.

ولا تزال فرنسة وإنكلترة وألمانية تقاوم الفوضى بفضل بُنيانها القديم، ولكنها تُقضَم مقدارًا فمقدارًا بفعل أوهام الاشتراكية التي يَعظم نفوذها يومًا بعد يوم. وتقوم قوة أمريكة البالغة على قليلٍ من المبادئ الصائبة التي يُوَجَّه بها سير أُناسٍ فُوِّض إليهم توجيه مصيرها.

وكان يلوح بقاء أوربة مركزًا للحضارة وارثةً للإغريق ولرومة ولعشرين قرنًا من الجهود، وتُبصر أوربة بغتةً ابتعادها عن أن تكون قطب العالم، ناظرةً في النصف الآخر من الكرة الأرضية قيام عالَم جديد يختلف في أفكاره ومشاعره ومختلف عناصر حياته عمَّا لديها اختلافًا تامًّا.

•••

ويبدو العالم الحديث مُثقلًا بما لم يكن له عهدٌ به من المعضلات بفعل تطور شروط الحياة الناشئ عن اكتشافات العلم، وسرعة وسائل النقل على الخصوص، وترى الشعوب — التي كان بعضها مفصولًا عن بعض بحواجز يتعذَّر اقتحامها — اتحاد مصالحها أو تصادمها، وينحلُّ بالتدريج مختلف عناصر المجتمعات المُسِنَّة التي وَحَّدَتْ بينها لزمنٍ طويلٍ سلطة الآلهة أو الملوك، أو العادات فقط. وبما أن أشدَّ البلاد ثباتًا نُظِّمَ بماضٍ لم يتغيَّر قطُّ فإنه يواجه أحوالًا غير منتظرة.

ولَمَّا تَعْرِفِ الأحزاب السياسية أن تُلائم الضرورات التي نشأَتْ عن تحوُّلات العالم، ومن العبث محاولة الجذريين والاشتراكيين والمحافظين وغيرهم حلَّ المعضلات الحديثة بصيغهم القديمة، وما فتئت المبادئ البسيطة تسيطر على الحياة السياسية، وبما أن مبدأ الدولة الرَّبَّانية أكثر ما يُسيغه ذكاء الجماعات الأوربية، فإن الحكومية قد امتدَّ أمرها على صيغٍ مختلفة في نهاية الأمر، واليوم كلٌّ يطالب الدولة بما لا تقدر عليه من حل المشاكل.

أجل، إن العالم سيلائم في نهاية الأمر شروط الإنتاج والمبادلة الجديدة، غير أن الانقسامات العميقة باقيةٌ بيد دول أوربة حيث يتألف من طبقات كلِّ بلدٍ عامل تهديدٍ بالانحطاط. ويقترحُ فريقٌ من ذوي الفضل معالجة ذلك بإقامة اتحادٍ أوربيٍّ بين الحكومات التي تهدف إلى إيجاد نظام تضامُنٍ مادي وأدبي ثابت، ومن الصواب أن لُوحِظَ أن مثل هذا الاتحاد يقوم فقط على تعميم شركةٍ موجودةٍ لبعض الخِدَم الأُمَمِيَّة منذ حين، كالبريد والبرق والهاتف والطرق والقنوات والخطوط الحديدية ومسائل النقود، إلخ.

ولا تقوم صعوبة تحقيق هذا البرنامج الواسع على اقتحام الفروق النفسية التي تفصل بين الأمم فقط، بل تقوم على اختلاف المصالح الاقتصادية أيضًا، ومع ذلك فإن الضرورة قوةٌ نفسية بالغةٌ من العِظَم، ما قد تنتهي به الأمم الأوربية إلى إدراكها وجوب تفاهُمها في آخر الأمر، خشية أن ترى زوال حضارتها.

وهنالك مصاعبٌ مختلفة — ولكن مع إمكان تذليلها — تعترض كذلك مشروع الاتحاد الفِدِرالي الجديد، ومن ذلك مثلًا: أن إنكلترة تُفَضِّل على الوحدة الأوربية وحدةً بريطانية، يؤلَّف بها بين مختلف أجزاء العالم الخاضع لنفوذها؛ ولذلك فهي تنظر بقليلِ عطفٍ إلى مشروع اتحادٍ يُمكن أن يؤدِّي إلى تخلِّي كلِّ دولةٍ عن قسمٍ من سلطانها في سبيل الدولة العليا.

ولا يمكن أن ينشأ توحيد أوربة عن مناقشاتٍ كالتي تقع في جمعية الأمم، بل ينشأ عن جمعياتٍ اقتصادية ذاتية عرض ما بينها من صِلاتٍ صناعيةٍ أمثلةً كثيرة.

ونتائج مثل تلك أعلى تمامًا من التي ظُفر بها بعد جهود عشر سنين بذلها اثنان وخمسون ممثلًا في جمعية الأمم، فهؤلاء إذ غاصوا في نظرياتٍ وهميةٍ ظهر أنهم يجهلون ما يُسَيِّرُ العالم من ضرورات.

وإذا عدوت هذا الاتحاد الاقتصادي بين الأمم الأوربية وجدت المناهج الوحيدة التي اقتُرحت حتى الآن لحفظ السلم مؤلفة من مشروعات نزع السلاح، بَيد أنه لم يكن من الصعب أن يُعترف أمام الأخطار التي تحيط بجميع الأمم بأنه لا يمكن أمةً أن تبقى عزلاءَ من السلاح.

وعُقدت مؤتمرات كثيرة في عواصم كثيرةٍ بالتتابُع، فأثبتَتْ تعذُّر نزع السلاح فعلًا، كما دلَّتْ على ضرورة استقرار نزع السلاح بالنفوس في بدء الأمر.

•••

كان غليوم الصَّموت يقول: «لا ضرورة للأمل في الإقدام …» وقد أثبت الفوز صحة هذا المثل.

ومما يزيد في تمنِّي إقامة سلمٍ دائمة في أوربة، كون كل حربٍ جديدة، تعتمد على تقدم الأسلحة الحديثة، تؤدي إلى تخريب عواصم العالم القديم الكبرى، وتدلُّ على نهاية حضارته.

وكانت حروب الماضي تتمُّ بأسلحةٍ قليلة العدد لا يكترث لها غير قسمٍ ضئيلٍ من الأهلين، ولا تُواجِه الحروب الحديثة بين بضعة آلافٍ، بل تُقابِل بين ملايين من الآدميين، ولا تُعَتِّمُ أن تَعُمَّ مختلف بلدان القارة.

وحتى الآن لم تُسفر عن نتيجةٍ جميع الجهود التي بذلها السياسيُّون وصولًا إلى نزع السلاح في البر والبحر، واستبدالًا للتحكيم بما يقع من نِزاعٍ مسلَّح. ومن الصواب قول رئيس جمهورية الولايات المتحدة: إن أمل الأمة العزلاء أو السيئة السلاح في ألَّا تُهاجَم ضعيفٌ جدًّا. ومن الواضح مثلًا كون روسية التي تحلم بوقوع حربٍ عالمية لتضمن نصرًا لمبادئها، شديدة الخطر بجيشها المؤلف من ستمائة ألف رجل، على أوربة العزلاء من السلاح.

وفي معارفنا الحاضرة يقوم الأمل الوحيد في سلمٍ دائمة على اكتشاف أسلوبٍ في التخريب بالغٍ من السرعة ما لا تريد أمةٌ معه أن تُعَرِّض نفسها لنتائجه، ومن ذلك مثلًا: اكتشاف وسيلةٍ لجمع الموجات الهِرتِزِيَّة في نقطةٍ واحدة.١

ومنذ زمنٍ بعيدٍ أبصر مونتسكيو — كما يظهر — هذه الاكتشافات الخطرة حينما قال: «أرتجف دائمًا من الانتهاء في آخر الأمر إلى اكتشاف شيء مكتوم يُجَهِّز بأسلوبٍ وجيز، يَهلك به الناس ويُقضى به على جميع الأمم والشعوب.»

ومع ذلك فإن اكتشافات مثل تلك حُقِّقَت اليوم تقريبًا ببعض المتفجرات، ومما لاحظه وزيرٌ إنكليزيٌّ أن من الممكن أن يتمَّ تقويض الحضارات الأوربية نتيجةً لها.

•••

وفي أقلَّ من نصف قرنٍ أبصر العالم في ميدان العقل تقدُّمًا أعظم من جميع ما حُقِّقَ منذ أقدم الأزمان، حين كانت تُرسَم الحضارات الأولى على ضِفاف النيل وسهول كَلدة.

وما حُقِّقَ من تقدُّمٍ في حقل المشاعر التي ما انفكَّتْ تسيطر باندفاعاتها على الناس كان ضعيفًا جدًّا، وما كان العقل الذي يجب أن يوجِّه الأمم لينفع غالبًا في غير تحقيق النواحي اللاعقلية لسيرها.

وأثبتت الحرب العالمية، التي خَرَّبَتْ أوربة باندفاعاتٍ غريبة عن البديهيَّات العقلية، إثباتًا جلِيًّا مقدار الشك في المبادئ السياسية والأدبية التي تَصلُح للحكم.

وإذا نُظر إلى اختلاطات الساعة الحاضرة وُجد تعذُّر كل شعورٍ بالأطوار القادمة لتطور حضارتنا أو بما ستعانيه من أوجُه الأفول. أجل إن من الممكن أن تُوَجَّه حياة الأمم باكتشافات العلم توجيهًا شافيًا ذات يوم، غير أن العلم لا يزال من الجدة ما لا تُبْصَر معه نتائجه، ولا سيما حدوده، وليس مجهولُ قدماء الفلاسفة سوى حاجزٍ موقت يتقهقر أمام العلم كلَّ يوم، فنحن نعيش في عالمٍ من الظواهر يظلُّ تفسيرها الوهمي على حسب ذكائنا دائمًا.

ومع ذلك فإن من غير المفيد أن يُبحث في مستقبل مجهول يقع متأثرًا بعوامل خارجةٍ عن عقلنا، أجل، إنه مشحون بما لا يُعرف، ولكن مع الأمل أيضًا، وقد زال الآلهة الذين عمروا السماء منذ فجر الحضارات واحدًا بعد الآخر، والأمل هو الرب الوحيد الذي ظلَّ باقيًا، ولن يزول الأمل إلا مع آخر إنسان. وإذ يوحي الأمل بجميع الاكتشافات فإنه ينتقل من المعابد إلى المختبرات، ويدعم الجهود التي تنشأ عنها تحوُّلات العالم الذي نرى كماله.

ويُمكن أن يُشْعَر من الآن بعِظَم التحوُّلات القادمة، فلما وُفِّقْتُ، بعد جهودٍ متصلة دامت عشر سنين، لإثباتي أن المادة الجامدة لم تكن في الحقيقة غير تكثيفٍ عظيمٍ لقوةٍ لا جدال فيها، وأن من الممكن ذات يوم أن تنطلق الطاقة الذرية الكامنة، أعلن من فوق المنبر البرلماني أستاذ الاشتراكية الأكبر في هذا الزمن: أن نتائج مثل هذه المباحث قد تؤدي إلى تحوُّلٍ تامٍّ في أحوال الحياة الاجتماعية.

لا جرم أن العلم لا يزال في دور البحث، ولكنه يُبصر الطريق التي يجب أن يسلكها بالتدريج، ويتطور العلم بفعل الاكتشافات المفاجئة بسرعةٍ لا مثيل لها مطلقًا، وقد تمَّ للفكر البشري من التحوُّلات في أقلَّ من قرنٍ أكثر مما تمَّ له في ثمانية آلافٍ من سِني التاريخ التي مرَّتْ قبله، وإذا ما حُكم في الأمر بما تمَّ من فتحٍ حتى الآن، كشفت لنا المنطقة المجهولة التي يتقدم العلم فيها خُطوةً كل يومٍ عن أسرارٍ يمكن أن تُبصَر عظمتها.

ولذلك يمكننا أن نحلم بإنسانيةٍ قادمةٍ تختلف عن الإنسانية الحاضرة اختلاف هذه الأخيرة عن آدميي ما قبل التاريخ الابتدائيين، وهذا حُلُمٌ لا ريب، ولكنه حلمٌ أقرب إلى الحقيقة من الأحلام التي سيطرت على العالم حتى الآن، فلا ينبغي أن يُطعَن فيها ما رَفَعَت الإنسان من الوحشية إلى الحضارة.

١  ما انفكَّتْ هذه الفكرة تساورني منذ زمنٍ طويل؛ ولذلك قمت بتجارب ذكرتها في كتابي «تطور القوة»، فقد استعنتُ بأجهزة ذات تمدُّد بالغ الارتفاع، فاستطعت أن أستحصل لمسافة على تيَّارات كهربية إنتاجية، يمكن أن تظهر على شكل شرر حول جميع الأدوات المعدنية في غرفة طولها عشرة أمتار. وبما أن الموجات الهرتزية تخرق جميع الحواجز غير المعدنية فإنه يفجر بالقذف على هذا الوجه مستودعات البارود في حصن، والمهمات، وفرقة الجنود. ولا تزال هذه النتيجة متعذرة الوقوع؛ لما يجب وجوده من مرايا عظيمة يُجمع بها إشعاع كهربي على مسافة كبيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤