الفصل السابع

العمران الأموي

(١) أسباب العمران

أَخْفَتَ عبد الملك بن مروان نيران الحروب الأهلية، فقضى الشطر الأكبر من حياته وهو يطارد الزعماء ويلاحق أرباب العصيان، فمهَّد بذلك السبل للتوغل والفتوح في الساحات المختلفة والاهتمام في البناء والعمران، فأُسِّست المدن الوسيعة وشُيِّدت المساجد في الشام والحجاز والعراق، وزُيِّنت العاصمة دمشق بأنواع الزينة، فحُفِرت فيها الترع والأقنية لري المزارع والبساتين، وكان الوليد خلفه شديدَ الكلف بالعمارات والأبنية واتخاذ المصانع والضياع، فزاد ذلك في رغبة الشعوب الإسلامية على اقتفاء أثره واتباع خطاه، ولا ريب أن الأموال الكثيرة التي تدفَّقَت على خزانة الدولة من مختلف الأمصار هيأتْ أسباب العمران، وكان السلام منتشرًا فعمَّت الرفاهية وسادت الطمأنينة، فالتفت الناس إلى مجاراة ولاتهم وحكَّامهم في استحداث الأبنية التاريخية التي لا تزال أثرًا شاهدًا على علوِّ كَعْب الأمويين في فن العمارة.

(٢) جغرافية سورية

قسَّم العرب الفاتحون سورية إلى خمسة أجناد وهي: (١) جند فلسطين (٢) وجند الأردن (٣) وجند حمص (٤) وجند قنسرين (٥) وجند دمشق أمَّا جند فلسطين فأشهر مُدُنه بيت المقدس وغزة وعسقلان، وأمَّا جند الأردن فكانت مدينته طبرية، وعرف به الغور واليرموك وبيسان، وأمَّا جند حمص فكانت عاصمته حمص، وأمَّا جند قنسرين فكانت عاصمتها مدينة قنسرين في ابتداء الإسلام، ثم قامت حلب مقامها في عصر الدولة الحمدانية، وذلك حينما غلبت الروم — البيزنطيون — عليها سنة ٣٥١ﻫ/٩٦٢م وتفرق أهلها في البلاد، فطائفة عبرت الفرات وطائفة نقلها سيف الدولة ابن حمدان إلى حلب،١ وأمَّا جند دمشق فكان يشتمل على الغوطة وقراها وبساتينها.
ولما امتدت الفتوح أَطْلَقَ العرب على البصرة والكوفة اسم المِصْرَيْن أو العراقين، وجعلوا مصر مقاطعة بذاتها، وقد ذَكَرَ الجغرافيون أن أَشْهَرَ مدنها كانت الفسطاط وعين الشمس والفرما والعريش وبوصير والإسكندرية وإيلة، وكانت الولايات العجمية كالأهواز وتستر وجور وأصطخر وحلوان وتلقب بفارس، أمَّا خراسان فكانت تشمل الري ومرو وهراة وبلخ وخوارزم وجرجان وكابل وسمرقند وفرغانة ودينور وطبرستان وأصبهان وغيرها، وقد غيَّر العباسيون هذه التعاليم الجغرافية ونظَّموها تنظيمًا أَقْرَب إلى الكمال والدقة.٢

(٣) جغرافية الدولة الأموية

ذَكَرْنَا لك هذه الأقسام الجغرافية لتتعرف إلى المملكة الأموية، وكل قَصْدِنا مِنْ إيرادها أن نُظْهِر أن الدولة الأموية اهتمَّت اهتمامًا كليًّا في عمارة سورية، وبَذَلَت الأموال الطائلة في تشييد مدنها وتزيين أسواقها ومَرَافقها بالنسبة إلى غيرها من المقاطَعات الإسلامية، وكانت الخزينة كريمةً في صَرْف أموال الجباية والخراج المجلوبة من الولايات الفارسية والتركستانية والمصرية وغيرها في سبيل إنشاء المدن السورية وتنظيم العاصمة دمشق.

(٣-١) دمشق

أجمع المؤرخون والجغرافيون العرب على أن دمشق هي بلدٌ قد وَهَبَتْها الطبيعة جمالًا فائقًا، فتراها كثيرةَ الأنهار وافِرَةَ الجنان، قال ياقوت: «قَلَّ أن تمرَّ بحائط إلَّا والماء يخرجُ منه في أنبوب إلى حوضٍ يُشْرَب منه ويَسْتَقِي الواردُ والصادر، وما رأيت بها مسجدًا ولا مدرسةً ولا خانقاهًا إلَّا والماءُ يجري في بركة في صحن هذا المكان ويسبح في منصته»،٣ وهي نضيرة البقاع تحيط بها مِنْ جميع جهاتها الجبالُ وأشهرها جبل قاسيون، وتمتاز بكثرة الفواكه، حتى إنها تُحْمَل إلى مصر وحران، ويصف المقدسي دمشق فيذكر شيئًا عن أحوال اجتماعها فيقول: «دمشق هي مصرُ الشام ودارُ الملك أيامَ بني أمية وثَمَّ قصورهم وآثارهم، بنيانهم خشبٌ وطينٌ، أكثر أسواقها مُغَطَّاة ولهم سوقٌ على طول البلد مكشوفٌ حَسَنٌ … وهو بلدٌ قد خرقته الأنهار وأَحْدَقَتْ به الأشجار وكَثُرَتْ به الثمار مع رخصِ أسعار، لا ترى أحسن من حماماتها ولا أعجب من فواراتها ولا أجزم من أهلها … وهي طيِّبة جدًّا غير أن في هوائها يبوسة … ولحومها عاسية ومنازلها ضيقة وأَزقَّتها غامة وأخبازها ردية، والمعايش بها ضيقة.»٤

(أ) الصالحية

ويَصِفها القلقشندي ثم يَذْكر الصالحية فيقول: «وهي مدينة عظيمة البناء، ذات سور شاهق ولَهَا سبعة أبواب: باب كيسان، باب شرقي، باب توما، باب الصغير، باب الجابية، باب الفراديس، الباب المسدود، وهي … حسنة الترتيب، جليلة الأبنية، غوطتها أحد مستنزهات الدنيا العجيبة المفضلة على سائر مستنزهات الدنيا … بها الجوامع والمدارس والزوايا والأسواق المرتبة والديار الجليلة المذهبة السقف المفروشة بالرخام المنوَّع، ذات البرك والماء الجاري، وربما جرى الماء في الدار الواحدة في أماكن منها، والماء مُحْكِم عليها مِنْ جميع نواحيها، وغالِبُ بنائها بالحجر، وعناية أهلها بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به وتحسن بأوضاعه، ويستعمل في عماراتها خشب الحور وأجل حاضرتها ما هو في جانبيها الغربي والشمالي.

فأمَّا جانبها الغربي ففيه قلعتها، تحيط بها وبالمدينة جميعها أسوارٌ عاليه، ويحيط بها خندق يطوف الماء منه بالقلعة، إذا دَعَت الحاجة إليه أطلق على جميع الخندق المحيط بالمدينة فيعمَّها.

وبإزاء المدينة في سَفْح جبل قاسيون مدينة الصالحية، وهي مدينة ممتدة في سفح الجبل بإزاء المدينة في طول مدى يُشْرف على دمشق، وغوطتها ذات بيوت ومدارس وأسواق وبيوت جليلة، ولكل من دمشق والصالحية البساتين الأنيقة يتسلسل جداولها، وتغني دوحاتها، ويتمايل أغصانها، وتُغَرِّد أطيارها، وفي بساتين النزهة بها العمائر الضخمة والجواسق العلية والبرك العميقة والبحيرات الممتدة تتقابل بها الأواوين والمجالس، تحفُّ بها الغراس والنصوب المطرزة بالسرو الملتف والحور الممشوق القد والرياحين المتأرجة الطيب والفواكه الجنية والثمرات الشهية …»٥
فترى أن ياقوت والمقدسي والقلقشندي أَجْمَعوا على الاعتراف بجمال دمشق ولُطْف بساتينها وكثرة مدارسها وأبنيتها في مختلف العصور التي عاشوا بها، وهي بلا جدال بلدٌ صحيٌّ أَعْجَبَ الخلفاء الأمويين والعباسيين، حتى قال ابن عساكر: «لم تزل ملوك بني العباس تخِفُّ إلى دمشق طلبًا للصحة وحُسْن المنظر، منهم المأمون، فإنه أقام بها، وبنى القبة التي في أعلى جبل مروان، وصيَّرها موقدًا يوقد في أعلاه النار، ويُقال: إن المأمون نَظَرَ يومًا من بناءٍ كان فيه إلى أشجار الغوطة وبنائها فحلف بالله إنها خير مغنى على وَجْهِ الأرض.»٦

(ب) جامع بني أمية

ولو أُتيح لنا زيارة دمشق في أواخر عهد الوليد لاستَجْلَبَ أنظارَنا مسجدُها الجامع المعروف اليوم بجامع بني أمية، فترى به القواعد الكبيرة والأساطين العظيمة والأعمدة الجميلة والمحاريب المزينة والقبب البديعة والأروقة المرصعة والفسيفساء الملونة والنقوش المتنوعة والفصوص المُذَهَّبة والمرمر المصقول، وقد جمع الوليد لدى عمارته أشهر البناة والمهندسين من الهند وفارس والمغرب وبيزنطية، ويُقال: إنه أَنْفَقَ عليه خراج الشام سبع سنين.

أسباب تشييد مسجد بني أمية

أمَّا الأسباب التي دَفَعَت الأمويين لتشييد المسجد الجامع فهي.
  • أولًا: مجاراة المسيحيين ومضاهاتهم في بناء معابدهم كما يُؤْثِر الخلفاء على العامة، ولئلا يُقال: إن بِيَعَ النصارى أَحْسَن فنًّا وأدقَّ بناءً وأجمل زخرفةً من مساجد المسلمين، نستشهد على هذا بما رواه المقدسي حينما سأل عمه معترضًا على كثرة الأموال التي أُنفِقت على هذا الجامع قال: «وقلتُ يومًا لعمِّي: يا عم لم يُحْسِن الوليد حيث أَنْفَقَ أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو أَصْرَفَ ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورمِّ الحصون لكان أَصْوَبَ وأفضل، قال: لا تفعل يا بني، إن الوليد وُفِّقَ وكُشِفَ له عن أَمْر جليل، وذلك أنه رأى الشام بَلَد النصارى، ورأى لهم فيها بِيَعًا حسنةً قد افتن زخارفها وانتشر ذِكْرُها كالقمامة وبيعة لد والرها، فاتخذ للمسلمين مسجدًا شَغَلَهُمْ به عنهن وجعله أَحَدَ عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيئتها خَشِيَ أن تعظم في قلوب المسلمين فنصب على الصخرة قبة على ما ترى.»٧
  • ثانيًا: منافسة الأجانب البيزنطيين في بنائهم أيضًا وحبًّا بالظهور أمام الأغيار بمَظْهر القوة والغنى، وكان عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل يودُّ لو ينزع الحلي التي زيَّنَ بها الوليدُ المسجدَ الجامع لتُصْرَف على قضاء حاجات المسلمين وتُنْفَق في مصالحهم، فغيَّر رأيه وقال: «لا أرى مسجدَ دمشق إلَّا غيظًا على الكفَّار، فنزل عمَّا كان همَّ به من نَزْع حُلِيِّه.»٨
  • ثالثًا: ضيق فناء المسجد الذي اتخذه معاوية للمصلين، وكان مَوْضع هذا المسجد كنيسة يصلي المسلمون في ناحية منها والنصارى في ناحية، فلم يزالوا كذلك حتى كَثُرَ عدد المسلمين في دمشق وتوافدت الناس إليها من كل صوب في أيام الوليد، فطَلَبَ إلى المسيحيين أن يعطوه النصف المختص بهم لقاء إضعاف ثمنه، وتَعَهَّدَ لهم ببناء كنيسة في دمشق حيث شاءوا، فأَبَوْا عليه فهدمه مدعيًّا أن المسلمين الفاتحين أَخَذُوه عنوة وأضافه للمسجد، وكان أَوَّل مَنْ هدم فيه حجرًا.
    قال ابن عساكر يصف هَدْمَ هذا النصف من الكنيسة: «لما عَزَمَ الوليدُ على الهدم قال له النصارى: لا يَهْدِمُها أحدٌ إلَّا جُنَّ … فخرج الوليد ومعه وجوه أهل البلد حتى ملئوا الكنيسة، فأتى بفأسٍ وقال: إن هؤلاء يزعمون أن أَوَّلَ من يهدمها يُجَنُّ وأنا أَوَّلُ مَنْ يُجَنُّ في الله تعالى، وتناوله كل من حضر.»٩
ومما هو جديرٌ بالذكر؛ أن الجند الإسلامي المحارِب اشترك في نقل الأدوات اللازمة للبناء واستجلبها من مختلف الأصقاع، أَخْبَرَنَا ذلك أحدُ الغزاة الشاميين فقال: «كنَّا معشر أهل الشام وإخواننا مِنْ أهل مصر وإخواننا من أهل العراق نغزو، فيُفْرَض على الرجل منَّا أن يَحْمِل مِنْ أرض الروم قسمًا من الفسيفساء وذراعًا في ذراعٍ من رخام، فيحمله أهل العراق وأهل حلب إلى حلب، ويستأجر من يحمله إلى دمشق، ويحمله أهل حمص إلى حمص ويستأجروا من يحمله إلى دمشق، ويحمل أهل دمشق ومَنْ ورائهم حصَّتهم إلى دمشق.»١٠

أَسْهَبَ المؤرخون والأدباء في وَصْف المسجد الأموي وذِكْر أَرْوِقته ومَحَارِيبه ونقوشه وأعمدته، وإنني مُقْتَطِف لك فقرات بعيدة عن المبالَغة، وهي لِأشهر الثقات الذين كَتَبوا في هذا الموضوع:

قال المقدسي: «الجامع أحسن شيءٍ للمسلمين اليوم، ولا يُعْلَم لهم مالٌ مَجْتَمِع أكثر منه، قد رُفِعت قواعده بالحجارة الموجهة كبارًا مؤلفة، وجُعِلَ عليهم شرف بهية، وجُعِلَتْ أساطينها أعمدةً سودًا ملسًا على ثلاثة صفوف واسعة جدًّا، وفي الوسط إزاءَ المِحْرَاب قبة كبيرة، وأُدِيرَ على الصحن أروقة متعالية، ثم بُلِّط جميعه بالرخام الأبيض، وحيطانه إلى قامتين بالرخام المجزع، ثم إلى السقف بالفسيفساء الملوَّنة، في المذهبة صور أشجار وأمصار وكتابات على غاية الحُسْن والدقة ولطافة الصنعة، وأقل شجرة أو بَلَد مذكور إلَّا وقد مُثِّل على تلك الحيطان، وطُلِيَتْ رءوس الأعمدة بالذهب، وقناطر الأروقة كلها مرصعة بالفسيفساء، وأعمدة الصحن كلها رخام أبيض وحيطانه بما يدور والقناطر وفراخها بالفسيفساء نقوش وطروح، والسطوح كلها ملبَّسة بشقاق الرصاص، والشرافيات من الوجهين بالفسيفساء، وعلى الميمنة في الصحن بيت مال على ثمانية عمد مرصَّع حيطانه بالفسيفساء، وفي المحراب وحوله فصوص عقيقية وفيروزجية كأكبر ما يكون من الفصوص، وعلى الميسرة محراب آخر دون هذا للسلطان، وقد كان تَشَعَّثَ وسطه فسَمِعْتُ أنه أُنْفِق عليه خمسمائة دينار حتى عاد إلى ما كان، وعلى رأس القبة ترنجة فوقها رمانة كلاهما ذهب.

ومن أعجب شيءٍ فيه تأليف الرخام المجزع كل شامة إلى أختها، ولو أن رجلًا من أهل الحكمة اختلف إليه سنة لاستفاد منه كل يوم صنعة وعقدة أخرى … ويدخل إليه العامة من أربعة أبواب: باب البريد عن اليمين، كبير له فرخان عن يمين وشمال على كل واحد من الباب الأعظم، والفرخان مصراعان مصفحة بالصفر المذهب، وعلى الباب والفرخين ثلاثة أروقة كل باب منهما يُفْتَح إلى رواقٍ طويل قد عقدت قناطر على أعمدة رخام … وجميع السقوف مزوَّقة أحسن تزويق، وفي هذه الأروقة موضع الوراقين ومجلس خليفة القاضي … يقابله عن اليسار باب حيرون وباب الساعات وباب الفراديس، وعلى كل من هذه الأبواب ميضأة مرخمة ببيوت ينبع فيها الماء وفوارات خارجة في قصاعٍ عظيمة من رخام، ومن الخضراء وهي دار السلطان أبواب إلى المقصورة مصفحة مطلية … وأُنْفِقَ عليه ثمانية عشر حِمْل بغل ذهب.»١١
وقال ابن عساكر: «قال أبو يوسف يعقوب بن سفيان: قرأت في قبلة مسجد دمشق صفائح مذهبة بلازورد «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ»١٢ إلى آخر الآية، لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلَّا إياه، ربنا الله وحده، وديننا الإسلام، ونبينا محمد ، أَمَرَ ببناء هذا المسجد وهذه الكنيسة التي كانت فيه عبد الله الوليد أمير المؤمنين في «ذي القعدة من سنة ست وثمانين»، وهذه الكتابة في ثلاث صفائح منها وفي الرابعة سورة الفاتحة إلى آخرها ثم النازعات ثم عبس ثم التكوير الكل بتمامها، وقَدِمْت بعد ذلك فرأيت هذا قد مُحيَ وكان ذلك قَبْل المأمون … وكانت القناديل إذا أُطْفِئَتْ في مسجد دمشق يسدُّ الواحدٌ منَّا أَنْفَه لما يَفُوح من رائحة المسك … وكان في مسجد دمشق اثنا عشر أَلْف مرخم، ويُقال: إن المرمر كان كثيرًا.»١٣

وروى ياقوت في معجم البلدان عن أحد الأدباء: «هو جامع المحاسن … معدود من إحدى العجائب، قد زُوِّر بعض فرشه بالرخام وأُلِّفَ على أحسن تركيب … صَنْعته مؤتلفة، بساطه يكاد يَقْطر ذهبًا ويشتعل لهبًا، وهو منزَّه عن صور الحيوان إلى صنوف النبات وفنون الأغصان، لكنها لا تُجنى إلَّا بالأبصار ولا يدخل عليها الفساد كما يدخل على الأشجار والثمار، بل باقية على طول الزمان»، وقال أيضًا: «لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام مِنْ حُسْن صنائعه واختلافها.»

وقال موسى بن حماد البربري: «رأيت في مسجد دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفورًا سورة «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ» إلى آخرها»، وحكى الجاحظ في كتاب البلدان: «مسجد دمشق مبني على الأعمدة الرخام طبقتين، الطبقة التحتانية أعمدة كبار والتي فوقها صغار، في خلال ذلك صورة كل مدينةٍ وشجرةٍ في الدنيا بالفسيفساء الذهب والأخضر والأصفر، وفي قبة القبلية المعروفة «بقبة النسر» ليس في دمشق شيءٌ أعلى ولا أبهى منظرًا منها، ولها ثلاث منائر أشهرها المنارة البيضاء، ولم يَزَلْ جامع دمشق على تلك الصورة يبهر بالحسن والتنميق إلى أن وقع فيه حريق في سنة ٤٦١ﻫ فذهب بعض بهجته.»١٤
وذكر القلقشندي مساحته فقال: «وذرعه في الطول من المشرق إلى المغرب مائتا خطوة، وهي ثلاثمائة ذراع، وعَرْضه من القبلة إلى الشمال مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع.»١٥

(ﺟ) قصر الخضراء

وقد يستلفت نَظَرَكَ أيضًا لدى زيارتك دمشق قصر معاوية الأول ويُعرف بالخضراء، فزاد عبد الملك عليه وحسَّنه واشتراه حسبما روى ابن عساكر بأربعين ألف دينار.١٦

(د) أنهار دمشق

وإذا تَوَغَّلْنا في أنحاء العاصمة وزُرْنا بساتينها لرأينا أن مسقاها من بردى، وهو يقسم على سبعة أنهر: أربعة غريبة، وهي نهر داريا ونهر المزة ونهر القنوات ونهر بانياس، واثنان شرقية وهما نهر يزيد ونهر تورا، ونهر بردي ممتد بينهما،١٧ وكان نهر يزيد صغيرًا لا يسقي إلَّا قريتين من قرى الغوطة، فلما ولي أَمَرَ بِحَفْره وعرضه فقام الفلاحون يعارضونه فلطف بهم، أخبرنا ذلك ابن عساكر فقال: «وولي يزيد فنظر إلى أرضٍ واسعة ليس لها ماء وكان مهندسًا، فنظر إلى النهر — نهر يزيد — فإذا هو صغير، فأَمَرَ بِحَفْره، فمَنَعَه من ذلك أهل الغوطة ودافعوه، فلطف بهم على أن ضَمِنَ لهم خراج سنَتِهم من حاله، فأجابوه إلى ذلك، فاحتفر نهرًا سعة عرضه ستة أشبار في عمق ستة أشبار على أن له ملء جنبتيه.»١٨
وكان يزيد الأول مهندسًا، فأصلح مجاري الأنهار لينتفع بها الأهلون، وشاد السكان المباني على جانبي نَهْر تورا حتى دعاه القلقشندي بنيل دمشق، وتجد الناس منتزهاتها بالقرب منه وهو أشبه شيءٍ بالزمردة الخضراء لالتفاف الأشجار عليه، والحقيقة أن هذه الأنهار ينتفع بها الدمشقيون وأهل الغوطة فيتوزع منها الماء إلى البساتين والمزارع من المواصي، ويدخل من بعدها إلى البلد في القنى، ثم يتفرق إلى البِرَك والحمامات، ويجري في الشوارع والسقايات.١٩

(ﻫ) رصافة الشام

نزع الخلفاء الأمويون إلى الترف والرفاهية والتمتع بملاذِّ الحياة الهادئة، فشاد هشام بن عبد الملك رصافة الشام، وهي في غربي الرقة وتبعد عنها نحوًا من أربعة فراسخ، وكان ينزلها في الصيف فيضرب بها السرادقات، وإذا حلَّ الطاعون في دمشق وفَشَا بها هَرَبَ منها وجعل الرصافة مكان إقامته، ويَذْكُر المؤرخون أنها من عمل الغساسنة، فأتى هشام وعَمَرَ سورها وبنى بها قصوره، والغريب أنه ليس عندها نهرٌ ولا عينٌ جاريةٌ إنما يستقي أهلها من الصهاريج، وإذا فرغت هذه الصهاريج في مواسم الصيف الشديدة القيظ يرسل أغنياؤهم في طلب الماء من الفرات، قال ياقوت: «يمضي أحدهم إلى الفرات العصر فيجيء بالماء في غداة غد»،٢٠ ويدين سكان الرصافة بالنصرانية، أمَّا معاشهم فتخفير القوافل وجَلْب المتاع وغزل الصوف ونسجه.٢١

قلنا: إن هشامًا كان يرتاد الرصافة لترويح الخاطر من عناء الأشغال وانتجاعًا للصحة وهربًا من الطاعون في بعض الأحيان، فقدمت عليه الوفود من الجهات لقضاء حاجاتها وأتت إليه أهل المظالم تطلب العدل والإنصاف من أرباب الجور والعسف، فأسس مجلسًا للقضاء أدنى إليه الضعفاء والنساء واليتامى، وأقصى عنه المتنفذين والأقوياء، وقد طار صيت الرصافة فوصف لنا الكتَّاب والمتأدبون جمالها وأطنبوا في مديح هشام وعدالته.

فقال فيها أحد النبلاء من العراق: «قدمت على هشام وقد خرج منتدبًا في قرابته وأهله وحشمه وحاشيته من أهله إلى بعض وادي الرصافة، فنزل في أرض قاع صحصح أفيح في عامٍ قد بَكَّرَ وسيمه — مطره — وقد أُلْبِسَت الأرض أنواع زهرتها وأخرجت ألوان زينتها من نور ربيعها، فهي في أحسن مَنْظَر وأجمل مخبر، بصعيدٍ كأن ترابه قطع الكافور، فلو أن قطعة دينار أُلْقِيَت فيه لم تثرب، وقد ضُرِبَ له سرادقات من حبرات اليمن مزرورة بالفضة والذهب، وضُرِبَ له فسطاطه في وسطه فيه أربعة أفرشة من خزٍّ أحمر مثلها مرافقها، وعليه دراعة خزٍّ أحمر وعمامة مثلها، وضُرِبَت حُجَر نسائه من وراء سرادقه، وعنده أشراف قريش وقد ضُرِبَتْ حُجَر بنيه وكتَّابه وحشمه بقرب فسطاطه.

وكان له موضع بالرصافة أفيح من الأرض يبرز فيه فتُضْرَب له به السرادقات، فيكون فيه ستين ليلة بارزًا للناس مباحًا للخلق لا يفنى أيامه تلك إلَّا بردِّ المظالم والأخذ على يد الظالم من جميع الناس وأطراف البلاد، ويصل إلى مخاطبته بذلك الموضع داعي السوام والأمة السوداء فمن دونهما، قد وكَّل رجالًا أدباء عقلاء بإدناء الضعفاء والنساء واليتامى منه، وأَمَرَهُم بإقصاء أهل القوة والكفاية حتى يأتي على آخر ما يكون مِنْ أَمْرِه فيما دفع إليه، لا ينضم إليه رَجُل يريد الوصول إليه فينظروا أوضع منه إلَّا أَدْنَوا الأوضع وأَبْعَدوا الأرفع حتى ينظر في شأنه ويَعْرِف أَمْره وينفِّذ فيه ما أمر، ولا يَرْفَع إليه ضعيفٌ ولا امرأةٌ أمرًا وظلامة على غطريف من الناس مرتفع القدر … إلَّا أَمَرَ باقتضاء يمينه … حتى لربما تمرُّ به المرأة والرجل أو عابر سبيل لا حاجة له فيما مرَّ به فيقال له: ما حاجتك؟ وما قصتك؟ وما ظلامتك؟ فيقول: إنما سَلَكْتُ أريد موضع كذا أروم بلد كذا، فيقول له: لعلك ظَلَمَكَ أحدٌ من آل الخليفة تَهَابُ أَمْرَه وتتوقع سطوته فذلك الذي منعك عن رَفْع ظلامتك إلى أمير المؤمنين؟ فيقول: لا والله لا أبغي إلَّا ما قُلْتُ، فيُقال له: اذهب بسلام، حتى لربما أتت عليه تارات من الليل وساعات من النهار لا ينظر في شيء ولا يأتيه أحدٌ في خصومة لاستغناء الناس عن المطالَب وتعفُّفًا من المظالم ووقايةً من سطواته وتخوفًا من عقوبته، وقد وَسِعَ العبادَ أَمْنه وأَشْعَرَهُم عَدْلَه وصارت البلاد المتنائية الشاسعة كدارٍ واحدةٍ تَرْجِع إلى حاكم قاضٍ يرقبه الناس في المواضع النائية عنه كما يرقبه مَنْ معه.»٢٢

وكان سليمان بن عبد الملك واليًا على جُنْد فلسطين في أيام أخيه الوليد، فنزل «لُد» — أكبر محطة في فلسطين للسكك الحديدية اليوم — فلم تُعْجِبه ولم تَرُقْ له الإقامة فيها، فقدم الرملة، وهي رباط للمسلمين منذ الفتح فمصرها وبنى بها قَصْره ودارًا تُعرف بدار الصبَّاغين، واختط المسجد وعمَّره وزيَّنه واحتفر لهم الآبار والأقنية، وكان بنو أمية يُنْفِقون على آبار الرملة إلى أواخر أيامهم، وأصاب الرملة الدمار في خلال الحروب الصليبية، وهي تكاد تكون اليوم قرية، وكانت زاهية زاهرة في أيام المقدسي الجغرافي، فيقول عنها: «قصبة فلسطين بهيةٌ حسنةُ البناء خفيفة الماء مرية واسعة الفواكه جامعة الأضداد بين رساتيق جليلة … وقرى نفيسة والتجارة بها مفيدة والمعايش حسنة، ليس في الإسلام أبهى من جامعها ولا أحسن ولا أطيب من حواريها، ولا أبرك من كورتها ولا ألذُّ من فواكهها، موضوعة بين رساتيق زكية ومدن محيطة ورباطات فاضلة، ذات فنادق رشيقة وحمامات أنيقة وأطعمة نظيفة وإدامات كثيرة ومنازل فسيحة ومساجد حسنة وشوارع واسعة … قد خطت في السهل وقربت من الجبل والبحر وجَمَعَت التين والنخل وأَنْبَتَت الزروع على البعل وحَوَت الخيرات والفضل، غير أنها في الشتاء جزيرة من الوحل وفي الصيف ذريرة من الرمل، لا ماء يجري ولا خضر ولا طين جيد ولا ثلج، كثيرة البراغيث عميقة الآبار مالحة وماء المطر في جباب مقفلة، فالفقير عطشان والغريب حيران.

وجامع القصبة في الأسواق أبهى وأرشق من جامع دمشق، يُسمَّى «الأبيض» ليس في الإسلام أكبر من محرابه، ولا يعد منبر بيت المقدس أَحْسن مِنْ منبره، وله منارة بهية بناه هشام بن عبد الملك … وأرض المغطى مفروشة بالرخام والصحن بالحجارة المؤلفة وأبواب المغطى من الشربين والتنُّوب مداخله محفورة حسنة جدًّا.»٢٣

(٣-٢) واسط العراق

يمكننا القول دون جدال: إن الأمويين شادوا الرصافة والرملة حبًّا بالنزهة وطلبًا للراحة، أمَّا تأسيسهم المدن في العراق فكان لمقصدٍ غير المقصد الذي ذَكَرْناه وأتينا على بيانه، كلنا يَعْلَم أن العراق كان دومًا متهيِّئًا للثورة على بني أمية، وكلنا قد شعر بالضغائن التي كان يحملها أهل الكوفة وأهل البصرة على الأمويين وولاتها، فأقام الحجاج مدينةً متوسطة بين البصرة والكوفة لا تبعد أكثر من خمسين فرسخًا عن كل منهما؛ ولذلك كان بوسعه أن يُشْرِف على أعمال سكان المِصْرَين ويضربهم كلما حدَّثَتْهم النفس بالعصيان، وشرع الحجاج في عمارة واسط في سنة ٨٤ﻫ وفرغ منها سنة ٨٦ﻫ/٧٠٣–٧٠٥م، وتمتاز واسط بطيب هوائها وكثرة بساتينها ونخيلها، وقد أكَّد له أطباؤه وبعض ثقاته أنهم استطابوا ليلها واستعذبوا أنهارها واستمرءوا طعامها وشرابها.٢٤
أمَّا أشهر المباني التاريخية التي شادها الحجاج في واسط فهي المسجد الجامع والقبة الخضراء والقصر والسور، وكان ذرع قصره أربعمائة في مثلها، وذرع المسجد الجامع مائتين في مائتين، ونقل الحجاج إلى قَصْره والمسجد الجامع أبوابًا من الجهات المختلفة من العراق، فاحتجَّ أهل هذه الجهات وضجُّوا وقالوا: قد غَصَبْتَنا على مدائننا وأموالنا، فلم يَلْتَفِتْ إلى قولهم ولم يُغْنِهم احتجاجُهم عليه فتيلًا، وقد زار ياقوت واسطًا فوصفها بقوله: «ورأيت أنا واسطًا مرارًا فوجدتها بلدةً عظيمةً ذات رساتيق وقرًى كثيرة وبساتين ونخيلًا يفوت الحصر، وكان الرُّخْصُ موجودًا فيها من جميع الأشياء ما لا يوصف، بحيث إني رأيتُ فيها كُوزَ زبد بدرهمين، واثنتي عشرة دجاجة بدرهم، وأربعة وعشرين فروجًا بدرهم، والسمن اثنا عشرة رطلًا بدرهم، والخبز أربعون رطلًا بدرهم، واللبن مائة وخمسون رطلًا بدرهم، والسمك مائة رطل بدرهم، وجميع ما فيها بهذه النسبة.»٢٥

(٣-٣) جامع بيت المقدس

جَرَت السُنَّة لدى الخلفاء الأمويين أن يشيدوا المساجد ويعمروا بيوت الله لتكون زينة للمدن ومركزًا وسيعًا لاجتماع المسلمين وغيظًا على الأجانب والأغيار، فأقام الوليد الجامع الأموي في دمشق، وقد أَسْهَبْنَا لك في وَصْفه وبيان محتوياته، وبنى والده عبد الملك بمساعَدَته جامع بيت المقدس أو جامع الصخرة، وتباينت رواية الذين زاروه وشاهدوه من المؤرخين في العصور المختلفة في ذِكْر مساحته وعدد عمده ومحاريبه ومنابره والأموال التي أُوقِفَتْ له.

قال المقدسي: «… وللمغطى ستة وعشرون بابًا: بابٌ يقابل المحراب يسمى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهب … والسقوف كلها إلَّا المؤخرة ملبسة بشقاق الرصاص، والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار والصحن كله مُبَلَّط وسطه دكة يصعد إليها من الأربع جوانب في مراقٍ واسعةٍ وفي الدكة أربع قبات، وطول المسجد ألف ذراع بذراع الملك الإشباني، وعرضه سبعمائة، وفي سقوفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام، وعلى السطح خمسة وأربعون ألف شقفة رصاص، وخدامه مماليك له أقامهم عبد الملك من خُمس الأسارى؛ ولذلك يسمَّوْن الأخماس، لا يخدمه غيرهم، ولهم نوب يحفظونها، وكانت وظيفته في كل شهر مائة قسط زيت وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصر.»٢٦
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: «طول المسجد سبعمائة ذراع وأربع وثمانون ذراعًا، وعَرْضه أربعمائة ذراع وخمسة وخمسون ذراعًا، ويسرج في المسجد ألف وخمسمائة قنديل، وعدد ما فيه من الأبواب خمسون بابًا، وعدد ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون عمودًا، وفيه الصخرة الملبسة صفائح الرصاص، ومن فوق ذلك صفائح النحاس مطلية بالذهب، وجميع ما يسرج في الصخرة من القناديل أربعمائة قنديل وأربعة وستون قنديلًا بمعاليق النحاس وسلاسل النحاس، وفي المسجد ثلاث مقاصير للنساء، طول كل مقصورة ثمانون ذراعًا في عَرْض خمسين ذراعًا، وفيه من المصاحف الجامعة سبعون مصحفًا وفيه من المحاريب عشرة، وفيه أربعة وعشرون جبًّا للماء، وفيه أربعة منائر للمؤذنين، وجميع سطوح المسجد والقباب والمنارات ملبسة صفائح مُذَهَّبة، وله من الخدم بعيالاتهم مائتا مملوك وثلاثون مملوكًا يقبضون الرزق من بيت مال المسلمين، ووظيفته في كل عام من الحصر ثمانية آلاف.»٢٧
وقال الهمداني في كتاب البلدان: «يُقال: إن طول مسجد بيت المقدس ألف ذراع وعَرْضه سبعمائة، وفيه سبعمائة عمود، وخمسمائة سلسلة نحاس، ويُسرج فيه كل ليلة ألف وستمائة قنديل، وفيه من الخدم مائة وأربعون خادمًا، وله من الحصر كل سنة ثمانمائة ألف ذراع، وفيه خمسة وعشرون ألف جبٍّ للماء، وفيه ستة عشر تابوتًا للمصاحف، وفيه أربعة منابر للمطوعة وواحد للمرتزقة، وله أربعة مياضئ … وقبة الصخرة بناها عبد الملك بن مروان على اثني عشر ركنًا وثلاثين عمودًا … هذا أيام خليفتنا المعتضد بالله.»٢٨
وقال ياقوت في معجم البلدان: «وهو طويل عريض وطوله أكثر مِنْ عَرْضه، وهو على غاية الحُسْن والإحكام، مبني على الأعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منه، لا جامع دمشق ولا غيره، في وسط صَحْن هذا الموضع مصطبة عظيمة في ارتفاع نحو خمسة أذرع كبيرة يَصْعَد إليها الناس من عدة مواضع بدَرَج، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة على أعمدة رخام مسقفة برصاص منعمة من برا وداخل بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون قائم ومسطح، وفي وسط هذا الرخام قبة أخرى قبة الصخرة التي تُزار.»٢٩

أحببت أن أثبت لك هذه الروايات المختلفة المتبايِنة لِتَعْلَم معنى المبالَغة وكم يجب أن نَحْذَر منها في دراستنا التاريخ، ولو درست هذه الروايات تمامًا لوجدت أن الهمداني والمقدسي يعطيانك على وجه التقريب عَيْن الأرقام فيما يختص بمساحة مسجد بيت المقدس وعدد عمده وأذرع الحصر التي تُفرش فيه، لكن الغرابة كل الغرابة حينما تأتي إلى عدد الآبار فيعدِّدها ابن عبد ربه فإذا هي ٢٤ ويعدِّدها الهمداني فإذا هي ٢٥٠٠٠ فتأمَّلْ! أليست هذه الحال من الفضائح في التاريخ فاجتَنِبْها ما قَدَرْتَ رحمك الله، وهاك قائمة تسهِّل عليك نوعًا المقابَلَةَ بين هذه الروايات:

المقدسي ابن عبد ربه الهمداني ياقوت
الطول والعرض ٧٠٠ × ١٠٠٠ ٤٥٥ × ٧٨٤ ٧٠٠ × ١٠٠٠
عدد القناديل ١٥٠٠ ١٦٠٠
العمد ٧٠٠ ٦٨٤ ٧٠٠
الأبواب ٢٦ ٥٠
الحصر ٨٠٠٠٠٠ ذراع ٨٠٠٠٠٠ ٨٠٠٠٠٠
الآبار ٢٤ ٢٥٠٠٠ ٢٥٠٠٠
الخدم ٢٨٠ ١٤٠ ١٤٠

(٣-٤) المسجد الحرام

واهتم الأمويون في تجديد المسجد الحرام في مكة وتوسيعه وإتقانه وتحسين كسوته، فزاد عبد الملك بن مروان في ارتفاع حائط المسجد، وحمل إليه السواري من مصر في البحر إلى جدة، وحُمِلت من جدة على العجل إلى مكة، ولما ولي الوليد زاد في حليته وزيَّن سقفه بأطواق الياقوت والزبرجد المجلوب من الأندلس،٣٠ وكان أول من بناه عمر بن الخطاب، فلما كانت السلطة في الحجاز لابن الزبير جَعَلَ فيه عمدًا من الرخام وزاد في أبوابه وحسَّنها … وطيَّبَ الأمويون الكعبة بأنواع الطيب وكسوها الديباج بعد أن كانت تُكسى بالثياب اليمانية والقباطي،٣١ ووصف لنا ابن عبد ربه البيت الحرام بقوله: «صَحْنُه كبير واسع، ذرعه طولًا أربعمائة ذراع وأربعة أذرع، وذرعه عرضًا ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وله عمد رخام بيض عددها في طوله من الشرق إلى الغرب خمسون عمودًا وفي عرضه ثلاثون عمودًا، وجملةُ عمد المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثون عمودًا، طول كل عمودٍ منها عشرة أذرع ودوره ثلاثة أذرع، المذهبة من رءوس العمد ثلاثمائة وعشرون رأسًا، وسور المسجد كله من داخله مزخرَف بالفسيفساء، وله ثلاثة وعشرون بابًا.»٣٢

(٣-٥) مسجد المدينة

اعتنى الأمويون أيضًا في توسيع مسجد المدينة وتزيينه، فاشترى عمر بن عبد العزيز الدور التي حوله في عَهْد الوليد وزادها فيه وجدَّد بناءه، وبعث إلى بيزنطية يشتري الفسيفساء فوجَّهوا إليها منها أربعين وسقًا فشحنها إلى المدينة ورصَّع بها المحاريب والسقوف، وأول مَنْ بنى هذا المسجدَ الرسولُ محمد ، وكان بناؤه باللبن وسقفه جريد وعمده خشب النخل، فأصلحه عثمان بن عفَّان حينما تولَّى وبناه بالحجارة المنقوشة.٣٣

(٣-٦) الأمويون والتماثيل

نحمد للأمويين اهتمامهم بالعمران وانصرافهم إليه وبذلهم الأموال الطائلة في سبيله، ولكننا لا نحمد لهم صنيعهم في تخريبهم التماثيل، فقد أساءوا بذلك إلى العلم والفن، أساءوا إلى العلم لأننا فَقَدْنا بفقدها آثارًا ناطقة عن الأمم التي سَكَنَتْ هذا الشرق الإسلامي قبل العرب، وأساءوا إلى الفن لأن التماثيل تُخْبِرنا عن مَبْلَغ ما وَصَلَتْ إليه تلك الأمم من رقة الشعور ومعرفة الجمال، فأَمَرَ يزيد بن عبد الملك سنة أربع ومائة (٧٢٢م) بكسر الأصنام في أنحاء البلاد كلها فكُسِّرَتْ ومُحِيَت التماثيل وخصوصًا من مصر.٣٤ ا.ﻫ.
١  معجم البلدان، ياقوت الحموي ج٤، ص١٨٦.
٢  العقد الفريد ج٤، ص٢٦٦–٢٦٨. والقلقشندي ج٣، ٢٧٨.
٣  معجم البلدان، ج٢، ص٥٨٧–٥٩٠.
٤  المقدسي، ص١٥٦-١٥٧.
٥  القلقشندي، ج٣، ص٩٤-٩٥.
٦  ابن عساكر، ج١، ص٢٥١.
٧  المقدسي، ص١٥٩.
٨  ابن عساكر، ج١، ص٢١٠. ياقوت ج٢، ص٥٩٥٩.
٩  ابن عساكر، ج١، ص٢٠١.
١٠  المصدر نفسه، ج٢، ص٢١٠.
١١  المقدسي، ص١٥٩.
١٢  سورة البقرة، الآية ٢٥٧.
١٣  ابن عساكر، ص٢٠٥، ٢٠٦، ٢١١.
١٤  كتاب البلدان، الجاحظ، ج٢، ص٥٩٣. معجم البلدان، ص٥٩١، ٥٩٢، ٥٩٣.
١٥  القلقشندي، ج٣، ص٩٦، ٦٧.
١٦  ابن عساكر، ج٢، ص٢٤٢-٢٤٣.
١٧  القلقشندي، ج٣، ص٩٥.
١٨  ابن عساكر، ج١، ص٢٤٤-٢٤٥.
١٩  ابن عساكر، ج١، ص٢٤٤–٢٤٧.
٢٠  معجم البلدان، ج٢، ص٧٨–٧٨٦.
٢١  الطبري، S2 V3، ص١٧٣٨.
٢٢  ابن قتيبة، ص١٩٩–٢٠٦.
٢٣  المقدسي، ص١٦٤-١٦٥، وراجع معجم البلدان ج٢، ص٨١٧–٨٢٠.
٢٤  معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج٤، ص٨٨٢.
٢٥  معجم البلدان، ج٤، ص٨٨٦.
٢٦  المقدسي، ص١٦٧–١٧١.
٢٧  العقد الفريد، ج٤، ص٢٧٤-٢٧٥.
٢٨  كتاب البلدان، الهمداني، ص١٠٠-١٠١.
٢٩  معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج٤، ص٥٩٤.
٣٠  معجم البلدان ج٤، ص٥٣٥-٥٣٦.
٣١  الهمداني، ص٢٠.
٣٢  العقد الفريد ج٤، ص٢٦٨-٢٦٩.
٣٣  الهمداني، ص٢٤. والأخبار الطوال، ص٣٢٩.
٣٤  الولاة والقضاء، ص٧١-٧٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤