الفصل الرابع

ثورة الفيزياء الكبرى من منظور فلسفة العلم

أولًا: الكوانتم١

في فاتحة القرن العشرين، وبالتحديد في السابع عشر من ديسمبر العام ١٩٠٠م، في جلسة الجمعية الفيزيائية التابعة لأكاديمية العلوم في برلين، أعلن ماكس بلانك M. Plank (١٨٥٨–١٩٤٧م) فرض الكوانتم العبقري، ولحقت به نظرية النسبية لآينشتين بعد سنوات خمس. هذه البداية الحاسمة تجعل القرن العشرين متميزًا كوحدة فريدة ونقطة تحول في مسار العلم، فلم تكن بدايته مجرد مسألة تقويم ميلادي أو تعدادًا في تواريخ الأيام، بل هي مستهل طريق جديد في البحث العلمي، وطريق جديد بكل معاني الجدة المتمايزة عن المألوف والقديم. إنه طريق شقته ثورة كبرى تقوم بصفة أساسية على دعامتين هما نظرية الكوانتم ونظرية النسبية.
سرعان ما أثبتت سنوات القرن العشرين وعقوده كم كانت هذه الثورة مباركة، وكم كان الانقلاب الذي أحدثته في مسلمات العقل العلمي ومنظوره ورؤاه انقلابًا إيجابيًّا ممثلًا لمرحلة أعلى من تطور التفكير العلمي، وكم كان طريقها الجديد مثمرًا واعدًا، وحقَّ اعتباره طريقًا للظفر العلمي المبين. فقد انتهى القرن العشرون متوجًا بحصاد علمي يتيه به على القرون أجمعين، تفجرت فيه الطاقة التقدمية للعلوم الطبيعية، وفاقت كل معدلات التقدم المعهودة من قبل، وبمجرد أن انتهى نصفه الأول قيل: إن «أكثر من ثلاثة أرباع علم الفيزياء المعروف لنا اليوم قد أنتجه القرن العشرون»،٢ وفي نصفه الثاني تضاعف هذا النتاج. ولحقت بالفيزياء — وهي العلم الطبيعي الأم — بقية أفرع العلوم الطبيعية، ونشأت فروع أخرى ولا تزال تنشأ في حركية تقدمية دافقة، تبدو فيها الفيزياء وكأنها ظلت طوال القرن العشرين محتفظة بدماء الثورة، ومحورًا تدور حوله فلسفة العلم.

ومنذ البداية تصدر فرض الكوانتم طليعة المد الثوري، فما هو الكوانتم؟

لكي نجيب على هذا السؤال، لا بد من العود إلى المشكلة العلمية التي تقدم فرض الكوانتم لمحاولة حلها، ثم تعاظم أمره فيما بعد، وتلك المشكلة لم تكن مجرد مشكلة، بل كانت معضلة في إطار أزمة الفيزياء الكلاسيكية زادت من حدة الأزمة، يمكن أن نسميها «الكارثة فوق البنفسجية نسبةً إلى الأشعة فوق البنفسجية».

إن عائلة الإشعاع الكهرومغناطيسي رحيبة جدًّا، تمتد بطول الكون وعرضه، ويمكن تصنيفها تبعًا لصغر طول الموجة كالآتي: الأشعة الكونية – أشعة جاما – الأشعة السينية – الأشعة فوق البنفسجية – الأشعة المرئية «وهي الضوء بالمعنى المعتاد للكلمة» – الأشعة تحت الحمراء – ذبذبات الراديو. وتنبعث الأشعة تحت الحمراء بفعل التأثير الحراري للمصباح أو الموقد أو اللهب أو الشمس أو النجوم البعيدة … إلخ. وقد وضعت الفيزياء الكلاسيكية قوانين للإشعاع الحراري، نشير الآن إلى اثنين مألوفين في التجربة اليومية للحس المشترك:
  • (١)

    كلما سُخِّن الجسم ازداد سطوعه.

  • (٢)
    يتغير لون التوهج بازدياد درجة الحرارة.٣
ولكن ظهر للأجسام السوداء خاصية القدرة على امتصاص أشعة الضوء، كما للفلزات خاصية عكسها، فقرر الفيزيائيون اختيار الأجسام السوداء في بحثهم عن الجسم المثالي لتكون عاملًا قياسيًّا، فالجسم الأسود يمتص الإشعاع الكهرومغناطيسي، وهذا يعني أنه يُسخن بواسطته إلى أعلى درجة حرارة بالنسبة للأجسام الأخرى، والعكس صحيح فالجسم الأسود يصبح عند التسخين لدرجة حرارة عالية مصدرًا للضوء وتنبعث منه الإشعاعات في درجة الحرارة العالية بقوة أكبر من جميع الأجسام الأخرى. إذن فباستعمال الجسم الأسود يمكن وضع قوانين الإشعاع الحراري الكمية بأفضل شكل. وتمثلت هذه القوانين في قانونين، الأول وضعه العالمان ستيفان وبولتسمان، وينص على أن الطاقة التي تنبعث من الجسم الأسود في كل ثانية على صورة إشعاع حراري يتناسب مع الأس الرابع لدرجة حرارته المطلقة،٤ وتحسب درجة الحرارة المطلقة ابتداء من ٢٧٣ مئوية تحت الصفر فأعلى. أما القانون الثاني فقد وضعه العالم النمساوي فين W. Wien، وينص على أنه: بارتفاع درجة حرارة الجسم الأسود فإن طول الموجة المناظرة لأقصى سطوع للضوء المنبعث منه يجب أن يكون أقصر وتنحرف باتجاه القطاع البنفسجي من الطيف الضوئي.٥
وكان كل شيء يسير على ما يرام؛ إذ تشهد الوقائع بالصحة الكاملة لكل قانون منهما على حدة، بيد أن الأزمة التي وصلت إلى حد الكارثة جاءت من إجراء بسيط قام به الفيزيائيان الإنجليزيان رايلي Rayleigh، وجينز Jeans؛ ليصلا إلى القانون الشامل الذي يجمعهما معًا ومؤداه: قوة الإشعاع المنبعث من جسم ساخن تتناسب طرديًّا مع درجة حرارته المطلقة وعكسيًّا مع مربع طول الموجة الضوئية المنبعثة منه. وبدا أن هذا القانون يتوافق تمامًا مع المعطيات التجريبية، ثم اكتشف العلماء أن التوافق يحدث فقط في نطاق الموجات الطويلة من الطيف المرئي وهي الأخضر والأصفر والأحمر. ولكن قانون رايلي/جينز لا ينطبق على الموجات القصيرة عند الاقتراب من الأشعة الزرقاء والبنفسجية وفوق البنفسجية. على هذا يتبع قانون رايلي/جينز الشامل أنه كلما قصرت الموجة كلما ازدادت شدة الإشعاع الحراري، بيد أن شيئًا من هذا لم يحدث إبان التجربة، والأدهى أن شدة الإشعاع يجب أن تنمو بغير حدود عند الانتقال إلى موجات أقصر وأقصر، وبالطبع، هذا لا يحدث فيستحيل أن يوجد نمو غير محدود في شدة الموجة، لا شيء في الطبيعة غير محدود باستثناء الكون نفسه؛ لذلك عندما يفضي قانون فيزيائي إلى اللامحدودية فمعنى هذا أن نهايته قد حلت.٦

أصبح هذا المأزق الناجم عن نظرية الإشعاع معروفًا باسم الكارثة فوق البنفسجية؛ لأنها بخلاف ما تصور الجميع لم تكن أزمة قانون واحد، بل أزمة التصور الفيزيائي الكلاسيكي بأسره.

هكذا كانت المشكلة التي حاول ماكس بلانك حلها هي إيجاد رابطة بين قانون بولتسمان/ستيفن وقانون فين، بطريقة مختلفة تؤدي إلى نتائج معقولة، وبعد أبحاث عدة، وجد بلانك المعادلة التي تربط بينهما، بطريقة تحول دون الكارثة فوق البنفسجية. بيد أن هذه المعادلة كانت متورطة في مصاعب عديدة، تتلخص في أنها تأبى الخضوع للأطر الحتمية، أطر الفيزياء الكلاسيكية بينما تتجاوب تجاوبًا رائعًا مع المعطيات التجريبية، وكان هذا موقفًا تراجيديًّا وجد بلانك نفسه فيه فماذا يفعل؟ هل يأخذ بمنظور العقيدة الحتمية ويُحارب الوقائع؟ أم يقف في صف الحقائق ويُحارب النظرة القديمة؟ وقد اختار بلانك البديل الثاني.

كانت الفيزياء الكلاسيكية كما أشرنا تقوم على مبدأ بقاء الطاقة، وترى أن الجزيئات تتبادل الطاقة عند اصطدامها مع بعضها، وإن كانت قد وجدت ضربًا آخر من الطاقة، لا علاقة له بحركة الجزيئات ويسمى بطاقة الحركة الموجية. ومنذ أن وضع ماكسويل معادلاته الكهرومغناطيسية تحتم على طاقة الإشعاع الضوئي — خصوصًا ذات الأصل الحراري — أن تخضع للقوانين العامة للموجات، وهذه الطاقة أيضًا مستمرة منتشرة مع الموجة المتحركة، وكان الفيزيائيون على أية حال يسلِّمون تسليمًا بأن المادة يمكن تقطيعها أجزاء صغيرة، حتى نصل إلى حد الجزيء والذرة وما هكذا الطاقة. بيد أن تطورات العلم، قد أفصحت عن أن «أية محاولة لاعتبار سيل Flow، الطاقة Stream عينيًّا، على الفور تدحض نفسها».٧ حتى جاء ماكس بلانك، فقال: إن الأجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها، لا باستمرار كسيل، بل على كمَّات أو كوانتات حسب المصطلح الذي اختاره «كوانتم وهو كلمة لاتينية تعني كمية أو وجبة»، وكوانتم الضوء بمثابة قطاع ضئيل للغاية من الطاقة إدراكه ليس أسهل من إدراك الذرة. وهذا الكوانتم الذي استحدثه بلانك هو الوحدة الأولية للضوء وللطاقة، يناظر الذرة بوصفها الوحدة الأولية للمادة. وبهذا غزا المنظور الذري الضوء تحت قيادة بلانك.
كل إشعاع — وبالطبع ضمنه الضوء — يخضع لتحكم أعداد صحيحة من وحدة الطاقة الأولية، أي من الكوانتم، فتغدو الطاقة مؤلفة من وحدات أولية، هي الكوانتات جمع كوانتم، وحينما تنبعث الطاقة أو تستوعب، ينتقل كوانتم واحد أو اثنان أو مليون كوانتم، لكن لا يكون ثمة أبدًا جزء أو كسر من الكوانتم، الكوانتم بمثابة ذرة الطاقة، ولكن مع ملاحظة أن حجم هذه الذرة، أي مقدار وحدة الطاقة، يتوقف على طول موجة الإشعاع الذي ينتقل به الكوانتم، فكلما كان طول الموجة أقصر كان الكوانتم أكبر؛٨ إذن يختلف كوانتم الطاقة في مقداره باختلاف أنواع الإشعاع، وبينما نعرف عددًا معينًا من الذرات يحددها الجدول الدوري لمندليف، ثمة عدد لا محدود من الكوانتات.

وها هنا نصل إلى اكتشاف بلانك الفائق الأهمية بخصوص مقدار الكوانتم وسيبدو مؤقتًا بطلًا متواضعًا للنجاة من الكارثة فوق البنفسجية، كوانتم الطاقة — كما ذكرنا — يختلف باختلاف أنواع الإشعاع، فكلما قصر طول موجة الضوء، أي كلما ازداد ترددها، أو بعبارة أخرى كلما كانت أكثر بنفسجية، كلما ازداد كوانتم الضوء، ويعبر عن هذا رياضيًّا بعلاقة بلانك بين التردد وبين طاقة الكوانتم:

أو ط = ھ د.
«ط » ترمز للطاقة energy و«د » للتردد، أما «ھ» فمعامل التناسب، وهو ثابت في جميع أنواع الطاقة المعروفة حتى الآن؛ لذلك يُعرف بثابت بلانك، «أو كوانتم الفعل» وهو ضئيل للغاية تبلغ قيمته: ٦٫٥٥–١٠−٢٧ أرج في الثانية، «أي الرقم ٦٫٥٥ مقسومًا على واحد أمامه سبعة وعشرون صفرًا»، ولما كان هذا ثابتًا، كانت الطاقة ط تتغير فقط بتغير التردد د، أي بالتوغل في المنطقة فوق البنفسجية، وعلى هذا النحو تنحل ببساطة الكارثة فوق البنفسجية، التي أتت من الجمع بين قانونين؛ هما قانون بولتسمان/ستيفن وقانون فين، في قانون واحد هو قانون رايلي/جينز.
هذه العلاقة المعجزة ط = ھ د، لا يمكن إطلاقًا إثباتها بأي استنباط منطقي، شأنها في هذا شأن قانون التثاقل «أي الجاذبية» النيوتوني.٩ إنها مثله طريق جديد طرحته العبقرية الخلاقة، ويفضي إلى طرق تزداد رحابة كل يوم، حتى إنها المنعطف الجذري — بألف ولام التعريف — أي المفرد العلم في دنيا العلم الذري.
ليست الكوانتم مجرد حل لمشكلة إشعاع الأجسام السوداء، أو حتى لأية مشكلة معينة، حقًّا إنها محض نظرية عن أو حول الطبيعة الفيزيائية للإشعاع، ولكن ما أدراك ما الإشعاع! وقد تفاقم أمره حتى استحال الكون بأسره إلى مجموعة من الإشعاعات، كل شعاع منها يتملك زمامه تمامًا الكوانتم، إنها إبداع جديد كل الجدة، سرعان ما أتى السير فيه بالثمار التي تفوق الحصر والخيال، «وفي كل ظاهرة تدرسها الفيزياء في القرن العشرين يثبت فرض الكوانتم منذ أولى تطبيقاته كل ما يؤيده ويعززه، كل تطبيق يفضي إلى صياغة يظهر فيها ثابت بلانك «ھ» بحيث إن مقارنة هذه الصياغة بالنتائج التجريبية تكون دائمًا مقارنة نشتق منها «ھ»؛ أي ثابت بلانك، كوانتم الفعل، وكل قيم «ھ» التي حصلنا عليها من دراسة ظواهر شديدة التباين والاختلاف كانت على اتفاقٍ جلي، إنها نفس القيمة التي حددها بلانك».١٠ والنتيجة أن دخل الكوانتم في صلب العلم بالعالم الذري.

إن ثبات هذا الثابت هو مناط عظمته المدهشة، وعلى الرغم من أن الظواهر الذرية كانت مطروحة للدراسة المظفرة المطردة النجاح، وموضوعًا للعلم الذي يستأثر بأعظم العقول قبل أن يضع بلانك ثابته وفرض الكوانتم بسنوات عديدة، فإن كشف بلانك بلا جدال أعظم إنجاز في ميدان الذرة والأكثر أصالة وعبقرية، وكما يقول لويس دي بروي، لم يكن محض منبه أو دافع للفيزياء الذرية التي شهد القرن العشرون بأنها أكثر فروع العلم حيوية وطموحًا، ولكنه أيضًا وبلا جدال قد وسع الآفاق، وطرح عديدًا من أساليب الفكر الجديدة ستظل نتائجها العميقة في المستقبل الرحيب للفكر البشري. وأدرك الفيزيائيون أنهم بغيرها كانوا سيظلون عاجزين عن فهم واستيعاب أي شيء بخصوص الطبيعة الحقة للظواهر الفيزيائية، لا ظواهر الضوء ولا ظواهر المادة. وفيما بين عامي ١٩٠٠ و١٩٣٠م انضافت إلى إنجاز بلانك العبقري جهود كوكبة من ألمع عقول القرن العشرين، أمثال آينشتين نفسه ونيلز بور وإيرفين شرودنجر ولويس دي بروي وفيرنر هيزنبرج وماكس بورن وبول ديراك، فأصبح الكوانتم نظرية شاملة تحكم قبضتها على عالم الإشعاع والذرة، العالم المتناهي في الصغر، الذي تعجز فيزياء نيوتن الكلاسيكية عن التعامل معه، ولن تجد أية همزة وصل بينه وبين حتميتها الميكانيكية البائدة. إن عالم الكوانتم والذرة والإشعاع عالم لا حتمي، وهذا انقلاب جذري في إبستمولوجيا العلم، من النقيض إلى النقيض، من الحتمية إلى اللاحتمية.

وبهذا الانقلاب كان استيعاب أزمة الفيزياء الكلاسيكية التي أتت من ظواهر وعلاقات فيزيائية تأبت على الإطار الحتمي. وفي عرض تلك الأزمة، رأينا النظرية الحركية للغازات وكيف ظهرت الميكانيكا الإحصائية، وقد واجهت مشكلة التجزئة المتساوية Equipartition للطاقة على النحو التالي: في أي نظام ميكانيكي ذي عدد كبير من الأجزاء، نجد هذه الأجزاء في حالة توازن أو تعادل حراري Thermal equilibrium في درجة الحرارة الثابتة، بحيث تكون طاقة الاضطراب الحراري مقسمة بالتساوي على الدرجات المختلفة للحرية — أي القابلية للحركة — في النظام.١١ وهذه نظرية إحصائية، لكن ما زالت مرتبطة بالمبادئ الكلاسيكية، وقد أثبتت نجاحها إلى حد معقول، إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود خلق مشكلة في نظرية التجزئة المتساوية للطاقة، فكيف أتت هذه المشكلة؟
في الإجابة على هذا نلاحظ أنها ذات علاقة بقانون رايلي/جينز الذي أدى إلى الكارثة فوق البنفسجية. ومن ناحية أخرى، ترى فيزياء الجوامد أن الذرات في الجسم الجامد المتجانس تأخذ مواضعها من التوازن، بحيث تظل غير قابلة للتزحزح ما لم يكن ثمة اضطراب حراري، وتتذبذب الذرات — كنتيجة للاضطراب الحراري — عن مواضعها الأصلية من التوازن، بشدة تتزايد كلما ارتفعت درجة الحرارة، ولكل الذرات هنا نفس متوسط الطاقة، وهذا المتوسط مكَّن الميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية من استنباط النتيجة التالية: الحرارة النوعية الذرية لأي جسم جامد (كمية الحرارة التي تلزمه لكي ترتفع حرارة جرام واحد منه درجة حرارة واحدة) معادلة لما يقرب من ٦ سعرات حرارية، وهذا القانون يُعرف بقانون دولون وبيتي Dulong & Patit باسم واضعيه. وقد بدت صحته إلى حد كبير، ولكن ظهرت جوامد معينة خصوصًا الجوامد شديدة الصلابة كالماس لها حرارة ذرية نوعية أقل من ستة سعرات حرارية. وبالنسبة لكل الأجسام الجامدة إذا انخفضت درجة الحرارة ستأتي نقطة يسقط معها قانون دولون وبيتي؛ إذ تصبح الحرارة النوعية أقل مما قدَّرا، مما يعني مشكلة تهز دعائم فرضية التجزئة المتساوية للطاقة.
أما نظرية الكوانتم فقد فسرت هذه الظواهر الشاذة تفسيرًا جيدًا، فدرأت مثلمة قانون دولون/بيتي مثلما درأت مثلمة قانون رايلي/جينز، وأحرزت بدقة فائقة هدف تحاشي التجزئة المتساوية للطاقة؛ ذلك أن ذرات الجسم الجامد تهتز فعلًا عن مواضعها من التوازن بتردد يعتمد على كتلتها وعلى شدة القوة المتجددة، وتبعًا لفرض الكوانتم، يكون تذبذب الذرة معادلًا لما لا يقل عن كوانتم واحد من الطاقة مناظرًا لتردد التذبذب، فإذا كان الاضطراب الحراري يستطيع بصعوبة بالغة أن يمد الذرة فقط بالكوانتم الذي تحتاجه لكي تهتز، لن تتحرك الذرة عن موضعها ولن تحدث التجزئة المتساوية. كوانتم التذبذب بالنسبة لذرات عدد كبير من الجوامد صغير جدًّا لدرجة أن الاضطراب الحراري في درجات الحرارة العادية، يمكنه بسهولة تزويد الذرات به، فتحدث التجزئة المتساوية للطاقة وينطبق قانون دولون وبيتي. ولكن بالنسبة للأجسام شديدة الصلابة كالماس، نجد أن كوانتم التذبذب كبير، حتى إن التجزئة المتساوية لا يمكن أن تحدث في درجات الحرارة العادية؛ لهذا ينهار قانون دولون وبيتي. وأخيرًا كلما انخفضت درجة الحرارة ستأتي نقطة حيث لا يعود الاضطراب الحراري كافيًا — بالنسبة لكل الجوامد — ليزود كل الذرات بما تحتاجه من كوانتم للتذبذب، ونتيجة لهذا تسقط الحرارة النوعية دون معدلها العادي،١٢ وهكذا يحل الكوانتم المشكلة ببساطة ويبقى ليحكم الميدان.
لقد استطاع الكوانتم أن يحل هذه المشكلة أو تلك في هذا الميدان أو ذاك؛ لأنه استطاع قبلًا أن يجتاح العالم الذري بأسره، ففي عام ١٩١٣م كان مفهوم بلانك الألمعي المدهش قد تدعم بالعديد الجم من الوقائع، وفي هذا الوقت جاء أهم تطبيق للكوانتم؛ وهو نظرية الذرة عند نيلز بور Niels Bohr (١٨٥٥–١٩٦٢م)، حيث توحد أخيرًا اتجاها التطور: اتجاه نظرية الذرة واتجاه نظرية الإشعاع؛ إذ رأى بور أن الوصف الكامل للظواهر يتطلب كليهما، بعد أن كانت الفيزياء الكلاسيكية ترى أنهما يستبعدان بعضهما، فالظاهرة إما ذرة وإما إشعاع. رفض بور هذا، ووضع مبدأه المعروف باسم مبدأ التكامل Complementary الذي لبى الاحتياج لكلا المفهومين بغير أن يتصادما أو يتعارضا، بل يتحدا ويتآلفا.
كان قد اتضح أن الذرة ذاتها ينبغي أن تعد مجموعة من الجسيمات الأصغر منها، والتي مع هذا تتماسك بقوة تجعل الذرة تسلك بالنسبة لجميع التفاعلات الكيميائية كوحدة ثابتة، فكانت الفيزياء النظرية السابقة على عصر الكوانتم تعلم أن للذرة تركيبًا داخليًّا هو ذلك الذي قام به العالم الروسي مندلييف في أواخر القرن التاسع عشر، ثم ربط العالم الإنجليزي إرنست رذرفورد بين هذه الكشوف الكيميائية وبين كشف الإلكترون، ووضع الأنموذج الكوكبي الشهير للذرة بوصفها مؤلفة من نواة يدور حولها عدد معين من الإلكترونات، كأنها الكواكب تسير في مداراتها. والعلماء بالطبع لا يستطيعون اختراق الذرة، ولكن يكشفون عن بنيتها عن طريق ملاحظة الظواهر الناجمة عن هذه البنية، ومن بين هذه الظواهر أطياف الأشعة الكهرومغناطيسية التي تنبعث من الذرة أو من مكوناتها تحت ظروف اضطراب حراري أو كهربي معينة، وهذه الأشعة تُعد بحق مميزة للذرة التي تنبعث عنها، فهي تُناظر الأحداث التي تحدث داخلها فيمكن أن تعلمنا الكثير عن بنية الذرة، من هنا كان تصنيف الأطياف ودراستها دراسة منهجية هي مهمة كبرى للفيزيائيين، وقاموا بجهود ضخمة في هذا الصدد ووصلوا إلى نتائج هامة، وهذا منذ أن تمكن هيرشيل في عام ١٨٣٢م من التمييز بين المواد الكيميائية المختلفة عن طريق معرفة الأطوال الموجبة للضوء المنبعث منها. وفي السنوات التالية لذلك تمكن العالمان الألمانيان روبرت فيلهلم بانسين وجوستاف روبرت كيرتشوف من تصنيف أطياف عدد كبير من الموجات وتسجيلها في كتالوجات خاصة. وفي عام ١٨٦٨م درس الفلكي الإنجليزي جوزيف لوكير الطيف الشمسي المجهول واكتشف غاز الهيليوم، كما أنه درس بالتفصيل طيف ذرة الهيدروجين،١٣ وتوالت الجهود المماثلة. وكما يقول لويس دي بروي، بدت الأفكار الكلاسيكية عاجزة تمامًا عن تفسير القوانين الطيفية التي نجح الفيزيائيون بعد جهد ومثابرة في استخلاصها.
وكان طوق النجاة في نظرية الكوانتم، ألقى به نيلز بور، وهو دانمركي، لكنه سافر عام ١٩١٢م — بعد حصوله على الدكتوراه — إلى إنجلترا وعمل في كمبردج مع ج. طومسون ثم اتجه إلى مانشستر وعمل مساعدًا لرذرفورد، وقبل أن يعود إلى كوبنهاجن عام ١٩١٦م، وبالتحديد في عام ١٩١٣م طرح نظريته التي توضح أن أنموذج الذرة عند رذرفورد ينبغي أن يرتبط بكوانتم الطاقة عند بلانك،١٤ فالإلكترونات لا يمكنها إلا أن تدور في مدارات تقع على مسافات محددة معينة من المركز، وهذه المسافات محددة بحيث إن الطاقة الميكانيكية التي يمثلها كل مدار، إما أن تكون كوانتم واحدًا أو اثنين أو ثلاثة، وهكذا دواليك، فأدى إدخال بور لفرض الكوانتم إلى نجاح مذهل في إيضاح ما لوحظ من وقائع القياس الطيفي الناتجة من دراسة الأشعة المنبعثة عن الذرة، أو لسلسلة الأطياف الإشعاعية التي تميز كل عنصر على حدة. ومن ناحية أخرى، كان هذا نقطة البداية التي أدت إلى توليد أشعة الليزر، أي التضخيم الضوئي عن طريق الانبعاث التحريضي للإشعاع. وقد تعاظم أمر الليزر في النصف الثاني من القرن العشرين، حتى سُمي «شعاع القرن» وبدا حلًّا ينتظر أية مشكلة.

طرح بور نظريته في الذرة عام ١٩١٣م، كما ذكرنا، والسنوات التالية وحتى عام ١٩٢٥م وبزوغ ثورة الكوانتم الثانية مع هيزنبرج، شهدت تطبيقًا وتعميقًا لنظرية بور، بحيث تقدم تفسيرًا للتركيب الذري لكل عنصر على حدة. وقد أدى إنجاز نيلز بور العظيم في فيزياء الأطياف إلى توحيد بين الذرة والإشعاع، سوف يتعاظم شأنه مع الميكانيكا الموجية، وسنصل إليه عبر انتصار آخر للكوانتم في الظاهرة الكهروضوئية.

كان تطبيق الكوانتم في دراسة التأثير الكهروضوئي أسبق زمانيًّا من نظرية بور، وأول لفت للأنظار إلى اتساع مداها، وكان هذا على يد ألبرت آينشتين، وعنه لا عن نظرية النسبية حصل على جائزة نوبل! فقد خرج بنتائج عظيمة حين توسع في تطبيق نظرية بلانك واعتبر الضوء يتألف من حزم من الموجات يحمل كل منها كوانتم واحدًا من الطاقة، لكن ما هو التأثير الكهروضوئي أو الظاهرة الكهروضوئية؟

عندما تصطدم حزمة من الأشعة الضوئية أو من الأشعة فوق البنفسجية بسطح معدني تنطلق منه إلكترونات، وهذا ما يُسمى بالظاهرة الكهروضوئية ولا يحدث انبعاث الإلكترون إلا لأشعة يتجاوز تردد موجاتها قدرًا معينًا، دونه لا يمكن أن يُحدث الضوء أي تأثير كهروضوئي، ويجب افتراض أن الطاقة الكهروضوئية تتكثف في نقطة معينة من سطح الموجة بحيث تتمكن من انتزاع الإلكترونات من المعدن. على ذلك فالظاهرة الكهروضوئية، تقتضي وجود حبيبات للطاقة وجسيمات للضوء، وكان آينشتين أول من أدرك هذا، فقدم الصياغة الآتية:

أو ھ د = ط + ١ / ٢ ك س٢.
وهي صياغة يسهل فهمها على أنها تطبيق لمبدأ الطاقة «ط = ھ د» حيث ھ ثابت بلانك، وھ د حاصل ضربه في تردد الضوء، وط طاقة جسيم الضوء، وعندما تصطدم هذه الطاقة بالمعدن تعمل على انتزاع الإلكترون من المجال الكهربي الذي توجد فيه الطاقة ط، وفي إعطاء الإلكترون القوة الكبيرة ١ / ٢ ك س٢، حيث ك كتلته وس سرعة خروجه، وتُسمى كمية الطاقة المضيئة «الكوانتم» في هذه الحالة بالفوتون. الفوتون هو الجسيم في كل إشعاع، هناك فوتونات الأشعة السينية وفوتونات الأشعة تحت الحمراء وهكذا.١٥

وليس الأمر مجرد تطبيق للكوانتم الذي فرغنا من شأن نجاحه الخفاق، بل نحن بإزاء ثورة فرعية؛ إذ كان العلماء منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر — كما سنرى — قد طردوا التفسير الجسيمي لطبيعة الضوء واجتمعوا على التفسير الموجي له. لكن آينشتين يعود ومعه التفسير الجسيمي من جديد. إن الفوتون هو الكوانتا، هو الجسيم في الإشعاع كمتميز عن الموجة، وإذا كان كل جسيم له كتلته، فإن الفوتون كتلته صفر، وكان الفوتون من الكيانات التي أدت إلى الانقلابة الجذرية في إبستمولوجيا العلم، وإلى أقوى وأرسخ تصور للاحتمية، وهو الميكانيكا الموجية.

نشأت الميكانيكا الموجية البارعة حين أصبح من الضروري في حالة الضوء — كما هو في حالة المادة — أن نضع موضع الاعتبار الأمواج والجسيمات معًا، لكي نحصل على نظرية تخليقية فريدة قادرة في نفس الوقت على تفسير النواحي الجسيمية والموجية التي تعرضها خواص الضوء،١٦ فكانت الميكانيكا الموجية على يد رائدها الفرنسي لويس دي بروي وتطويرها مع النمساوي إيرفين شرودنجر I. Schrodinger (١٨٨٧–١٩٦١م) وسواه لتقوم بهذه المهمة.
فقد أدت دراسة الظاهرة الكهروضوئية إلى قوانين لا تتفق مع التصور الموجي للإشعاع، بينما أثبتت فكرة آينشتين بأن الضوء يتكون من جسيمات هي الفوتونات خصوبتها، ومهدت السبيل — طبعًا بفضل يعود إلى الكوانتم الداخل في صلبها — إلى تفسير وقائع حاسمة عجزت النظرية الموجية عن تفسيرها، مثلًا وجود حد أعلى للترددات في الأشعة السينية و«تأثير كومبتون». إن تأثير كومبتون هو الكشف الذي توصل إليه العالم الفيزيائي الأمريكي آرثر هولي كومبتون A. H. Compton١٧ (١٨٩٢–١٩٦٢م)، ويُعد من أهم تعزيزات نظرية الكوانتم وتطبيق آينشتين لها، ومن أدق البراهين على فرضية الفوتون. لقد درس كومبتون التأثير الكهروضوئي حينما ينتج عن الأشعة السينية؛ ليثبت أن هذه الأشعة بدورها وحدات فوتونية هي كوانتات. وكان من المعروف أن الأشعة إذا اصطدمت بجسم معدني، فإن جزءًا من هذه الطاقة يتشتت في كل الاتجاهات على صورة أشعة مشتتة،١٨ فدرس كومبتون الأشعة السينية والأشعة السينية المشتتة، ووضع عام ١٩٢٣م نظريته المعروفة باسم «تأثير كومبتون» ومفادها اختزال أو تخفيض طاقة الفوتون كنتيجة لتبادله الفعل مع إلكترون حر، ذلك أن جزءًا من طاقة الفوتون ينتقل إلى الإلكترون (الإلكترون المرتد أو إلكترون كومبتون)، وجزءًا يتوجه ثانية بوصفه فوتون الطاقة المختزلة (بعثرة scatter كومبتون)،١٩ هكذا نجد هنا ظاهرة تقتضي التفسير الجسيمي للضوء والإشعاع، ولكن ظاهرة التداخل مثلًا وهي من أهم خواص الإشعاع ستظل أولًا وأخيرًا خاصية موجية، وتظل الموجة متميزة بها عن سيال الجسيمات، ومثلها أيضًا ظاهرة الحيود في الضوء،٢٠ والخلاصة أن بعض الظواهر تقتضي تفسيرًا جسيميًّا للضوء والإشعاع وبعضها الآخر يقتضي تفسيرًا موجيًّا.

بدا وكأنه لا توجد وسيلة للتوفيق بين النظرتين المتناقضتين، حتى تقدم لويس دي بروي في رسالته للدكتوراه عام ١٩١٧م — التي أنجز بعض فصولها في خنادق الحرب العالمية الأولى — وأعلن أن الضوء مكون من جسيمات ومن موجات، ولأول مرة نقل هذه الفكرة إلى ذرات المادة، فأصبح كل جسيم صغير من المادة مقترنًا بموجة على أساس رياضي دقيق، هكذا بدأ العقل العلمي عصر التفكير المزدوج، وأصبحت طبيعة الضوء جسيمية وموجية في آن واحد، وكذا المادة، ويخبرنا دي بروي أن هذا أمر قد يبدو بالغ الصعوبة إذا فكرنا بمفاهيم الفيزياء الكلاسيكية وبحثنا عن الحتمية، ولكنها تبدو واضحة وبسيطة عندما نُدخل الاحتمالات بصورة منتظمة في صلب الظواهر الأولية، ونضع موضع الاعتبار في وصف الظواهر نواحي تكميلية معينة، فالمادة التي افترضها دي بروي هي توزيع لاحتمال وجود الفوتونات على المكان، بحيث إن فكرة الاحتمال هنا أساسية.

وبفضل توالي أبحاث العلماء تجددت في عام ١٩٢٧م بالنسبة إلى الإلكترون الثنائية الموجية الجسيمية التي ثبتت في عام ١٩١٧م بالنسبة للضوء، فلم تقتصر على الضوء، بل توسع هذا الازدواج بين الأمواج والجسيمات حتى يشمل كل عناصر المادة وعلى الأخص الإلكترونات، فطبقت على كل عناصر المادة تصورات الاحتمال واللاحتمية، وعدم التحديد واللافردية والمظاهر التكميلية.٢١

والآن لم يعد ثمة تعارض بين المادة والطاقة، أو الذرة والإشعاع، ولا من أن الطاقة مع بقائها دائمًا يمكن أن تنتقل من حالة المادة إلى حالة الضوء والعكس، ونعلم اليوم أن هذا هو الواقع بالفعل، فقد أصبح الضوء باختصار أنقى أشكال المادة وأكثرها تحررًا من القصور والشحنة. لقد سقط الحاجز الذي بدا كما لو كان فاصلًا بين الضوء والمادة، في حين أنهما معًا ليسا إلا مظهرين مختلفين للطاقة، يمكن أن يأخذ أحدهما مظهر الآخر.

فتحت الميكانيكا الموجية الباب اللاحتمي على مصراعيه؛ لتنطلق الفيزياء في طريق التقدم بسرعة مذهلة، فجاء إيرفين شرودنجر عام ١٩٢٥-١٩٢٦م؛ ليأخذ بآراء دي بروي، ويضع معادلة تفاضلية أصبحت أساسًا رياضيًّا في نظرية الكوانتم، وأتاحت لعالم الفيزياء أداة رياضية قوية، ثبت بها الاتحاد بين صورتي الميكانيكا الجديدتين: ميكانيكا الكوانتم والميكانيكا الموجية.

كان دي بروي يعتقد أن ثمة جسيمات تصحبها موجات، أما شرودنجر فكان يعتقد أنه يستطيع الاستغناء عن الجسيمات، وأنه لا توجد إلا موجات تتجمع في بقاع صغيرة معينة فينتج عنها شيء يشبه الجسيم، ومن ثم قال بوجود حزم موجية تسلك على نحو شبيه بالجسيم، ولكن بعد أن اتضح أن الرأيين لا يمكن قبولهما معًا، اقترح ماكس بورن Max Born الفكرة القائلة: إن الموجات لا تمثل أكثر من احتمال، فتعمقت جذرية التحول اللاحتمي في الذرة. الكيانات الأولية جسيمات لا تتحكم في سلوكها قوانين علية إنما قوانين احتمالية، وواصل فيرنر هيزنبرج السير في هذا الطريق، فبين أن هناك قدرًا محددًا من اللاتعين أو اللاتحدد أو اللايقين، فيما يتعلق بالتنبؤ بمسار الجسيم. وبفضل كشوف بورن وهيزنبرج، تمت الخطوة الأخيرة في الانتقال من التفسير العلي الحتمي إلى تفسير إحصائي للعالم الأصغر، وأصبح من المعترف به أن الحادث الذري المنفرد لا يتحدد بقانون علي، بل قانون احتمالي فحسب، واستعيض عن فكرة «إذا كان … فإن» التي عرفتها الفيزياء الكلاسيكية بفكرة «إذا كان فإن، بنسبة مئوية معينة»، وأخيرًا جمع نيلز بور بين نتائج ماكس بورن ونتائج هيزنبرج، فوضع مبدأ التكامل الذي أشرنا إليه سابقًا.
ومع فيرنر هيزنبرج W. Heisenberg (١٩٠١–١٩٧٦م) حدث التطور الأعظم أو الميلاد الثاني للكوانتم، وذلك حين وضع مبدأه الشهير المعروف باسم مبدأ اللاتعين Indeterminacy Principle، وهذا المبدأ بصورته العامة يأخذ في اعتباره أدوات القياس أو الأجهزة المعملية وتأثيرها على الظواهر المرصودة، فينص على استحالة التعيين الدقيق لموضع الإلكترون، وسرعته في آن واحد؛ لأننا إذا أردنا أن نحدد سرعته لا بد من إثارة الاضطراب في موضعه، وإذا أردنا تحديد الموضع لا بد من إثارة الاضطراب في سرعته، ومن ثم فإن دقة تحديد أحد الجانبين تكون على حساب الدقة في تحديد الجانب الآخر. وهذا المبدأ الذي ينطبق على جسيمات الذرة قد لا يكون ملحوظًا في الموضوعات الكبيرة، فيمكن إهماله بالنسبة للذرة ككل؛ لأنها كبيرة إلى حد ما فما بالنا بموضوعات الفيزياء الكلاسيكية، إنها من الكبر بحيث إن اصطدام شعاع الضوء بها لا يغير مسارها، أما في حالة جسيمات الذرة فإن الأمر يختلف؛ لأن التغيير الذي يُحدثه الملاحظ وأدوات الملاحظة يجعل من المستحيل قياس الوضع والسرعة معًا في نفس الوقت بنفس الدرجة من الدقة، هكذا لم يعد من الممكن إغفال أثر أدوات القياس والرصد والتجريب على الظواهر موضوع الدراسة.
وأصبح من الضروري في وصف العمليات الذرية، وضع خط فاصل واضح بين جهاز القياس الذي يمكن وصفه بالمفاهيم الكلاسيكية وبين الظاهرة دون الذرية التي تمثل دالة الموجة سلوكها. العلاقات الموجودة في كل من هذين الجانبين متميزة عن العلاقات الموجودة في الجانب الآخر، في الأول يمكن تطبيق المفاهيم الكلاسيكية أما في الثاني فلا بد من تطبيق معادلة التفاضل لميكانيكا الكوانتم، على أن وجود الخط الفاصل لا يبدو إلا في شكل علاقات إحصائية، وتأثير جهاز الدراسة على موضوعها هو إحداث إقلاق في منطقة الخط الفاصل الذي يفرض حدًّا قاطعًا على تطبيقات المفاهيم الكلاسيكية.٢٢ هكذا أعلن مبدأ هيزنبرج الخروج النهائي من العالم الميكانيكي الحتمي، وفي واضحة الضحى.
استغرق مد ثورة الكوانتم العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ثلاثين عامًا حق اعتبارها أروع وأخصب الحقب في ملحمة العلم وفي ملحمة العقل البشري إجمالًا. وهناك بعض الظواهر المحددة في العالم الماكروسكوبي — عالم الخبرة العادية — أمكن تفسيرها استنادًا على قواعد ميكانيكا الكوانتم، مثل خصائص التبلور في المواد الصلبة.٢٣ ومن ناحية أخرى كان جيمس كلارك ماكسويل قد وضع في النصف الأول من القرن التاسع عشر معادلات تفاضلية تحكم المجال الكهربي والمجال المغناطيسي على السواء، فكان التوحيد بينهما في المجال الكهرومغناطيسي. وتقوم فيزياء القرن العشرين على أربع قوى أساسية في الطبيعة؛ هي القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الشديدة والقوة النووية الضعيفة وقوة الجاذبية «أو التثاقل النيوتوني». وفي عام ١٩٧١م تمكن العلماء محمد عبد السلام وستيفن واينبرج S. Weinberg   وشلدون جلاشو S. Glashow من توحيد المجال الكهرومغناطيسي والمجال النووي الضعيف في إطار الكوانتم، فحصلوا على جائزة نوبل مشاركة عام ١٩٧٩م. ثم قُطع شوط جزئي محدود في التوحيد بين هذا وبين مجال القوة النووية الشديدة «القوية». كما يحاول العلماء التوحيد بين القوى الأربع بما فيها الجاذبية في إطار نظرية الكوانتم. ومع هذا فإن الكوانتم لم يثبت سطوته ويحكم الميدان إلا في العالم الميكروسكوبي المتناهي في الصغر، عالم الذرة وما دون الذرة، فهل يعني هذا أن ثورة الفيزياء الكبرى في مطالع القرن العشرين قصرًا على عالم الذرة؟ وظل العالم الأكبر بمنجاة عن مدها، قابعًا في أمان تحت رعاية فيزياء نيوتن الكلاسيكية؟

الواقع أن الثورة على هذا المستوى الأكبر كانت أعنف وأشد وطأة على مسلمات الفيزياء الكلاسيكية وأكثر تقويضًا لعالمها، فهذا هو ما فعلته نظرية النسبية التي وضعها ألبرت آينشتين — أول رجل في التاريخ استطاع أن يأتي بنظرية يمكن أن تحل محل نظرية نيوتن وتؤدي مهامها بصورة أكفأ وأدق.

ثانيًا: النسبية

كما كانت الكوانتم إبداعًا حقيقيًّا وطريقًا جديدًا كل الجدة، كانت النسبية هكذا، وكما بدأ ماكس بلانك من مشكلة رايلي/جينز التي أدت إلى الكارثة فوق البنفسجية، بدأ آينشتين من مشكلة تمخضت عنها تجربة ميكلسون/مورلي وأدت إلى كارثة أخرى حلت بالفيزياء الكلاسيكية، هي كارثة الأثير، أي سقوط فرض الأثير الذي اعتمدت عليه الفيزياء الكلاسيكية خصوصًا في تفسيرها الموجي للضوء والإشعاع. وفي النهاية نجحت النسبية في معالجة انتقال الضوء وحركته مثلما نجحت الكوانتم في تفسير الانبعاث الضوئي وامتصاصه «بحيث تبلورت هاتان النظريتان حول ظاهرة فيزيائية واحدة هي الأمواج الضوئية»،٢٤ وبينما بدت كتل المادة في الفيزياء الكلاسيكية كأنها تحمل سر الوجود، إن اكتشفناه فقد أحكمنا قبضة اليد على هذا الكون، فإن فيزياء الكوانتم والنسبية في القرن العشرين جعلت شعاع الضوء هو الحامل لأسرار الوجود.

والسؤال الآن: كيف حدثت كارثة الأثير التي أفضت إلى النظرية النسبية؟

على الرغم من اتساع عائلة الإشعاع، فإن الضوء خصوصًا يحتل مكان الأولوية في الطبيعة؛ لأن له سرعة لا يمكن أن يبلغها أي شيء آخر يتحرك، وكان ثمة نظريتان متعارضتان لتفسير طبيعة الضوء — كما لاحظنا فيما سبق — النظرية الجسيمية والنظرية الموجية، الأولى تشبه الضوء بمجموعة من الجسيمات المنفصلة أو القذائف الصغيرة تسير في مسارات متقاربة جدًّا، فهي تتصور المصدر الضوئي كما لو كان يقذف جسيمات مضيئة في كل اتجاه، وكان هذا هو تصور فيلسوف الذرة الإغريقية الشاعر الروماني لوكريتوس Lucretius (٩٩–٥٥ق.م) والحسن بن الهيثم وديكارت، وأيضًا نيوتن ولابلاس، الجسم المتحرك — كالقذيفة مثلًا — ينطلق في خط مستقيم، وحينما أثبت نيوتن أن الضوء ينطلق أيضًا في خط مستقيم في الوسط المتجانس اعتبره سيالا من الجسيمات يقذف بها مصدر الضوء؛ لذا عرفت نظرية نيوتن في الضوء باسم النظرية الجسيمية Corpuscular Theory of Light. ولما كان الضوء شكلًا من أشكال الإشعاع، فإن أي إشعاع سيال من الجسيمات، على أساس النظرة النيوتنية.

ولكن هذه النظرية وصلت إلى طريق مسدود بسبب ظواهر ضوئية من قبيل الانعكاس والانكسار والتداخل والحيود، الانعكاس يحول مسار جزء من الضوء، والانكسار يقطع طريقه إذا دخل في الماء أو أي وسط سائل مسببًا مظاهر للخداع البصري كأن يتغير مظهر المجداف المغموس في الماء أو يبدو النهر أكثر ضحالة. وقد توصل عصر نيوتن إلى القوانين التي تحكم هذه الظواهر، فكانوا يعرفون مثلًا أن زاوية سقوط الضوء هي زاوية انعكاسه نفسها، وفي حالة الانكسار جيب زاوية السقوط ذو نسبة ثابتة إلى جيب زاوية الانكسار.

ولكن حين يسقط شعاع الضوء على سطح ينكسر جزء من الشعاع، وينعكس الجزء الآخر مسببًا انعكاس صورة الأجسام أو انعكاس ضوء القمر على سطح البحيرة مثلًا. ونظرية نيوتن الجسيمية تفشل في تفسير هذا، فلو كان الضوء مكونًا من جسيمات لكائن أثر الماء واحدًا فيها جميعًا، وإذا انكسر مسار جسيم واحد وجب أن تنكسر جميع الجسيمات، وقد حاول نيوتن مواجهة هذا بأن يعزو إلى سطح الماء أدوارًا متبادلة من النفاذ والانعكاس Alternative fits of transmission and Reflection، مما يجعل جسيمًا معينًا ينفذ من سطح الماء، بينما يمتنع نفاذ الجسيم الآخر، فيحدث الضوء المنعكس، لكن النظرية الجسيمية واجهت صعوبة أخرى أخطر، تتلخص في أن الضوء لا يسير دائمًا في خطوط مستقيمة تمامًا، بحيث يمكن فعلًا القول: إنه جسيمات تنطلق أو تتحرك، فالأجسام الضخمة تحجب الضوء وتلقي ظلًّا، أما الجسم الصغير — كالسلك الرفيع أو الخيط أو الشعرة — لا يلقي مثل هذا الظل، إنه لا يحجب الضوء فلا نرى ظلًّا، بل نرى ما يُعرف بمناطق التداخل. وبالمثل ثمة حلقات الحيود في حالة تمرير الضوء من ثقب صغير جدًّا، وقد تصور نيوتن أن الضوء ينحني حول الأجسام الصغيرة الرفيعة، فلا تلقي ظلًّا، وبدا لعبقريته النافذة أن هذا دليل على أن الجسيمات الضوئية قد جذبتها الأجسام الصلبة، وقال إن أشعة الضوء تنحني حول هذه الأجسام كأنما هي منجذبة إليها، وأن أشد الأشعة انحناء هي الأقرب في أثناء سيرها إلى هذه الأجسام، كأنما هي الأكثر انجذابًا إليها، ولعله بهذا كان يبشر بكشوف الفيزياء في القرن العشرين، لكنه فشل في إقناع معاصريه بهذا وإعطائهم تفسيرًا مفصلًا لظاهرة الحيود في الضوء، فلم تلق نظريته الجسيمية استحسانًا.٢٥
وقُدر للنظرية الموجية في تفسير طبيعة الضوء أن تنتصر وتسود، وهي تشبه الضوء بموجات متصلة تنتشر على سطح الماء، بحيث يكون المصدر الضوئي مركز الاهتزاز الذي تتولد عنه الموجات فتنتشر بعد ذلك من حوله في كل اتجاه. لقيت النظرية الموجية مساندة قوية في «كتاب الضوء» الذي صدر العام ١٦٩٠م للفيزيائي الهولندي الكبير كريستيان هويجنز C. Huygens وهو معاصر لنيوتن ومن أقرب أصدقاء ديكارت. لكن تجارب العالم الفرنسي أوجست فرزنل A. Fresnel (١٧٨٨–١٨٢٧م) التي أجراها فيما بين العامين ١٨١٥م و١٨٢٠م بدت كأنها إثبات للتصور الموجي للضوء، وأنه هو وحده الذي يستطيع تفسير ظواهر التداخل والحيود التي عجزت النظرية الجسيمية عن تفسيرها، ويشارك فرزنل في هذا زميله فرانسوا أراجو، وإن كان يعمل بتصورات مختلفة لطبيعة الضوء وكيفية دراسته، وانفصمت عرى الزمالة بين فرزنل وأوراجو العام ١٨٢١م،٢٦ لكن توطَّد التفسير الموجي للضوء.
وإذا كان الضوء موجات تنتشر في الفضاء فيجب أن نتخيل له حاملًا هو وسط يهتز أو يتموج. وكما أن الاهتزازات الميكانيكية والصوتية هي اهتزاز للأوساط الجامدة أو السائلة والغازية التي تنتشر فيها، كذلك الضوء لا بد أن يكون اهتزازًا لوسط ما يؤدي وظيفة الحامل للموجات، أو هو فاعل الفعل يتموج. افترض العلماء الأثير Ether بوصفه هذا الوسط. والأثير فكرة يونانية قديمة، عادت إلى الظهور في العلم الحديث منذ أن رأى فيها ديكارت مادة أولية مسئولة عن الثقل وعن صفات أخرى ليست مستمدة من خاصية الامتداد في حد ذاتها، واستفاد منها كبلر ليفسر كيف تحتفظ الشمس بالكواكب السيارة في حركة، ثم لعب الأثير دورًا جوهريًّا في الفيزياء الكلاسيكية لكي يكتمل التفسير الموجي للضوء والإشعاع، ويكتمل التفسير الميكانيكي للكون بأسره، فافترضوا أن الأثير يملأ كل الفراغ أو الفضاء في الآلة الكونية العظمى، وأن كثافته أقل من الهواء، وأنه لا نهائي المرونة، وحاول العلماء محاولات مستفيضة لتحديد خواص مرونته كوسيلة للاهتداء إلى قوانين انتشار الضوء، وقدموا خواص متعارضة تمامًا، كأن نتصور مثلًا أنه صلب على الرغم من أن حواسنا لا تدركه، وأن النجوم تمرق فيه دون أن تعاني احتكاكًا أو مقاومة، وقد بذل أوجست فرزنل جهودًا مكثفة لتوطيد شأن الأثير. وعندما أصبح مألوفًا العام ١٨٦٠م — اتباعًا لماكسويل — أن ننظر إلى الضوء كما لو كان ذا طبيعة كهرومغناطيسية، سلم العلماء تسليمًا بالأثير بوصفه حامل الإشعاعات الكهرومغناطيسية أو الوسط الذي يحدث فيه انتشار الإشعاعات، وكما يقول جيمس جينز لم يتحرج العلماء من الزعم بوجود نسق من قوى الجذب والدفع والالتواء يمكن تدبيرها في الأثير كي تنتقل كل ظواهر الطبيعة خلال الفضاء، ظواهر الضوء والإشعاع وظواهر البصريات، بل وأيضًا ظواهر الجاذبية «التثاقل»، هكذا يستوعب التفسير الحتمي الميكانيكي كل الظواهر، ويبدو عالم الفيزياء الكلاسيكية — تلك الآلة الكونية العظمى — كأنه قائم على أكتاف الأثير.
ولأن الكون ليس آلة ميكانيكية بحال، لم يكن غريبًا أن تضاف إلى أزمة الفيزياء الكلاسيكية كارثة أخرى حلت بالأثير من جرَّاء تجربة قام بها — ابتداء من العام ١٨٨٦م — ألبرت ميكلسون A. Michelson، وهو من أصل ألماني وأول عالم أمريكي يحصل على جائزة نوبل (العام ١٩٠٧م)، ورفيقه إدوارد مورلي E. Morley. وتُعد تجربة ميكلسون/مورلي من أخطر التجارب في حركية العلم ومن نقاط تحوله العظمى. فما فكرة هذه التجربة، أو الفرض الذي قامت لاختباره؟

فكرتها ببساطة تأتي من أن المركب تسير في اتجاه الريح أسرع مما تسير بعكسه، كما ينشأ على جانبيها تيار من الماء يتجه عكس اتجاه سير المركب — كما هو معروف للجميع — فإذا كانت الأرض تمخر عباب الأثير، سوف ينشأ في الأثير تيار يتجه عكس اتجاه سير الأرض، ستكون سرعة هذا التيار أو هذه الريح الأثيرية المفترضة حوالي ١٨٥ ميلًا في الثانية وهي سرعة الأرض في مدارها حول الشمس، فهل لهذا من إثبات؟ من هنا جاءت تجربة ميكلسون/مورلي للتحقق من الآتي: هل سرعة الضوء في اتجاه الريح الأثيرية تتأثر إيجابًا باﻟ ١٨٫٥ ميلًا/ثانية، وسرعته ضدها تتأثر عكسيًّا بهذا المقدار؟ وأحسن طريقة لاكتشاف الفرق بين السرعتين، هي أن نأتي بشعاعين يختلفان في الاتجاه والسرعة ونجعلهما يتقابلان في نقطة لنرى طريقة تقابلهما، هذه هي الفكرة البسيطة لتجربة ميكلسون/مورلي.

فقد أقام ميكلسون/مورلي سباقًا بين شعاعين ضوئيين متعامدين، ثم أعادا السباق بعد تبادل الشعاعين وبحثا عن الانحراف في الوضع النهائي لكلا الشعاعين، فمثل هذا الانحراف يثبت وجود ريح الأثير.

والكارثة تتلخص في أنه عندما أجرى ميكلسون ومورلي التجربة لم يلحظا أي انحراف لأي من الشعاعين، ومعنى هذا أنهما لم يستدلا على وجود للأثير وأعادا التجربة في أوقات مختلفة من النهار وفي أيام مختلفة من العام، ولكن ظلت النتائج هي هي لم يستدلا على وجود أي ريح للأثير.٢٧ وبذلت أربع محاولات مختلفة كتفسيرات محتملة لفشل العلماء في الاستدلال على وجود الأثير، لكنها جميعًا كشفت عن استحالة، وفشلت فشلًا ذريعًا.

وكانت هذه هي المشكلة الكبرى، إن كل الجهود التي بذلت للاستدلال على وجود الأثير لم تفشل فحسب، بل إن أسباب فشلها متعارضة وغير واضحة، فهل يوجد الأثير أم لا؟ وإذا كان موجودًا فلماذا لا يمكننا الاستدلال عليه؟ وإذا لم يكن موجودًا فما تفسير حركة الضوء الموجية؟

إننا مضطرون إلى ترك الأثير الآلي هذا وأن نبدأ من جديد. لقد نجمت كل الصعوبات عن افتراض مبدئي مؤداه: أن كل شيء في الطبيعة — وموجات الضوء على وجه الخصوص — قابل للتفسير الآلي، وعلى الإجمال من أننا حاولنا أن نُعامل الكون كما لو كان آلية ميكانيكية، وفقًا لما أملته علينا الفيزياء الكلاسيكية.

هكذا جاء الألماني ألبرت آينشتين A. Einstein (١٨٧٩–١٩٥٥م) الموظف في مكتب براءات الاختراع ببرن في سويسرا التي هاجرت إليها أسرته؛ ليشترط على الجميع التخلي تمامًا عن فرض الأثير وعن التصور الميكانيكي للكون، ويضع نظرية عامة للحركة، أي نظرية فيزيائية بحتة بدلًا من نظرية نيوتن وأكفأ وأدق منها، وتُعد أشهر نظريات القرن العشرين طرًّا، وهي نظرية النسبية.
تنقسم النظرية النسبية إلى نظرية النسبية الخاصة التي أعلنها آينشتين العام ١٩٠٥م، ونظرية النسبية العامة التي أعلن تخطيطها في العام ١٩١٦م. النظرية الخاصة تتناول الأجسام أو المجموعات التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة ثابتة، أي حركة منتظمة من دون عجلة (فالعجلة هي مقدار التغير في السرعة)، والنظرية النسبية العامة تعالج الأجسام أو المجموعات التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة متزايدة أو متناقصة، أي تتحرك بعجلة. إذن النظرية الخاصة سُميت هكذا؛ لأنها حالة خاصة من النظرية العامة، فالمجموعات التي تتحرك بسرعة ثابتة يمكن اعتبارها تتحرك بعجلة مقدارها صفر، وهي أسهل في دراستها من المجموعات التي تتحرك بسرعة متغيرة؛ لذلك استطاع آينشتين أن يضع النظرية الخاصة أولًا، وبصورة مكتملة أكثر كثيرًا من النسبية العامة. ومن الناحية المنطقية الفلسفية لا تتخلى النسبية العامة أبدًا عن أي من المبادئ الإبستمولوجية الأساسية للنسبية الخاصة، ولا تناقضها بأي حال ما دامت تستوعبها داخلها كحالة خاصة.٢٨

وكانت نقطة البداية هي تجربة ميكلسون/مورلي التي انتهت إلى سقوط الأثير وذلك لثبات سرعة الضوء، فبدأت النظرية النسبية بالتسليم بهذين الفرضين الأساسيين، وهما استبعاد الأثير ثم ثبات سرعة الضوء بصورة مطلقة، وهذا هو الشيء الوحيد الثابت المطلق في الكون النسبي، وليس الضوء فقط، بل المقصود السرعة الكونية لجميع الظواهر الكهرومغناطيسية، كلها تتحرك بالسرعة نفسها وهي ٢٢٩٫٧٧٦كم/ثانية أو ١٨٦٫٣٠٠ ميل/ثانية، وعبثًا الحديث عن سرعة أكبر منها، فهذا مستحيل كما تثبت النظرية النسبية، وعلى هذا الأساس كانت قوانين النظرية النسبية الخاصة، وهي أنموذج أمثل على ما يمكن تحقيقه في الفيزياء بحد أدنى من الفروض البسيطة والتطوير الرياضي لها المفرط في الدقة والصرامة.

في القانون الأول للنسبية الخاصة تنكمش الأجسام في اتجاه حركتها،٢٩ وبما أننا نفترض عادة أن الجسم يتحرك في اتجاه طوله فإننا نتكلم عن انكماش الطول، بيد أن العرض أيضًا — وأي بعد آخر — ينكمش إذا تحرك الجسم في اتجاهه، وهذا القانون يحدد مقدار انكماش الجسم بالنسبة لسرعته، بحيث يزداد الجسم في القصر أو الانكماش كلما ازدادت سرعته، حتى إذا اقتربت السرعة من سرعة الضوء اقترب طول الجسم من الصفر، أي إنه يختفي ببلوغه سرعة الضوء، مما يعود بنا إلى مصادرة استحالة تجاوزها. وفي القانون الثاني تزداد كتلة الجسم بازدياد سرعته، حتى إذا وصل إلى سرعة الضوء تصبح كتلته لا نهائية؛ لذلك — مرة أخرى — كانت سرعة الضوء هي أقصى سرعة ممكنة، ولا يمكن أن يتحرك أي شيء أسرع من الضوء؛ لأنه ينكمش حتى يتلاشى وتزداد كتلته حتى تصبح لا نهائية، لقد كانت الكتلة في الفيزياء الكلاسيكية ثابتة لا تتغير، سواء أكانت ساكنة أم متحركة، قد يتغير وزنها فقط من موضع لآخر، لكن النسبية الآن تقول: إن الكتلة تتغير بالحركة فتزداد بازدياد السرعة، طبعًا من العبث البحث عن هذا التغير في الكتلة والطول أو العرض في الماكروكوزم، أي العالم الأكبر العياني الذي تتعامل معه الفيزياء الكلاسيكية وهو عالم الخبرة اليومية العادية؛ لأن الكتل ضخمة والسرعات بطيئة نسبيًّا؛ لذلك فالتغير في الطول أو الكتلة سيكون ضئيلًا للغاية، ومن العبث أن نحسب له حسابًا، السيارة التي تسير بسرعة خمسين ميلًا في الساعة ينكمش طولها فعلًا، لكن بمقدار قطر نواة الذرة، والطائرة النفاثة التي تسير بسرعة ٦٠٠ ميل في الساعة تنكمش بمقدار قطر الذرة، وحتى الصاروخ الفضائي السائر بين الألفاك بسرعة ٢٥٠٠٠ ميل في الساعة والبالغ طوله مائة متر، ينكمش طوله بمقدار ١٪ من المليمتر، ولكن حين دراسة جسيمات أشعة بيتا مثلًا، أو دراسة جسيمات الذرة في دورانها حول النواة، فنحن هنا إزاء كتل متناهية الضآلة وتتحرك بسرعة يمكن مقارنتها بسرعة الضوء؛ لذلك فالتغير الناجم كبير، وقد أمكن إخضاع قانوني النسبية الخاصة هذين للاختبار التجريبي والتحقق منهما بصورة ملحوظة للغاية، خصوصًا بعد اختراع المعجل النووي الذي يستطيع الإسراع بحركة الجسيم الذري.
وفي أوائل سنة ١٩٥٢م، أعلن المختبر الوطني في بروكهافن Brokhaven، أنه استطاع أن يسارع البروتون في نواة ذرة الأيدروجين حتى وصلت سرعته إلى ١٧٧ ألف ميل/ثانية، أي حوالي ٩٥٪ من سرعة الضوء، ونتيجة لذلك، فإن كتلة البروتون زادت ثلاثة أضعاف. وفي يونيو ١٩٥٢م، أعلن معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا أنه استطاع أن يسارع بالإلكترون حتى وصل به إلى سرعة تقل عن سرعة الضوء بعشر ميل في الثانية أو ٠٫٩٩٩٩٩٩٩ من سرعة الضوء، فزادت كتلة الإلكترون حوالي ٩٠٠ مرة.٣٠

أما القانون الثالث فهو خاص بجمع أو تحصيل السرعات، كحساب السرعة النسبية لجسمين يتحركان بالنسبة لبعضهما في اتجاه معاكس، فينص على أنها ليست حاصل جمع السرعتين — كما تتصور الفيزياء الكلاسيكية — بل هي أعقد كثيرًا، وتحكمها معادلة تدخل فيها سرعة الضوء كثابت أساسي، بحيث إذا عوضنا عن الرموز في هذه المعادلة بحالة جسم سائر بسرعة الضوء إلى حالة جسم آخر سائر بسرعة الضوء نفسها، كان الحاصل سرعة الضوء أيضًا، مما يعود بنا من جديد إلى مصادرة استحالة تجاوز سرعة الضوء.

أما القانون الرابع فينص على أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء. وهذا القانون، كما رآه آينشتين نفسه ووافقه الجميع على هذا «أهم النتائج ذات الطابع الخاص التي أدت إليها النسبية الخاصة، فقبله كان قانون بقاء الطاقة وبقاء الكتلة يبدوان مستقلين عن بعضهما، لكنهما عن طريق نظرية النسبية قد أدمجا في قانون واحد»،٣١ وكما سبق أن أشرنا حين الحديث عن قوانين الحفظ والبقاء في أزمة الفيزياء الكلاسيكية، فإن الطاقة مع هذا القانون أصبحت مظهرًا من مظاهر المادة، والمادة مظهرًا من مظاهر الطاقة. وأيضًا فسر هذا القانون الطاقة التي تنبعث من الشمس كل هذه الملايين من السنين، وعلِمَ البشر أن كمية صغيرة من المادة تعطي كمية ضخمة من الطاقة في ظروف التفاعلات النووية، وعليه كانت القنبلة الذرية.

في القانون الخامس يتباطأ الزمن تبعًا للسرعة، وبالمعامل نفسه الذي ينكمش به الطول؛ لذلك يختلف الزمن أو يتباطأ باختلاف السرعة التي يسير بها حامل الساعة — أي الذي يقوم برصد الزمن — وبهذا ينهار تمامًا الزمن الموضوعي المطلق في الفيزياء الكلاسيكية الذي يتدفق بمعدل واحد بالنسبة للجميع من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل.

وكان هذا كما يقول هيزنبرج: «أول هجوم سُلط على الفرض الأساسي للفيزياء الكلاسيكية.»٣٢ والمقصود فرض الزمان والمكان الموضوعيين المطلقين كخلفية لمجمل الأحداث، أطاحت بهما النظرية النسبية، وأطاحت بالانفصال التقليدي بين مفهومي الزمان والمكان، حين جعلت الزمان بعدًا رابعًا للأبعاد الثلاثة التي لم يَخطَر الكلاسيكيون سواها: الطول والعرض والارتفاع، وأتت بالمتصل الزماني/المكاني spatio-temporal الرباعي الأبعاد، ويُعد الفيزيائي مينكوفسكي Minkowisky من رواد معالجة العالم ذي الأبعاد الأربعة، وقد أوضح كيف يمكن تطويق المطلق بالعود إلى أصله الرباعي، وأن نبحثه بعمق أكثر،٣٣ وهذا ما فعله آينشتين حين طرح المتصل الزماني المكاني الرباعي الأبعاد، وهو ليس كيانًا واحدًا يحل محل كيانين هما الزمان والمكان، وليس شيئًا وليس مسرحًا جديدًا للوقائع الفيزيائية، بل هو نظام من العلاقات بين الأحداث، يهدم تمامًا التصورات الكلاسيكية عن التتابع الزماني والتجاور المكاني، وعن المادة بوصفها مكونة من جزيئات عبر آنات الزمان في نقطة من المكان،٣٤ من حيث يهدم مفهومي الزمان والمكان المنفصلين والمطلقين.
لقد نقض آينشتين المطلق النيوتني، في أول صياغة لقانون النسبية العام ١٩٠٥م، حين أعلن أن الطبيعة تجعل من المستحيل تعيين الحركة المطلقة عن طريق أية تجربة مهما كانت. والحق أن نيوتن نفسه قد أعرب عن استحالة تعيين الحركة المطلقة والسكون المطلق، فظلا في الواقع نسبيين، أي بالنسبة للأرض التي تتحرك بالنسبة للشمس المطلقة والسكون المطلق، وفي هذا ألمعية فذة منه، لكنه في النهاية لم يضع النسبية في اعتباره وأقام نظريته على الأساس المطلق كما رأينا، بينما عجز العلم عن إيجاد الجسم الذي افترضه نيوتن في حالة سكون مطلق، أو بالأصح أثبت استحالة وجوده، فالقمر متحرك بالنسبة للأرض، والأرض متحركة بالنسبة للشمس والمجموعات الكونية الأخرى متحركة، والكون كله في حركة دائبة.٣٥ لذلك نجد أن النسبية تعلم أنه لا يوجد في الكون كله مقياس معياري للطول أو الكتلة أو الزمان؛ لأنه سوف يتضمن الثبوت في مكان معين وهذا شيء لا وجود له. الزمان الذي تحدده حركة الأجرام السماوية، وبعدها المتغير عنا، كلاهما نسبي غير منتظم، ولا يجري في جميع أنحاء الكون بالتساوي، فأين الزمان المطلق الذي تحدث عنه نيوتن؟

والواقع أن المطلق لا وجود له إلا في ذهن نيوتن وأشياعه، والنظرية النسبية نسبية؛ لأنها تدخل الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة؛ إذ تجعل موقع الراصد وسرعته معينات أساسية، والقائمون بالملاحظة الذين يتأملون السماء من كواكب مختلفة سوف يدرك كل منهم سماء مختلفة. كذلك يتحكم تأثير المكان في ساعاتهم — بمعنى أجهزتهم للرصد — بحيث إن الوقت الذي يقرأه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة، بل كلًّا منهم يُقدر مرور الزمن تبعًا لسرعة مختلفة، قد يكون مكان الملاحِظ بالنسبة لنا هو الأرض في كل الأحوال، لكن الملاحظ المرتبط بالأرض لا يستطيع أن يجري الأقيسة الفلكية نفسها التي يجريها الملاحظ بكوكب آخر، والنسبية تدرس كيف تؤثر حركتا هذين الملاحظين النسبية في ملاحظاتهما، ولم يكن هذا بطريقة لا ذاتية فحسب، بل ولتحرز درجة هائلة من الموضوعية المدهشة، لكن غير المطلقة.

يقول آينشتين:
يمكن وصف عالم الأحداث وصفًا ديناميكيًّا عن طريق تصور يتغير عبر الزمان في إطار خلفية من الفضاء ثلاثي الأبعاد، ولكن يمكن أيضًا وصف الأحداث عن طريق تصور إستاتيكي في إطار خلفية من المتصل الزماني/المكاني رباعي الأبعاد. من منظور الفيزياء الكلاسيكية التصوران متكافئان، ولكن من منظور النظرية النسبية التصور الإستاتيكي أكثر ملائمة وأكثر موضوعية، وحتى في إطار نظرية النسبية ما زلنا نستطيع استخدام التصور الديناميكي، إذا كنا نفضل هذا، لكن يجب أن نتذكر أن تلك القسمة التي تفصل بين الزمان والمكان ليس لها أي معنًى موضوعي، ما دام الزمان لم يعد مطلقًا.٣٦
في المتصل الزماني/المكاني رباعي الأبعاد قد يصبح الزمان مكانًا والمكان زمانًا، فلم تعد المسافة هي البعد بين نقطتين مكانيتين بصورة بحتة، بل هي البعد بين نقطتين متحركتين أو حادثتين تفصل بينهما فترة زمانية بالإضافة إلى الفترة المكانية، بحيث تأتي المسافة بجمع مربع الطول مع مربع العرض، ثم مربع الارتفاع، ثم طرح مربع الفاصل الزمني من ذلك، وفي هذا يقول آينشتين إنه يمكن تحديد المسافة ذات الأبعاد الأربعة بتعميم بسيط لنظرية فيثاغورث، وإن هذه المسافة تلعب دورًا أساسيًّا في العلاقات الفيزيائية بين الأحداث الكونية أهم من الدور الذي يلعبه الفاصل الزمني وحده.٣٧ وأجرى آينشتين من العلاقات الرياضية شديدة التعقيد ما يحافظ على طبيعة البعد الزماني، دامجًا المكان والزمان في وحدة واحدة ترسي القانون: «إذا وقع حادثان في المكان نفسه، لكن في لحظتين مختلفتين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في مكانين مختلفين إذا نظر إليهما مشاهد في حالة حركية أخرى»، وعلى أساس تكافؤ الزمان والمكان الذي يجعل أحدهما دالًّا على الآخر، يصح العكس، فإذا وقع حادثان في اللحظة نفسها، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في لحظتين مختلفتين إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، وأيضًا إذا وقع حادثان في اللحظة نفسها من وجهة نظر مشاهد، فإن هذين الحادثين من وجهة نظر مشاهد آخر — في حالة حركية أخرى — يكونان منفصلين عن بعضهما بفترة زمانية معينة.
كل هذه المتغيرات المتحركة في تحديد الزمان، والتي تجعل حادثًا بعينه ماضيًا لمشاهد ومستقبلًا لمشاهد آخر، نجم عنها ما يُعرف بمشكلة التآني Simultaneity، أي استحالة الحكم بأن حادثًا وقع قبل أو بعد الآخر، كما يشترط التحديد العلي للأحداث إلى علة سابقة ومعلول لاحق في خط الزمان الواحد المطلق. لقد تلاشت العلية الكونية، كما سبق أن تلاشت في الكوانتم، لكن النسبية تنفي أيضًا خاصية عدم قابلية الزمان والأحداث للارتداد، ويمكن افتراض التتابع الزماني للأحداث في الاتجاه المعاكس. مع النسبية أصبح الذهن البشري يستطيع إدراك نظم مختلفة للترتيب الزماني، النظام الكلاسيكي التسلسلي مجرد واحد منها.
والتوغل بإشكالية الزمان إلى هذا الحد يطرح التناقض بين صورة الكون كما ترسمها الفيزياء في القرن العشرين، وصورة الكون في الخبرة العادية للإنسان في حياته اليومية التي تتفق مع صورة الكون في العلم النيوتني، على أن قوانين الديناميكا الحرارية غير القابلة للارتداد والظواهر التي تعكس اتجاهًا وترتيبًا زمانيًّا واضحًا أبسطها الفيلم السينمائي، وآثار الأقدام على الرمال وقرص العجة الذي لا يمكن أن يعود بيضًا … إلخ، كلها يمكن أن تهب دفاعًا عن الزمان غير القابل للارتداد الذي اغتالته النظرية النسبية. وقد تصدى لهذه المشكلة كثيرون، من أبرزهم هانز رايشنباخ الذي أسمى هذه الظواهر أنساقًا فرعية: تنشأ عن ظروف أو شروط مبدئية معينة، وليس عن طبيعة الكون الفيزيائي. إنها «أنظمة ثانوية» داخل النظام الكوزمولوجي الكوني الذي لا يعني البتة أن الزمان له اتجاه معين أو ترتيب أوحد، ويمكن أن نأخذ هذه الأنساق الفرعية مأخذًا برجماتيًّا، أي عمليًّا إجرائيًّا، ونتصرف على أساسها بغير حاجة للدخول في النظريات الشديدة العمومية كالنظرية النسبية العامة.٣٨
وتقوم النظرية النسبية العامة على أساس تكافؤ كل النظم الإحداثية في وصفها للظواهر الفيزيائية، لذلك فعند أي نقطة في الفضاء ثمة تكافؤ بين الآثار الناتجة عن قوى الجاذبية، وعن الحركة بعجلة، أي بسرعات متغيرة، ولا يمكن التمييز بينهما،٣٩ وحين جعل آينشتين «مبدأ التكافؤ» فرضًا أساسيًّا حل التحدب محل قوى الجاذبية «التثاقل»، حيث نجد الكون مكانًا تسري عليه هندسة ريمان — هندسة السطح المحدب. إن الكون مكان محدب ذو شكل كروي، وليس معنى هذا أنه مقفل بنوع من القشرة الكروية، وإنما معناه أن المكان متناهٍ دون أن تكون له حدود، وحيثما كنا نجد على الدوام مكانًا لا تبدو نهاية له، وإذا تحركنا قدمًا في خط مستقيم سوف نعود يومًا إلى نقطة بدايتنا من الاتجاه الآخر، وقد قام الرياضيان فريدمان Friedman، ولوميتر Lemaitre بإدخال تعديلات على آراء آينشتين، بحيث أصبحت تقوم على افتراض أن مجموع المكان المتناهي ليس له حجم ثابت، وإنما هو يتمدد، والرياضيات التفاضلية في النظرية النسبية تسمح بهذا. وعمومًا فإن تمدد الكون أصبح فرضًا فيزيائيًّا مأخوذًا به وتشهد عليه ملاحظات عدة.٤٠

وأهم ما في الأمر أن آينشتين أخذ بهندسة ريمان التي تفترض أن السطح متحدب، في مقابل هندسة إقليدس التي تأخذ بها الفيزياء الكلاسيكية، والتي تفترض أن السطح مستو، وترى النسبية أن الفضاء غير منسجم ولا متشابه ولا متناسق كما يزعم نيوتن مرتكزًا على الاطراد، إنما هو يتحدب حول الكتل السابحة فيه، ويزداد تحدبه حول الكتل الكبيرة، فيتحدب حول الشمس أكثر من تحدبه حول الأرض، ويتحدب حول الأرض أكثر من تحدبه حول القمر، وهكذا. وعلينا أن ندرك أنه متحدب هكذا بأبعاده، ورابعها الزمن.

تحدب الفضاء يحل مشاكل عدة عجزت الفيزياء الكلاسيكية عن حلها، مثبتة بهذا أن هندسة إقليدس بسطحها المستوي لا تصلح تفسيرًا لظواهر الكون جميعًا، فمثلًا، ثمة نقطة في مدار الكوكب تُسمى بالحضيض الشمسي، وهي أبعد نقطة في مدار الكوكب عن الشمس، ولا يمر الكوكب في نقطة الحضيض الشمسي نفسها؛ لأن هذه النقطة بدورها تتحرك حول الشمس حركة بطيئة جدًّا، فالتغير طفيف جدًّا في مواضع هذه النقطة، وقد لجأ العلماء إلى حسابات دقيقة لتحديدها واضعين في الاعتبار أن دوران الحضيض الشمسي لكل كوكب يتأثر بالكواكب المجاورة له، وقانون جاذبية نيوتن كافٍ لحساب مقدار تأثير الكواكب. خضعت دورات الحضيض الشمسي كلها للحسابات النيوتنية إلا عطارد — أقرب الكواكب إلى الشمس وأسرعها. وكان اختلاف حضيض عطارد الشمسي لغزًا لم يستطع العلماء أن يجدوا له حلًّا. حضيضه يدور حول الشمس ٥٧٤ ثالثة كل قرن (إذا قسمنا الدرجة ٦٠ ثانية، كانت الثالثة جزءًا من ٦٠ جزء للثانية) لا تستطيع جاذبية نيوتن إلا أن تُفسر ٥٣١ ثالثة فقط، أما الثلاث والأربعون الباقية فليس لها تفسير بحال.٤١ وتأتي جاذبية آينشتين الكونية، وهي نتيجة لتحدب الكون الذي يؤدي إلى انحراف الضوء وانحراف الأجسام أيضًا، هذا الانحراف يبدو لنا في صورة الجاذبية ويجعل الكوكب بدوره منجذبًا حول الشمس، أي إن حركته تنعطف نحوها، ولولا هذا التأثير لسارت الكواكب في خط مستقيم وفي اتجاه مطرد. وهذا التصور للجاذبية وبالقوانين التي وضعها آينشتين قد حل المشكلة عند تطبيقها على دوران عطارد، وأعطى الجواب الصحيح: ٥٧٤ ثالثة كل قرن. وكان هذا شاهدًا على صحة الفرض الأساسي للنسبية العامة، ودليلًا مقنعًا نظرًا للفارق الكبير الملموس بين الواقع التجريبي ونتائج نيوتن. إنه انتصار للتصور اللاميكانيكي على التصور الميكانيكي وفي عقر داره: الماكروكوزم، أي العالم الأكبر العياني، والتعامل مع الكتل الضخمة.

والواقع أن أول شاهد تجريبي يعزز النظرية النسبية جاء في أثناء كسوف للشمس في ٢٩ مايو العام ١٩١٩م، وكان حدثًا جللًا هز أركان المجتمع العلمي. فعالم الفيزياء النيوتنية هو العالم نفسه الذي يمر به الشخص العادي في خبرته العادية وحياته اليومية — أي عالم الحس المشترك. وبقدر ما ناقض آينشتين مسلمات الفيزياء الكلاسيكية فقد ناقض أيضًا عالم الحس المشترك والخبرة اليومية الذي يبدو معقولًا أمام الناس أجمعين، وكما أوضحنا، رسمت النسبية أطر كونٍ يصعب تصوره ويبدو لا معقولًا، فواجهت النظرية في البداية ردود أفعال قوية وتيارات علمية رافضة، ورآها بعض العلماء تركيبة عبقرية قد نعجب بها، لكن لا ينبغي أخذها مأخذ الجد، فضلًا عن الذين رأوها مؤامرة يهودية خبيثة لتقويض دعائم العلم الفيزيائي والنيل من مجده.

حتى كان مايو من العام ١٩١٩م الذي سيشهد كسوفًا كليًّا للشمس في منطقة جنوب إفريقيا. والمكان في النظرية النسبية وسط محدب يفرض على الضوء نوعًا من الانحراف يمكن حسابه مقدمًا والتنبؤ به، فيتحدب حول الأجسام الثقيلة كالشمس كما لو كان منجذبًا نحوها. بعبارة أخرى، على أساس من مبدأ التكافؤ بين الجاذبية والتحدب، فإن الضوء تجذبه الأجسام الثقيلة كالشمس تمامًا كما تجذب الكتل المادية، إنها تجذب الضوء جذبًا يُحرِّفه عن مساره لو لم تكن هذه الشمس موجودة، ونتيجة لهذا يمكن التنبؤ بأن الضوء المنبعث من نجم في وضع ظاهري قريب من الشمس يصل إلى الأرض من اتجاه يجعل النجم يبدو كما لو كان مائلًا قليلًا عن الشمس. بعبارة أخرى، نقول: إن النجوم القريبة من الشمس تبدو كما لو كانت قد تحركت قليلًا عن بعضها البعض، وهذا الشيء لا يمكن ملاحظته في الأحوال الطبيعية، ما دامت النجوم حول الشمس غير مرئية في النهار بسبب اللمعان الشديد للشمس، ولكن يمكن تصويرها فوتوغرافيًّا إبان كسوف الشمس، حيث يحجب القمر ضوء الشمس فتتكشف النجوم حولها. ولو صورنا هذه النجوم في أثناء الليل — أي في أثناء غياب الشمس — يمكن قياس المسافات على الصورتين، وحساب الأثر المتوقع.

وهنا تقدم اللورد آرثر ستانلي إدنجتون A. S. Eddington وهو من أعظم علماء الفلك في النصف الأول من القرن العشرين، ويقف في طليعة فيزيائيي النسبية الذين أسهموا في تطويرها وتنقيحها خصوصًا في كتابيه «المكان والزمان والجاذبية ١٩٢٠م»، و«النظرية الرياضية للنسبية ١٩٢٣م». لقد أجاد استيعاب الآثار العميقة لثورة الفيزياء وتُمثل إبستمولوجيا القرن العشرين، فكان فيلسوف علم مرموقًا، وإن رآه البعض واقعًا في براثن المثالية الذاتية. هذا على الرغم من أن إدنجتون هو الذي اقترح أن نطلق على مبدأ هيزنبرج اسم مبدأ اللاتعين Indeterminacy بدلًا من اسم مبدأ اللايقين Uncertainty؛ لأن اللاتعين أكثر موضوعية، أكثر انطباقًا على موضوع البحث وليس على الذات العارفة ويقينها أو تشككها. وإدنجتون على أي حال راهب من رهبان المعرفة، لم يتزوج ونذر حياته الهادئة — في جامعة كمبردج — تمامًا للعلم وفلسفته. تقدم إدنجتون بطلب رسمي بألف جنيه لتمويل حملة علمية إلى جنوب إفريقيا العام ١٩١٩م، وذهب لتصوير النجوم في أثناء كسوف الشمس، وذلك لمقارنتها بصورة النجوم في أثناء الليل التي التقطت منذ شهور خلت حين كانت الشمس في الموقع نفسه المرصود من السماء، وتمت المقارنة وحسابات الآثار، وجاءت النتيجة تمامًا كما تنبأ آينشتين مخالفًا بهذا جموع العلماء،٤٢ أبرق إدنجتون إلى آينشتين يزف النتيجة، وبروح الدعابة التي اشتهر بها آينشتين قال: إنه واثق من صحة نظرياته وسلامة تنبؤاته، ولو كانت النتيجة قد جاءت مختلفة لرثي لحال صديقه العزيز آرثر إدنجتون!

هكذا بفضل بعثة إدنجتون اجتازت النظرية النسبية الاختبار التجريبي العسير، وهنا فقط وبعد أعوام من إعلانها، خرجت من صفحات مجلة «الفيزياء: وقريناتها، ودوائر ثلة من العلماء المتخصصين غير المتعاطفين أحيانًا، وأدرك الجميع أنهم بإزاء أثقب نظريات القرن العشرين وواحدة من أخطر المنجزات في تاريخ العلم بأسره. وأصبح آينشتين أشهر علماء القرن العشرين، وتوالت الاختبارات التجريبية التي اجتيزت بنجاح، وفرضت النظرية النسبية نفسها على روح القرن وعلى جميع الأوساط والمستويات الفكرية، وحين انتصف القرن كانت مكتبة نيويورك المركزية تضم أكثر من خمسمائة كتاب عن النظرية النسبية.

وعلى الرغم من أن إسهام الكوانتم في التقدم الفعلي للعلوم الطبيعية في القرن العشرين أثقل وأكثر وأشد عينية من إسهام النسبية، فإن الأخيرة حازت شهرة أكثر في الأوساط الثقافية العامة وأيضًا الشعبية، حتى إذا ذُكرت ثورة الفيزياء ورد إلى الأذهان اسم آينشتين ونظريته النسبية دونًا عن أو قبل اسم ماكس بلانك وزملائه من فرسان الكوانتم العظام، الذين دفعوا العلم الطبيعي دفعته الجبارة في القرن العشرين. على العموم، النظريتان معًا هما أساس ثورته الفيزيائية الكبرى وإنجازاته التقانية «التكنولوجية» الباهرة.

وقد أسلم آينشتين الروح رافضًا تولي الرئاسة الشرفية لإسرائيل أو حتى الانتقال إليها من مهجره الأمريكي، ويحاول تحقيق أمل العلماء في ضم النظريتين معًا في إطار نظرية واحدة للمجال الموحد، بدلًا من اثنتين، مثلما ارتكزت الفيزياء الكلاسيكية على نظرية واحدة هي نظرية نيوتن. لم يتمكن آينشتين من إنجاز هذا الأمل، وما زال الشوط طويلًا أمامه. وعلى كرسيه المتحرك بالكومبيوتر الشخصي الذي يعوضه العجز عن النطق وعن الحركة، يحاول العبقري الفذ ستيفن هوكنج تحقيق هذا الأمل والجمع بين الكوانتم والنسبية في نظرية واحدة، ربما يتوصل إليها في القرن الحادي والعشرين.

على أن النظرية النسبية حين اتخذت من هندسة ريمان هندسة تطبيقية، بدلًا من هندسة إقليدس التي عمل بها نيوتن، جعلت الرياضيات بجلال قدرها وعظيم شأنها تسير في ركاب الثورة، ولا نستطيع أن نتغاضى عن هذا.

ثالثًا: الرياضيات في ركاب الثورة

لقد عمَّ المد الثوري وساد تصورات العلم ومفاهيمه واكتسب منتهى الشرعية والمشروعية حين بلغ مداه رحاب السلطة الحكمة وملكة العلوم: الرياضيات، بحيث أصبح التطور المعرفي منذ بدايات القرن العشرين يسير من كل حدب وصوب في ركاب المتغيرات الثورية. على أن نلاحظ قبلًا أن الرياضيات ضرورية، بل هي — بتعبير إميل بوترو — علم الضرورة. إننا إذا سلمنا بالمقدم في القضية الرياضية لا بد بالضرورة أن نسلم بالتالي. لم تكن الرياضيات في أي مرحلة من مراحل تطورها التاريخي أكثر أو أقل من تلك الصورة النهائية للضرورة التي تربط بين طرفي القضية الرياضية من حيث هي قضية رياضية في إطار نسقها المطروح. القضية الرياضية بهذا هي الكيان الوحيد في عالم العلم الذي ينبثق كاملًا، أو هي الوليد المعجز الذي يولد ناضجًا، وكانت الرياضيات دائمًا هي النموذج الأمثل للضرورة المنشودة في الاستدلال العقلي واليقين المطلق.

ومع هذا، فإن الرياضيات مجرد بناء عقلي بحت وإنشاء منطقي خالص، لا يلتجئ ولا يحتاج — إن قليلًا وإن كثيرًا — إلى ذلك الوجود المتعين موضوع الفيزياء وسائر العلوم الإخبارية التجريبية. إن الرياضيات ملكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع المترفع عن شهادة الحواس وجزئيات الواقع التي تغوص في لجتها العلوم الإخبارية. بعض الأحداث في خبرتنا العادية، كرؤية سحابة تجتمع بأخرى، فنجد حاصل جمعهما سحابة واحدة وليس اثنتين، قد ينقض قواعد الحساب، وأبسط قواعد الهندسة قد يحتاج إلى عالم هندسي مثالي، وقد لا يصدق على الواقع، ولكن نحن لا نطلب منها أن تصدق عليه، بل فقط أن تكون متسقة مع مقدماتها، وأن تتسق معها نتائجها، وبهذا تكون قواعد علم ناجح، و«كما هو معروف العلم الناجح الصحيح على نطاق واسع جدًّا، بل وغير محدود، إنما يعمل بقواعد الرياضة».٤٣

على هذا ليس من المفروض إطلاقًا على عالم الرياضة البحتة أن يغادر أوراقه وحجرة عمله؛ لينظر إلى الخبرات الواقعية يستمليها أو يستفتيها، ولا حتى عن طريق الرياضة التطبيقية، فكأننا به يقول ملخصًا عمله: افترضوا معي هذه المسلمات أو المقدمات، وتعالوا لأريكم ما عساه أن ينتج عنها بواسطة المنهج الاستنباطي الصرف من نظريات، إن صحت فهي ضرورية يقينية يستحيل أن يدانيها سوى اليقين المطلق.

والرياضيات بهذا دونًا عن لغات العالمين هي اللغة المنضبطة والاستدلال الدقيق الذي لا مثيل له في أي شكل آخر من أشكال التفكير؛ لذلك قال كانط إن الرياضيات هي الحظ السعيد للعقل البشري. والواقع أنها فعلًا هدية الله الحقيقية للإنسان.

وهي مطردة التقدم شأن كل قاطني عالم العلم، فما بالنا بملكة العلوم! يومها أفضل من الأمس، يسجل العقل فتحًا متتاليًا لآفاق أوسع وإحرازًا متواليًا لمنجزات مستجدة. لكن تقدم العلوم الإخبارية التجريبية يلغي المراحل السابقة من تاريخ العلم، فينسخ الجديد القديم، يكشف عن مواطن كذب فيه وأحيانًا يبلغ هذا حد اكتشاف مواطن للخطل واللامعقولية. أما في الرياضيات فقد تستوعب المناهج المتطورة المشاكل القديمة وتقدم طرقًا أبسط وأعمق لمعالجتها، فضلًا عن فتح آفاق أوسع، لكن ما دامت ثبتت صحة قضية رياضية في إطار نسقها؛ أي ما دام ثبت الارتباط بين المقدم والتالي فيها، فسوف تظل صحيحة إلى أبد الآبدين وتتمتع القضية الرياضية داخل نسقها بثبات صدق وضرورة منطقية تميزها عن قضايا العلوم التجريبية، ومهما علت الرياضيات في مدارج التقدم لن تسخر من براهين القدامى في العهود السحيقة أو تكتشف خطأها فجأة، كما يحدث في العلوم الأخرى. ما زال آينشتين منبهرًا بنظرية فيثاغورث الموضوعة قبل الميلاد بقرون ويعمل على أساسها، وما زالت هندسة إقليدس نموذجًا لبناء النسق الهندسي، وقد وضعها في مصر في العصر البطلمي، في الإسكندرية في أثناء القرن الثالث قبل الميلاد. إن القضية الرياضية إذا كذبت كانت متناقضة ذاتيًّا، وإذا صدقت كانت ضرورية الصدق، وكذبها مستحيل إطلاقًا في أي ظروف وشروط «٢ + ٢ = ٤» لا ترتبط بأي شروط زمانية أو مكانية، بل تصدق دائمًا وأبدًا ما دمنا متفقين على معان محددة للرموز: ٢، ٤، الجمع، التساوي، وسائر حدود نسقها الرياضي. وبالمثل إنكار أن المثلث شكل محاط بثلاثة أضلاع يعني إنكار أن يكون المثلث مثلثًا!

وإذا كان هذا هو حال الرياضيات، فكيف بلغها المد الثوري؟

لقلد تلمسناه حين رأينا آينشتين يستبدل بالهندسة الإقليدية هندسة لا إقليدية للكون هي هندسة ريمان، فأدركنا فقط في القرن العشرين أن تطبيق الإقليدية على الكون مسألة تعسفية إن لم تكن قاصرة. أما فيما سبق، فقط كانت هندسة إقليدس هي الأنموذج الأعظم لليقين، بكل معاني اليقين ودلالاته، الإبستمولوجية والأنطولوجية وما قبلهما وما بعدهما، حتى إن القديس توما الإكويني Thomas Acquinace (١٢٢٥–١٢٧٤م) قد شغلته قضية مهمة هي: ما الذي يكون فوق إرادة الله؟ فوضع إجابة تتضمن بضعة أشياء، منها: أن الله لا يستطيع أن يجعل مجموع زوايا المثلث أقل من قائمتين! فقد كان الجميع — فلاسفة وعلماء ومثقفون وعوام — شأنهم شأن إيفان كرامازوف بطل رائعة دستويفسكي «الإخوة الأعداء» على يقين من أن الله قد خلق العالم بموجب الهندسة الإقليدية.
فليس غريبًا أن تطرح النيونية كل تلك الحتمية واليقين وهي تقوم بتطبيق الهندسة الإقليدية على الواقع الفيزيائي أو على الكون. ولأن هندسة إقليدس كانت آنذاك هي الهندسة الوحيدة التي لا هندسة سواها — ولا حتى تصورًا — كانت بمنأى عن كل جدال، «ولم تكن هناك مشكلة متعلقة بهندسة المكان الفيزيائي، وكان من الطبيعي أن تعد الهندسة الإقليدية منطبقة على المكان الفيزيائي لعدم وجود هندسة أخرى. وقد كان الفضل يرجع إلى كانط في أنه أكد أكثر من غيره على تطابق الهندسة الرياضية مع الهندسة الفيزيائية».٤٤

لكن تمامًا كما أثارت الفيزياء الكلاسيكية مشاكل أدت إلى الخروج من عالمها الميكانيكي، أثار نسق الهندسة الإقليدية مشاكل أدت إلى الخروج منه إلى أنساق هندسية أخرى، وهي المشاكل الخاصة بالمسلمة الخامسة.

فالنسق الهندسي يقوم على مقدمات أساسية، هي تعريفات للحدود الهندسية المستخدمة، ثم قضايا نسلم بها بلا برهان، يحددها العالم فنسلم بها معه ما دام رآها ضرورية لبناء النسق بشرط أن تكون متسقة فيما بينها وكافية للبرهنة على نظريات النسق، وأيضًا لا بد أن تكون كل مسلمة مستقلة بذاتها فلا يمكن استنتاجها أو استنباطها من القضايا الأخرى المسلم بها؛ لأنه لو أمكن استنباطها لكانت نظرية مبرهنة وليست مسلمة. من هذه المقدمات، وعن طريق الوسائل المنطقية وقواعد الاستدلال، تُستنبط النظريات أو المبرهنات. النظرية الرياضية مبرهنة theorem وليست مجرد نظرية theory مطروحة؛ فقد بُرهن عليها، وتم إثباتها بناء على المقدمات. وبهذه العناصر الثلاثة — المقدمات والقواعد المنطقية والمبرهنات — يكتمل بناء النسق الصوري.
والواقع أن المعلم الأول أرسطو قد أرسى هذه الأسس الباقية، حين ميز في كتابه «التحليلات الثانية» بين المبادئ المشتركة لكل العلوم (وهي قوانين الفكر الأساسية: قانون الهوية، أي «أ» هي «أ»، وقانون عدم التناقض، وقانون الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع، أي إن الشيء إما «أ» وإما لا «أ»، ولا وسط، أي: لا طرف ثالث) وبين المبادئ الخاصة بكل علم على حدة. والمبادئ الخاصة بالرياضيات هي أولًا التعريفات للحدود المستعملة، وثانيًا البديهيات وهي قضايا واضحة بذاتها، وتُعد صادقة عند كل من يفهم معناها بغير حاجة إلى برهان، وثالثًا المسلمات التي نصادر عليها كي تؤسس العلم وتقيم البرهان، وقد لا تكون واضحة لكنها تتضح فيما بعد. وبهذا التحليل غير المسبوق كان أرسطو يرسي على أساس منهجي ومنطقي مقنن حجر الزاوية للتعاون بين الرياضيات والفلسفة — والذي لن تنفصم عراه بعد ذلك أبدًا — مثلما يرسي أسس نسق الهندسة. لكن أرسطو لم يتجاوز حد التأسيس، ولم يقم نسقًا رياضيًّا،٤٥ على الرغم من أن جهوده الرياضية تمتد إلى محاولة إثبات بعض المبرهنات، مثل مبرهنة تساوي الزاويتين المقابلتين للساقين المتساويين في المثلث.٤٦
على أية حال، جاء إقليدس المعاصر تقريبًا لأرسطو ليقوم بتطبيق ذلك التحليل الأرسطي في إقامة نسقه. لم يضف إقليدس كثيرًا للجهود السابقة عليه، لكنه فعل ما هو أهم: الربط المنطقي بينها ربطًا بلغ حدًّا جعله مثالًا يُحتذى للمنهج الرياضي الاستنباطي طوال ألفين من السنين، عالج إقليدس كل الرياضيات المعروفة في عصره: الهندسة والحساب ونظرية الأعداد، وأودعها كتابه «الأصول». ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة عشر كتابًا أو فصلًا، الستة الأولى منها تشكل نسقًا متكاملًا لهندسة السطح المستوي، وكان أول ما فعله إقليدس هو وضع تعريفات من قبيل: النقطة هي ما ليس له أجزاء وليس له حجم، والخط طول بغير عرض … إلخ، فيستهل الكتاب الأول بخمسة وثلاثين تعريفًا، بخلاف التعريفات المطروحة في صدر كل كتاب من الكتب الخمسة التالية،٤٧ وأيضًا وضع إقليدس في مقدمة الكتاب الأول من الأصول اثنتي عشرة بديهية بخلاف بديهيات مطروحة في كتب أخرى، من قبيل: الكل أكبر من جزئه، والمقدران المساويان لثالث متساويان … إلخ، واكتملت مقدمات إقليدس بخمس مسلمات من قبيل: يمكن رسم خط مستقيم بين أي نقطتين ويمكن مده إلى أي طول نشاء … ومن هذه المقدمات — أي التعريفات والبديهيات والمسلمات — أقام البرهان على نظرياته العدة التي كانت جميعها مناط الإكبار والإعجاب.

وكما ذكرنا أتت المشاكل من المسلمة الخامسة وهي مسلمة الخطين المتوازيين، وأبسط صورها: الخطان المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا، أو: من نقطة خارج مستقيم معلوم لا يمكن رسم إلا مستقيم واحد يوازيه. فقد شك الرياضيون — ومن بينهم نصير الدين الطوسي والحسن بن الهيثم — في كونها مسلمة، وراودهم الاعتقاد بأنها يمكن أن تكون نظرية مبرهنة نثبتها، فحاولوا إثباتها باستخدام المسلمات الأخرى، ولم ينجح أحد في إثباتها، وبعضهم أسلمته هذه المسلمة للجنون.

وبصفة عامة يمكن القول: إن البراهين المباشرة تعرب عن فشلها للوهلة الأولى، فلم يكن أمام الرياضيين إلا برهان الخلف وهو منهاج أثير لديهم، يعني إثبات صدق القضية عن طريق إثبات كذب نقيضها أو عكسها، فإذا أُثبت كذب (لا «أ») فمعنى هذا أننا أثبتنا أن («أ» صادقة)، وبالتالي إذا أثبت الرياضيون خطأ أو كذب القضية: الخطان المتوازيان يلتقيان، كان هذا إثباتًا لصدق القضية القائلة إنهما لا يلتقيان مهما امتدا، أي تلك المسلمة المذكورة.

ولكي يفترضوا عكسها، أي إمكان التقاء المتوازيين، افترضوا أن السطح غير مستوٍ، أي غير إقليدي، ومن هنا أدت المسلمة الخامسة إلى الهندسات اللاإقليديةٍ، وهي الأنساق الهندسية التي تختلف عن نسق إقليدس من حيث إنها لا تفترض أن السطح مستوٍ، فلا تسلم بمسلماته، بل بمسلمات مختلفة.

وكان العالم الإيطالي جيرولامو ساكشيري G. Saccheri قد أحرز بعض النجاح في الكفاح اليائس ضد المسلمة الخامسة، لكنه لم يصب الهدف، شأن جميع سابقيه ومعاصريه من الرياضيين. ثم جاء الألماني يوهان لامبرت J. H. Lambert (١٦٦٧–١٧٣٣م) من دون أن يعرف شيئًا عن أعمال ساكشيري واستخدم شكلًا رباعيًّا مختلفًا نوعًا ما، به أربع زوايا، ثلاث منها قائمة والرابعة إما أن تكون حادة، وإما أن تكون قائمة أو منفرجة. أما الحادة فقد حار فيها لامبرت — كما حار من قبله ساكشيري — وبين أن فرضية الزاوية القائمة تكافئ مسلمة إقليدس، ودحض — كما فعل ساكشيري — فرضية الزاوية المنفرجة، ولكن لامبرت زاد فبين أنها لا يمكن أن تتحقق إلا على سطح كرة، إذا ما قامت الخطوط المنحنية لدائرة كبيرة بدور الخطوط المستقيمة، فكان لامبرت — بهذا — المبشر الأول بالهندسة اللاإقليدية.٤٨
وبعد حوالي عشرين عامًا من وفاة كانط، أي العام، ١٨٢٤م، اكتشف رياضي مجري شاب هو جون بولياي J. Bolyait (١٨٠٢–١٨٦٠م) أن مسلمة التوازي ليست عنصرًا ضروريًّا، فشيَّد هندسة تخلى فيها عنها، وأحل محلها مسلمة جديدة هي القائلة: إن هناك أكثر من موازٍ واحد لمستقيم معين من نقطة معينة، وفي هذا الوقت كانت فكرة الهندسة اللاإقليدية قد تراءت بوضوح في ذهن العالم الألماني الفذ كارل جاوس K. F. Gauss، بل إنه قام بمحاولة لقياس مجموع زوايا المثلث اللاإقليدية في الطبيعة، بيد أنه لم يكسب أفكاره أي شكل متكامل، ولم ينشر أعماله، واقتصر على الرسائل الخاصة، وكتب في إحداها يقول:
إنني أميل أكثر فأكثر إلى الاقتناع بأنه لا يمكن إثبات ضرورة علم الهندسة بشكل دقيق، على أي حال يستحيل ذلك بالعقل البشري وللعقل البشري.٤٩

وكان يعني بهذا أن الهندسة الإقليدية على قدم المساواة مع الهندسة اللا إقليدية، كلتاهما خاضعة لعدم التناقض، معيار الرياضة البحتة، ولا ضرورة لإحداهما من دون الأخرى.

هكذا شهد الثلث الأول من القرن التاسع عشر بدايات ثورة في عالم الرياضيات، حين أصبحت ضرورة انطباق الرياضيات على الواقع لأول مرة محل أخذ ورد، وظهر نسق للهندسة اللا إقليدية مع العالم الروسي نيكولاي نوفتش لوباتشيفسكي (١٧٩٢–١٨٥٦م)، المعاصر لبولياي وجاوس، فقد نشر العام ١٨٢٩م في جامعته قازان مذكراته حول مبادئ الهندسة، وكان هذا أول عرض منهجي مكتمل لهندسة لا إقليدية، ترفض مسلمة التوازي، فتفرض أن السطح ليس مستويًا بل مقعرًا.

ثم جاء الألماني ريمان E. Riemann (١٨٢٦–١٨٦٦م) ليفترض أن السطح محدب، ووضع نسق هندسة لا إقليدية لا توجد فيه أي خطوط متوزاية على الإطلاق.

هكذا أدركنا أن الله يمكن أن يخلق مثلثات زواياها أكثر أو أقل من قائمتين، وأن ما قاله إقليدس محض بناء عقلي معجز، وليس ضربة لازب مفروضة على الله قبل الإنسان!

هاتان الهندستان: هندسة لوباتشيفسكي بسطحها المقعر وهندسة ريمان بسطحها المحدب، تناقضان الهندسة الإقليدية بسطحها المستوي، ومع ذلك فكل منهما لا تنطوي على أي تناقض داخلي، وإنما هي نظام متسق بالمعنى نفسه الذي تكون به هندسة إقليدس متسقة، وعن طريق معادلات تحويل مناسبة أثبت كلين Klein، وكايلي Cayley، ووايتهد أن كل قضية في هندسة إقليدس تناظرها قضية في هندسة ريمان، وتناظرهما ثالثة في هندسة لوباتشيفسكي، فإذا كان ثمة خلل أو عدم اتساق في أي من هاتيك الأنساق الثلاثة فلا بد أن يكون الأمر هكذا في الباقيتين. والآن أي من هذه الأنساق هو الحقيقة؟ هذا سؤال لا تثيره الرياضة البحتة، الثلاثة في نظرها متساوية، كل منها صحيح ما دام متسقًا مع البديهيات، أو بالأصح المقدمات التي بدأت منها، وانطباق أي منها على الطبيعة مسألة فيزيائية وليست رياضية.٥٠

وكان يمكن أن تظل هذه الثورة على المستوى الخالص، مستوى الرياضيات البحتة التي تبلورت وتميزت فقط في القرن التاسع عشر بفعل عوامل أهمها ظهور هذه الهندسات اللاإقليدية، وكما يقول دافيد هيلبرت، لرياضيات البحتة غير ذات صلة إطلاقًا بالرياضيات التطبيقية والهندسة الفيزيائية! إنها لا تصبح تطبيقية إلا بعد اتباع طرق رياضية خاصة، أما الرياضيات البحتة في حد ذاتها فلا تلتزم إطلاقًا بأي متعينات أنطولوجية — أي وجودية. لذلك أمكن للكلاسيكيين في البداية الحكم بأن هذه الهندسات تعبر عن عبقرية رياضية لا أكثر، أو أنها إنجاز عقلي فحسب، فتبقى إبستمولوجيتهم مصونة، أي يبقى عالمهم حتميًّا ميكانيكيًّا ويبقى علمهم يقينيًّا قطعيًّا ضروريًّا، ولوباتشيفسكي نفسه كان يميل إلى الاعتقاد بأنه تحقق في عالمنا الهندسة الإقليدية.

ولكننا ذكرنا أن جاوس حاول أن يثبت قابلية الهندسة اللاإقليدية للتطبيق التجريبي على العالم الفيزيائي، وبفضل جهود جاوس وغيره نشأت عن هذه الهندسات المتعددة مشكلة هندسة العالم الفيزيائي، فأيتها هندسته؟ وقد أدى هذا إلى مآزق، كان المخرج القوي منها إجرائيًّا بحتًا وهو: أن ننظر إلى مسألة التطابق بين النسق الهندسي والعالم الفيزيائي لا على أنها مسألة ملاحظة تجريبية، بل مسألة تعريف، فينبغي ألا نقول: إن القضيبين الموضوعين في مكانين مختلفين هما بالفعل متساويان، إنما الواجب أن نقول: إننا نسميهما قضيبين متساويين، ويسمى هذا النوع من التعريفات بالتعريفات الإحداثية Coordinative Definition وهي تربط أو تكون إحداثيًّا بين موضوع كالقضيب الصلب، وبين تصور الطول المتساوي. وعلى هذا فإن القضايا المتعلقة بهندسة العالم الفيزيائي لا يكون لها معنى إلا بعد وضع تعريف إحداثي للتطابق، فإذا غيرنا التعريف الإحداثي للتطابق، نتجت هندسة جديدة، وهذه الحقيقة يطلق عليها اسم نسبية الهندسة، وهي تدل على أنه لا يوجد وصف هندسي واحد للعالم الفيزيائي، وإنما توجد فئة من الأوصاف المتكافئة، وكل من هذه الأوصاف صحيح داخل نسقه، أما الفروق الظاهرة بينها فلا تتعلق بمضمونها، وإنما باللغة التي تُصاغ فيها فحسب.٥١

والحق أن هذا التفسير الإجرائي بشكل عام هو أساس مدرسة مهمة من مدارس الاتجاه الأداتي في فلسفة العلم سنتوقف عندها في نهاية الفصل التالي، وهي المدرسة الإجرائية التي تعمم هذا التصور على كل المفاهيم العلمية.

المهم الآن أن نلاحظ كيف أن وجود أنساق هندسية تناقض بعضها، وإمكان تطبيق أكثر من نسق واحد وطبيعة هذا التطبيق نفسه «التعريفات الإحداثية»، كل هذا ينهار معه، بل يستحيل معه، مد الضرورة المنطقية الرياضية إلى ضرورة أنطولوجية تتخذ صورة الحتمية الميكانيكية، فضلًا عن إقامتها على الأساس الإقليدي. فلم تعد الخاصة الأولية للهندسة الإقليدية مسلمًا بها، وأوضح بناء الهندسات اللاإقليدية إمكان الاتساق التصوري لمسلمات إقليدس التي كانت تبدو مبرهنة حدسيًّا. إنها حرمت الهندسة الإقليدية من صفة الضرورة، طبعًا الهندسة الإقليدية صحيحة، ولم يختلف أحد على صحتها، الاختلاف فقط في تبرير هذه الصحة وفي تأويلها الإبستمولوجي؛٥٢ أي في محاولة اشتقاق ضرورة أنطولوجية من تطبيقها.
ثم جاء آينشتين وأثبت القصور في محاولة تطبيق الهندسة الإقليدية على العالم، فوضع المسمار الأخير في نعش الحجة الرياضية الإقليدية للتصور الميكانيكي الكلاسيكي للكون، حين جعل من هندسة ريمان الهندسة الفيزيائية، أي هندسة الكون الذي نحيا فيه. وكان آينشتين يعتبر هذا أعظم إنجازاته، فحين سأله ولده عن سبب شهرته الفائقة، أجابه: «أتعلم يا ولدي، عندما يزحف صرصور أعمى على سطح كرة فإنه لا يلاحظ أن الطريق الذي سار فيه منحن، بينما أنا بالعكس أسعدني الحظ أن ألاحظ ذلك!»٥٣

أفلا يعني هذا أن الكلاسيكيين حين استمدوا من إقليدية النيوتنية سندًا لإبستمولوجيتهم الحتمية كانوا صراصير عميانًا؟!

ومن ناحية ثانية، شهد رحاب الرياضيات على مشارف القرن العشرين منجزات أخرى تُعد من المنظور الفلسفي ثورة وعلى مستوى آخر أعمق غورًا وأكثر أولية، مستوى المنطق الرياضي، إنها ثورة المنطق الرياضي أو ثورة الرياضة المنطقية مع رسل ووايتهد اللذين رأيا — بخلاف جبر المنطق مع جورج بول، أي رد المنطق إلى الرياضة — رأيا أن الرياضيات هي التي تُرد بأكملها إلى المنطق، خاصة بعد تحسيب الرياضيات، أي ردها إلى علم الحساب على يد فريجه، ورد علم الحساب إلى مفهوم العدد على يد بيانو، ورد العدد إلى المنطق على يد برتراند رسل، الأمر الذي جعل رسل يعبر عن العلاقة بين المنطق والرياضة بقوله الشهير إنهما لا يختلفان، إلا كما يختلف الصبي عن الرجل، فالمنطق هو صبا الرياضيات، والرياضة هي رجولة المنطق.

ثم أخرج رسل ووايتهد معًا كتابهما العظيم «برنكبيا ماتيماتيكا» أي «أصول الرياضيات» العام ١٩١٠–١٩١٣م ليبدآ فيه بثلاثة لا معرفات هي الإثبات والنفي والبدائل، ومنها فقط تمكنا بواسطة التدوين الرمزي من استنباط قواعد المنطق الصوري بأسرها. وهذا التناول التحليلي للرياضة أثبت أنها مثلها مثل المنطق، قضايا تحليلية فارغة من أي مضمون، وأصبح مبرهنًا أن الرياضة بأسرها لا تعني إلا اشتقاق النتائج الضرورية التي تلزم عن مقدمات معينة، ومقدمات الرياضة البحتة بأسرها ليست إلا قواعد للاستدلال، إنها تحصيلات حاصل، المقدم هو ذاته التالي، لكن في صورة أخرى ولا إضافة البتة؛ لذلك يستحيل أن تقبل الكذب أو أن تتعرض للتكذيب، إنها يقينية؛ لأنها لا تمثل إلا ارتباطات جديدة بين مفاهيم معروفة وتبعًا لقواعد معروفة.

وهذا الكشف عن الطبيعة التحليلية للرياضيات، حل كثيرًا من الألغاز المستعصية، فمثلًا يمكن أن نفهم الآن كيف فقدت الإقليدية أي ضرورة أنطولوجية، بل إبستمولوجية، بينما ظلت محتفظة بالضرورة المنطقية، فتبقى إلى أبد الآبدين صحيحة؛ وذلك لأنها محض تحصيلات حاصل تربط الضرورة المنطقية بين طرفيها، فإذا سلمنا بالمقدم وهو البديهيات والمسلمات وجب أن نسلم بالتالي، وهو النظريات أو المبرهنات في إطار النسق الإقليدي. لقد أدرك الجميع أن الهندسة ليست أكثر من لعبة منطقية إلى حد معين، وكل ما يعرفه عنها عالم الرياضيات هو البديهيات، أي قواعد اللعب، المستقيم والنقطة والسطح المستوي … هي بيادق هذه اللعبة، وقواعد المنطق هي قواعد اللعب بهذه البيادق.٥٤ أقر الرياضيون أن النسق الهندسي قد بُني وفقًا لمتواضعات conventions. إنها تمثل صيغًا فارغة، لا تتضمن أي عبارات حول العالم الفيزيقي، اختيرت على أسس صورية محضة، ويمكن أن تحل محل الصيغ الإقليدية صيغًا لا إقليدية، وبهذا اكتشف الرياضياتي أن ما كان يستطيع إثباته لا يعدو أن يكون نسقًا من علاقات اللزوم الرياضية، أي علاقات «إذا كان … فإن» التي تؤدي من البديهيات إلى النظريات الهندسية، وأصبحت الهندسة الرياضية بدورها مجرد حقيقة تحليلية.
وحل أيضًا اللغز المتمثل في أن الخاصة المميزة للفيزياء هي أنها مطروحة في حدود المعادلات الرياضية، وبينما تظل المعادلات الرياضية البحتة يقينية، فإن المعادلات الفيزيائية الرياضية محض احتمالية، خصوصًا كما يؤكد عالم الكوانتم، والحل بات واضحًا، فصدق القضايا الرياضية يعتمد على العلاقات الداخلية بين حدودها وأطرافها داخل نسقها، أما صدق القضايا الفيزيائية — من الناحية الأخرى — فيعتمد على علاقتها بشيء ما خارجي، مرتبط بالخبرة. إن التمييز راجع إلى اختلاف موضوعات العلمين، واختلاف الخاصة المنطقية لكليهما: الرياضة تحليلية والفيزياء تركيبية، وموضوعات الفيزياء لا يمكن أن تتحدد ببديهيات ومسلمات؛ لأنها شيء من العالم الواقعي التجريبي، وليست في العالم المنطقي للرياضيات، ومهما درسنا الفيزياء في سمتها الرياضية، فستظل دومًا في حاجة إلى إثبات صدق معادلاتها على الواقع، وهذه العلاقة تختلف بالمرة عن الاتساق الداخلي للرياضيات؛٥٥ لذا تظل الفيزياء رياضية بغير أن تستطيع الزعم بيقين الرياضيات.

وعلى الرغم من أنه ليس ثمة نتيجة منطقية حظيت بالقبول الذي حظيت به إثباتات الطبيعة التحليلية للرياضيات؛ لأنه ليس ثمة نتيجة منطقية كانت دامغة ومثمرة مثلها، فإنها لم تنجُ من الاعتراض، شأن كل قضية كبرى مترامية الأطراف، يصعب أن يصدق عليها الجميع.

فهذا التوحيد بين الرياضة والمنطق يقابله اعتراض، يشترك فيه العقلانيون والتجريبيون، مؤداه أنه ليس ثمة شيء جديد في نتيجة الحجة المنطقية لم يكن متضمنًا في المقدمات، فالمنطق بأسره يتكون من التقرير «أ هي أ» وعلى هذا؛ فإن كانت الرياضيات منتجة حقًّا فهي لا يمكن أن تكون محض منطقية، بعبارة أخرى، الزعم المنطقي التحليلي للرياضيات يفشل في تفسير الجدة Novelty وهي حادثة بلا مراء في الرياضيات، غير أن هذا الاعتراض — كما يخبرنا موريس كوهين — لا يعدو أن يكون سوء استعمال للألفاظ، فما الذي نعنيه حين نسأل: هل نتيجة الحجة الاستنباطية محتواة containing في المقدمات؟ إننا بالطبع لا نعني ما نعنيه نفسه حين نقول: إن الأشياء محتواة في الحجرة، والمعنى الوحيد الملائم الذي نعزوه إلى علاقة الاحتواء بين المقدمات والنتيجة هو معنى التضمن المنطقي، أي اللزوم logical Implication، الذي يجعل التالي يلزم بالضرورة عن المقدم. من هذه الزاوية يصبح التمسك بأن الاستنباط يفضي إلى قضايا متضمنة في المقدمات واضحًا تمامًا، ونحن لسنا على وعي بكل النتائج المتضمنة في افتراضاتنا، وهذه واقعة أساسية في الخبرة الإنسانية، ومن ثم فإن اكتشاف ودراسات تلك التضمينات، يجب أن يشغل نطاقًا واسعًا من البحث عن الحقيقة،٥٦ فتظل الرياضيات مجالًا لإنجازات مستجدة.
ويبدو أن مثل هذا الاعتراض — الذي عرف كوهين كيف يرده — من الآثار التي خلفها منطق أرسطو، ولو تخلصنا من هذا ولفتنا الأنظار شطر المنطق الحديث — الذي سنتوقف عنده تفصيلًا في الفصل القادم، والذي أنجب هذا الكشف التحليلي العظيم للرياضيات — لأدركنا أنه حتى القضية «أ» هي «أ» يمكن أن تكون نتيجة مثبتة وليست بديهية؛ فقد كانت هكذا في نسق دوال الصدق التكرارية الذي وضعه رسل،٥٧ إن هذا المنطق الحديث منطق علاقات، والرياضيات — بأسرها، وبكل جديتها وجدتها — إثبات لعلاقات بين رموز، أو علاقات بين أطراف معادلات؛ هكذا نستطيع أن نسلم بأن الرياضيات بأسرها ليست إلا محصلات منطقية ونتيجة للمنطق.

إن الرياضة محض أداة ولغة فحسب، وليس ثمة لغة أخرى غير الرياضة يمكن أن تصف ظواهر الكون، بمثل هذا الكمال والبساطة والمواءمة والدقة. كانت الرياضيات، منذ أفلاطون وحتى كانط، تُعد نسقًا من قوانين العقل، يتحكم في العالم التجريبي، واتضح الآن أن الرياضة ليست هكذا، وأنها لا تقيم قوانين للعالم الفيزيائي، إنما تقتصر على صياغة علاقات فارغة تسري على كل عالم ممكن. وعلى المعنيين بالأمر استغلالها أو تطبيقها للتعبير عن عالمنا المتعين، دون أن يعني هذا سحب الضرورة الرياضية على قوانين العالم الفيزيائي.

لقد أُثبتت الخاصة التحليلية للرياضيات، وأنها فارغة من المضمون الإخباري بفضل المنطق الرياضي وأقطابه العظام: بيانو وجوتلوب فريجه، ثم رسل ووايتهد وكتابهما العمدة «برنكبيا ماتيماتيكا» الذي ينبغي أن نعده من المعالم البارزة للقرن العشرين. وبطبيعة الحال، عُينت بعض المآخذ والقصورات فيه، وخضعت بعض الجوانب لتعديلات وتنقيحات، فظل طوال القرن العشرين وحتى الآن فاعلًا ومتطورًا، بجهود أنصاره وخصومه معًا.

لقد كان تأثير «برنكبيا ماتيماتيكا» في تطور العقل إبان القرن العشرين أكثر جذرية وخطورة، ربما أكثر مما تصور برتراند رسل نفسه. وفي العام ١٩٣١م أخرج كورت جودل K. Gdel (١٩٠٦–١٩٧٨م) بحثًا بعنوان «حول قضايا غير قابلة للبت صوريًّا في برنكبيا ماتيماتيكا ومنظومات ذات صلة»، صحيح أن رسل أعلن بعد هذا بسبع سنوات أنه لا يرى ما يدعو لتعديل الأطروحة الأساسية للكتاب وهي أن المنطق والرياضيات متطابقان، إلا أن بحث جودل المذكور حمل تخطيطيًّا لنظريته في مبرهنتين نالتا حقًّا من بهاء اليقين الرياضي حين أثبت أنه لا اكتمالًا في الأنساق الرياضية. وتُعد «نظرية جودل» بدورها من معالم تطور العقل الصوري في القرن العشرين.
برهن جودل في نظريته على أنه في أي نسق صوري يقوم على سلسلة الأعداد الطبيعية التي تبدأ من الصفر، توجد قضية أو صياغة formula لا يمكن إثباتها ولا إثبات نفيها، أي غير قابلة للبت أو الحسم صوريًّا، وينتج عن هذا مبرهنة جودل الثانية التي تبرهن على أنه لا يمكن إثبات اتساق النسق الصوري ببرهان من داخله، الإثبات الذاتي للاتساق يقتضي توافر خصائص جوهرية لا يتمتع بها النسق الصوري الملائم لسلسلة الأعداد الطبيعية، وهذا يعني لا اكتمالًا في النسق الصوري؛ لذلك تعرف مبرهنتا جودل أو نظريته باسم «نظرية اللااكتمال»، وكان لها بدورها تأثير بالغ في القرن العشرين. فقد اشترط جودل صفات جوهرية أخرى في النسق لكي يكون متكملًا ومتسقًا ذاتيًّا، منها أن تكون مسلماته قابلة للميكنة، وقدم جودل العام ١٩٣٤م تعريفًا فنيًّا واسعًا لمفهوم الميكنة، فقام آلان تورنج A. M. Turing العام ١٩٣٦م بتصميم ماكينات نظرية معروفة باسمه، تمثل تعريف جودل الأوسع لمفهوم الميكنة. وفي الأربعينيات نجح جون فون نيومان J. Von Newmann (١٩٠٣–١٩٥٧م) وآخرون في تجسيد ماكينات تورنج فعليًّا باستخدام دوائر كهربائية، ومن هنا كانت نشأة الكومبيوتر،٥٨ فهل كان انهيار اليقين الرياضي مثمرًا إلى كل هذا الحد؟! فقد تبدل وضعه تمامًا بعد نظرية كورت جودل في اللااكتمال.

لحق اليقين الرياضي بثوابت أخرى في الإبستمولوجيا العلمية، اهتزت أركانها أو تبدل وضعها بعد ثورتي الكوانتم والنسبية، والمحصلة أن إبستمولوجيا العلم — أي نظرية المعرفة العلمية — في القرن العشرين أصبحت مختلفة تمامًا عن إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي، وعلينا الآن أن نرسم ملامحها، كخلفية عامة لفلسفة العلم في القرن العشرين، من حيث هي خلفية عامة لمعدلات تقدم علمي غير مسبوقة.

رابعًا: إبستمولوجيا العلم في القرن العشرين

اتضح الآن مدى خصوبة المنجزات العلمية التي ارتهنت بإشراقة القرن العشرين وتوالت قدمًا في الثلث الأول منه، فكانت حقبة فريدة في توهجها، وتُعد من أخصب وأروع الحقب في تاريخ العلم وفي ملحمة العقل البشري بأسرها. لم تكن هذه المنجزات مجرد إضافات تتراكم فوق ما سبق، بل هي تقويض لدعائم ارتكز عليها العلم ثلاثة قرون أو يزيد، وشق لطريق جديد، فحق اعتبار ثورة الكوانتم والنسبية من أعظم الثورات التي أحرزها الإنسان وخطوة تقدمية جريئة وواسعة. ببساطة، بعدها لم يعد العلم الحديث «حديثًا»! بل أصبح يُنعت بمصطلح «العلم الكلاسيكي»، والحداثة الحقيقية أو ما بعد الحداثة إنما هي في القرن العشرين. الفيزياء الحديثة Modern الآن هي فيزياء القرن العشرين، فيزياء الكوانتم والنسبية ونواتجهما التي تلت.
لقد كشفت قصورًا في تصورات الكلاسيكيين العينية لمفاهيم الكتلة والسرعة والأبعاد الثلاثة الثابتة والجامعة المانعة، وفي مطلب الدقة المتناهية في تحديد موضع وسرعة كل جسم والتنبؤ بتفاصيل حركته. على الإجمال اتضحت سذاجة تصورهم لعالم فيزيقي يمكن وصفه بدقة متناهية، إن لم يكن بواسطة علماء اليوم فعن طريق علماء الغد، وهو المشروع الذي طرحه فرنسيس بيكون منذ البداية. وكما يقول لويس دي بروي: «لقد ظنوا أن أية حركة أو تغير يجب تصويره بكميات محددة الموضع في المكان والتغير في مجرى الزمان، وأن هذه الكميات لا بد أن تيسر الوصف الكامل لحالة العالم الفيزيقي في كل لحظة، ويستكمل هذا الوصف تمامًا بواسطة معادلات تفاضلية أو مشتقات جزئية، تتيح لنا تتبع موقع الكميات التي تحدد حالته، ويا له من تصور رائع لبساطته! توطدت أركانه بالنجاح الذي لازمه لمدة طويلة.»٥٩

وبهذه البساطة ولذلك النجاح ساد الكلاسيكيين غرورٌ علمي أهوج، فرأوا أن قوانين نيوتن ذات عمومية مطلقة، لا تفلت من بين يديها ولا من خلفها كبيرة ولا صغيرة، لا في الأرض ولا في السماء، بحيث إنها اكتشاف لحقيقة هذا الكون. فتَّ في عضد هذا الغرور أزمة الفيزياء الكلاسيكية، ثم تلقى ضربة قاصمة من عالم الذرة والإشعاع، غير الخاضع لقوانين نيوتن، لكنه خضع لعملاق متناه في الصغر اسمه الكوانتم. حررتنا ميكانيكا الكوانتم من وهم التحديد الفردي اليقيني، واتخذت الإحصاء منهجًا يفضي إلى النتائج الاحتمالية الرائعة التي يمكن أن نلمس جبروتها في كل شيء، بدءًا من غزو الفضاء وقهر الأمراض الخبيثة وانتهاء بأدوات التسلية والترفيه، بغير الزعم بأن تنبؤاتها قضاء مبرم أو كشف عن القدر المحتوم. والرياضة محض الأداة عقلية خاوية نملؤها بالمضمون، مضمون المتوسطات التي لا تزعم عمومية مطلقة ولا تبحث عنها؛ هكذا كان نجاح الكوانتم الخفاق في العالم دون الذري «الميكروكوزم».

أما عن العمومية في النظرية الفيزيائية العامة للحركة، نظرية نيوتن ثم نظرية آينشتين، فإنه بينما تقتصر نظرية نيوتن على العالم الأكبر أو العالم العياني «الماكروكوزم» وتفشل في الاقتراب من الميكروكوزم، فإن النظرية النسبية تحكم العالمين معًا «الماكروكوزم والميكروكوزم» بالقوانين نفسها وتخضعهما للمعادلات الرياضية نفسها، فكانت درجة أعلى من العمومية وأيضًا من الدقة.

لقد شيدت النظرية النسبية عالمها الرباعي الأبعاد،٦٠ بمتصله الزماني/المكاني. إنه عالم أو بالأحرى تصور لعالم، محدب يختلف بل يتناقض مع عالمنا المستوي الواحد والوحيد المعهود في تجربة الحس المشترك، والذي ثبتته في أذهاننا خبرتنا العادية السطحية وحواسنا الفجة الغليظة، وجاءت نظرية نيوتن لتصدق على هذا العالم وعلى حدوده وتجعلها حدودًا لها، فتكتسب بهذا يقينًا فوق يقين! يقينًا مطلقًا، ثم علمتنا النسبية أنه لا شيء مطلق في عالم الإنسان، وليس ثمة تساؤل حول التصور الوحيد المطلق للزمان والمكان، فثمة إطار زماني/مكاني لملاحظي الأرض، وآخر لملاحظي الأفلاك السماوية، وآخر لملاحظي السدم، وبالمثل الطول والعرض وكل الأبعاد. لقد أحدثت النسبية تغييرًا جذريًّا في أفكارنا حول المكان والزمان والجاذبية، وثورة في الكوزمولوجيا — أي نظرية تصور الكون — الكلاسيكية، فكان تأثيرها بالغ العمق في المبادئ الإبستمولوجية الراسخة في تجربة الحس المشترك، والتي كستها النيوتنية برداء الفيزياء الرياضية المهيب.

في عالم النسبية تدخل الذات العارفة — كمتغير في معادلة الطبيعة؛ لتحرز بهذا درجة أعلى من الموضوعية، أو بالأحرى درجة مباينة تمامًا، قامت على أنقاض موضوعية نيوتن المطلقة والموهومة، في خضم هذه الأطلال الدوارس أضحى التصور الميكانيكي للكون أثرًا بعد عين، واستبينت تفاهة الواحدية المادية التي عززها. لم تعد المادة مجرد كتل تصطدم بها القدم حين تتعثر في الطريق، ولم يعد يجدينا البتة التفكير فيها على أنها شيء صلب جامد تشعر بها حاستنا اللمسية كمقاومة لها. كانت النظرة الميكانيكية تعتمد على هذا المفهوم للمادة، والآن يجب هجرانه نهائيًّا لكي نحقق الحد الأدنى من تفهم مغزى الفيزياء في القرن العشرين، حيث تحولت المادة إلى كيان أكثر شفافية من أي كيان تحدث عنه الروحانيون، إنها شعاع من مركز. وكما أشرنا، تبلورت الكوانتم والنسبية حول الشعاع وحلت أمواجه محل كتل المادة في الفيزياء الكلاسيكية.

هكذا نجد ثورة الكوانتم والنسبية التي تعززت بتطور الرياضيات، قد أقامت العلوم الإخبارية على أسس ومنطلقات مختلفة، قلبت رأسًا على عقب عناصر إبستمولوجية راسخة كالحتمية والميكانيكية والعلية واطراد الطبيعة وثبوت ويقين قوانينها، والضرورة لكليهما — للطبيعة وقوانينها — والموضوعية المطلقة وكتل المادة المتحركة في مكان مستوٍ من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل … هذه المبادئ التي لم يكن أحد في المجتمع العلمي يجرؤ على رفضها فضلًا عن قلبها، بحيث أصبح لدينا الآن حد فاصل بين إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي وإبستمولوجيا العلم في القرن العشرين.

وإذا كانت الأولى يُعبر عنها مبدأ الحتمية الميكانيكية، فإن الثانية يمكن أن يُعبر عنها النقيض تمامًا، أي مبدأ اللاحتمية Indeterminism الذي رفعته الكوانتم جهارًا نهارًا. أما النسبية فإنها في حد ذاتها لا تنفي الحتمية ولا تؤكدها، لكنها تكفلت بتقويض الإطار الأنطولوجي للحتمية — أي التصور الميكانيكي للكون — الذي سارت في أطره العلوم الحيوية والإنسانية أيضًا، كما رأينا في الفصل الثاني.

كان العلم الكلاسيكي مراهقًا يشق طريق النمو والنضج، وفي حاجة إلى راعٍ وجده في مبدأ الحتمية، لكن المبدأ أدى دوره واستنفد مقتضياته وتكشفت قصوراته ووصل إلى طريق مسدود، أصبحت مسلماته لا يقبلها العقل العلمي، فوجب تجاوزه لاستيعاب المرحلة الأعلى من التقدم العلمي التي يمثلها القرن العشرون.

في العقود الأولى قوبل انهيار الحتمية الكونية بالتوجس والارتياب. تصور البعض أن هذا يجعل الفوضى تعم عالم العلم، وكان آينشتين نفسه من غير المحبذين للاحتمية، بتعبيره الشهير: الله لا يلعب النرد في الكون، فسمع كارل بوبر فيزيائيين شبانًا لامعين يصفون آينشتين — وكان لا يزال يعمل بجد — بأنه في رفضه للاحتمية إنما يقف ضد الطوفان، وهذا، كما يقول دي بروي، نتيجة لعادات فكرية متأصلة؛ لأن الفيزيائيين الشبان — آنذاك — الذين تعودوا منذ بداية دراستهم على النظر إلى الأشياء بمنظار الفيزياء الجديدة كانوا لا يقابلون من الصعاب في التخلي عن مبدأ الحتمية قدر ما يقابل الأكبر سنًّا. أما اللورد آرثر إدنجتون فيؤكد أن صديقه آينشتين من أوائل الذين أدركوا اللاحتمية في الفيزياء الجديدة، ولم تكن الحتمية عنده إلا مسألة معتقدات شخصية،٦١ ولا شك أن الحتمية تحظى بقبول سيكولوجي، تريح الإنسان حين تخبره أنه يعيش في عالم كل ما فيه ضروري، بيد أنها راحة قد أصبحت حرامًا في عالم العلم، فلا يبحث عنها العالم ولا يسترشد بهديها، ولا بد دومًا من النقد والاختبار ومواصلة طريق التقدم.

ورُب قائل: حتى يومنا هذا ربما يدافع عالم عن الحتمية! الواقع أنه يدافع عنها مثلما يدافع عن أي قضية تروقه، لكنها خرجت من إبستمولوجيا ولن تعد الفيزياء رهينة النظام الحتمي بحال. وبعد ثورة الكوانتم الثانية ومبدأ اللاتعين لهيزنرج انتقل الفيزيائيون من لا مبالاة تجاه الحتمية إلى جهود موجهة بتعمد من أجل الخلاص النهائي منها، فلم يعد الأمر عجزًا عن إثبات صدقها، بل بالأحرى لقد اكتشفنا أنها استندت إلى مبررات كاذبة أو زائفة.

وتطور الأمر على مدار القرن العشرين، فأصبح لدينا الكومبيوتر، كل شهر كومبيوتر أفضل، وهذا الجهاز يمكنه أن يقوم بدور العقل الذي افترضه لابلاس في صياغته الشهيرة لمبدأ الحتمية، العقل الفائق الذي يستطيع التنبؤ بحالة الكون في أية لحظة إذا ما أُعطي حالته الراهنة بكل تفاصيل شروطها المبدئية، ولكن من المستحيل أن تعين بدقة فائقة كل الشروط المبدئية المرادة، ولا يمكن التنبؤ بتفاصيل موضع وحركة كل جزيء في أي نظام مركب، في فقاعة من الهواء، ودع عنك الكون بأسره، فهنالك كثرة لا نهائية من المكونات ومن المتغيرات. واتضحت خاصة مميزة هي عنصر من عدم القابلية للتنبؤ في التطورات اللاحقة للنظام الفيزيائي. هذه الخاصة المميزة أو العنصر اللاتنبئي يسمى بالنسق الكايوسي System Chaotic، والأنساق الكايوسية كائنة في كل مكان من عالمنا الفيزيقي،٦٢ وتقدم الكايوس (= علم الشواش) وهو علم يبحث كيفية دراسة الآثار المتراتبة بعيدة المدى لتغير أولي يبدو بسيطًا، يتراكم ويتضخم بفعل العلاقات المتبادلة بين كثرة لا نهائية من العوامل والمكونات في النظم المركبة. والمثال النمطي على هذا هو إمكان الربط بين فراشة ترفرف بجناحيها في الصين وعاصفة تهب في المحيط الهادي عن طريق تراكم وتضخم آثار هذه الرفرفة في نظام الطقس بمكوناته العدة. (الكايوس Chaos كلمة إغريقية تعني الفوضى والعماء)، وأصبح الكايوس أو علم الشواش في العقدين الأخيرين موضوعًا مهمًّا يتكاتف في بحثه فيزيائيون ورياضيون ومناطقة، فهل نتحدث بعد ذلك عن حتمية علمية؟!

وبخلاف النسق الكايوسي اللاتنبئي، علمتنا الكوانتم أن التنبؤات الناجحة ذاتها لا تعني حتمية شاملة، وأن الارتباط اللزومي بين حدث وآخر لا يعني أن ذلك الحدث، وكل الأحداث، محتومة سلفًا، وكان الإحباط العنيد لكل الجهود التي تحاول إدخال عالم الذرة والإشعاع في قلب التصور الحتمي إيماءة قوية لضرورة تبديل هذا التصور الذي يهدف إلى مثال زائف، هو مثال الوصف الكامل للعالم، فقد اتضح أن العالم ليس البتة نظامًا مغلقًا كما تفترض الحتمية، ولا هو نظام ميكانيكي.

هكذا، بعد أن كانت العقول تتصور اللاحتمية بوصفها قرينة الجهل والظلام واللاعلمية تبدل وضعها وارتفع لواؤها في إبستمولوجيا القرن العشرين، نفيًا للحتمية؛ لأن تكون كل الأحداث محددة سلفًا بدقة مطلقة في كل تفاصيلها المتناهية في الكبر أو في الصغر. في المنظور اللاحتمي المنفتح، الأرحب والأكثر دهاء وعمقًا، ثمة عوامل عدة تؤدي علاقاتها ببعضها إلى احتمالات عدة ممكنة، لم يعد حدوث الحدث ضروريًّا، ولا سواه مستحيلًا يهدم العلم والعالم، العالم اللاحتمي يستوعب الأنساق الكايوسية ويظل منتظمًا ومعقولًا، تخضع وقائعه للقوانين العلمية، لكن في إطار تعاقب الأحداث الاحتمالي وليس الحتمي. حل الترابط الإحصائي محل الترابط العلي الضروري، وأصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث وليس كشفًا عن القدر المحتوم، فانقطعت كل همزة وصل بين العلم والجبرية العتيقة، بعد أن تكفل في مراهقته الحتمية بمواصلة مسيرتها، إنه زيف اليقين الذي انكشف كما انكشف زيف المطلق، فاختفى المثل الأعلى للعالِم العالِم بالحقيقة المطلقة، حينما اختفى المثل الأعلى للعالَم الذي يسير كما تدور الساعة المضبوطة.

كان البحث عن قوانين وعلاقات رياضية لا تتغير بالنسبة لجميع الراصدين، لجميع الذوات العارفة أيًّا كان الموضع والموقع، هو صميم مهمة العلم، حتى جاء آينشتين ليجعل موقع الراصد وسرعته معينات أساسية للطبيعة،٦٣ فكان دخول الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة واحدة من أخطر النتائج الإبستمولوجية للنظرية النسبية كما أشرنا. إن الراصدين الذين يلاحظون من كواكب مختلفة أو مجرات مختلفة يدرك كل منهم سماء مختلفة، ويتحكم تأثير السماء في ساعاتهم — بمعنى أجهزتهم للرصد — بحيث إن الوقت الذي يقرأه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة، وكل منهم يقدر مرور الزمن تبعًا لسرعة مختلفة، فارتبطت الملاحظة بالملاحظ — بالذات العارفة — بموقع الملاحظ وحركته، قد يكون موقع الملاحظ بالنسبة لنا هو الأرض في كل الأحوال، لكن الملاحِظ المرتبط بالأرض لا يستطيع أن يجري الأقيسة الفلكية نفسها التي يجريها الملاحظ المرتبط بكوكب آخر، والنسبية تدرس كيف تؤثر حركتا هذين الملاحظين النسبية في ملاحظاتهما،٦٤ ولم يتيسر هذا إلا بعد تقدم ملحوظ في الرياضيات ساعد على الترجمة المتبادلة للمظاهر التي تبدو لملاحظين مختلفين، وهي الترجمة التي تبلغ حدًّا عظيمًا من الصعوبة شاعت عن النظرية النسبية.

وكما رأينا، في هذا الإطار ظهر التآني، أي استحالة الحكم بأن حدثًا وقع قبل أو بعد الآخر، فثمة أنظمة زمانية مختلفة، حتى إنه يمكن أن يكون الزمن قابلًا للارتداد، للرجوع إلى الوراء. هكذا قوضت النسبية مفاهيم الاطراد والتسلسل الزماني المتعاقب، الضروري لمفهوم العلية ليجعل الحدث السابق علة واللاحق معلولًا، بالإضافة إلى أن جاذبية نيوتن «التثاقل» التي تُعد التمثيل العيني للعلية قد حل محلها تحدب الكون، لقد اهتزت العلية الكونية، واهتز تسلسل الأحداث العلي في اتجاه واحد من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل، وكل ما على العالم أن يلاحظها بموضوعية مطلقة وكأنه يراقبها من وراء ستار، فلا يتدخل إطلاقًا، دوره سلبي لا يؤثر البتة في نتيجة استقراء الظاهرة: القانون العلمي الذي هو اكتشاف لحقيقة الظاهرة.

لقد أثيرت مشكلة الاستقراء حين كشفت التحليلات الفلسفية والمنطقية، منذ أيام هيوم، عن استحالة تبرير مبدأ العلية واطراد الطبيعة، وما أضافته ثورة الفيزياء الكبرى هو أنه ليس ثمة حاجة إليهما، إن الكوانتم جعلت الفيزيائي في القرن العشرين لا ينشغل بالعلية، بل بالقوانين الإحصائية، يحصر همَّه في الارتباطات والعلاقات والتأثيرات والتفسيرات، وليس التعليلات، يعمل بالآلات الدقيقة في معمله ليكشف قوانين انتظام الطبيعة، ولا يعوزه البتة مفهوم الاطراد الحتمي؛ لأنه يعلم جيدًا حدود الدقة المتاحة ويدرك صعوبة أن يجعل الظاهرة تكرر نفسها تمامًا، إلا داخل حدود من اللاتعين — بعد أن لفت هيزنبرج الأنظار إلى تأثير الأجهزة المعملية في الظواهر المرصودة — فلا يبحث عن اطراد الطبيعة، ويكفيه انتظامها القائم على أساس إحصائي لا علِّي ليبحث عن احتمالية الظاهرة — أي ترددها بنسبة مئوية معينة مستمدة من ترددات لوحظت في الماضي — ويفترض أنها سوف تسري تقريبًا في المستقبل.

هكذا تبرأت الإبستمولوجيا العلمية من مبدأ العلية الكونية واطراد الطبيعة ودورانهما المنطقي الشهير. ربما ظل مبدأ العلية هاديًا للعقل حين التفكير في هذه الزاوية أو تلك، لكنه بالتأكيد لم يعد أساس الإبستمولوجيا العلمية كما كان في الفيزياء الكلاسيكية، خصوصًا بعد دخول المصادفة في بنية الطبيعة. لقد ارتدت المصادفة ثوبًا قشيبًا، وتخلصت من أدران جائرة لحقت بها في عصور يقين العلم الحتمي الذي كان يفسر المصادفة والاحتمال تفسيرًا ذاتيًّا، أي كان يرجعه إلى جهل الذات العارفة وعجزها عن الإحاطة بعلل الظاهرة. علمتنا الميكانيا الموجية ومعادلات إيرفين شرودنجر أن المصادفة والاحتمال تفسيران لصميم طبيعة الظاهرة موضوع الدراسة، لقد أصبح الاحتمال موضوعيًّا.

والمحصلة أن تبخر اليقين من عالم العلم، حتى شاع القول الدارج: إن العلماء ليسوا على يقين من أي شيء، ويكفي أن العوام على يقين من كل شيء. وتبقى أبرز معالم إبستمولوجيا القرن العشرين أنها انتهت إلى أن أي قضية إخبارية، بما هي إخبارية، تظل احتمالية، اليقين فقط في القضايا التحليلية الفارغة من أي مضمون، كقضايا المنطق والرياضيات، وحتى اليقين الرياضي اتضح أن أمره ليس بسيطًا ومحسومًا كما كان يُظن، ولكن نتفق على أن صياغة القوانين العلمية في لغة رياضية لن تعني حتمية أو لا حتمية؛ لأن الرياضيات في حد ذاتها محايدة، محض رموز نعبر بها عن أي مرموز إليه، ونملؤها بالمضمون التطبيقي، سواء افترضناه حتميًّا أو لا حتميًّا.

ومع تقدم فيزياء القرن العشرين المتوالي في طريقها اللاميكانيكي اللاعلِّي الإحصائي الاحتمالي، امتدت اللاحتمية إلى فروع العلم الأخرى. وإذا كانت نظرية دارون قد جلبت ظاهرة الحياة تحت مظلة الحتمية، فإن البيولوجيا في القرن العشرين قد انتهت إلى خطأ افتراض دارون القائل: إن الصفات المكتسبة تنتقل وراثيًّا. وعن طريق الاسترشاد باللاحتمية أمكن تفسير التغيير الوراثي تفسيرًا مبنيًّا على الإثبات التجريبي للتحولات — أي للتغيرات في المادة الوراثية وأنها تتم بفعل أسباب عشوائية — فيُترك الأمر لقوانين الاحتمال التي تؤدي بمضي الوقت وببطء إلى أشكال من الحياة نزداد علوًّا بالتدريج. ومن ناحية أخرى، تقدم العالم البريطاني جبرييل دوفر G. Dover من جامعة كمبردج في الثمانينيات بفرض يطرح مبدأ الصدفة التي تحكم الطفرات الوراثية.
تمسك كلود برنار في القرن التاسع عشر بمبدأ الحتمية لكي تلتحم العلوم البيولوجية بالعلوم الفيزيوكيمائية، ومن أجل هذا الالتحام في القرن العشرين تقدَّم البيولوجي الفرنسي مونو (١٩١٠–١٩٧٦م) الحاصل على جائزة نوبل بنظرة لا حتمية تستوعب أبعاد الكوانتم والنسبية ومحصلات ثورتيهما، ويخرج منها بأن العالم الحي لم يظهر البتة بصورة ميكانيكية، بل هو ظاهرة فريدة ولا تنبئية، لكن يمكن تمامًا تفسيرها على أساس الإبستمولوجيا العلمية اللاحتمية، وقبل أن يثبت خصوبة هذا الفرض ينبهنا إلى قسوة اللاحتمية البيولوجية؛ لأننا نريد لوجودنا أن يكون ضروريًّا وحتميًّا ومرادًا منذ أول الخلق. والعلم البيولوجي الحتمي استمرار لجهد البشرية الدائب والبطولي في سبيل قلب احتمال وجودها إلى ضرورة.٦٥

إن خصائص الكائنات الحية لا تنتهك طبعًا القوانين الفيزيوكيمائية، لكنها غير قابلة للاستنتاج منها أو الرد إليها كما رأى الكلاسيكيون. ثمة عنصر لا حتمي كايوسي في بنى الكائنات الحية. لقد انهارت الحتمية الميكانيكية في المادة الجامدة التي اتضح أنها أكثر دهاء وتعقيدًا، فما بالنا بالمادة الحية؟! الحق أن مبدأ اللاحتمية بترابطاته الإحصائية يفرض نفسه على البيولوجيا أكثر من أي علم آخر.

أما في العلوم الإنسانية فقد وصل المد اللاحتمي إلى حد ثورة مناظرة لثورة الفيزياء — وإن تأخرت عنها نصف قرن وأتت في أواسط الخمسينيات — نتيجة لتطور العلوم الإحصائية، ولكي تنشئ نوعًا جديدًا من المرونة الفكرية وامتدادًا لاستراتيجيات بحث الظواهر النفسية. إنه علم النفس المعرفي Cognitive Psychology الذي يدرس الاختيار والحرية والإرادة، وهي ظواهر أسرف علم النفس التحليلي والسلوكي على السواء في إلغائها انسياقًا وراء الحتمية العلمية الشاملة. أما علم النفس المعرفي فهو طريق ثالث، لكن يستوعب إيجابيات السلوكية بإمبيريقياتها الفعالة في إجراء وضبط التجارب والقياسات والاختبارات السيكوميترية والجداول الإحصائية، ثم يتجاوز قصوراتها وتسطيحها للظاهرة النفسية؛ ليصوب الانتباه على الطريقة التي يفكر بها الناس وعلى معرفتهم وتصوراتهم كمحددات أساسية للشعور والفعل والسلوك، وهذا ما أغفلته السلوكية امتثالًا للإبستمولوجيا الكلاسيكية الميكانيكية. إن الناس يختارون الكثير من معارفهم ومداركهم. نحن لا نشاهد كل وقائع الرؤية ولا نسمع كل وقائع الصوت، الانتباه انتقائي إلى حد كبير مما يجعل وقائع معينة دون غيرها تدخل حيز الإدراك، وليس من الضروري أن تكون هي الأقوى في إثارتها للأعصاب الحسية، فالبرنامج المعرفي للشخص أقوى في توجيه الانتقاء في الانتباه. اللغة أيضًا تخضع لهذا الاختيار الانتقائي في اكتسابها وفي استخدامها، وبفضل الجهود الدءوبة لرواد — نخص منهم بالذكر أولريك نايسر وجيروم برونر وريتشارد لازاروس — تبلور علم النفس المعرفي خلال الستينيات وشق طريقه الواعد مستفيدًا من إيجابيات للعلم في القرن العشرين، وأيضًا تقاناته، خصوصًا نظريات الذكاء الاصطناعي وأنظمة الكومبيوتر كمناظرة تخطيطية لفهم أنظمة الذكاء الطبيعي أو العقل الإنساني في حل المشكلات.
وأيضًا لم يعد علم الاجتماع في القرن العشرين أسيرًا للحتمية الميكانيكية التي حكمت منظور أوجست كونت الوضعي في القرن التاسع عشر ظهرت مدارس عدة تستوعبها وتتجاوزها، وتبدي مزيدًا من الفعالية والكفاءة في دراسة الظواهر الاجتماعية ودراسة العنصر الكايوسي فيها. ولم يدحض الواقع قضية مثلما دحض الزعم الفاسد بحتمية التاريخ. والواقع أن الحتمية التاريخية في أصلها — كما أوضح كارل بوبر — حيلة أيديولوجية للصهيونية: حتمية تحقق وعد الله وعودة شعب الله المختار إلى أرض الميعاد، وأصبحت هكذا للشيوعية والنازية والفاشية، تخلى عنها جمهرة المؤرخين في القرن العشرين الباحثين عن منظور علمي للتاريخ، لدرجة أن المؤرخَين الألمانيين إدوارد ماير وماكس فيبر قاما بدراسة جادة للاحتمال الموضوعي في التاريخ، أي تصور ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، وهذا تصور علمي يعين على فهم أعمق للحاضر.٦٦ إن هناك نهاية مفتوحة للتاريخ تفرض دائمًا نظرة لا حتمية.
ولا يُذكر التاريخ من دون الجغرافيا، وهي علم علاقة الإنسان ببيئته، النظرة الحتمية التي تدين للإبستمولوجيا الكلاسيكية ترى المسألة نتاجًا آليًّا للعوامل البيئية، أما النظرة اللاحتمية في القرن العشرين فتنطلق من أن العامل البشري أكثر حسمًا. مراكز الصناعة مثلًا لا تعتمد على العوامل البيئية قدر اعتمادها على العوامل البشرية، وهناك بيئات متشابهة طبيعيًّا لكنها مختلفة بشريًّا، مثلًا يختلف سكان خط الاستواء في إفريقيا عنهم في جزر جنوب آسيا. وظهرت لا حتمية صريحة في جغرافيا القرن العشرين صاغتها بقوة «مدرسة الإمكانات Possibilism»، وهذا مصطلح قدمه لوسيان فيفر L. Febvre في كتابه «مقدمة جغرافية للتاريخ» تعبيرًا عن الاتجاه الذي أسسه أستاذهفيدال دو لابلاش V. D. La Blache (١٨٤٥–١٩١٨م) مؤكدًا على تحالف الإنسان مع عوامل البيئة، وكان تلميذه فيفر متطرفًا في تأكيده على دور الإنسان. مدرسة الإمكانات بجملتها تنطلق من أنه لا توجد في الطبيعة ضرورات أو حتميات، بل توجد إمكانات تنتظر فعالية الإنسان. ولما كانت الجغرافيا علمًا إنسانيًّا اتضح لماذا تكون اللاحتمية هي الأنسب لها. وقد بلغت اللاحتمية في الجغرافيا ذروتها بنشأة علم «الجغرافيا الإرادية»، وهي مبحث مستقبلي يقوم على معلومات تتقاطع فيها تحليلات الاجتماع والاقتصاد والسياسة لتكتمل معطيات المواجهة بين الإنسان والبيئة، وتوضع بين أيدي فريق عمل مزود بأدوات تمكِّنه من التنبؤ بوجوه التطور ونتائجه، ويسهم في إمداد اختيارات واسعة لمصلحة الحريات الجديدة، حرية العمل وحرية الراحة وحرية شغل أوقات الفراغ.٦٧ إن المنظور اللاحتمي عمَّ فروع العلوم الإنسانية هي الأخرى، وساد مجمل عالم العلم في القرن العشرين، إيذانًا بالتقدم المتسارع وأفقه المفتوح في هذا القرن المتوهج.

هكذا لم يكن الانقلاب الإبستمولوجي في القرن العشرين عميقًا فحسب، بل أيضًا شاملًا بقدر ما كان مثمرًا. على أن انهيار الأسس الإبستمولوجية التي ارتكن إليها العلم الكلاسيكي وتأكد نجاحها يومًا بعد يوم، قد خلق أزمة أضنت العلماء في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين قبل أن تنحسم الأمور. هكذا عادت التساؤلات الفلسفية تلح من جديد في الأفق العلمي، وهذا بدوره بعث قوة دافقة في أعطاف فلسفة العلم، جعلتها أبرز فروع الفلسفة في القرن العشرين. قبيل نشأة فلسفة العلم ساد الاعتقاد بأن الانفصال أصبح نهائيًّا بين التفكير الفلسفي والتفكير العلمي، وحتى مشارف القرن العشرين نجد علماء أمثال دالتون ورذرفورد ومندليف يتصورون أن العالِم عالِم بقدر ما لا ينشغل البتة بأية تساؤلات فلسفية. ثم جاءت ثورة الفيزياء الكبرى لتطيح بالأسس التي كانت ثابتة، وتطرح منظورات جديدة لا تستغني عن المعالجات الفلسفية، وتجعل الإبستمولوجيا سؤالًا ملحًّا. وشهد القرن العشرون مجددًا فئة متميزة هي فئة العالم/الفيلسوف، مثل ألبرت آينشتين وإرنست ماخ وهنري بوانكاريه وفيرنر هيزنبرج وآرثر إدنجتون وموريتس شليك وجيمس جينز وآرثر هولي كومبتون … إلخ. وفي كل حال لم تعد الإبستمولوجيا واضحة قاطعة كما كانت في العصر الكلاسيكي، بل هي كيان أكثر عمقًا، ملبدًا بالتساؤلات الفلسفية، فتظل الفلسفة دائمًا الأفق الضروري للعقل الإنساني في حركيته المتوثبة.

برزت الفيزياء كل فروع العلم في طرحها للتساؤلات الفلسفية وتأكيد الاحتياج إلى التحليلات المنطقية والميثودولوجية والإبستمولوجية؛ لأن الثورة كانت أساسًا ثورة فيزيائية كما رأينا، وعلى عاتقي الكوانتم والنسبية تقع مسئولية الانقلاب الذي حدث في طبيعة التفكير العلمي ومنظور العقل العلمي ورؤاه، وأيضًا التقدم المتسارع للعلم. وهذا الزحف التقدمي المظفر جعل القرن العشرين بحق عصر الفيزياء، وفضلًا عن هذا تظل الفيزياء — بحكم عمومية موضوعها — ذات موقع استراتيجي في نسق العلم. كل هذه العوامل جعلت فلسفة العلم على مدار القرن العشرين مرتهنة بالفيزياء وتدور في مدارها وبين رحاها، وتستكشف دائمًا أبعادًا أرحب وأكثر خصوبة ودفعًا للتقدم في الإبستمولوجيا الجديدة.

ربما لم يعد العلم الآن — بعد أن انتهى القرن العشرون — مُتصورًا بوصفه نسقًا راسخ المعالم كما كان، وأصبحت تسود العلوم علاقات بينية وتخصصات متداخلة ومتقاطعة ومزدوجة، يصعب معها الإجماع على موقع معين بوصفه الموقع الاستراتيجي. وشهدت نهايات القرن العشرين دعاوى تزعم أن عصر الفيزياء قد انتهى، وانبثق عصر البيولوجيا بخطاه التقدمية المتسارعة وقفزاته التي تزلزل ثوابت في العلم وفي الحياة على السواء، وأن البيولوجيا أكثر تعقيدًا، يمكن أن تحتوي الفيزياء داخلها باعتبار الفيزياء حالة خاصة أبسط، فيرتد البسيط إلى المعقد في مقابل إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي التي ترد المعقد إلى البسيط. ولكن سواء أصبحنا في عصر البيولوجيا أو عصر الهندسة الوراثية أو عصر الحاسب الآلي «الكومبيوتر» والمعلوماتية أو عصر الاتصالات … فإن هذه المنجزات وسواها إنما هي من الثمار اليانعة والقطوف الدانية لثورة الفيزياء الكبرى، ولولا تملك ناصية الإلكترون بفضل الكوانتم لما تطورت فيزياء الموصلات التي حولت ماكينة تورينج النظرية البحتة إلى هذا العملاق المائل: الكومبيوتر، ولولاه لما استطاع العقل البشري أن يتعامل مع عشرات الآلاف من المورثات وأن يشيد عصر الهندسة الوراثية ومشروع الجينوم البشري. بصفة عامة «تقف أشباه الموصلات وراء تكنولوجيا القرن العشرين في تصنيع الإلكترونيات الدقيقة والدوائر المتكاملة التي تحتوي على عدد كبير من الترانزستورات والثنائيات الكهربية والمكثفات والملفات وسواها، مما ساهم في تطوير الصناعات الإلكترونية المسموعة والمرئية والأقمار الصناعية».٦٨ هكذا تقف ثورة الفيزياء الكبرى وراء تطورات العلم والتقانة «التكنولوجيا» والحضارة الإنسانية على مشارف القرن الحادي والعشرين، وبالتالي — ومن باب أولى — وراء تطورات فلسفة العلم المتوقعة فيه، فإذا شهدت فلسفة العلم منحى مغايرًا يعني علاقة أوهى بالفيزياء واتخاذ محاور سواها، فلن يعدو هذا أن يكون امتدادًا للازدهار والتوقد الذي بثته ثورة الفيزياء في فلسفة العلم على مدار القرن العشرين.

ولكي نصل في النهاية إلى هذه الآفاق المستقبلية المستشرفة، آن الأوان لوقفة منهجية عن كثب أكثر إزاء التيارات الكبرى لفلسفة العلم في القرن العشرين، وقد انبثقت انطلاقتها اللافتة حين تسلحت الفلسفة التجريبية بالكيان المهيب الذي صادفنا حين الاقتراب من ثورة الرياضيات، ألا وهو المنطق الرياضي أو المنطق الرمزي.

إن التجريبية — معقل فلسفة العلم — قد أصبحت منطقية.

كيف حدث هذا؟ وإلامَ تأدى؟

١  وضع مجمع اللغة العربية مصطلح «الكمومية» ترجمة لمصطلح «الكوانتم». ولكن يندر استعمال «الكمومية»، ويشيع في الكتابات العربية مقابل لا يحمل أي قدر من الصواب هو «الكم» فنقول عن «فيزياء الكوانتم»: فيزياء الكم، في حين أن الكم Quantity أي تكميم بمعنى كمية، طبعًا «الكمومية» هو المصطلح الذي ينبغي استعماله؛ لكن لأنه غير مألوف فسوف نقتصر على تعريب المصطلح فنقول: «الكوانتم». وهذا ما اتبعناه في كتاباتنا، وجعلناه عنوانًا لآخر ما صدر لنا، انظر: رولان أومنيس، فلسفة الكوانتم، ترجمة د. أحمد فؤاد باشا، ود. يُمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أبريل ٢٠٠٨م.
٢  Ernest Hutten, The Ideas of Physics, Oliver & Boyd., London 1976, P. 71.
٣  V. Rydnik, ABC of Quantum Mechanics, op cit., P. 28-29.
٤  درجة الحرارة المطلقة أو الصفر المطلق هي أدنى درجة حرارة يمكن أن يصل إليها الجسم، حيث تنعدم تمامًا الطاقة الحرارية وحركات الجزيئات.
٥  Ibid, P. 30–32.
٦  Ibid, P. 33-34, And: Louis De Broglie, Revolution in Physics, PP. 103–108.
٧  J. Jeans, The Mysterious Universe, P. 95.
٨  رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص١٥٢.
٩  L. Ponomarev, In Quest of Quantum, Op cit., p. 34.
١٠  L. Broglie, The Revolution in Physics, Op eit., p. 121.
١١  Ibid, P. 119.
١٢  Ibid, P. 119-120.
١٣  د. محمد زكي عويس، دنيا الفيزياء، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ٢٠٠٠م، ص٢٥-٢٦.
١٤  R. Serway, Physies, Florida, 1996, P. 1203.
١٥  بول موي، المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص٣٣١-٣٣٢.
١٦  لويس دي بروليه «بروي»، الفيزياء والميكروفيزياء، ترجمة د. رمسيس شحاتة، ص٨٠.
١٧  كان كومبتون أيضًا فيلسوفًا، يقلقه الكابوس الحتمي الذي يلغي حرية الإنسان، ويهمه الإثبات الفلسفي لقضية اللاحتمية بكل أبعادها، وعبَّر عن هذا في كتابيه «حرية الإنسان»، و«المعنى الإنساني للعلم»، في نظرية كومبتون الفلسفية انظر: د. يُمنى الخولي، الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٩٠م، ص١٨٦–١٩٠.
١٨  L. De Broglie, The Revolution in Physics, P. 114-115.
١٩  Penguin Dictionary of Science, P. 84.
٢٠  Ponomarev, In Quest of Quantum, P. 24–26.
٢١  لويس دي بروليه، الفيزياء والميكروفيزياء، ترجمة د. رمسيس شحاتة، ص٧٢-٧٣.
٢٢  فيرنر هيزنبرج، المشاكل الفلسفية للعلوم النووية، ترجمة د. أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٢م، ص٩-١٠.
٢٣  د. محمد زكي عويس، دنيا الفيزياء، ص٣٣.
٢٤  د. محمد زكي عويس، مستقبل العلم، دار المعارف، القاهرة، ١٩٩٩م، ص١٢١.
٢٥  James Jeans, The Mysterious Universe, PP. 28–32.
٢٦  Theresa Levlett, Editing out Caloric: Fresnel, Arago and the Meaning of Light, in: British Journal for the History of Science, Cambridge University Press. March 2000. Pp 49–65.
٢٧  جيمس أ. كولمان، النسبية في متناول الجميع، ترجمة د. رمسيس شحاتة، مراجعة د. فهمي إبراهيم ميخائيل، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٩م، ص٣٤، ٣٥.
٢٨  Hans Reichenbach, Relativity Theory and Apriori Knowledge, Trans, & ed. By Maria Reichenbach, University of California Press, 1958, P. 17 et seq, See also: A, Einstein & L. Infeld, The Evolution of Physic, Cambridge, 1938, P. 225.
٢٩  يُسمى أحيانًا بانكماش فيتزجيرالد/لورنتز؛ وذلك لأسباب تاريخية، فهما قد سبقا آينشتين في طرح فرض انكماش الأجسام، وأيضًا استجابة لنتائج تجربة ميكلسون/مورلي، لكن كانت هذه محاولة يائسة من فيتزجيرالد ولورنتز لإنقاذ الأثير.
٣٠  د. عبد الحميد بدر، الكون الأحدب: قصة النظرية النسبية، دار العلم للملايين، بيروت، ط٢، ١٩٦٩م، ص١١٩.
٣١  ألبرت آينشتين، النسبية الخاصة والعامة، ترجمة د. رمسيس شحاتة ميخائيل، دار نهضة مصر، القاهرة، د. ت. ص٤٤.
٣٢  فيرنر هيزنبرج، المشاكل الفلسفية للعلوم النووية، ترجمة د. أحمد مستجير، ص٦.
٣٣  A. Eddington, The Nature of the Physical Reality, University of Michgan Press, 1963, P. 53.
٣٤  برتراند رسل، ألف باء النسبية، ترجمة فؤاد كامل، مركز كتب الشرق الأوسط، القاهرة، ١٩٧٧م، ص١٢٦.
٣٥  J. Jeans, The mysterious Universe, P.
٣٦  P. 220 A. Einstein & L. Infeld, The Evolution of Physic.
٣٧  جورج جاموف، واحد … اثتنين … لا نهاية، ترجمة إسماعيل حقي، النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٦٨م، ص١٠٩.
٣٨  Hans Reichenbach, The Philosophy of Space and Time, Dover Publishing, New York, 1958.
وبمزيد من التفاصيل انظر: يمنى الخولي، الزمان في الفلسفة والعلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٩م، ص١١٥–١٤٥.
٣٩  جيمس كولمان، النسبية في متناول الجميع، ترجمة د. رمسيس شحاتة، ص٩٢.
٤٠  هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص١٨٥-١٨٦.
٤١  د. عبد الحميد بدر، قصة النظرية النسبية، ص١١٠ وما بعدها.
٤٢  Cliford M. Will Was Einstein Right? Oxford University Press, 1989, PP. 75–78.
٤٣  Henry Margenau, The Nature of Physical Reality, McGraw Hill, New York, 1960, P. 497.
٤٤  هانز راشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص١١٨.
٤٥  د. محمد ثابت الفندي، فلسفة الرياضة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ١٩٨٧م، ص٤٣ وما بعدها.
٤٦  Thomas Heath, Mathematics in Aristotle (1949), Theommes Press, Bristol, 1988, P. 23-24.
٤٧  The Elements of Euclid, ed, By I. Todhunter, Everyman’s Library, J. M. Dent & Sons, London, 1948, PP. 105, 71-72, 113-114, 134–137, 173.
٤٨  ف. سميلجا، بحثًا عن الجمال، ترجمة د. عبد الله جبة، دار مير، موسكو، ١٩٧١م، ص١٧٨-١٧٩.
٤٩  مأخوذ من: المرجع السابق، ص٢١٧.
٥٠  M. Cohen, Reason and Nature, P. 174-175.
٥١  هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص١٢٢-١٢٣.
٥٢  Hans Reichenbach, Relativity Theory and Apriori Knowledge, P. 3-4.
٥٣  نقلًا عن: ف. سيملجا، بحثًا عن الجمال، ترجمة د. عبد الله جبة، ص٣٦٥.
٥٤  سيملجا، بحثًا عن الجمال، ص٣٢٠.
٥٥  Hans Reichenbach, Relativity Theory and Apriori Knowledge, PP. 194-195.
٥٦  H. Cohen, Reason and Nature, P. 194-195.
٥٧  الدالة Function تحتوي على متغير أو أكثر؛ أي رمز بلا معنى محدد «س» أو «ص» أو «ل» … مثلًا «س مصري» تتحول إلى قضية حين نضع بدلًا من المتغير ثابتًا، أي معنًى محددًا «زيد مصري». دوال الصدق هي الدوال التي تتحول دائمًا إلى قضايا صادقة مهما كانت الثوابت التي توضع بدلًا من المتغيرات وهي تكرارية؛ لأن جميعها تحصيل حاصل المقدم هو عينة التالي هكذا حمل «برنكبيا ماتيماتيكا» نسقًا لدوال الصدق التكرارية.
٥٨  من «عن نظرية جودل»، ورقة غير منشورة لأستاذ الرياضيات د. محمد عامر، ولمزيد من التفاصيل: د. محمد عامر، انهيار اليقين، هل يمكن يكنة الحقائق؟ مجلة عالم الفكر، المجلد العشرون، العدد الرابع، ١٩٩٠م، ص٩١٧–٩٣٢.
٥٩  L. De Broglie, The Revolution in Physics, P. 129-130.
٦٠  يبحث العلماء الآن البعد الخامس للمادة، فضلًا عن علماء الرياضة البحتة الذين وصلوا إلى البُعد الحادي عشر والبعد «ن»!
٦١  A. Eddington, Indeterminacy and Indeterminism, In: Aristotelian Society Supplementary Vol, X. London, 1931, P. 162.
وانظر المعالجة المستفيضة في كتابنا المذكور آنفًا: فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، ص٣٧٢–٤٤٤.
٦٢  Brian L. Silver, The Ascent of Science, Oxford University Press, 1988, P. 241.
٦٣  H. Reichenbach, Relativity Theory and Apriori Knowledge, P. 96.
٦٤  بول موي، المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص٢٩٧.
٦٥  ج. مونو، المصادفة والضرورة: محاولة في الفلسفة الطبيعية لعلم الحياة، ترجمة حافظ الجمالي، م. س. ص٥٩.
٦٦  Sidney Hook, Hero in History, Secker and Warburg, London, 1945, P. 96.
٦٧  جان جييج، الحرية والتنظيم في عالم اليوم، ترجمة تيسير شيخ الأرض، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ١٩٧٧م، ص١٦٥ وما بعدها.
٦٨  د. محمد زكي عويس، دنيا الفيزياء، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ٢٠٠٠م، ص٥٣-٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤