الرسالة الأولى

من الإسكندرية إلى المَرِيَّة
كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بِسُحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى ، الموافقة سنة ست وخمسين وتسعمائة لميلاد السيد المسيح — صلوات الله عليه؛ وذلك في سفينة عَدَولية١ لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر، لم نرَ قط مثلها. وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعًا بإنشاء السفن والأساطيل، فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يُعمل مثله، وسيَّر فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق؛ لتباع هناك وتُستبدل بها بضائع من هاتيك البلاد، فمرَّ بكثير من ثغور البحر الشامي، وكان آخر ما مرَّ به الإسكندرية.٢
ولما نزلتُ هذا المركب رأيت فيه كثيرًا من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الأندلس، وممَّن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يُعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي،٣ وفقيه مصر أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري،٤ وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي،٥ وتاجر رُحَلة من أهل الموصل يُعرف بابن حوقل،٦ وقَيْنة اسمها فَضْل المدنية؛٧ وأصل هذه القينة، كما أخبرتني، لإحدى بنات هارون الرشيد، ونشأت وتعلمت ببغداد، ونهدت من هناك إلى المدينة المشرَّفة؛ فازدادت ثَمَّ طبقتها في الغناء، ثم اشتُريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تُسمَّى عَلم المدنية وصواحب أخرى. وقد عقدت الغُربة بيني وبين فَضْل صحبةً؛ لأن الغريب، كما قيل، للغريب نسيب. فرأيت منها أديبة ذاكرة، حسنة الخط، راوية للشعر، حلوة الشمائل، معسولة الكلام، ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع، والجمال الرائع، فكانت — صنع الله لها — سلوتنا في سفرنا، وكانت تجلو هموم السَّفْر٨ ومرض البحر؛ بما تنفُثه بيننا الفينةَ بعد الفينة٩ من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب، ويرتفع له حجاب القلوب، فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول:
حديث إذا لم تخشَ عينًا كأنه
إذا ساقَطْتَه الشَّهْد أو هو أطيب
لَوَ انَّك تستشفي به بعد سكْرَةٍ
من الموت كادت سَكْرَة الموت تذهب
ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية، تحركت الريح الشرقية نسيمًا فاترًا عليلًا، ثم غشَّى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه، فعاد كأنه صرح ممرَّد من قوارير، فبقينا لاعبين على صفحة ماء تخاله العين سبيكة لُجين، كأنَّا نجول بين سماءين، فكان لذلك منظر هو قَيْد النواظر، وغُلُّ١٠ الألباب، وشرَك النفوس، تجلَّى لنا فيه جمال الكون وصانعه، فكنت ترى السماء صافية الأديم، زاهرة النجوم، وكوكب الزهرة مقبلًا من ناحية المشرق يحفُّه الجمال والجلال، فلولا التُّقى لقلت: جَلَّت قدرته! وترى البحر كأنه مرآة مصقولة تنظر السماء فيها وجهها، فكأنما الماء سماء، وكأن السماء ماء، وترى النُّوتيَّة مُجدِّين في التجديف على حالٍ لو هممت بتشبيهها بشيء حسن لاضطرك حسنها إلى ردِّه إليها.
مَجاذِفُ كالحيات مدَّت رءوسها
على وجلٍ في الماء كي تروي الظما
كما أسرعت عدًّا أنامِلُ حاسبٍ
بقبضٍ وبسطٍ يَسبق العين والفَمَا١١

وفيما بين ذلك تُسمع فَضْل تغنِّي في قبتها مواليا بغدادية ساحرة، وبين يديها مِزْهَر تقلَّدته أطرافها:

تُميتُ به ألبابَنا وقلوبنا
مرارًا وتُحييهنَّ بعد هُمُود
إذا نَطَقت صِحْنا وصاح لنا الصَّدى
صياح جنود وُجِّهت لجنود
ظللنا بذاك الديدنِ اليومَ كلَّه
كأنَّا من الفردوس تحت خلود
ومضى على ذلك ثلاثة أيام بلياليها كنَّا من أوقاتها في بُلَهْنيَةٍ١٢ من العيش، وغفلة عن أعين الدهر، ووصال أخضر، ونعمى لا يشوبها بؤس ولا كدر، فلما كان اليوم الرابع — ولا كان — هبَّت علينا ريح عاصف رمتنا بها الأقدار من حيث لا ندري، فأرغى البحر وأزبد، وأبرق وأرعد، وتلاطمت الأمواج، واهتاجت أيما اهتياج، وصار بها — عَمرك الله — مثل الجنون، وتراءت في صورها المنون.
وقد فغَر الحِمام هناك فاهُ
وأتلَع جِيدَه الأجلُ المُتاح١٣

فانقلب يسرنا عسرًا، وأدال الله من الحلو مرًّا، وعظُم الخطب، وعمَّ الكرب، ونحن في ذلك قعود كدُودٍ على عُود، وقد نبتْ بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفَرَق ألسنتنا، وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء، وذلك السفين، ومَن في قبر جوفِه دفين.

البحر صعب المرام جدًّا
لا جُعلت حاجتي إليه
أليس ماءً ونحن طين
فما عسى صبرنا عليه١٤
ولبثنا على هذه الحال من ظهر اليوم الرابع إلى سَحره، وبعد ذلك فترت الحال بعض الفتور، ثم جاءت ريح رُخاء زجَّت السفينة إلى برِّ جزيرة أقريطش «كريد» أهنأ تزجية، وأخذنا نسير في محاذاتها، فما كان إلَّا كلا ولا حتى وصلنا إلى مدينة الخندق؛١٥ إحدى مدنها ومرافئها العظيمة، فأرسينا بها ريثما نشتري منها ما يعوزنا من الخبز واللحم والماء والفاكهة.

أقريطش

وهذه الجزيرة من جزر بحر المغرب الكبيرة، فيها مدن وقرى كثيرة، يقابلها من بر أفريقيا لوبيا، وجميع سكانها الآن مسلمون، وأميرها يسمى عبد العزيز بن شعيب؛ من ولد أبي حفص البلوطي الأندلسي،١٦ وذلك فيما علمت أن الحكم بن هشام؛ أمير الأندلس؛ كان قد أمعن صدر ولايته في اللذات، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة؛ مثل: يحيى بن يحيى الليثي؛ صاحب مالك وأحد رواة الموطأ عنه، وطالوت الفقيه، وغيرهما، فنقموا عليه، وثاروا به، وبايعوا بعض قرابته، وكانوا بالربض الغربي من قرطبة — محلَّة مُتَّصلة بقصره — فقاتلهم الحكم واستلحمهم، وهدم ديارهم ومساجدهم، فلحقوا بفاس من أرض العُدوة١٧ وبالإسكندرية. وبعد أن أقاموا في الإسكندرية حينًا من الدهر، تلاحى رجل منهم مع جزار من سوقتها، فنادوا بالثأر، واستلحموا كثيرًا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم، وامتنعوا بها، وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي — ويُعرَف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح؛ مِن عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة — فقام برئاستهم.

وكان على مصر يومئذٍ عبد الله بن طاهر من جهة المأمون، فزحف إليهم وحصرهم بالإسكندرية، فاستأمنوا له فأمَّنهم وبعثهم إلى هذه الجزيرة — أقريطش — فعمروها، وأضاءوها بنور الإسلام، وشيدوا بها المعاقل والحصون والمدن العظيمة؛ مثل الخندق التي اشترينا منها خبزنا ولحمنا، وبهَرنا ما رأينا فيها من حضارة العرب وعز الإسلام، ولا يزال أميرها إلى اليوم — وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة — من ولد أبي حفص البلوطي، وهو الأمير عبد العزيز بن شعيب، أدام الله عليه ملكه، وأبعد عنه كيد الأعداء.

ولما أقلعنا عن بر جزيرة أقريطش؛ أسعدت الريح، وأصحت السماء، ونام عنا البحر، وأخذت السفينة تشق اليم شق الجلم،١٨ وأخذنا في سمت جزيرة صقلية Sicily، وما زلنا حتى قطعنا سبعمائة ميل في مدى أربعة أيام بلياليها. ولما قاربنا صقلية، وصرنا منها أدنى ذي ظَلَم؛١٩ أخذت أعيننا أشباحًا كالأعلام تسير على وجه الماء تنضم إلى بعضها تارة، وتنصاع كسِرْب القَطَا أخرى، فتساءلنا، فقيل لنا: إن هذا أسطول المعز لدين الله أبي تميم معد العبيدي يغدو ويروح بين صقلية وبين قلورية Calabria من بر الأرض الكبيرة «أوروبا»، فاغتبط بهذا المنظر تاجر مغربي أديب من أهل المهدية نزل معنا من أقريطش بنِيَّة الوفود إلى صقلية، وأخذت منه هزة الطرب حين رأى أسطول بلده، ورفع عقيرته — وقد أنافت برأسه النعرة — نعرة العصبية — قائلًا: لله أبو القاسم محمد بن هانئ الأندلسي؛ شاعر سيدنا المعز، لكأنه يرى ما نرى الآن حين يقول في هذا الأسطول:
أما والجواري المنشآت٢٠ التي سَرتْ
لقد ظاهَرَتها٢١ عدة٢٢ وعديد٢٣
قبابٌ٢٤ كما ترخي القباب على المَها٢٥
ولكنَّ من ضمت عليه أسود
عليها غمام مكفهر صبيره٢٦
له بارقات جَمَّة ورعود
أنافت بها أعلامها٢٧ وسمالها
بناء على غير العراء مشيد
من الراسيات الشُّمِّ لولا انتقالها
فمنها قنان شمَّخ وريود٢٨
من الطير إلا أنهن جوارح
فليس لها إلا النفوس مصيد
من القادحات النار تُضرم للصِّلَى
فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غيظًا ترامت بمارج
كما شبَّ من نار الجحيم وقود
فأفواههن الحاميات صواعق
وأنفاسهن الزافرات حديد
لها شعل فوق الغمار٢٩ كأنها
دماء تَلَقَّتها ملاحفُ سُود
تعانق موج البحر حتى كأنه
سليط له فيه الذبال عتيد٣٠
ترى الماء فيها وهو قانٍ عبابه
كما باشرت رَدع الخَلوق جلود٣١
فليس لها إلا الرياح أعنَّة
وليس لها إلا الحباب كديد٣٢
وغير المذاكي نجْرها٣٣ غيرانها
مسومة تحت الفوارس قود
رحيبة مد الباع وهي نتيجة
بغير شوى٣٤ عذراء وهي ولود٣٥
تكبرن عن نقع٣٦ يثار كأنها
موالٍ٣٧ وجرد الصافنات عبيد
لها من شفوق العبقري ملابس٣٨
مفوفة٣٩ فيها النضار جسيد٤٠
كما اشتملت فوق الأرائك خُرَّدٌ٤١
أو التفعت فوق المنابر صِيد٤٢
لبوس تكف الموج وهو غُطامِط٤٣
وتدرأ بأس اليم وهو شديد
فمنه دروعٌ فوقها وجواشنٌ٤٤
ومنها خفاتينٌ٤٥ لها وبُرود
وإنا لفي ذلك إذ رأينا قلورية من بر الأرض الكبيرة عن يميننا، وبر جزيرة صقلية عن يسارنا، ثم دخلنا المجاز الذي بينهما فرأينا بحرًا صعبًا ينصبُّ انصباب العَرِم، ويغلي غليان المرجل لشدة انحصاره وانضغاطه، فاستمر مركبنا في سيره والريح الجنوبية تسوقه سوقًا عنيفًا، فلما شارفنا مدينة ريو Reggio، وقد كان الليل مظلمًا ربوض النواحي، ضربت في وجوهنا ريح أنكصتنا على الأعقاب، وحالت بين الأبصار والارتقاب، وتتابعت علينا عوارض ديم صرنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظُلَم، وعباب البحر تتوالى صدماته، وتطفر الألباب رجفاته، فقطعنا هذه الليلة البهماء في مقاساة أهوال تجعل الولدان شيبًا،٤٦ ثم تداركنا صنع الله مع السحر، ففترت الريح، ولان متن البحر، وجاءت ريح رخاء زجت المركب تَزجيةً حسنة إلى مدينة ريو.
وكان ذلك في فجر اليوم التاسع ليوم انفصالنا عن الإسكندرية. وما أرسى المركب على هذه المدينة حتى أقلع عنها كي لا يحسه أسطول العبيديين ويثأر منه؛ وذلك — فيما علمت — أن المركب الأندلسي كان قد تحرش وهو ذاهب إلى بلاد المشرق بمركب للمعز فيه كتب ورسائل، فقطع عليه المركب الأندلسي وأخذه بما فيه.٤٧ فتملكنا الذعر لذلك الخبر، ونزت قلوبنا خوفًا على أنفسنا؛ ومن ثم اعتزمت أن أنزل من هذا المركب على أقرب بلد يرسي عليه، وكذلك نزلت منه عند إرسائه على هذه المدينة، وحمدت الله الذي لا يُحمد على المحبوب والمكروه سِواه.

بيد أني ما انفصلت عن المركب حتى انفصل عني قلبي، وسار مع من فيه، وأصبحت على حد قول القائل:

هواي مع الركب اليَمَانين مصعدٌ
جنيب وجثماني بمكة موثق

ذاك انفصالي عن فضل المدنية، التي هي مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأُنس الوحيد، وزاد الراكب. ولا بَدْعَ؛ فهناك الجمال الرائع، والظرف البارع، والشباب البضُّ، والأدب الغض، ورقة الحاشية، وخفة الناحية، وعذوبة المعاشرة، وحلاوة المحاضرة.

وحديثها السحر الحلال لَوَ انَّه
لم يَجْنِ قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يُملل وإن هي أوجزت
ودَّ المُحدِّث أنها لم تُوجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها
للمطمئن وعُقلة المُستوفِز

•••

فكأن لفظ حديثها
قطع الرياض كسين زهرَا
وكأن تحت لسانها
هاروتَ ينفثُ فيه سِحرَا
حوراء إن نظرت إليـ
ـك سَقَتك بالعينين خَمرَا
تُنسِي الغَويَّ مَعاده
وتكون للحكماء ذِكرَا

•••

وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
أجد المَلامة في هواك لذيذة
حبًّا لذِكْرك فليَلُمْني اللُّوَّم

وما أنسَ من الأشياء لا أنسَ صوتها العذب الذي كأنه مجاج النحل، وغناءها الحبيب إلى النفوس حتى كأنها خلقت من كل قلب، فهي تُغنِّي لكلٍّ ما أحب، ولقد كان يخيل إلينا وهي تغنينا في المركب أنَّا في الفردوس يطربنا نبي الله داود:

إذا هي غنَّت أبهت الناس حسنها
وأطرق إجلالًا لها كل حاذق

•••

غنَّت فلم تبق فيَّ جارحة
إلا تمنت بأنها أذن

•••

تتغنى كأنها لا تغني
من سكون الأوصال وهي تجيد
مد في شأو صوتها نفس كا
فٍ كأنفاس عاشقيها مديد
وأرق الدلال والغنج منه
وبراه الشجا فكاد يبيد
فتراه يموت طورًا ويحيى
مُسْتَلذ بسيطه والنشيد
في هَوَى مثلها يخفُّ حليم
راجح حلمه ويغوي رشيد
خُلقت فتنة غناءً وحسنًا
ما لها فيهما جميعًا نديد

وأين لا أين مزهرها الذي كأن صوته صرير باب الجنة، والذي كانت إذا تناولته لتضرب على أوتاره فكأنما تنتظم قلوبنا لتضرب على أوتارها، وهكذا هكذا فليكن الغناء وسماعه، وهل خُلقت الأغاني، لعمر إلهك، إلا للغواني؟! وكم بين أن تسمع الغناء من فمٍ تشتهي أن تُقبِّله، وبين أن تسمعه من فمٍ تشتهي أن تشيح بوجهك عنه! وأيهما أملح وأجمل؟ أن يُغنِّيك فحل ملتف اللحية وشيخ منخلع الأسنان متغضن الوجه، أو تغنيك غانية كطاقة نرجس أو آسٍ، وكأنها حورية أبِقتْ من رضوان خازن الجنان، فآهٍ من جمالها! وآهٍ من حديثها! وآهٍ من غنائها! وآهٍ من مزهرها! ولكن نزلتُ ريو وفارقتْني فضل، ولله الأمر من بعدُ ومن قبلُ.

يا وحشتا للغريب في البلد النـ
ـازح ماذا بنفسه صنعَا؟
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته
عدلٌ من الله كل ما صنعا
وهذه ريو هي مدينة عظيمة من مدائن جزيرة قلورية من بر الأرض الكبيرة، واقعة على مجاز مسيني، بينها وبين مسيني نحوٌ من عشرة أميال، وبها مسجد كبير بناه في وسطها أبو الغنائم الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي؛ والي صقلية. كان من قِبل المنصور العبيدي بعد أن اكتسح بلاد قلورية جميعًا وتغلغل في أحشائها، وشيد بها المعاقل والحصون، وأرغم أنوف أهليها من الروم، وذلك فيما بلغني أن الأنبرور٤٨ صاحب القسطنطينية كان قد أرسل سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة للهجرة بطريقًا في البحر في جيش عرمرم إلى جزيرة صقلية، فأرسل الحسن إلى المنصور العبيدي يُعرِّفه الحال، فأرسل إليه أسطولًا فيه سبعة آلاف فارس، وثلاثة آلاف راجل سوى البحرية، وجمع الحسن إليهم جمعًا كثيرًا وسار من بلرم؛ قصبة صقلية في البر والبحر، فوصل إلى مسيني، وعبرت العساكر الإسلامية إلى ريو هذه، وبث الحسن سراياه في أرض قلورية، ونزل هو على بلدٍ يسمى جراجة وحاصرها أشد حصار حتى أشرف أهلوها على الهلاك من شدة العطش.
وإنه لفي ذلك إذ وصله الخبر أن الروم قد زحفوا إليه، فصالح أهل جراجة على مالٍ أخذه منهم وسار إلى لقاء الروم، ففروا من غير حرب إلى مدينة تدعى بارة، ونزل الحسن على قلعة تُعرف بقلعة قسانة، وبث سراياه إلى قلورية، وأقام عليها شهرًا فسألوه الصلح، فصالحهم على مالٍ أخذه منهم، ودخل الشتاء فرجع الجيش إلى مسيني، وشتى الأسطول بها، فأرسل إليه المنصور يأمره بالرجوع إلى قلورية، فسار الحسن وعبر المجاز إلى جراجة، فالتقى المسلمون والروم يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة، فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فانهزمت الروم، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وغنموا أثقالهم وسلاحهم ودوابهم، ثم دخلت سنة إحدى وأربعين، فقصد الحسن جراجة فحصرها، فأرسل إليه الأنبرور يطلب منه الهدنة فهادنه، وعاد الحسن إلى ريو وبنى بها مسجدًا كبيرًا في وسطها، وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين من عمارته، وإقامة الصلاة فيه والأذان، وأن لا يدخله نصراني، ومَن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن، سواء كان مرتدًّا أو مقيمًا على دينه، وإن أخرجوا حجرًا منه هُدمت كنائسهم كلها بصقلية وأفريقية، فوفى الروم بهذه الشروط كلها ذِلةً وصَغارًا.٤٩
أما قلورية فهي جزيرة كبيرة داخلة في البحر مستطيلة شرقي جزيرة صقلية، وأهلها إفرنج، ولها بلاد كثيرة، وأرض واسعة ينسب إليها — فيما أحسب — أبو العباس القلوري؛ حدَّث عنه أبو داود السجستاني في سننه،٥٠ وقد غزا المسلمون أزمان بني الأغلب هذه الجزيرة وأرض أنكبردة «لومبارديه»، وأمعنوا فيهما، واستولوا على مدينة بارة٥١ الواقعة على جون البنادقين٥٢ أيام قارلة٥٣ أنبرور الفرنج، وكذلك استولوا على مدينة طارنت من أرض أنكبردة، ومدينة ملف، وقلعة قسانة، وبلدان أخرى، وقرعوا أبواب رومة العظيمة، وغنموا منها غنائم لا يستقام لها قيمة،٥٤ وضربوا الجزية على البابا عظيم النصرانية، وذلك عدا أنهم فتحوا مدينة جنوة، الواقعة على خليج الجنويين، وأكثر جزائر هذا البحر الرومي. وجملة القول أن المسلمين أثخنوا في بلاد الأرض الكبيرة وألحُّوا في قهرها، وغلبوا أممها على أمرها، وضربت أساطيلهم بجزائر هذا البحر ضراء الضياغم بفرائسها، وأديل لهم بها من أملاكها٥٥ وأناسها؛ وذلك كله بما قوَّى عزائمهم من الحق واليقين، وألَّف بين قلوبهم من وشائج هذا الدين، وبما ألجأتهم إليه الحال، وامتلاكهم لسِيف٥٦ هذا البحر الجمِّ الأهوال؛ مما أحكمهم وأشغفهم بحبه، وجعل لهم دربة بركوبه وحربه، وأغراهم بإنشاء الأساطيل فيه يَنْقضُّون بها على جزائره التي يخطئها العد والإحصاء، وعلى عُدوته الشمالية،٥٧ وهي أمنع من العقاب في أجواز الفضاء، وعلى أهلها من أمم فرنجة، وهي أعز وأبعد منالًا، وإن كان للمسلمين:
شرفٌ ينطح السماك بروقيه
وعزٌّ يقلقل الأجبالا

•••

وهمُ البحرُ ذو الغوارب إلا
أنه صار عندَ بَحْرك آلا

وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتحاشون ركوب البحر حتى كان من عمر بن الخطاب — لما كتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر يستوصفه البحر، فكتب إليه عمرو فيما كتب: إن البحر خلق عظيم يركبه خلقٌ ضعيف دودٌ على عود — أن أوعز بمنع المسلمين من ركوبه، فتحرَّجوا منه وعبروا على ذلك حينًا من الدهر؛ حتى إذا كان لعهد معاوية أذِن في ركوب أثباجه، والجهاد على متون أمواجه؛ وذلك لأن العرب لبداوتهم لم يكن لهم مران عليه، وحذق بركوبه، بينما الروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلُّب على أعواده للحرب والاتجار مرنوا عليه، وأحكموا الدربة بثقافته، والحرب في أساطيله، حتى كان من ذلك أن أغار الروم من العدوة الشمالية على أفريقية من العدوة الجنوبية، والقوط على المغرب منها؛ أجازوا في الأساطيل وملكوها، وتغلبوا على البربر بها، وانتزعوا من أيديهم أمرها، وكان لهم بها المدن الحافلة، مثل قرطاجنة وطنجة، وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومة، ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعُدَد، فكان ذلك ديدن أهل هذا البحر الساكنين حفافيه في القديم والحديث.

فلما استقر المُلْك للعرب، وشمخ سلطانهم، وصارت أمم الأعاجم خولًا لهم وتحت أيديهم، ومتَّ إليهم كل ذي صنعة بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتيَّة في حاجاتهم البحرية أُممًا، وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته، شرهوا إلى الجهاد فيه، فأنشئوا السفن والأساطيل، وشحنوها بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من هذه الأمم الحمراء، واختصُّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته، مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس، فأوعز عبد الملك بن مروان إلى حسان بن النعمان؛ عامل أفريقية، باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية، حرصًا على مراسم الجهاد، ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله بن الأغلب، كما سيمرُّ بك، ثم تسلسل الأمر حتى بلغ شأن الأساطيل عند العبيديين أصحاب أفريقية، وعند بني أمية بالأندلس، مبلغًا غلبوا معه على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، وصار لا قبل لأمم النصرانية بأساطيلهم به، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل منه؛ مثل أقريطش وصقلية وقبرص ومالطة وقوصرة وسردانية وميورقة ومنورقة ويابسة،٥٨ كما سيمر بك، إن شاء الله.

ولقد كان من أجل عناية العبيديين وبني أمية بشأن الأساطيل وتفوقهم في ذلك على سائر الممالك الإسلامية للسبب الذي قدمناه، وهو وجودهم على ضفاف هذا البحر، أن انبعثت قرائح الشعراء في الأندلس وأفريقية بالقول في وصف الأساطيل، واختص أدباء هذين القطرين بهذا الباب من الوصف، حتى لا تكاد تجد لشعراء المشرق يدًا فيه. ومن أحسن ما سمعناه لشعراء المغرب في الأسطول دالية أبي القاسم محمد بن هانئ؛ الشاعر الأندلسي المنقطع الآن للمعز العبيدي، وقد تقدمت في صدر هذه الرسالة، وبائية علي بن محمد الإيادي التونسي؛ شاعر القائم العبيدي، وهي دون الدالية، وفيها يقول:

شرجوا جوانبه مجاذف أتعبت
شأو الرياح لها ولمَّا تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا
طورًا وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه
ليل يقرب عقربًا من عقرب
وعلى كواكبها أسود خلافة
تختال في عُدد السلاح المذهب
فكأنما البحر استعار بزيهم
ثوب الجمال من الربيع المعجب

ومنها في وصف الشراع:

ولها جناح يستعار يطيرها
طوع الرياح كراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطارة
في كل لجٍّ زاخرٍ مغلولب
يسمو بأجرد في الهواء متوج
عريان منسوج الذؤابة شوذب٥٩
يتنزل الملَّاح منه ذؤابة
لو رام يركبها القَطَا لم يركب
فكأنما رام استراقة مقعدٍ
للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن ابن داود هُمُ
ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواحم نارها فتقاذفوا
منها بألسن مارجٍ متلهب
من كل مسجور الحريق إذا انبرى
من سجنه انْصَلت انصلات الكوكب
عريان يقذفه الدخان كأنه
صبح يكر على الظلام الغيهب

إلى أن قال:

ولواحق مثل الأهلة جنح
لحق المطالب فائتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة
ويجئن فعل الطائر المتقلب
كنضانض الحيات رحن لواعبًا
حتى يقعن ببرك ماء الميزب

وبعد، فإن لشعراء المغرب من بارع القصيد في هذا الباب ما لا يحصى كثرة، وما ينم عن عظمة الأساطيل عند الدول الإسلامية، وبلوغها لديهم الشأو الذي لا يُلحَق، حتى وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه من الصولة، واتساع الملك، وضخامة السلطان.

ومن هنا تعرف مكان الأساطيل من الدول، ولا سيما دول البحار؛ مثل الدول الإسلامية لعهدنا، وأن الأسطول هو سياج الدولة وعمادها، وبه عزها، وعليه — بعد الله — اعتمادها؛ بل هو درعها المسردة التي تتقي بها سهام الأعداء وتحول، وسلاحها الذي تطول به في البحر وتصول، وجناحها الذي تطير به في سماء المجد وتجول. وإن دولة لم تُعنَ العناية كلها بالأساطيل، وترسلها على متن هذا البحر طيرًا أبابيل؛ هي لعمري دولة مقصوصة الجناح، وكالأعزل يقتحم الهيجاء بغير سلاح.

وما خير كفٍّ أمسك الغُل أختها
وما خير سيف لم يؤيد بقائم

ولما نزلت على ريو، أخذت سمتي إلى مسجدها الجامع لأُصلِّي فيه صلاة الصبح، وأُثلجَ صدري ببرد التُّقى وشعائر الإسلام، وأجلوَ بعضًا من وعثاء السفر الزُّؤَام، وما زلت حتى أخذت عيني بناءً شاهقًا تَعْتمُّ مئذنته بالعماء، كأنما تبث حديثًا إلى ملائكة الله في السماء، أو كأنها تعلن برفعتها رفعة الإسلام وعزة أهله على عبَد الطاغوت والأصنام، وكذلك رأيت كل من مرَّ بهذا المسجد من الروم أغضى من مهابته ذلةً وصغارًا، وإجلالًا لدين الله وإكبارًا، مما ألقاه في قلوبهم من الرعب واختشاء المسلمين أبو الغنائم الحسن بن علي — رحمه الله.

ولما توسطت باحة المسجد، رأيت صفوف المصلين من الرجال وأمامهم المحراب كسطور أمامها عنوان الكتاب، وخلف الرجال حاجز من خشب يليه صفوف المصليات من النسوان، كما تكون هوامش الصفحة يفصلها من سائرها أحمر من المداد قانٍ، فانضممت إلى صفوف المصلين وصليت معهم صلاة الصبح. ولما أن سلَّم الإمام، وكان قائدًا من قواد العرب في هذه البلاد — وكذلك كان أئمة المسلمين في الحروب والسياسات، أئمة لهم في التقى والصلوات — قام واتَّكأ على سيفه وقال:٦٠
أيها العرب، أنتم الآن بين ظهرانَي عدوٍّ يَلنْدَد،٦١ يتجرع منكم الغُصص، ويتحين بكم الفرص، ويود لو يبدلنكم الله ضعفًا من قوة، وضنًّا بنفوسكم من فتوة،٦٢ وهزيمة من ظفر، واستحالة لصفوكم إلى كدر، فيثب بكم وثبة الغضنفر نال منه الجوع والسعار،٦٣ ويسعُل بكم كما يسعل هذا البركان فيرمي بحِمَمه والشَّرار، فإذا فترت منكم الهمم، ووهت العزائم، وأغمدتم السيوف في الأجفان، وقعدتم عن نصر الله في كل آونة وكل مكان، وسكنتم إلى الترف والنعيم، وجرتم — معاذ الله — عن النهج القويم، ودبَّ إليكم ما قد دبَّ إلى هذه الأمم الحمراء، من الحسد والبغضاء؛ فإنكم صائرون — لا محالة — إلى ما قد صاروا إليه، وإذ ذاك يُصيركم الله بعد نصركم فَلًّا،٦٤ ويديل من عزكم ذُلًّا، ومِن كُثركُم قلًّا، وتَئِيضُون بعدُ على هذا العالم كلًّا.٦٥

وبعد أن فرغ من كلامه خرج، وخرج معه رجاله، وعلَوا مُتونَ الجياد، وذهبوا إلى حيث يعلون كلمة الدين، ويذيعون التقى والحق واليقين، وينسفون دعائم الشرك والإلحاد، ويفكون أغلال الظُّلم من رقاب العباد.

مستمسكين بحقٍّ قائمين به
إذا تلوَّن أهل الجور ألوانَا
ولما أن قضيت صلاتي، خرجت من المسجد وقصدت إلى مرسى السفين، فوجدت ثمت مركبًا يريد أن يعبر إلى جزيرة صقلية فنزلته، ثم أقلع وعبر بنا إلى مدينة مسيني؛ إحدى مدائن هذه الجزيرة، وأرسى فيها على مرسى عجيب يأخذ بالألباب؛ وذلك أن أكبر ما يكون من السفن يرسي من الشاطئ بحيث يُتناول ما فيها من البُر بالأيدي.٦٦

وقبل أن نسترسل في القول على مدينة مسيني وسائر البلدان التي مررت بها في هذه الجزيرة العجيبة، نذكر لك شيئًا من تقويمها وتاريخها؛ حتى تكون على بينة من أمرها — إن شاء الله.

صقلية

هي جزيرة في البحر كبيرة على شكل مثلث متساوي الساقين، زاويته الحادة من غربي الجزيرة، بينها وبين ريو وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة مجاز مسيني؛ حيث يتراوح البحر بين ستة أميال وعشرة أميال، وبين ذنبها الغربي وبين تونس نيف وستون ميلًا، وزاويتها الجنوبية تقابل بر طرابلس من أفريقية، وبالقرب من زاويتها الشمالية جزيرة صغيرة فيها بركان النار الذي لا يُعلم في العالم أشنع منظرًا منه؛ وهذا بركان اسم لجبلين: أحدهما هذا، والثاني في صقلية نفسها في أرض خفيفة التربة، كثيرة الكهوف، ولا يزال يصعد من ذلك الجبل لهب النار تارة، والدخان أخرى؛ ومن ثَمَّ كانت كثيرة الزلازل، بحيث يكثر تهدُّم أبنيتها منها. وسيمر بك قريبًا قولٌ ضافٍ في هذا المعنى.

وقد كانت هذه الجزيرة قبل الفتح خاملة قليلة العمارة، وكانت من عمالات الروم، وأمرها راجع إلى الأنبرور صاحب قسطنطينية، وكان عليها والٍ من قِبل هذا الأنبرور يسمى قسطنطين، وكانت أفريقية٦٧ تحت ولاية زيادة الله بن الأغلب — كان واليًا عليها من قبل المأمون بن هارون الرشيد — فلما كانت سنة ثنتي عشرة ومائتين، استعمل الأنبرور على الأسطول قائدًا روميًّا يسمى فيمي، وكان حازمًا شجاعًا، فغزا سواحل أفريقية وعبث فيها، وبقي هناك مدة، وبعد ذلك كتب الأنبرور إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه، فنمى الخبرُ إلى فيمي، فانتقض وتعصب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة؛ إحدى مدائن صقلية، فملكها، فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية، فسيَّر إليه فيمي جيشًا فقبضوا عليه وقتلوه، واستولى فيمي على صقلية وخُوطب بالملك، ووَلَّى على ناحية من الجزيرة رجلًا اسمه بلاطة، فاتفق بلاطة هو وابن عم له يسمى ميخائيل — كان واليًا على بلرم — وجمَعا عسكرًا كثيرًا وقاتلا فيمي، فانهزم فيمي وركب في أسطوله إلى أفريقية مستنجدًا بزيادة الله بن الأغلب، فسيَّر معه أسطولًا عظيمًا في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل، واستعمل عليهم أسد بن الفرات — قاضي القيروان، ومِن أصحابه مالكٌ رضي الله عنه، وهو مُصنِّف الأسديَّة في الفقه على مذهب مالك — وأقلعوا من سوسة،٦٨ فوصلوا إلى مدينة مأزر من صقلية، وساروا إلى بلاطة الذي قاتل فيمي فهزموه والرومَ الذين معه، وغنموا أموالهم، وهرب بلاطة إلى قلورية، فقُتل واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة، وجرت وقائع كثيرة بين الروم والمسلمين امتدت سنين طوالًا، وانتهت باستيلاء المسلمين على جميع جزيرة صقلية. وبقيت صقلية بيد بني الأغلب يتناوبها عمالهم إلى أن أدال الله منهم للعبيديين، ودانت لعبيد الله المهدي أفريقية وما إليها، فأخذوا يبعثون عمالهم عليها إلى أن كانت فتنة أبي يزيد، وشُغل أبو القاسم القائم والمنصور العبيدي من بعده بأمره — فلما انقضت فتنة أبي يزيد، عقَد المنصور على صقلية لأبي الغنائم الحسن بن أبي الحسين بن علي الكلبي — وكان له في الدولة محل كبير، وفي مدافعة أبي يزيد٦٩ غناء عظيم — فمهَّد الأمور للعبيديين، وغزا بلاد قلورية، وأقام واليًا على صقلية وما إليها إلى أن استأثر الله بالمنصور، وقام بالأمر من بعده ولدُه المعزُّ لدين الله أبو تميم معد، فسار الحسن إليه بأفريقية سنة إحدى وأربعين، واستخلف على ما وراءه ابنه أبا الحسين أحمد. ولا يزال هذا الأمير، أيَّده الله واليًا على صقلية وما إليها إلى اليوم، وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، ومقامه ببلرم حضرة هذه الجزيرة.
وهذه الجزيرة جِدُّ خصيبة،٧٠ وكلؤها لا ينقطع في صيف ولا شتاء، وهي كثيرة الأمواه والعيون والفواكه والأرزاق،٧١ وجبالها كلها مثمرة بالتفاح والشاه بلوط٧٢ والبندق والإجاص، ومنها يُجلب الجوز والقسطل إلى بلاد أفريقية، ويجلب منها كثير من القطن، وفيها معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزئبق،٧٣ وهي مستبحرة العمران، كثيرة المدن والقرى والضِّياع؛ فقد أخبرني ثَبَتٌ ثقة أن بهذه الجزيرة مائة وثلاثين بلدًا٧٤ بين مدينة وقلعة، عدا ما فيها من الضياع والمنازل والبقاع، وكلها مسكونة بالمسلمين، ملأى بالمساجد والفنادق والحمامات، وفيها من العلماء والفلاسفة والأدباء ما لا يكاد يدركه العد والإحصاء،٧٥ ومن مشهور مدائنها مدينة بلرم؛ قصبة هذه الجزيرة، وسيأتي القول عليها مفصلًا عند ذكر وصولنا إليها — إن شاء الله — وبين مدينة بلرم هذه وبين مدينة مسيني توجد المدن الآتية واقعة على ساحل البحر غربي هذه الجزيرة، وهي مدينة ثرمة وليبري وبقطش وجفلوذ والقارونية وقلعة القوارب وميلاص وجطين٧٦ وشنت ماركو. وبين مسيني وبلرم على سِيف البحر شرقي الجزيرة وجنوبيها تقع البلدان الآتية على الترتيب الآتي هكذا: مدينة طبرمين بشرقي مدينة مسيني على مرحلة منها — وهي مدينة أزلية قديمة من أشراف البلاد وأعيانها،٧٧ وقلعة حصينة من أصول القلاع وأركانها، وهي على جبل مُطِلٍّ على البحر يسمى جبل الطور،٧٨ وفيها — كما حدثني أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف٧٩ — ملعب من ملاعب الروم القديمة كأنه شعب بوان، الذي يقول فيه أبو الطيب المتنبي:
مغاني الشِّعب طِيبًا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ملاعب جِنَّة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
طبَت فرسانَنا والخيل حتى
خشيتُ وإن كَرُمنَ من الحِرَان٨٠
غدونا تنفض الأغصان فيه
على أعرافها مثل الجمان٨١
فسرت وقد حجبن الشمس عني
وجئن من الضياء بما كفاني٨٢
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرًا تفر من البنان٨٣
لها ثمر تشير إليك منها
بأشربة وقفن بلا أواني٨٤
وأمواه يصل بها حصاها
حليل الحلي في أيدي الغواني
وقد فتح المسلمون هذه المدينة أيام إبراهيم بن أحمد بن الأغلب — وكان عادلًا حازمًا في أموره، آمن البلاد، وعصف بأهل البغي والفساد،٨٥ وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر، حتى كان توقد النار من سبتة فينتهي الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة.٨٦ وذلك٨٧ لسبع بقين من شعبان سنة تسع وثمانين ومائتين، الموافق أول أغشت الرومي سنة اثنتين وتسعمائة. وكان لفتح هذا البلد أسوأ وقع في نفس الأنبرور؛ صاحب القسطنطينية، حتى بقي سبعة أيام لا يلبس التاج، وقال: لا يلبس التاج محزون٨٨ — ثم مدينة قطانية على ستة أميال من مدينة لياج الواقعة بينها وبين طبرمين، وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر في سفح جبل النار، وتسمى الآن مدينة الفيل؛ لأن فيها طِلِّسْمًا من حجر على صورة فيل كان منصوبًا فيما غبر من الأيام على بناء شاهق، ثم نقل ونصب داخل المدينة.٨٩ وبهذه المدينةِ الأسواقُ العامرة، والديار الزاهرة، والمساجد والجوامع والفنادق والحمامات. ثم مدينة سرقوسة٩٠ شرقي مدينة قطانية على مرحلتين كبيرتين منها، وهي من مشهورات المدن وأعيان البلاد، تضرب إليها أكباد الإبل من كل حاضر وبادٍ، وهي على ساحل البحر، والبحر محدق بها من جميع جهاتها، وبها ما بأكبر المدن من الأسواق والخانات والمساجد والحمامات، والمباني الرائقة، والأفنية الواسعة المُونِقة، ولها إقليم كبير طوال كله مزارع وجنات وأثمار، وقِدَمًا كان بها سرير ملك الروم، فلما ملك المسلمون بعض الجزيرة نقلت دار الملك إلى مدينة قصريانة إلى أن امتلك المسلمون سائر الجزيرة. وقد فتح المسلمون سرقوسة هذه رابع عشر رمضان سنة أربع وستين ومائتين، الموافق عشرين مايه الرومي سنة سبع وسبعين وثمانمائة، ثم مدائن نوطس، وشكلة، ورغوص، وبثيرة،٩١ وكركنت،٩٢ وشاقة،٩٣ ومأزر،٩٤ ومرسى علي، وطرابنُش،٩٥ ومدائن أخرى كثيرة،٩٦ وكلها على ساحل البحر — كما أسلفنا — عدا مدينة رغوص، فإن بينها وبين البحر نحوًا من اثني عشر ميلًا — أما مدينة قَصرُيانة، فهي في وسط الجزيرة على سن جبل، وهي مدينة أزلية قديمة، وقد كان فيها سرير ملك الروم، نقل إليها — كما أسلفنا — بعد أن ملك المسلمون مدينة سرقوسة لحصانتها، وقد فتح المسلمون هذه المدينة يوم الخميس منتصف شوال سنة أربع وأربعين ومائتين، الموافق سلخ يناير الرومي سنة تسع وخمسين وثمانمائة. ولما فتحها العباس الأغلبي بنى فيها في الحال مسجدًا، ونصب فيه منبرًا، وخطب فيه يوم الجمعة، وذل الروم بصقلية يومئذ ذلًّا عظيمًا.

وبعد، فهذا الذي ذكرنا من بلدان هذه الجزيرة إنما هو غيض من فيض، ونحن إذا حاولنا ذكر سائر المدن والقرى والقلاع المعروفة في هذه الجزيرة لاحتجنا إلى أسفار كثيرة، وفي هذا القدر غَناء.

وقد رأينا من تمام الفائدة أن نصور للناظر في هذه الرسالة جزيرة صقلية وبعض بلدانها المشهورة، وبلاد قلورية، ومدينة ريو، وجزائر أقريطش، وسردينية، وقرشقة، وميورقة، ومنورقة، ويابسة، ومدينتي الإسكندرية والمَرِيَّة، وبالجملة كل ما جاء له ذكر في هذه الرسالة.

وقد آن لنا أن نرجع إلى ما نحن بصدده.

مدينة مسيني

أما مدينة مسيني فهي في ركن من الجزيرة بشرقيها،٩٧ مستندة إلى جبال قد انتظمت حضيضها وخنادقها، والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها، ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية، كما أسلفنا؛ لأن المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسكه، ولا يحتاج إلى زواريق في وسقها، ولا في تفريغها، إلا ما كان مرسيًّا على البعد منها يسيرًا، فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها وإصطبلاتها؛ وذلك لإفراط العمق فيها.٩٨
figure
وهذه مسيني هي رأس جزيرة صقلية، وهي كثيرة العمائر والضياع، وأرضها طيبة المنابت، وبها جنات وبساتين ذات أثمار كثيرة، ولها أنهار غزيرة عليها أرحاء جمة.٩٩

ولما نزلت هذه المدينة سلمت أمتعتي إلى أحد الحمالين، وقصدت معه إلى أحد الفنادق، فذهب بي إلى فندق قائم على جبل مُطلٍّ على المدينة، وكان لأحد مغاربة أفريقية، فاحتفى بي صاحبه وبالغ في إكرامي، واحتفل في راحتي حتى أنساني برقة حاشيته، وطيب أنسه، مجاشم السفر، وذل الاغتراب. وقد صادفت في هذا الفندق أبا عبد الله الصقلي الفيلسوف، وكان قد نهد — حفظه الله — من بلرم إلى مسيني لما علم بقدومي، فكمل أنسي به، وعراني من الغبطة والسرور ما لا يقوم بالعبارة عنه بيان، ولا يروم اطِّلاع فجِّه لسان، ولا سيما حين أخبرني أبو عبد الله أنه ينتوي الذهوب إلى الأندلس، وهي منتواي ومقصدي.

ولما رأيت أبا عبد الله — وكنت لم أره قبل ذلك، بَيْدَ أني سمعت بفضله الجم، وعلمه الغزير حتى شغفت برؤيته، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا — رأيت منه رجلًا تشد إليه الرحال، وتضرب إلى علمه أكباد الآبال، ويصاب عنده مقطع الحق واليقين، ويلفي لديه مفصل السداد في علوم الحكمة والدين:

من مبلغ الأعراب أني بعدها
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا

ولا جرم فإن أبا عبد الله فيلسوف عصره، وواحد قطره، وهو في علم الطب والحكمة منقطع النظير لا تكاد تفتح العين على مثله، وقد حذق اللسان الإغريقي، وأحكم معرفته، حتى كأنه من أهله، وهو في الأدب منظومه ومنثوره نادرة الفلك، وبكر عطارد.

ولقد أقمت في مسيني ثلاثة أيام بلياليها، أنساني فيها أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف بأدبه ورقة حاشيته ما يعرو الغريب في البلد النازح من الوحشة والانقباض، ثم علمنا في اليوم الرابع لمقامنا أن قد أرست على ميناء هذا البلد سفينة كبيرة قادمة من القسطنطينية العظمى قاصدة إلى بر الأندلس، فاعتزمت أنا وأبو عبد الله أن نسافر فيها. وكان هذا العزم من تمام فضل الله علينا وحسن توفيقه؛ إذ أصبنا في هذا المركب عند نزولنا فيه مُنية النفس، ومطمح الروح — فضل المدنية — التي ضرب الدهر بيني وبينها أيامًا كانت على قلتها كأنها شهور، بل أعوام، وكان معها صاحبتاها عَلَم المدنية وقَلَم الرومية، وهن — كما علمت — ممن حذقن الغناء ونبغن فيه، بعد أن تعلمنه في المدينة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. وهذه قلم — كما أخبرتني — أندلسية الأصل، رومية من سبي البشكنس، وحملت صغيرة إلى المشرق، فوقعت بالمدينة المنورة، ولُقنت هناك الغناء، ثم اشتريت مع عَلَم لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر.

وقد أخبرتني فضل أن المركب الذي كانت فيه لما أرسى على مسيني بعد إرسائه على ريو لشراء ما يحتاج إليه من الميرة والطعام، أُلقي في روعها هي ومن معها أن ينزلن في مسيني ويتركن هذا المركب — وهو لأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر — خشية أن يأسره ومن فيه عمال المعز لدين الله الفاطمي؛ لأن بلاد صقلية إحدى ولايات المعز، وقد علمت أن المركب كان قد تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز، فأحفظ المعز هذا الأمر وأخذه منه المقيم المقعد،١٠٠ وحمله على أن يطوي كشحه١٠١ على الثأر من الناصر، ثم أقامت فضل هذه المُديدَة في فندق من فنادقها في رَبض من أرباضها، فقلت: يا عجبًا كل العجب:
أليس غريبًا أن نكون ببلدة
كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلم
أما نبأ هذه السفينة الرومية، فذلك أن قسطنطين بن ليون؛ أنبرور الروم (إمبراطور دولة الرومان الشرقية)، كان قد أهدى منذ ثمان حججٍ إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر هدايا ذات قدر عظيم يتقرب بها إليه، ويبصبص بذَنَبه لديه١٠٢ واستدفاعًا لمَكْره وكَيْده، واستجلابًا لعطفه وودِّه، واستظهارًا به على آخذ بلاده «بلاد قسطنطين» المعز لدين الله،١٠٣ وكان من هذه الهدايا كتاب ديسقوريدس الطبيب «مصوِّر الحشائش العجيب»، وكتاب هروشيش «هيرودوتس»؛ المؤرخ الرومي العظيم. وكان الكتاب الأول مكتوبًا بالإغريقي، وهو اليوناني القديم، والكتاب الثاني كان مكتوبًا باللسان الليطني. وكتب قسطنطين فيما كتب إذ ذاك إلى الناصر: «إن كتاب ديسقوريدس لا تُجتنَى فائدته إلا برجل يُحسن العبارة باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان في بلدك من يُحسن ذلك؛ فُزتَ أيها الملك بفائدة الكتاب، وأما كتاب هروشيش، فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرؤه باللسان اللطيني، وإن كشفتهم عنه نقلوه إليك من اللطيني إلى اللسان العربي.» ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يعرف الإغريقي، فبقي كتاب ديسقوريدس في خزانة الناصر كما هو لم يترجم إلى العربي، فلما ولي أمر الروم أرمانيوس بن قسطنطين، تقدم إليه الناصر١٠٤ بأن يبعث رجلًا يعرف الإغريقي واللطيني ليعلِّم له عبيدًا يكونون مترجمين،١٠٥ فأرسل أرمانيوس في هذا المركب راهبًا عظيمًا يسمى نقولا، وقد أزلفت لك أن أبا عبد الله الصقلي يُحسن الإغريقي إحسانه للطب والفلسفة والنجوم، وقد كان أخبرني أن الناصر أرسل إليه يستحثه على الوفود إليه ليكون في خدمته،١٠٦ فكان ذلك سببًا في انعقاد الصحبة بيننا وبين هذا الراهب، وقد أصبنا منه رجلًا حِديثًا ظريف المحاضرة، له مشاركة في كثير من العلوم والآداب.
وقد ألفينا في هذا المركب طبيبين أندلسيين كانا قد رحلا إلى المشرق منذ سنين، وأقاما هنالك نيفًا وعشرين سنة، ودخلا دار السلام «بغداد»، وقرآ فيها على ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة كتب جالينوس، ثم قفلا راجعين إلى الأندلس مسقط رأسهما، ونزلا في هذا المركب من أحد الثغور، وهما أخوان؛ يُسمَّى أحدهما عمر والثاني أحمد،١٠٧ وهما ابنا يونس بن أحمد الحراني الطبيب المشهور. وقد أخبراني أن كتاب ديسقوريدس هذا كان قد ترجمه بدار السلام أيام جعفر المتوكل الخليفة العباسي اصطفن بن بسيل، المترجم من الإغريقي إلى العربي، وتصفحه حنين بن إسحاق فصحح الترجمة وأجازها، قالا: وقد ورد هذا الكتاب إلى بلادنا «الأندلس»، وهو على ترجمة اصطفن.١٠٨ وقد قرأناه وصححنا كثيرًا من أسماء العقاقير التي لم يعرف لها اصطفن اسمًا في العربية، وقد انتفع كثير من أهل المشرق وأهل الأندلس بالمعروف منه. وفي الأندلس اليوم من إخواننا الأطباء نفَرٌ توفروا على هذا الكتاب يصححون أسماء عقاقيره، ويعينون أشخاصها، ومنهم أخونا البسباسي، والشجار، وأبو عثمان اليابسة، ومحمد بن سعيد الطبيب.١٠٩ وكأنا بسيدنا الناصر — أدام الله تأييده — وقد أبى إلا أن يقر الأمر في نصابه، ويغمد السيف في قرابه، ويتم أمر هذا الكتاب على ما به، فطلب إلى أرمانيوس ما طلب، وكل ذلك من سيدنا فضلُ عناية منه بكل ما يجدي على بلاده، ويسمو بها صُعُدًا إلى أبعد مراتب العظمة الذهنية، كما أبعدت به وبأسلافه في سائر ضروب الحضارة؛ وذلك لما فطره الله عليه من العزيمة النافذة، والهمة الطموح البعيدة المرمى، فلا يتعاظمه أمر، ولا تقف همته دون غاية، وحتى لا يحيك في صدر إنسان أن خلفاء بني العباس في المشرق، أو منافسيه الفاطميين في أفريقية قد سبقوه إلى شيء لم يسبقهم هو إليه، وأنت تعلم أن هذه الدول الإسلامية الثلاث،١١٠ هي أعظم دول الأرض اليوم شانًا، وأضخمها سلطانًا، والقابضة على زمام الأمور، والمالكة أخصب البلاد من هذا المعمور، والمستبحر عمران بلادها إلى أكثر من المتوقع المنظور، والتي تعد سائر دول الأرض من هذه الأمم الحمراء كأنها تبع لها، وعيال عليها، فتراها لذلك تتهالك في كل آونة على الازدلاف إليها، وتستنزل رضاها بالهدايا والتحف، وغريب النفائس والطُّرَف، وتستصرخها بعضٌ على بعض، فتكون الحتوف أسبق إلى المغضوب عليهم من السيوف.
إنا إذا ما أتانا صارخ فزع
كان الصراخ له قرع الظنابيب١١١

ومن ثم ترى هذه الدول العظمى تتسامى في كل ما يكسبها حسن الأثر، وجميل الذكر، ويملأ مسامع الدهر حمدًا وثناءً، وينبض له قلب الدنيا فخرًا وعلاء، فتراها لذلك آخذةً بيد العلم والعلماء، مالئة بأعطياتها أيدي الشعر والشعراء، حتى العلوم الفلسفية بجميع ضروبها؛ من إلهية وطبيعية ورياضية وطبية وفلكية، تعضدها، وتغري القائمين عليها بالاستزادة منها، والتقصي في البحث عن غوامضها، وتظهر الرغبة في الحصول على مآخذها من ملوك الروم، الذين حشدت في خزائن كتبهم تواليف فلاسفة اليونان الأقدمين.

ولقد أقلعت بنا السفينة باسم الله مجراها من ميناء مسيني، وبكرت مع البازي عليه سواد، في فجر يوم الجمعة سلخ ربيع الأول، وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، وكان البحر هادئًا، والنسيم فاترًا عليلًا، وكانت قبة فضل ومن معها بمرأًى منا ومسمع، وكان معنا أديب من أدباء صقلية لم نكن ندري أين وجهته، ولكنه نزل بعد ذلك في جزيرة ميورقة، وكان قد ند منه عقيب إقلاعنا من مسيني أمر أفضى إلى حديث لا علينا إذا نحن أوردناه في هذه الرسالة تطرية للقول؛ وذلك أنَّا بعد أن صلينا الصبح حاضرة، وصلى معنا هذا الأديب الصقلي، رأيناه وقد انتحى ناحية، وأخذ يصطبح ويلح على ابنة العنب يشربها صرفًا لا يقتلها بالماء، فأنكرت عليه ذلك إنكارًا شديدًا وقلت له: ما تصنع بالخمر وإن أولها لمرٌّ وإن آخرها لسُكرٌّ؟ فقال: لا أقول لك إلا ما قال الأخطل لعبد الملك بن مروان إذ قال له عبد الملك مثل قولك هذا، فقال له الأخطل: ولكن بين هاتين لمنزلةً ما مُلك أمير المؤمنين فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع.

ثم أنشد الأخطل:

إذا ما نديمي علَّني ثم علَّني
ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل تيهًا كأنني
عليك أميرَ المؤمنين أميرُ
وبعد، فلله ذلك الطائر الفردوسي البديع الذي كأنه روح هبط على هذه الغبراء من المحل الأرفع، ومعه تلك الهدية التي لا هدية مثلها، تلك البذور الثلاث١١٢ التي ما أظنه إلا أنه اختلسها من عنب الجنة ليتحفنا بها، فنزدرعها ونفزع إلى عصيرها في هذه الحياة المحزونة المفعمة آلامًا؛ ليسري عنا، ويجلو منا صدأ الحس، وينفي الهم عن ساحة النفس.
إن الذي جعل الهموم عقاربًا
جعل المدام حقيقة درياقها

•••

اقتلا همي بصرف عقار
واتركا الدهر فما شاء كانا
إن للمكروه لذعة همٍّ
فإذا دام على المرء هانا

•••

إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى
دعا همه من صدره برحيل

فقلت له: ولكنها — قبحها الله — تسيء من المرء أخلاقه، وتخمل النابه، وترفعه إلى أسفل، وتهوي بالشرف الرفيع إلى الحضيض الأوهد، ولله ذلك القرشي حين يقول:

من تقرع الكأس اللئيمة سنَّهُ
فلا بد يومًا أن يسيء ويجهلا
ولم أر مطلوبًا أخس غنيمة
وأوضع للأشراف منها وأخملا

فسرعان ما أنشد:

إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني
ولم يخش نَدْماني أذاتي ولا بخلي
ولست بفحاش عليه وإن أسا
وما شكل من آذى نداماه من شكلي

ثم قال: والخمر لذلك خليقة أن لا يشربها إلا الملوك وأشباه الملوك، أما السوقة والحشو والغوغاء والحمقى ومن إليهم، فيجب أن يُصلبوا، أو يُقتلوا، أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم إذا هم شربوها:

والخمر قد يشربها معشر
ليسوا إذا عُدوا بأكفائها

•••

وجدت أقل الناس عقلًا إذا انتشى
أقلهم عقلًا إذا كان صاحيَا
تزيد حُمَيَّاها السفيه سفاهة
وتترك أخلاق الكريم كما هيا

وبودي لو أن الكأس بألف، والحر في وجه الأسد حتى لا يشرب إلا كريم، ولا ينكح إلا شجاع:

أُجِلُّ عن اللئام الراح حتى
كأن الراح تعصر من عظامي

ورحم الله أبا بكر الهذلي إذ يقول للمنصور وقد سأله عن النبيذ: لقد تمادت فيه السفهاء حتى كرهته العلماء، فقلت له: أما تخشى الله يوم الحساب؟ فقال:

إذا صليت خمسًا كل يومٍ
فإن الله يغفر لي فسوقي
ولم أشرك برب الناس شيئًا
فقد أمسكت بالدين الوثيق
فهذا الدين ليس به خفاء
دعوني من بنيات الطريق

•••

ألا لا يغرنك ذو سجدة
يظل بها دائمًا يخدع
وما للتقى لزمت وجهه
ولكن ليأتِيَ مستودِع
ثلاثون ألفًا حواها السجود
فليست إلى ربها ترجع
ورد أخو الكأس ما عنده
وما كنت في رده أطمع

•••

أما النبيذ فلا يذعرك شاربه
واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء
قوم يداوون عما في نفوسهم
حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء
مشمرين إلى أنصاف سوقهم
هم الذئاب وقد يدعون قرَّاء

فقال أبو عبد الله الفيلسوف: الشراب ضار ونافع. أما أنه نافع، فللبدن بإشراقه، وتقوية الحرارة الغريزية وإنعاشها، وإنضاج الرطوبات، وتنقيح المجاري، وإزالة سددها، وتقوية الهضم، وإنارة الدم، وإدرار الصفراء وترطيبها، وللنفس بانبساطها، وتفتيح آمالها وتشجيعها، وقتل الهم والفكر الفاسد؛ ومِن ثم كان أنفع الأشياء للماليخوليا، ثم هو يؤدم بين القلب والقلب، ويبعث الشوق القديم الذي قد ضلَّ في الأحشاء. وكل أولئك إذا استعمل على الوجه الذي ينبغي، وإلا استحالت هذه المنافع مضارَّ، فترى عوض السرور همًّا وغمًّا وضجرًا وسوء خلق، وعوض الصحة مرضًا مزمنًا، أو موتًا فجائيًّا، وإن أدامة الشراب تبلد الذهن، وترخي العصب، وتوهن قوى الدماغ، وتورث الرعشة والتشنُّج. وقد أجمع الحكماء قاطبة على أن مدمن الخمر لا ينجب، وإن أنجب كان الولد أحمق.

وبعد، فإن أصدق ما جاء في الخمر قول الله جل شأنه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، ثم يقول سبحانه يصف خمر الجنة: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ،١١٣ فكأن السر في تحريمها هو أنها تغتال عقولنا وتشربها، وتورثها الخبل والصداع، كما قال الأوَّل:
وما زالت الخمر تغتالنا
وتذهب بالأول الأول

وما ألطف قول بعض الظرفاء وقد ترك النبيذ فقيل له: كيف تتركه وهو رسول السرور إلى القلب؟! فقال: نعم، ولكنه بئس الرسول يُبعث إلى القلب فيذهب إلى الرأس. ويشبه ذلك قول المجنون لملك من الملوك وقد استظرفه واختار أن يكون نديمًا له، وعرض عليه الشراب، فقال المجنون: أيها الملك، أنت تشرب هذا لتصير مثلي، وأنا أشربه لأصير مثل مَن؟! وقال عبد العزيز بن مروان لنُصَيب الشاعر يومًا: هل لك فيما يثير المحادثة — يريد المنادمة — قال: أصلح الله الأمير، الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليك بكَرَم عنصر، ولا بحُسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت ألا تفرق بينهما فافعل. وقيل لأعرابي: لم لا تشرب؟ فقال: لا أشرب ما يشرب عقلي.

وناهيكم بعد ذلك بما يستتبعه إدمان الشراب من الصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن السكر والعربدة، وإيقاع العداوة والبغضاء والموجدة، ومن تقبيح الحسن وتحسين القبيح، وإغرائه بالفسوق، وتعدي حدود الله وقلة الاكتراث لها. وصدق رسول الله إذ يقول: لا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن. ولقد مرت أعرابية بقومٍ يشربون نبيذًا فسقوها، فلما شربت أقداحًا اعترتها أريحية، فقالت: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم، قالت: إذن زنين ورب الكعبة؛ فما يدري أحدكم مَن أبوه!

ولأصحاب الشراب ولوع به واستهتار إلى الحد الذي لا يفكرون معه في دين ولا مروءة، قيل لأبي نواس: أتشرب الخمر؟ قال: نعم، إذا اشتُري بثمن خنزير قد سرق حتى يحرُم ثلاث مرات، وهو القائل:

ألا فاسقني خمرًا وقل لي: هي الخمر
ولا تسقني سرًّا إذا أمكن الجهر
فما الغبن إلا أن تراني صاحيًا
وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر

وقيل لثمامة: لم تشرب الخمر وهي تزيل العقل؟ فقال: إن زال اليوم لا يزول غدًا. وباع بعض الأشراف من أصحاب الشراب ضيعة، فقيل له: احضَرِ العشية للإشهاد، فقال: لو كنت ممن يصان بالعشيات لما بعت الضيعة. وقال رجل لآخر منهم: لقد وجهت إليك رسولًا عشية أمس فلم يجدك! فقال: هذا وقت لا أكاد أجد فيه نفسي. ويقول أحدهم: وددت أني أكون بعوضة فأموت تحت قربة نبيذ؛ حتى يكون موتي في ظلال نعيم. ولمَّا وَلِيَ الحسن بن يزيد رضي الله عنه المدينة، قال لابن هرمة الشاعر: لست كمن باع دينه رجاء مدحك، أو خوف ذمك؛ فقد رزقني الله بولادة نبيه الممادح، وجنبني المقابح، وإن من حقه عليَّ أن لا أغضي على تقصير في حق ربه، وأنا أُقسم لئن أُتيت بك سكران لأضربنَّك حدًّا للخمر وحدًّا للسُّكر، ولأزيدن لموضع حرمتك بي؛ فليكن تركك ذلك لله تُعَن عليها، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم، فقال ابن هرمة:

نهاني ابن الرسول عن المدام
وأدبني بآداب الكرام
وقال لي: اصطبر عنها ودعها
لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبُّري عنها وحبي
لها حب تمكَّن في عظامي
أرى طيب الحلال عليَّ خبثًا
وطيب النفس في خبث الحرام

وقيل لرجل من أصحاب الشراب: ما تقول في الماء؟ فقال: هو الحياة ويشركني فيه الحمار، فقيل له: فاللبن، قال: ما رأيته إلا ذكرت أمي واستحييت، قيل: فالخمر، قال: تلك السارة البارة؛ شراب أهل الجنة. ودعا الوليد بن يزيد شراعة من الكوفة، وهو من فتيانها، فلما قدم عليه قال له: إني والله لم أَدْعُك لأسألك عن قرآن، أو لأستفتيك في سُنَّة، فقال: لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما ثورًا؛ فلِمَ دعوتني؟ قال: لأسألك عن الفتوة، فقال: أنا دهقانها الخبير، وعالمها الطبيب؛ فسَلْ، فقال: ما تقول في نبيذ التمر؟ قال: اشربه حتى تحر، قال: فنبيذ الدن؟ قال: اشربه حتى تجن، قال: فالداذي؟ قال: أحلى من الماذي، قال: فنبيذ الزبيب؟ فستر وجهه، وقال: العظمة لله، قال: فالخمر؟ قال: لا أرى شربها، قال: ولم؟ قال: لأني لا أؤدي شكرها.

وهذا قليل من كثير، ورحم الله من قال:

لم يبلغ الشيخ إبليس إرادته
حتى تكاثف في عنقوده العنب

وفي الحق ما يقول إبليس: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا سكر أن آخذ بزمامه؛ فأقوده حيث أشاء، وأحمله على ما أريد.

ولربما بلغت جناية الشراب وإدمانه إلى ما يأنف الحيوان الأعجم من إتيانه، رووا أن قيس بن عاصم؛ أحد أشراف العرب في الجاهلية، كان يتردد عليه تاجر خمر فيبتاع منه، ويقيم الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده، فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرًا قبيحًا، فجذب ابنته وتناول ثوبها، ونظر إلى القمر وتكلَّم بشيء، ثم انتهب مال الخمَّار، وأنشأ يقول:

من تاجر فاجر جاء الإله به
كأن لحيته أذناب أجمال
جاء الخبيث ببيسانية تركت
صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال

فلما صحا أُخبر بما قال وما صنع؛ فآلى أن لا يذوق خمرًا أبد الدهر.

وللسكارى فِعال تضحك وتبكي، فمن ذلك أن سكرانًا وقع على الأرض فجاء كلب يلحس فاه، فجعل يقول:

أخوكم ومولاكم وصاحب سركم
ومن قد نشا فيكم وعاشركم دهرًا

وقال بعضهم: كان في دارنا سكران فقعد على مصلى فتبرز فيه، فأخذت بيده إلى المستراح فنام فيه، فقالت جاريتي: يا عجبًا! كل شيء منه مقلوب؛ يتبرز حيث ينام الناس، وينام حيث يتبرز الناس. وأن صاحب السكر يصير إما إلى قردية، وهو الذي يضحك ويرقص ويحاكي، أو إلى كلبية، وهو الذي يهارش، أو إلى خنزيرية، وهو الذي يتقيأ ويتبرز ويتلوث فيهما؛ ومن هنا كانت الخمر حقيقة لا تتفق والمروءة والعزة والكرامة، ولا تجتمع والشرف في غمد واحد.

ومن خصائص الخمر أنها تخرِّق الكف، وتورث السخاء الكاذب حتى:

ترى اللخن الشحيح إذا أُمِرَّتْ
عليه لماله فيها مهينَا

وكلما تكرر الشراب تكرر التخرق في الكرم والسخاء، فيفضي ذلك على مر الأيام إلى الفقر والفلاكة والشقاء، ويعم ذلك زوج الشارب وولده وكل مَن يعول، وإن هذه وحدها لجريمة لا تغتفر، ولو لم يكن ثمَّت لصاحب الشراب زاجر غيرها لكان حريًّا أن يقلع عنها.

وقد عُرف أصحاب الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم أصدقاؤك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك.

أرى كل قوم يحفظون حريمهم
وليس لأصحاب النبيذ حريم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم
وكلهم رث الحبال سئوم
إذا جئتهم حيَّوك ألفًا ورحبوا
وإن غِبْتَ عنهم ساعة فذميم
فهذا ثنائي لم أقل بجهالة
ولكنني بالفاسقين عليم

وقد تبلغ الخمر بصاحبها إلى أن تشوه خَلْقه، فترى مدمنها يومًا وقد عظم أنفه واحمرَّ وتورم، كما يقول شاعر في حماد الراوية:

نعم الفتى لو كان يعرف ربه
ويقيم وقت صلاته حماد
هدلت مشافره الدنان فأنفه
مثل القدوم يسنها الحداد
وابيضَّ من شرب المدامة وجهه
فبياضه يوم الحساب سواد

•••

أخو الشراب ضائع الصلاة
وضائع الحرمة والحاجات
وحاله من أقبح الحالات
في نفسه والعرس والبنات
أف له أف إلى أفَّات
خمسة آلاف مؤلفات

وجملة القول: ليس بعد قول الله جل شأنه: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا مجالٌ لقائل، والسلام على من اتبع الهدى.

وإنَّا لفي ذلك إذ اندفعت فضل المدنية تغني على عودها هذه الأبيات:

بِيدِ الذي شغف الفؤاد بكم
تفريج ما ألقى من الهم
فاستبقني أن قد كلفت بكم
ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا
فعجلت قبل الموت بالصرم

فاستخف غناؤها أبا عبد الله حتى كاد أن يخرج من جلده فرحًا، وتحرك الراهب واهتز ثم غمغم كلمات ترجمها إلينا أبو عبد الله بما يقارب قول الطائي حبيب بن أوس:

ولم أفهم معانيها ولكن
ورت قلبي فلم أجهل شجاها
فصرت كأنني أعمى مُعَنًّى
يحب الغانيات ولا يراها

ثم اندفعت تغني:

آهًا على بغدادها وعراقها
وظبائها والسحر من أحداقها
ومجالها عند الفرات بأوجه
تبدو أهلتها على أطواقها
متبخترات في النعيم كأنما
خلق الهوى العذري من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأي محاسن
في الدهر تشرق من سنى إشراقها١١٤

فأخذ العلج ينشج نشيجًا حارًّا ويبكي بكاءً عاليًا حتى إذا سكت عنه البكاء قال ما معناه: لقد هاجت لي داء دفينًا، ثم سكت وسكتت فضل وسكتنا ومضت السفينة لطيتها.

وكان سيرنا في محاذاة الساحل بحيث نبصره رأي العين، وصرنا نسرح النظر في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في قلل الجبال مطلة، وقد أرسل الله إلينا ريحًا طيبة رخاءً زجت السفينة تزجية طيبة، فكانت تلك الساعة من أطيب ما يظفر به السفر١١٥ في هذا البحر. وما زلنا في أنعم حال وأطيبها حتى استقام ميزان النهار، وقام قائم الظهيرة، وإذ ذاك أبصرنا عن يميننا تسع جزائر متجاورات آنسنا فيها دخانًا يَصَّاعد من جبلين في جزيرتين من هذه الجزائر، فرأيت بعض المسافرين وقد ضربوا بأذقانهم الأرض لما ألم بهم من الذعر، فقال أبو عبد الله الصقلي: لا عليكم أيها الإخوان، ولا تكونن قلوبكم كقلوب الطير تنماث١١٦ كما ينماث الملح في الماء. إن هذه البراكين مأمونة الناحية، وليست تزفر في النهار إلا هذا الدخان الذي ترون. أما البركان المخوف فهو ذلك الرابض في الجزيرة الكبرى «صقلية»، وقد ابتعدنا عنه والحمد لله. وهنا سأله بعض القادمين من المشرق الإفاضة في وصف هذه البراكين، وسر تلك الفظائع التي تتوارد أخبارها إلى المشرق، فأخذ أبو عبد الله يفيض في القول على طريقته الفلسفية، ولا بأس إذا نحن أثبتنا هنا زبدة قوله إتمامًا للفائدة.

البراكين في صقلية والجزائر المجاورة لها وما قاله فلاسفة الإسلام في ذلك

قال أبو عبد الله ما ملخصه: من المعلوم الذي لا خفاء به أن هذه الكرة الأرضية السابحة في الفضاء١١٧ بجملتها وأجزائها، ظاهرها وباطنها، طبقات ساف فوق ساف، مختلفة التركيب والخلقة، فمنها صخور وجبال صلبة، وأحجار وجلاميد صلدة، ورمال جريشة، وطين رخو، وتراب لين وسباخ وشورج، بعضها مختلط ببعض أو متجاورة، كما قال الله جل شأنه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، وهي مختلفة الألوان والطعوم والروائح، فمن ترابها وأحجارها وأجبالها حمر وبيض وسود وخضر وزرق وصفر، كما قال جل ثناؤه: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وهي مع ذلك كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار، داخلها وخارجها، كثيرة الأهوية والمغارات والكهوف، وفيها من أنواع المعادن السائلة والجامدة ما لا يُحصى كثرة.

وهذه الأهوية والأمواه إذا حمي جوف الأرض بتأثير الشمس فيه كتأثير القمر في مد البحر وجزره؛ سخنت تلك الأمواه ولطفت وتحللت وصارت بخارًا، وارتفعت وطلبت مكانًا أوسع، فإن تكن الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك النوافذ، وإن يكن ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفًا منعها من الخروج وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موقع منها وخرجت تلك الرياح مفاجأة، وانخسف مكانها، ويسمع لها دوي وهدَّة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجًا بقيت هناك محتبسة، وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية، ويغلظ وتتكاثف تلك البخارات وتجتمع أجزاؤها، وتستحيل إلى ماء، وتخر راجعة إلى قاع تلك الكهوف والمغارات، وتمكث زمانًا، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاءً وغلظًا، حتى تصير زئبقًا رجراجًا وتختلط بتربة تلك المعادن وتتحد بها، وقد تستحيل إلى كبريت أو نفط أو غيرهما حسب اختلاف ترب البقاع، فيكون من ذلك ضروب من الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع.

قلنا: إن في الجبال جبالًا، وفي الأرض أرضين بجوفها كهوف ومغارات وأهوية حارة ملتهبة، فهذه الكهوف قد تجري إليها مياه كبريتية أو نفطية دهنية، فتكون مادةً لها دائمًا، فإذا اختنقت هذه المواد بفعل الحرارة ذهبت صُعُدًا تطلب الخلاص؛ فقد تكون هذه المواد دخانًا صرفًا كما هي حال هذين البركانين في هاتين الجزيرتين. وهذا الدخان يخرج بقوة شديدة حتى لقد يقذف فيه الحجر الكبير فترده ردًّا قويًّا، وقد تكون هذه المواد أحجارًا محترقة ومواد أخرى كبريتية ونفطية نارية تخرج كالسيل العرم، فلا تمر بشيء إلا أحرقته، كما يكون من جبل النار الذي في الجزيرة نفسها. وترى هذا الجبل يرمي فيما يرمي بجمر كبير كأعدال القطن يقطع بعضه في البر، فيصير حجرًا أبيض خفيفًا يطفو على وجه الماء لخفته، والذي يقع في البحر يصير حجرًا أسود مثقبًا تحك به الأرجل في الحمامات، وهو كذلك لخفته يطفو على الماء.

ومن غريب الأمر أنه إذا وقع هذا الجمر على حجر احترق ذلك الحجر واشتعل كما يشتعل القطن، حتى يصير ذلك الحجر غبارًا كالكحل. أما الحشيش وسائر ضروب النبات فلا تحترق ولا يحترق إلا الحجارة والحيوان، فكأنها نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة.١١٨
هذا ويسمي الأهالي عندنا أحد البركانين الموجودين في هاتين الجزيرتين «بركانا»، ويسمون الآخر «استنبري»، ومعنى بركان «استنبري» فيما علمت الرعد والبرق.١١٩

وقد لاحظت أن معادن الكبريت الأصفر لا توجد في الأعم الأغلب إلا بجانب البراكين؛ ففي هاتين الجزيرتين معدن كبريت لا يوجد مثله بموضع آخر، رأيته ورأيت القُطَّاع الذين يقتطعونه؛ رأيتهم وقد تمرطت شعورهم ونصلت أظفارهم من حره ويبسه، وهم يذكرون أنهم يجدونه في بعض الأيام سائلًا متميعًا فيتخذون له في الأرض مواضع يجتمع فيها، ثم يجدونه في غير ذلك الأوان قد تحجَّر فيقطعونه بالمعاوِل، وكذلك ترى بجانب جبل النار الذي في الجزيرة نفسها آبار زيت النفط، الذي لا يخرج منها إلا في وقت معلوم من السنة — في شهر شباط وشهرين بعده — فتراهم في ذلك الوقت ينزلون في هذه الآبار على درك، ويخمر الرجل الذي ينزل فيه رأسه، ويسد مسام أنفه (منخريه)، وإن تنفس في أسفل البئر هلك لساعته، وما يستخرجونه من هذا الزيت يضعونه في أوانٍ، فيعلو الدهن منه وهو المستعمل، وذلك كله مما يدل على طبيعة هذه الأرض الغريبة الشأن. ولله في خلقه شئون سبحانه مالك الملك لا إله غيره.

مدينة بلرم: حضرة جزيرة صقلية ولقائي أميرها أبا الحسين أحمد

كان وصولنا إلى مدينة بلرم بعد انفصالنا من مدينة مسيني بيومين كاملين، وكان تعريجنا عليها دون قصد منا إليه؛ إذ كانت الريح غير موافقة في ذلك اليوم، وهو يوم الأحد الخامس عشر من شهر جونيو الرومي، سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح، فاضطررنا أن نقيم في هذه المدينة ريث أن تأتي الريح الموافقة. ولقد اهتبلت هذه الفرصة فجُلْت في المدينة جولة وقفت فيها على أشياء كان لا بد من اجتلائها، وقد أسعدني الحظ فقابلت أميرها من قِبل المعز لدين الله الفاطمي أبا الحسين أحمد بن أبي الحسن الكلبي، وجرى بيني وبينه حديث، سأذكره لك بعد أن آتي على وصف هذه المدينة — إن شاء الله.

مدينة بلرم هي حضرة جزيرة صقلية؛ ففيها يقيم الوالي الذي يوليه الفاطمي، وفيها قاضي القضاة، وديوان الحسبة، ودار الصناعة، وفي مينائها يربض أسطولها الأعظم، ومنها يغدو ويروح مختالًا على ثبج هذا البحر، فيغزو ما شاء أن يغزو من جزائره وعدوته الشمالية «جنوب أوروبا»، وهي لذلك كله وبفضل ما أحدثه المسلمون فيها من ضروب العمران تراها من أجمل المدن وأفخمها؛ فهي بهذه الجزيرة أم الحضارة، والجامعة بين الحُسْنين غضارة ونضارة، فما شئت فيها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر تطلع لك بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان،١٢٠ يشقها نهر ينساب فيها مثل الحية المذعور أو السيف المشهور، ويطرد في جنباتها أربع عيون زاخرة عليها أرحاء كثيرة لا تحصى.
بلد أعارته الحمامة طوقها
وكساه حلة ريشة الطاوس
وكأنما الأنهار في ساحاتها
خمر وكأن ساحات الديار كئوس١٢١
وهي تنقسم إلى خمسة أقسام محدودة متباينة متجاورة، فقسم هو المدينة الكبرى التي تسمى بلرم، ويسكنها التجار، وفيها المسجد الجامع الذي كان في القديم بيعة للروم، وهو الآن لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المبتكرة من ضروب التصاوير، وصنوف التزاويق،١٢٢ التي أبدعها المسلمون فيه يعد من أعجب عجائب الدنيا،١٢٣ النامَّة عن حذق العرب ومهارتهم في الصناعة إلى الحد الذي لا وراءه. وفي هذه المدينة وفي أقسامها الأخرى نيف وثلاثمائة مسجد،١٢٤ ولم أر مثل هذا العدد في بلد من البلدان. ومن غريب الأمر أني كنت واقفًا في جوار دار أحد الفقهاء الأعيان في هذه المدينة، وهو أبو محمد القفصي الوثائقي، فبصرت قريبًا من مسجده على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، ومنها المسجد تجاه المسجد لا يفصلهما إلا الطريق، وأغرب من ذلك أن من بين هذه العشرة المساجد، وإلى نحو عشرين خطوة من مسجد الفقيه القفصي المذكور مسجدًا لابنه ابتناه ليتفقه فيه منعزلًا عن أبيه.١٢٥ وهذا — عمرك الله — مما يستشف الناظر من ورائه أبهة القوم واعتزازهم بسلطانهم، وأنهم سادة هذه البلاد، ولا جرم كان ذلك باعثًا لهم على التنافس في المفاخر والمكارم وسائر خلال الخير والكمال، وهو معنى من المعاني التي يستتبعها الملك والغلب والسلطان،١٢٦ أما القسم الثاني من أقسام بلرم، فهو المعروف بالخالصة، وهو مقام الوالي وأتباعه، وليس فيه أسواق ولا فنادق، وبه حمامان، وفيه مسجد جامع مقتصر صغير، وفيه حبس الوالي، ودار صناعة البحر، والديوان، والأقسام الأخرى الثلاثة، فقسم يعرف بحارة الصقالبة، وهذا القسم أعمر من القسمين السابقين وأجلُّ، ومرسى البحر به، وآخر يسمى حارة المسجد، وثالث يسميه القوم الحارة الجديدة، وأكثر الأسواق في هذا القسم كسوق الزياتين والصيارفة والصيادلة والخرازين والصياقلة والنحاسين، وسوق القمح، وسائر الصناع على اختلافهم. وفي هذه الحارة الجديدة نحو من خمسين ومائة حانوت لبيع اللحم. وهذا مما يدل على استبحار العمران في هذه الجزيرة، ورخاء أهليها، وكثرة عديدهم. فسبحان المعز لمن يشاء.
ولقد حدثني الفقيه الوثائقي حديثًا يجمل بنا أن نجلوه لك الآن قال:١٢٧ إن المسلمين لما فتحوا هذه الجزيرة وبلاد قلورية١٢٨ من بر الأرض الكبيرة،١٢٩ واستوثق لهم الأمر، ومدت لهم أمم الفرنجة يد الإذعان، أخذوا حسب عادتهم في كل بلاد يفتحونها بنية الإقامة فيها، وإصلاح حال أهليها، في أن يستنقذوا هذه البلاد من تلك الحمأة المنتنة التي كانت مرتطمة فيها أيام حكم الروم، فنشروا في البلاد ألوية العدل، وعمدوا إلى الزراعة فانتعشت بعد صرعتها، وإلى التجارة فهبت من رقدتها، وإلى الصناعة فانتاشوها من وهدتها، ووثب الأهلون وثبة كأنما أنشطوا من عقال، فكثرت الأموال، واغدودقت الخيرات إلى الحد الأقصى، وافتنَّ الناس افتنانهم في ضروب الترف والنعيم واتساع العيش والتأنق فيه، والتلوُّن بأزهى ألوانه، قال الفقيه: أما عدل المسلمين، فإنك لتجد نصارى هذه البلاد لا يكاد المسلمون ينمازون عنهم بشيء، فالجميع يرتعون متبحبحين متحابين، وكلٍ متمتع بعيشته وعقيدته وطقوسه، فللنصارى كنائسهم كما أن للمسلمين مساجدهم، وإذا جاء عيد من الأعياد رأيت أعلام النصارى بجانب أعلام المسلمين. أما علم النصارى فقد صُور فيه صليب مذهَّب في بُهرة ساحة حمراء، وعَلم المسلمين قد رُسم فيه حصن أسود في ساحة خضراء١٣٠ أما نساؤهم فربما رأيتهن اليوم «الأحد» وهن ذاهبات إلى الكنائس وقد تشبهن بنساء المسلمين؛ لأن المغلوب — كما تعلم — مولع دائمًا بتقليد الغالب، فانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، ولبسن الحرير الموشَّى بالذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وتزينَّ بكل ما يتزين به المسلمات.١٣١
إن من يدخل الكنيسة يومًا
يلق فيها جآذرًا وظباء
وليس يطلب من النصارى سوى تلك الإتاوة التافهة المفروضة عليهم لقاء قومة السلطان على الرعية، وهي ديناران يؤديهما غَنِيُّهم، ودينار واحد يؤديه صُناعهم وأرباب الحرف منهم. أما النساء والأطفال فليس شيء بمفروض عليهم،١٣٢ وهم يُقرون بأنهم لم يذوقوا طعم هذا العيش الأخضر إلا على عهد المسلمين، وأما الزراعة فقد شققنا الأنهار، واحتفرنا الجداول، وأقمنا عليها القناطر الحاجزة،١٣٣ وأحيينا الأرض الغامرة، فأخصبت ودرَّت وربتْ، وأخذت زخرفها وازينت، وجلبنا إلى هنا كثيرًا من الأشجار والأزهار وضروب النبات التي لم يكن ليعرفها أهل البلاد الأصليون؛ مثل: القطن، والقصب، وشجر الزيتون،١٣٤ والبردي١٣٥ الذي لا يوجد إلا في مصر، وكثير غير ذلك.
وأما الصناعة فقد خطت بفضل المسلمين خطوات بعيدة المدى، فاستثرنا دفائن الأرض ومعادنها من الفضة والنحاس والرخام والحديد، ومهر المسلمون في ضروب الصناعات الشتى الألوان، فحذقوا صنع الحرير والصباغة وما إليها،١٣٦ وكذلك تراهم قد برعوا وأربوا وتفوقوا في سائر العلوم الصناعية، بَلهَ الأدبية والدينية والفلسفية، حتى إن الفرنجة لانبهارهم من براعة المسلمين فيما بلغني يقرفونهم بالسحر١٣٧ وما هو — عمرك الله — بالسحر، إن هو إلا تَسَنُّمهم ذروة الكمال، وهوي هذه الأمم الحمراء إلى الحضيض الأوهد.
والنجم تستصغر الأبصار صورته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

وأما التجارة فلعلك قد شاهدت كثرة السلع والبضائع المجلوبة إلى هذه البلاد والحوانيت والمتاجر المتكاثرة في شوارع البلد، وكذلك عساك قد أبصرت الحركة المباركة في مينائنا وعمال المكوس فيها، مما تتحقق منه أن الجزيرة قد شأتْ شأوًا بعيدًا في التجارة بفضل نشاط المسلمين وإقدامهم وبُعْد هممهم، وكل ذلك بما أثَّر فيهم روح هذا الدين القويم وآدابه الإلهية.

لقائي الأمير أبا الحسين أحمد بن أبي الحسن الكلبي؛ والي جزيرة صقلية

إني لجالس مع الفقيه الوثائقي في مسجده بعد أن تغدينا وصلينا صلاة الظهر، ثم أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، إذ دخل علينا المسجد خادم مِن قِبل الأمير، فذعر الفقيه عندما أخذت عينه هذا الخادم، فذعرتُ لذعره، ثم قال الخادم: إن الأمير يدعوك الساعة إليه ومعك ضيفك المصري، فقلت للفقيه: أَثمَّ ما يُخاف منه فأفرخ رَوْعي١٣٨ وقال: الآن لا، أظن ثمت شيئًا أكثر من رغبة الأمير في أن يستطلع منك طِلْع مصر والمصريين، وأميرنا — حفظه الله — من خواص أهل الأدب وعليتهم، وإنه لذو حظ عظيم من رجاحة العقل وسجاحة الخلق، يحب الأدباء ويقربهم إليه، ويتحدث معهم كما يتحدث النظير مع النظير، على أن اليوم في صقلية كأنه عيد من أعياد الأهلين؛ إذ كان قد ورد من أيامٍ على الأمير كتاب من أمير المؤمنين المعز لدين الله يأمر الأمير فيه بإحصاء أطفال الجزيرة، وأن يختتنهم ويكسوهم ويحبوهم بالعطايا في اليوم الذي يختتن فيه ولد أمير المؤمنين، فكتب الأمير خمسة عشر ألف طفل، ثم اختتن ولده وإخوته، وقد أمر اليوم باختتان سائر أطفال الجزيرة، وخلع عليهم، وفرَّق فيهم مائة ألف درهم، وخمسين حملًا من الصلات وَرَدتْ عليه من أمير المؤمنين،١٣٩ فكيف نتوقع شرًّا من الأمير في مثل هذا اليوم المبارك؟

وقد كان مع الخادم بغلتان فارهتان من مطايا الأمير وقد جُللتا بالديباج وحليتا بالفضة، فركبت أنا والفقيه وسرنا حتى وصلنا إلى دور الإمارة، فوقعت عيني على شيء لم تقع على مثله من قبل.

قصور كالكواكب لامعات
يكدن يضئن للساري الظلاما

•••

وقبة ملك كأن النجو
م تُفضي إليها بأسرارها
لها شرفات كأن الربيع
كساها الرياض بأنوارها

•••

كأن جن سليمان الذين ولوا
إبداعها فأدقوا في مغانيها
ولما أن وصلنا إلى دور الإمارة، أشار علينا الخادم بالنزول، وأسلمنا إلى الحجاب، فساروا بنا في ممر مفروش بالحصباء تتخللها الفسيفساء، ثم سلكوا بنا حدائق فيحاء مترامية الأنحاء قد اغلولبت فيها الأشجار، وتعلقت بأغصانها الأطيار، وانسربت فيها الجداول والأنهار، واعشوشبت فيها النجوم١٤٠ والأزهار.
والجو من أرج الهواء كأنه
ثوب يعنبر تارة ويمسك

وما زلنا إلى أنِ انتهينا إلى قصر الأمير، فرجع الحجاب بعد أن أسلمونا إلى الحجاب المقربين، فرَقِي بنا هؤلاء سلمًا ينتهي بالراقي عليه إلى بهو عظيم يملأ صدر الناظر إليه مهابة وجلالًا، فاجتزناه واجتزنا بعده غرفًا ومقاصير عدة حتى انتهينا إلى مجلس الأمير، وناهيك به مجلسًا لم أر ما هو أحق منه بقول من قال:

قصرٌ لوَ انَّك قد كحلت بنوره
أعمى لعاد إلى المقام بصيرَا
أبصرته فرأيت أبدع منظرٍ
ثم انثنيت بناظري محسورَا
فظننت أني حالمٌ في جنة
لما رأيت الملك فيه كبيرَا
تجري الخواطر مطلقات أعِنَّة
فيه فتكبو عن مداه قصورَا
ضحكت محاسنه إليك كأنما
جعلت لها زهر النجوم ثغورَا
وإذا الولائد فتحت أبوابه
جعلت ترحب بالعفاة صريرَا
عضت على حلقاتهن ضراغم
فغرت بها أفواهها تكبيرَا
فكأنما لبدت لتهصر عندها
مَن لم يكن بدخوله مأمورَا
ومصفَّح الأبواب تبرًا نَظَّروا
بالنقش فوق شكوله تنظيرَا
وإذ نظرت إلى غرائب سقفه
أبصرت روضًا في السماء نضيرَا
وضعت به صُناعها أقلامها
فأرتك كل طريدة تصويرَا
وكأنما للشمس فيه ليقة
مشقوا بها التزويق والتشجيرَا١٤١
فلما أقبلنا على المجلس غلبني البهر من جلالة الأمير، فسلم الفقيه الوثائقي، ثم سلمت بعده بالإمارة، فرد عليَّ السلام باشًّا في وجهي وأذِن لنا بالجلوس، وقد كان قاضي القضاة جالسًا عن يسار الأمير، ثم أخذ الأمير في أحاديث شتى يقصد بها لعله أن يؤنسني وينفي الوحشة عن ساحتي. وبعد أن آنس مني الأنس به قال: أي منتوى ينتوي أخونا المصري — إن شاء الله؟ فقلت: إني أنتوي يا مولاي القُطر الأندلسي، فقال: ومتى زايل مصر؟ فقلت: منذ نيف وعشرين يومًا، فقال: وكيف فارقتها؟ فقلت: على أحسن حال يا مولاي الأمير، فقال: وكيف حال الأمير أنوجور وحال كافور معه؛١٤٢ فقد اتصل بنا أن كافورًا قد استبد به وغلبه على أمره؟ فقلت: إذا كان كافور يا مولاي قد استبد بالأمير أنوجور، فإن المصريين قد استبدوا بكافور، فقد أصبح كافور للمصريين لا لنفسه ولا للأمير، فسيرته فينا عادلة رشيدة، وحاله معنا جميلة سديدة؛١٤٣ لأنه يعلم أن الملوك إنما هم خدام الرعية، فكيف يظلمونها ويستجيزون كيدها، ولِمَ يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ على أن كافورًا ليس هو وحده الذي ينهض بأعباء الملك، وإنما يشد أزره ويشاركه أمره وزيرنا الأعظم أبو الفضل جعفر بن الفرات وغيره من رجالات الدولة، فقال الأمير: ولكن أليس أليق بكم وأسمى وأنبل أن يلي أمركم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه أمير المؤمنين المعز لدين الله، وأنت تعلم أيها الأخ أن العباسيين قد ضعف أمرهم، وتضعضعت حالهم، والتاث عليهم ملكهم، وانتزى الأعاجم والأتراك على البلاد فاقتطعوا الممالك منهم، وتفردوا بالأمر دونهم.١٤٤ أما عبد الرحمن الناصر؛ صاحب الأندلس، فقد اكتفى بما في يده من الممالك المترامية الأطراف، فلم يبق إلا أن تستظلوا بظل خلفائنا الفاطميين حتى يحموكم ويردوا عنكم طمع الطامعين.

وهنا طار طائر الغضب إلى رأسي فلم ألبث أن اندفعت قائلًا: إن مولاي الأمير — حفظه الله — يعلم أنه إذا عُد من أظلم الظلم وأنكر النكر أن ينقض جارح من الجوارح على وكر طائر آمن في سربه فيزعجه في سكنه، وينغص عليه عيشته، ويستلبه سراحه وحريته، ويضطره إما إلى الظعن إلى جو غير جوه، أو الإقامة بجواره بين مخلبه وظفره، فإن من الظلم الذي لا ظلم وراءه أن تعدو أمة على أخرى، وحجتها في ذلك أن تحميها من طمع الطامعين، أليس من السفسطة وأقعد ما يقال في باب المغالطة أن يعدو قوم على قوم بحجة أن هذا العدوان إنما هو وقاء لهم من عدوان آخرين؟ ولم لا تبدأ هذه الأمة بنفسها فتريح غيرها من عدائها.

إن مولاي الأمير ليعلم أن حب الوطن من الإيمان، ويقول رسول الله صلوات الله عليه: حب الوطن من طيب المولد، ويقول: لولا حب الوطن لخربت بلاد السوء، على أن فطرة الإنسان معجونة بحب وطنه؛ ولذلك يقول بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، ويقول جالينوس: يتروح العليل بنسيم بلده كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر، ويروى أنه لما أسر سابوز ببلد الروم، قالت له بنت الملك — وكان قد مرض وعشقته: ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء دجلة، وشمة من تراب اصطخر، فحُملا إليه فبَرِئ وأبلَّ من مرضه، والكريم يا مولاي يحن إلى جنابه كما يحن الأسد إلى غابه، وكفى دلالة على محبة الوطن قول الله جل شأنه: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ الآية، ومن ثم كان ألأم بيت قالته العرب قول القائل:

تلقى بكل بلاد إن حللت بها
ناسًا بناس وإخوانًا بإخوان

فلا جرم أن يتغلغل حب مصر والمصريين في السواد من حبة القلب مني؛ حتى لكأني المعني بقول من يقول:

كأن فؤادي من تذكره الحمى
وأهل الحمى يهفو به ريش طائر

وكيف لا أحب بلدًا ولدت فيه، وأرضه هي أول أرض مس جلدي ترابها، وقد طعمت غذاءها، وشربت ماءها النمير؛ ماء نيلها المبارك الذي يعذر الأقدمون عن زعمهم أن الجنة منبعه انسرب منها إلى هذه الخضراء.

بلد صحبت به الشبيبة والصِّبا
ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أفنية الشباب تميد

•••

ألا يا حبذا وطني وأهلي
وصحبي حين يُدَّكر الصحاب
وما عسل ببارد ماء مزن
على ظمأ لشاربه يشاب
بأشهى من لقائكم إلينا
فكيف لنا به ومتى الإياب؟

ومولاي الأمير يعلم علمًا ليس بالظن أن الحكام الغرباء عن البلاد، مهما كانت منزلتهم من العدل، لتأبى عليهم سنة الله في خلقه إلا أن يضيموا الرعية التي لا تمت إليهم برحم أو آصرة موطن. أما رهط المرء، فرحم الله من قال:

لعمري لرهط المرء خيرٌ بقيةً
عليه وإن عالوا به كل مركب
إذا كنت في قومٍ عِدًا١٤٥ لست منهم
فكل ما علفت من خبيث وطيب

لذلك كله أقول وأنا آمن الأمير:

ولي وطن آليت أن لا أبيعه
وأن لا أرى غيري له الدهر مالكَا١٤٦

وهنا أطرق الأمير ثم انبعث قاضي القضاة قائلًا: أظن أخانا المصري لا يغيب عنه أن الأرض قد ملئت اليوم جورًا وظلمًا وعدوانًا، وذاع الفساد في البلاد، وعم الشر وطم، فلا بد من إمام عادل يملأ الدنيا قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، ولا يكون هذا الإمام إلا من ولد فاطمة بنت رسول الله ، وها هو ذا قد صدق رسول الله وعده، وجاء إلينا إمام المسلمين العادل الرحيم البار برعيته، الداعي إلى الحق، والقائم بنصرته، مولانا وابن مولانا المعز لدين الله بن مولانا المنصور بن مولانا القائم بن مولانا عبيد الله المهدي — أدام الله تأييده — هذا إلى أنه لا يوجد اليوم بين ملوك المسلمين من هو أعز من مولانا نفرًا، وأكثر مالًا ووفرًا، وأقوى سلاحًا وشوكة، وأبعد في سياسة الأمم تجربة وحنكة، فكان لذلك من الواجب الحتم على كل مسلم أن يعمل على نشر دعوته، ويستظل برعايته، فما كاد قاضي القضاة يتم كلامه حتى ابتدرت فقلت: إن المصريين لا ينكرون على أمير المؤمنين المعز لدين الله شيئًا مما قلت، بيد أن مولانا — حفظه الله — يعرف مما عرف من طبائع للبشر، أن الأمة التي تُغلب على أمرها، ويخفق عليها لواء غيرها، وتصبح بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليها؛ يقصر أملها، ويبلى رجاؤها، وتضوى أرواحها.

واحتمال الأذى ورؤية جانيـ
ـه غذاء تضوى به الأجسام
وذلك لما خضد الغلب عليها من شوكتها، وكسر من حميتها، فيُفضي ذلك على كر الأدهار، وتعاقب الليل والنهار، إلى أن ترأم الذل١٤٧ والاستخذاء، وتشتمل بأردية الكسل والوناء، فيكون من نتاج ذلك ضعف النشاط في القوى الحيوية، وهلم حتى يتناقص عمرانهم، وتتلاشى مكاسبهم، ويعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، فيصبحوا مغلبين لكل متغلب، طُعمة لكل آكل، نهبًا مقسمًا لكل ناهب، وثمة شيء آخر وهو أن الإنسان يا مولاي رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له، والرئيس إذا غلب على رئاسته، وكبح عن غاية عزه، تكاسَل حتى عن شبع بطنه، وريِّ كبده. وهذا شر ركب في غرائز البشر، كما أنه وجد مثله في الحيوانات المفترسة، فإنها لا تسافد — كما يقولون — إذا كانت في مَلَكة الآدميين.
ذلَّ من يغبط الذليل بعيش
رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحمام
وهنا كأن الأمير أراد أن يطوي بساط هذا الموضوع، فانتقل فجأة إلى معنى آخر، فقال: هل يحفظ أخونا المصري شيئًا مما مدح به المتنبي الشاعر كافورًا؟ وهل لا يزال هذا الشاعر مقيمًا في مصر؟ فقلت: نعم يا مولاي الأمير، لقد فارقت مصر ولمَّا يزل المتنبي في خدمة مولانا الأستاذ أبي المسك كافور، ولقد امتدحه بأحسن المدح، وحق له أن يمتدحه؛ إذ اللهى يا مولاي تفتح اللها١٤٨ — كما يقولون — فما يعلق بالذاكرة مما أنشدنيه قوله فيه بعد أن وصف الخيل التي سرت به إليه:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضًا خلفها ومآقيَا

وقوله من قصيدة:

وأخلاق كافور إذا شئت مدحه
وإن لم أشأ تملي عليَّ فأكتب
إذا ترك الإنسان أهلًا وراءه
ويمم كافورًا فما يتغرب

وفي هذه القصيدة يقول:

وما الخيل إلا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حُسن شياتها
وأعضائها فالحسنُ عنك مغيب
لحا الله ذي الدنيا مناخًا لراكب
فكل بعيد الهمِّ فيها معذَّب

وله فيه قصيدة مطلعها:

أودُّ من الأيام ما لا تودُّه
وأشكو إليها بيننا وهي جنده

يقول فيها من حكمته البالغة:

وأتعب خلق الله من زاد همُّه
وقصر عما تشتهي النفس وجده
فلا ينحلل في المجد مالك كله
فينحل مجد كان بالمال عقده
ودبره تدبير الذي المجد كفه
إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

إلى أن يقول:

وما رغبتي في عسجد أستفيده
ولكنها في مفخر أستجده

وقوله فيه من أخرى مطلعها:

من الجآذر في زي الأعاريب
حمر الحلي والمطايا والجلابيب

•••

كأن كل سؤال في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
إذا غزته أعاديه بمسألة
فقد غزته بجيش غير مغلوب

ويعجبني من نسيب هذه القصيدة قوله:

كم زورة لك في الأعراب خافية
أدهى — وقد قدوًا — من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي

إلى أن يقول:

ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب

فقال الأمير: بيد أنه بلغني اليوم فقط أن المتنبي زايل مصر بآخرة، وهجا كافورًا هجاءً قاسيًا مرًّا بأبيات يقول فيها:

لقد كنت أحسب قبل الخَصِي
أن الرءوس مَقرُّ النُّهى
فلما نظرت إلى عقله
رأيت النهى كلها في الخُصَى
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبُّكا
بها نبطي من أهل السواد
يدرس أنساب أهل العلا
وأسود مشفره نصفه
يقال له: أنت بدر الدجى
وشعرٍ مدحت به الكركدن
بين القريض وبين الرقى
فما كان ذلك مدحًا له
ولكنه كان هجو الورى

إلى أن يقول:

ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
فقلت: إذا كان قد هجاه فقد قال الله جل شأنه وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وصدق رسول الله صلوات الله عليه إذ يقول: شر الناس من أكرمه الناس اتقاء لسانه، ورحم الله من يقول: لا تؤاخ شاعرًا فإنه يمدحك بثمن ويهجوك مجانًا، على أن المتنبي رجل ذو طماعية وطماح، وكان مولاي الأستاذ أبو المسك وعده بولاية بعض أعماله، فلعله رأى منه بعد ذلك ما لم يستطع معه الوفاء بما وعد،١٤٩ فقال فيه المتنبي ما قال، قال الأمير: ولكن للمتنبي في سيف الدولة بن حمدان وفي غيره ما هو أبرع مما مدح به كافورًا، ويعجبني من قصيدة له في ابن حمدان قوله:
إذا ما سرت في آثار قومٍ
تخاذلت الجماجم والرقاب١٥٠

إلى أن يقول:

وكيف يتم بأسك في أناس
تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
وأنت حياتهم غضبت عليهم
وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي
ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنبٍ مولده دلال
وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قومٍ
وحل بغير جارمه العذاب

وقوله فيه من قصيدة:

يقود إليه طاعة الناس فضله
ولو لم يقُدها نائل وعقاب
أيا أسدًا في جسمه روح ضيغم
وكم أسد أرواحهن كلاب

وفي هذه القصيدة يقول:

وفي الجسم نفسٌ لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الوجه منه حراب
لها ظُفُر إنْ كَلَّ ظفر أعدُّه
وناب إذا لم يبق في الفم ناب
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب

إلى أن يقول:

وللسر مني موضع لا يناله
نديم ولا يفضي إليه شراب

ولله هو إذ يقول في كلمة له:

دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر
ولا تحسبن المجد زقًّا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وإن تُرى
لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويًّا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ
على هبة فالفضل فيمن له الشكر
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقرٍ فالذي فَعل الفقر
ثم قال الأمير: وهل لا يرى أخونا المصري لأبي القاسم ابن هانئ الأندلسي؛ شاعر أمير المؤمنين المعز لدين الله، ما يستأهل به أن يُلَزَّ مع المتنبي في قرن؟١٥١ فقلت: إني أخشى يا مولاي أن أصرح برأيي، فقال: قل وأنت آمن، فقلت: إني لا أشبهه يا مولاي إلا برحًى تطحن قرونًا،١٥٢ وإني كلما أنشدت شعره فكأني أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا، فاربدَّ وجه الأمير غضبًا، ثم تحالم وقال: وهل يقال مثل هذا فيمن يقول:
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده
أكذا يجوز الحكم في ناديك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي
وادي الكرى ألقاك أم واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيف طارق ظنوك
ودعوك نشوى ما سقوك مدامة
لما تمايل عطفك اتهموك
حسبوا التكحل في جفونك حلية
تا الله ما بأكفهم كحلوك
وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة
حتى إذا احتفل الهوى حجبوك

ويقول من أبيات في وصف الخيل:

تكاد تحس اختلاج الظنو
ن بين الضلوع وبين الحشى
ومن رِفْقِها أنها لا تحس
ومن عَدْوِها أنها لا ترى
وتحسب أطراف آذانها
يراعًا برين لها بالمدى
جرين إلى السَّبق في حلبة
إذا ما جرَى البرق فيها كبَا
ديار الأعزة لكنها
مكرمة عن مشيد البنا

وهل لمولانا المعز الذي يقول مثل هذا الشعر:

اطلع الحسن من جبينك شمسًا
فوق ورد في وجنتيك اطَّلا
وكأن الجمال خاف على الورد
جفافًا فمدَّ بالشعر ظلَّا
أن يقرب ابن هانئ إليه، ويؤثره على غيره، ويعتز به ويفاخر، لولا أن رآه من الشعر بحيث لا يكاد يتخلف عن المتنبي؟ بلى، وإذا كان في المشرق المتنبي، ففي المغرب ابن هانئ، وإذا كان فيه عبد الله بن المعتز، فعندنا ابن مولانا المعز: الأمير أبو علي تميم،١٥٣ الذي يقول:
أما والذي لا يملك الأمر غيره
ومن هو بالسر المُكتَّم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلمًا
لإعلانُها عندي أشدُّ وآلَم
وبي كل ما يبكي العيون أقله
وإن كنت منه دائمًا أتبسَّم

وبعد ذلك رأيت من الحزامة أن لا أطيل سبب المحاجَّة، فخرجت بالصمت عن لا ونعم، ثم أمر لي الأمير بعطاء سَنِيٍّ، ثم أذِن لي في الانصراف من حضرته.

جزائر ميورقة ومنورقة ويابسة

وقبل أن أختتم هذه الرسالة، آتي لك على شيء مما اعترضنا في طريقنا بعد أن انفصلنا من بلرم قاصدين إلى المَرِيَّة، فمن ذلك أنَّا ونحن إزاء جزيرة كبيرة تسمى سردانية، أبصرنا أسطولًا كبيرًا قادمًا من ناحيتها، وقد علمنا أن هذا الأسطول هو أسطول المعز لدين الله غزا هذه الجزيرة وبلاد جنوة من بر الأرض الكبيرة، وغنم وسبى شيئًا كثيرًا يخطئه العد والإحصاء، وما خام١٥٤ في سائر غزواته عن اللقاء، على ما في ذلك من الغرر؛ إذ إن وراء هذه البلاد من أمم إفرنجة عديد الذر، غير أن المعز يفعل ذلك الفينة بعد الفينة؛ لأنه يعلم أن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله الذلَّ، وسيمَ الخسفَ، ودُيِّثَ بالصَّغار،١٥٥ وأن أمة من الأمم تريد أن تكون عزيزة مهيبة لا بد من أن تغزو غيرها قبل أن يغزوها الأغيار، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ يقول في إحدى خطبه: ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.

وهذه سردانية جزيرة كبيرة في غرب هذا البحر الرومي غزاها المسلمون حوالي سنة ٩٢ هجرية، الموافقة سنة ٧١٠ ميلادية في عسكر موسى بن نصير، وملكوها حينًا من الدهر، ثم تركوا حبلها على غاربها، ثم هُمُ الآن يغزونها من وقت لآخر، ويغنمون ويسبون لما علمت.

وقد مررنا فيما مررنا به من جزر هذا البحر بجزائر ثلاث متجاورات تسمى: ميورقة ومنورقة ويابسة،١٥٦ وهي جزائر عامرة مأهولة بالمسلمين يرجع أمرها إلى صاحب الأندلس، وعليها والٍ من قبله، ومن هنا تعلم أن المسلمين قد ملكوا ناصية هذا البحر الرومي بما فيه من الجزائر الكبيرة والصغيرة، علاوة على جزائر بحر الظلمات «المحيط الأطلسي»، كما أسلفنا لك، فسبحان المعز لمن يشاء، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.

تمت هذه الرسالة وقد كتبت على متن البحر وبيننا وبين المَرِيَّة مسيرة يوم أو بعض يوم، وذلك في شهر جونيه الرومي، سنة ست وخمسين وتسعمائة، الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية.

هوامش

(١) المَرِيَّة — ويُسمِّيها الإفرنج Almeria: ثغر من ثغور إسبانيا واقع على البحر الأبيض المتوسط، وكانت زمنَ هذه الرحلة مرسًى للسفن القادمة من المشرق، القاصدة إلى القطر الأندلسي.
أي ضخمة؛ من قول طرفة بن العبد يصف السفينة:
عَدَوليَّة أو مِن سَفِينِ ابنِ يامنٍ
يجور بها الملَّاحُ طورًا ويهتدي
قال في اللسان: قال الأصمعي: العدولي من السفن منسوب إلى قرية بالبحرين يقال لها: عدولى، ثم قال: وقيل: إنما هي منسوبة إلى موضع كان يسمى عدولاة. نقول: ولعل هذا هو الأقرب إلى الصواب، ولعل عدولاة هذه هي آدولي. وقد جزم بذلك وبأن السفن العدولية منسوبة إلى آدولي هذه أستاذُنا الدكتورُ ناللينو؛ المحاضر كان بالجامعة المصرية. قال البستاني في دائرة معارفه تحت كلمة «آدوليس أو آدولي»: هي مدينة قديمة في الحبشة في جون من البحر الأحمر على الشاطئ الغربي، وتسمى الآن زويلة وأركيكو، وكانت في القرن السادس للميلاد ميناء لأكسوم.
(٢) جاء في كتب التاريخ عن هذا المركب وعن ولوع الناصر بإنشاء المراكب والأساطيل ما لا يكاد ينحرف عنه كلامنا. راجع تاريخ أبي الفداء وابن الأثير وابن خلدون.
(٣) دخل الأندلس أبو علي القالي سنة ٣٣٠ هجرية، أيام عبد الرحمن الناصر، وسنة ٣٣٠، وسنة ٣٤٥ قريب من قريب.
(٤) دخل الأندلس هذا الفقيه المصري العظيم سنة ٣٤٣، قال ابن حيان: فأكرم الناصر مثواه، وكان فقيه أهل مصر.
(٥) قال ابن الفرضي: أدْخَل الأنطاكي على الأندلس علمًا جمًّا، وكان إمامًا في القراءات لا يتقدمه أحدٌ فيها. مات بقرطبة سنة ٣٧٧.
(٦) وفد ابن حوقل على الأندلس حوالي سنة ٣٦٠، ومرَّ كذلك بصقلية.
(٧) جاء في نفح الطيب أنه اشتُري للأمير عبد الرحمن؛ صاحب الأندلس، قَيْنة اسمها فَضْل، والظاهر أنه يعني عبد الرحمن الأوسط لا عبد الرحمن الناصر؛ فليُلاحظ ذلك. على أنه جاء في كتب التاريخ أنه كان في هذا المركب — مركب الناصر — جوارٍ مغنيات اشتُرينَ للناصر من المشرق.
(٨) أي المسافرين.
(٩) الحين بعد الحين، ومثلها الخطرة بعد الخطرة.
(١٠) الغُل: القيد.
(١١) البيتان لأبي عمرو يزيد بن أبي خالد اللخمي الإشبيلي الأندلسي.
(١٢) رخاء لا يشوبه سوء؛ من البلاهة.
(١٣) لابن خفاجة الأندلسي. فغر: فتح، والحِمام: الموت، وأتلع: مدَّ، والمُتاح: المُقدَّر.
(١٤) المقري صاحب نفح الطيب.
(١٥) كنديه Candia.
(١٦) كل ما ذكر عن كريد تاريخي حقيقي.
(١٧) مراكش.
(١٨) المقص.
(١٩) أقرب شيء إليها، تقول: إنه لأول ذي ظلم لقيته: إذا كان أول شيء سد بصرك بليل أو نهار. ومثله: لقيته أول وهلة، وأول صوك وبوك.
(٢٠) السفن.
(٢١) عاونتها.
(٢٢) عدد وآلات.
(٢٣) أناس متعددة كثيرة، جنود.
(٢٤) جمع قبة.
(٢٥) جمع مهاة، وهي في الأصل البلورة التي تبص؛ لشدة بياضها، أو الدرة، ثم أطلقت على بقرة الوحش على التشبيه؛ لبياضها، ثم هم يُشبِّهون المرأة بالمَهاة في البياض، يعنون البلورة أو الدرة، وإذا شبهت بها في العينين فإنما يعني بها البقرة، يقول: كما ترخي القباب على النساء.
(٢٦) الصبير: السحاب الأبيض.
(٢٧) راياتها.
(٢٨) القنان: جمع قنة، وهي أعلى الجبل، والريود: جمع رَيد (بفتح الراء): الحرف الناتئ من الجبل.
(٢٩) الغمار: جمع غمر؛ الماء الكثير.
(٣٠) السليط: الزيت، والذبال: الفتائل، وعتيد: مُعد حاضر.
(٣١) الخَلوق: الزعفران، والرَّدْع: اللَّطْخ بالزعفران، وقانٍ: أي أحمر، والمعنى ظاهر.
(٣٢) الكديد: تراب حلبة الخيل.
(٣٣) يقول: ليست من الخيل؛ لأن المذاكي: الخيل، والنجر: الأصل.
(٣٤) يقول: إنها رحيبة مد الباع مع أنها من غير قوائم؛ فالشوى قوائم الفرس.
(٣٥) عذراء لأنها لم تُركب قبلُ؛ وولود لأنها تحمل ناسًا، فكأن الجنود فيها أولادها، وهذا من قول مسلم بن الوليد:
كشفت أهاويل الدجى عن مهولة
بجارية محمولة حامل بكر
(٣٦) غبار.
(٣٧) المَولَى: السيد.
(٣٨) الشفوف: جمع شف، وهو الثوب الرقيق، والعبقر: موضع تزعم العرب أنه في أرض الجن، قالوا: وتوشَّى فيه البُسط وغيرها، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته، ويقال: ثياب عبقرية من هذا.
(٣٩) مفوفة: فيها خيوط بيض.
(٤٠) النضار: الذهب، والجسيد: الدم.
(٤١) جمع خريدة وهي من النساء البِكْر التي لم تمسَّ، أو الحيية الطويلة السكون، الخافضة الصوت، الخَفَرة.
(٤٢) ملوك.
(٤٣) أي عظيم كثير الماء.
(٤٤) الجواشن: القمصان.
(٤٥) نوع من الثياب.
(٤٦) ابن جبير.
(٤٧) ابن خلدون.
(٤٨) الإمبراطور.
(٤٩) ابن الأثير.
(٥٠) معجم البلدان.
(٥١) جاء في دائرة معارف البستاني ما يأتي: هي مدينة في إيطاليا على شبه جزيرة صغيرة في بحر أدرياتيك، إلى أن قال: وفي عهد شارلمان كانت بارة أكبر حصن للعرب على هذا البحر.
(٥٢) بحر الأدرياتيك.
(٥٣) هو شارلمان، وأنبرور أي إمبراطور.
(٥٤) لا تقدر قيمتها نَفَاسةً.
(٥٥) ملوكها.
(٥٦) السِّيف: ساحل البحر، والجمع أسياف.
(٥٧) سواحل أوروبا الجنوبية.
(٥٨) ابن خلدون.
(٥٩) طويل.
(٦٠) هذه الخطبة من وضعنا، وإنما نقصد تصوير ذلك العصر من جميع جوانبه.
(٦١) ألدُّ، شديد الخصومة.
(٦٢) بذل وكرم، والمراد — كما هو ظاهر — بذل النفس.
(٦٣) شدة العطش.
(٦٤) منهزمين.
(٦٥) عالة وثقلًا.
(٦٦) نزهة المشتاق.
(٦٧) تونس والجزائر وطرابلس الغرب.
(٦٨) هي الآن من أعمال ولاية تونس واقعة على البحر الأبيض المتوسط على مسافة ١١٠ كيلومترًا من تونس إلى الجنوب الشرقي.
(٦٩) أبو يزيد الخارجي: هو رجل من زناتة، واسم والده كيداد من مدينة توزر من بلاد قسطيلية بأفريقية، فوُلد له أبو يزيد بتوزر من جارية سوداء، ونشأ أبو يزيد في توزر وتعلم القرآن، وسار إلى تاهرت وصار على مذهب النكارية، وهو تكفير أهل الملة، واستباحة أموالهم ودمائهم، والخروج على السلطان، ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس وتغيير المنكر سنة ست عشرة وثلاثمائة، ودعا أهل تلك البلاد فأطاعوه، وكثُر جمعه في أيام القائم بن المهدي، فحصر قسطيلية ثم فتح تبسة ثم سبيبة وصلب عاملها.
ثم فتح الأريس، فأخرج القائم جيوشًا لحفظ رقادة والقيروان، فهزمهم أبو يزيد واستولى على تونس، ثم على القيروان ورقادة، ثم سار أبو يزيد إلى القائم، فجهَّز إليه القائم جيشًا فجرى بينهم قتال كثير. وأخيرًا انهزمت جيوش القائم، فسار أبو يزيد وحصر القائم بالمهدية وضايقها، وغلا بها السعر وعدم القوت، ولم يزل حتى رحل عنها ورجع إلى القيروان.
وفي أثناء ذلك، توفي القائم وملك ابنه المنصور، فجهز المنصور العساكر، وسار بنفسه إلى القيروان واستعادها من أبي يزيد، وانهزمت عساكر الخارجي، وسار المنصور في أثره فأدركه على مدينة باغاية، فهرب الخارجي من موضع إلى آخر حتى وصل طبنة، وهرب حتى وصل إلى جبل للبربر يسمى برزال والمنصور في أثره.
واشتد على عسكر المنصور الحال، فرجع المنصور إلى بلاد صنهاجة، وبلغ إلى موضع يسمى قرية عمرة، واتصل به هناك الأمير زيري الصنهاجي؛ وهو جد ملوك بني باديس، فأكرمه المنصور غاية الإكرام، ثم رحل إلى المسيلة، وكان قد اجتمع إلى أبي يزيد جمعٌ من البربر، وسبق المنصور إلى المسيلة، فلما قدم المنصور إليها هرب عنها أبو يزيد إلى جهة بلاد السودان، فاقتفى المنصور أثره حتى قابله، فاقتتلوا فانهزم أبو يزيد وأُخذت أثقاله، فالتجأ إلى قلعة كتامة، وهي منيعة، فحاصرها المنصور وداوم الزحف عليها إلى أن ملكها عنوة، فهرب أبو يزيد من القلعة من مكان وعر فسقَط منه، فأخذوه وحملوه إلى المنصور، فسجد المنصور شكرًا لله، وكثر تكبير الناس وتهليلهم، وبقي أبو يزيد في الأسر مجروحًا، فمات في المحرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فسلخوا جلده وحشوه تبنًا، وكتب المنصور إلى سائر البلاد بالفتح، وبقتل أبي يزيد، وعاد إلى المهدية، وكان أبو يزيد قصيرًا، أعرج، قبيح الصورة، يلبس جبة صوف قصيرة. ا.ﻫ. ملخصًا من ابن خلدون.
(٧٠) خصيبة جدًّا.
(٧١) كتاب الجغرافية لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر الزهري.
(٧٢) هو المعروف في مصر بأبي فروة.
(٧٣) نزهة المشتاق، ورحلة ابن جبير، ومعجم البلدان.
(٧٤) معجم البلدان.
(٧٥) أنجبت جزيرة صقلية كثيرًا من العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة والأطباء ممن لهم شأن في الأدب العربي، وأكثرهم كان بعد زمن الرحلة، ولا بأس بإيراد بعض مشهوريهم هنا، حتى تكون هذه الرسالة وحواشيها مغنية في هذا الباب، فمن علماء هذه الجزيرة أبو القاسم علي بن جعفر السعدي الصقلي المعروف بابن القطاع، قال ابن خلكان: كان أحد أئمة الأدب، خصوصًا اللغة، وله تصانيف نافعة، منها كتاب الأفعال، أحسن فيه كل الإحسان، وهو أجود من الأفعال لابن القوطية، وإن كان ذلك قد سبقه إليه، وله كتاب أبنية الأسماء، جمع فيه فأوعى، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه، وله عروض حسن جيد، وكتاب الدرة الخطيرة في المختار من شعر شعراء الجزيرة (أي شعراء جزيرة صقلية)، وكتاب لملح الملح، جمع فيه خلقًا من شعراء الأندلس. وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بصقلية، وقرأ الأدب على فضلائها؛ كابن عبد البر اللغوي وأمثاله، وأجاد في النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الإفرنج، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمسمائة، وبالغ أهل مصر في إكرامه. ومن شعره في ألثغ:
وشادن في لسانه عقد
حلَّت عقودي وأوهنتْ جلَدي
عابوه جهلًا بها فقلت لهم:
أما سمعتم بالنَّفْث في العُقد
وله من قصيدة:
فلا تنفدنَّ العمر في طلب الصبا
ولا تشقين يومًا بسُعدى ولا نُعم
ولا تندبن أطلال مية باللوى
ولا تسفحن ماء الشئون على رسم
فإن قصارى المرء إدراك حاجة
وتبقى مذمَّات الأحاديث والإثم
إلى آخر ما قال. وتوفي بمصر في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ومن علماء صقلية أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن ظفر الصقلي، المنعوت بحجة الدين، قال ابن خلكان: صاحب التصانيف الممتعة؛ ككتاب «سلوان المطاع في عدوان الأتباع»، صنفه لبعض القُوَّاد بصقلية سنة أربع وخمسين وخمسمائة، و«خير البشر بخير البشر»، وكتاب «الينبوع في تفسير القرآن الكريم»، وكتاب «نجباء الأبناء»، و«شرح المقامات للحريري»، وهما شرحان: كبير وصغير.
ويروى له شعر؛ فمن ذلك قوله:
حملتك في قلبي، فهل أنت عالمٌ
بأنك محمولٌ وأنت مقيم
ألا إن شخصًا في فؤادي محله
وأشتاقه شخص عليَّ كريم
إلى أن قال: وكانت نشأته بمكة، وتنقل في البلاد، ومولده بصقلية، وسكن آخر الوقت بمدينة حماة، وتوفي بها سنة خمس وستين وخمسمائة. ومن علمائها أبو عبد الله المازري — وسيأتي القول عليه — ومنهم أبو بكر محمد بن سابق الصقلي، قال ابن بشكوال في الصلة: كان من أهل الكلام، مائلًا إليه، قدم الأندلس وأخذ عنه أهل غرناطة، وتوفي بمصر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. والقاضي الرشيد أحمد بن قاسم الصقلي، قال العماد: طرأ على مصر، وكان قاضي قضاتها في أيام الأفضل، قال: دخل يومًا على الأفضل وبين يديه دواة من عاج مُحلَّاة بمرجان فقال:
أُلين لداود الحديد بقدرة
يقدِّره في السرد كيف يريد
ولان لك المرجان وهو حجارة
على أنه صعب المرام شديد
وأبو الفضل العباس بن عمرو الصقلي، قال في جذوة المقتبس: كان بالأندلس وروى الحديث هناك. والفقيه أبو موسى عيسى بن عبد المنعم الصقلي، قال العماد: كان كبير الشان، ذا الحجة والبرهان، إلى أن قال: ومن بديع قوله في الغزل وهو أحلى من نجح الأمل:
يا بني الأصفر أنتم بِدَمي
منكم القاتل لي والمستبيح
أمليحٌ هجر من يَهْواكمُ
وحلالٌ ذاك في دين المسيح
يا عليل الطرف من غير ضنًى
وإذا لاحظ قلبًا فصحيح
كل شيء بعدما أبصرتكم
من صنوف الحسن في عيني قبيح
وولده الفقيه أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد المنعم الصقلي، قال العماد: كاتب شاعر، بارع ماهر، مهندس منجم، لغارب الفصاحة متسنم، وفي ملتقى أولي العلم كَمِيٌّ معلم، إلى آخر ما هنالك، وقال صاحب «طبقات الحكماء»: هو من أهل العلم بعلم الهندسة والنجوم، ماهر فيهما، قيم بهما، مذكور بين الحكماء هناك، ومن شعره:
كتمت الذي بي فانتفعت بكتماني
وأعلنت حالي فاتُّهمت بإعلاني
وما خِلت أن الأمر يفضي إلى الذي
رأيت ولكن كل شيء يُرى فاني
ومنه:
أنا والله عاشق لك حتى
ليس لي عنك يا منى النفس صبر
وحياتي إن تم لي منك وصلٌ
ومماتي إن دام لي منك هجر
وهذا أبو عبد الله هو غير أبي عبد الله الصقلي الفيلسوف المذكور في الرحلة. ومنهم أبو الحسن علي بن حمزة الصقلي، قال في جذوة المقتبس: دخل الأندلس قبل الأربعين وأربعمائة، وكان يتكلم في فنون، ويشارك في علوم، إلى آخر ما قال، والفقيه أبو محمد بن صمنة الصقلي، ذكره العماد في الخريدة. ومن أطباء صقلية: أبو سعيد بن إبراهيم الصقلي، صاحب كتاب «المنجح في التداوي من صنوف الأمراض والشكاوي»، وأحمد بن عبد السلام الشريف الصقلي، صاحب كتاب «الأطباء في الأمراض من الفرق إلى القدم»، ذكرهما صاحب كشف الظنون. ومن فلاسفتها: أبو عبد الله الصقلي، الآتي ذكره في الرحلة، وأبو عبد الله المتقدم ذكره، وأبو حفص عمر بن الحسن بن القوني الكاتب، ذكره العماد وقال: إنه شاعر كاتب، منجم مهندس. ومن أدبائها: الشاعر الكبير ابن حمديس، قال ابن بسام: هو شاعر ماهر يقرطس أغراض المعاني البديعة، ويعبر عنها بالألفاظ النفيسة الرفيعة، ويتصرف في التشبيه المصيب، ويغوص في بحر الكَلِم على درِّ المعنى الغريب؛ فمن معانيه البديعة قوله في صفة نهر:
ومطرد الأجزاء يصقل متنه
صبا أعلنت للعين ما في ضميره
جريحٌ بأطراف الحصى كلما جرى
عليها شكا أوجاعه بخريره
كأن جبانًا رِيع تحت حبابه
فأقبل يلقي نفسه في غديره
كأن الدجى خط المجرة بيننا
وقد كللت حافاته ببدوره
شربنا على حافاته دون سكرة
نقبِّل شكرًا منه عينَي مديره
وله من قصيدة:
بتُّ منها مستعيدًا قُبلًا
كنَّ لي منها على الدهر اقتراح
وأروِّي غلل الشوق بما
لم يكن في قدرة الماء القراح
وأول هذه القصيدة:
قم هاتها من كف ذات الوشاح
فقد نعى الليل بشير الصباح
باكر إلى اللذات واركب لها
سوابق اللهو ذوات المراح
من قبل أن ترشف شمس الضحى
ريق الغوادي من ثغور الأقاح
وكان قد دخل الأندلس سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ومدح المعتمد بن عباد، فأحسن إليه وأجزل عطاياه، ولما قُبض المعتمد وحُبس بأغمات؛ سمع ابن حمديس أبياتًا عملها المعتمد في الاعتقال فقال:
أتيأس من يوم يناقض أمسه
وشهب الدراري في البروج تدور
ولما رحلتم بالندى في أكفكم
وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت
فهذي الجبال الراسيات تسير
وله من أبيات المعاني الغريبة:
زادت على كحل العيون تكحلًا
ويُسَمُّ نصل السهم وهو قتول
وله يتشوق إلى صقلية مسقط رأسه:
ذكرت صقلية والهوى
يجدد للنفس تذكارها
فإن كنت أُخرجت من جنة
فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البُكا
حسبت دموعي أنهارها
ثم يقول بعد ذلك من أبيات:
ولو أن أرضي حرةٌ لأتيتها
بعزم يعدُّ السير ضربة لازب
ولكن أرضي كيف لي بفكاكها
من الأسر في أيدي العلوج الكواذب
فارق ابن حمديس صقلية بعد أن تملَّك معظمها روجر النورمندي، وذلك حوالي سنة ٤٧١ﻫ. وكان ابن حمديس إذ ذاك حدثًا في منتصف العقد الثالث.
ويقول من أبيات يصف جارية له غرقت:
وا وحشتا من فراق مؤنسة
يميتني ذكرها ويحييها
أذكرها والدموع تسبقني
كأنني للأسى أجاريها
جوهرة كان خاطري صدفًا
لها أقيها به وأحميها
يا بحر أرخصت غير مكترث
من كنت للمبتاع أغليها
أبَتَّها في حشاك مُغْرقةً
وبتُّ في ساحليك أبكيها
ونفحة الطيب في ذوائبها
وصبغة الكحل في مآقيها
عانقها الموج ثم فارقها
عن ضمَّة فاض روحها فيها
ويلي من الماء والتراب ومن
أحكام نِدَّينِ حُكِّمَا فيها
أماتها ذا وذاك غيرها
كيف من العنصرين أفديها
وله يصف عودًا:
في حجره أجوفٌ له عنق
نيطت بظهر تخاله حدبه
يمد كفًّا إليه ضاربة
أعناق أحزاننا إذا ضربه
قلت: ألا فانظروا إلى عجب
جاء بسحر فأنطق الخشبه
وله:
وأشراك الردى في الغيب تخفى
كما يخفين في ترب الحضيض
عجبت لجمعه فيهن صيدًا
حوى بين القشاعم والبعوض
وله يصف خسوف القمر:
والبدر قد ذهب الخسوف بنوره
في ليلة خسرت أواخر مدِّها
فكأنه مرآة قين أحميت
فمشى احمرار النار في مسودها
ومن أبيات له يصف البق والبراغيث والبعوض:
نومي على ظهر الفراش منغص
والليل فيه زيادة لا تنقص
من عاديات كالذئاب تذاءبت
وسرت على عجل فما تتربص
جعلت دمي خمرًا تداوم شربها
مسترخصات منه ما لا يرخص
فترى البعوض مغنيًّا بربابة
والبق تشرب والبراغيث ترقص
وإليك أبياتًا له من السهل الممتنع يَصحُّ أن يُتغنى بها:
هات كأس الراح أو خذها إليك
ينزل اللهو بها بين يديك
ريقة العيش بها فاخلع على
شفتيها كل حين شفتيك
وأطع فيها نديميك بما
حَكَمَا واعصَ عليها عاذليك
وإذا أسقيت منها شفقًا
طلعت حمرته في وجنتيك
وتناول نشوة من روضة
طلعت كالشمس بالنجم عليك
تتغنى بنسيب قلته
فهواها راجع منك إليك
فاوضت في الوصل عيني عينها
فازدهت عجبًا وقالت: ما لديك؟
أعليل أنت؟ ماذا تشتهي؟
قلت: قطفي بيدي رمانتيك
فانثنت كبرًا وقالت: ويلتا
أوَهذا كله يُطلب ويك؟!
أنا شمس وبعيدٌ فلكي
وضيائي نافر من راحتيك
لو بدا أمرك لي من قبل ذا
ما رأت ناظرتي ناظرتيك
وشعره كله جيد مختار ينمُّ عن فحولته وصدق نزعته الشعرية، وله ديوان شعر يوجد منه نسخة في دار الكتب الملكية بمصر. توفي سنة سبع وعشرين وخمسمائة بجزيرة ميورقة، وقيل: ببجاية — ومن أدبائها أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي، قال العماد: ولد بصقلية سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وخرج عنها لما تغلب الروم عليها سنة أربع وستين وأربعمائة قاصدًا إلى المعتمد بن عباد، وله من أبيات:
إلامَ اتباعي للأماني الكواذب
وهذا طريق المجد بادي المذاهب؟
أهمُّ ولي عزمانِ عزم مشرق
وآخر يثني همتي للمغارب
ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة
تشق على أخفافها والغوارب
عليَّ لآمالي اضطراب مؤمل
ولكن على الأقدار نجح المطالب
فيا نفس لا تصحبي الهون إنه
وإن خدعت أسبابه شر صاحب
ويا وطني إن بِنْت عني فإنني
سأوطن أكوار العتاق النجائب
إذا كان أصلي من تراب فكلها
بلادي وكل العالمين أقاربي
«وهذا من قول ابن المعتز:
إذا كنت في الناس ذا ثروة
فأنت المسود في العالم
وحسبك من نسب صورة
تخبر أنك من آدم»
وما ضاق عني في البسيطة جانب
وإن جلَّ إلا اعتضت منه بجانب
إذا كنت ذا همٍّ فكن ذا عزيمة
فما غائب نال النجاح بغائب
ومنهم عبد العزيز بن الحسين بن الحباب الأغلبي السعدي الصقلي المعروف بالقاضي الجليس، قال ابن شاكر الكتبي؛ صاحب «فوات الوفيات»: تولى ديوان الإنشاء للفائز (العلوي صاحب مصر) مع الموفق بن الخلال. ومن شعره:
ألمت بنا والليل يزهى بلمة
دجوجية لم يكتهل بعدُ فوداها
فأشرق ضوء الصبح وهو جبينها
وفاحت أزاهير الرُّبى وهي ريَّاها
إذا ما اجتنت من وجهها العين روضة
أسالت خلال الروض بالدمع أمواهَا
وإني لأستسقي السحاب لربعها
وإن لم تكن إلا ضلوعي مأواها
إذا أشعلت نار الأسى بين أضلعي
نضحت على حرِّ الحشا برد ذكراها
وما بي أن يصلَى الفؤاد بحرِّها
ويُضرم لولا أن في القلب سُكناها
ومنه:
ومن عجبٍ أن الصوارم والقنا
تحيض بأيدي القوم وهي ذكور
وأعجب من ذا أنها في أكفهم
تأجج نارًا والأكف بحور
قال: وكان ابن الحباب كبير الأنف، وكان الخطيب أبو القاسم هبة الله بن البدر المعروف بابن الصياد مولعًا بأنفه وهجائه، وذكر أنفه في أكثر من ألف مقطوع، فانتصر له ابن قادوس الشاعر فقال:
يا من يعيب أنوفنا الشُّـ
ـمَّ التي ليست تعاب
الأنف خِلقة ربنا
وقرونك الشمُّ اكتساب
مات سنة إحدى وستين وخمسمائة وقد أناف على السبعين، ومنهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن بشرون، الكاتب الصقلي صاحب كتاب «المختار في النظم والنثر لأفاضل العصر»، ذكره العماد وأورد له شعرًا جزلًا، ومنهم تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف بن عبد الله بن محمد بن الحسين القضاعي الكلبي؛ صاحب صقلية، قال ابن خلكان: كان أديبًا شاعرًا، وله الأبيات السائرة في غلامين على أحدهما ثوب ديباج أحمر، وعلى الآخر ثوب ديباج أسود؛ وهي:
أرى بدرين قد طلعا
على غصنين في نسق
وفي ثوبين قد صبغا
صباغ الخد والحدق
فهذي الشمس في شفق
وهذا البدر في غسق
وكان عمله لهذه الأبيات سنة سبع وعشرين وخمسمائة، ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي الصباغ الكاتب، قال ابن القطاع: كان في عهد ابن رشيق، وبينهما مراسلات، وله:
قومي الذين إذا السنابك أنشأت
دون السحاب سحائبًا من عِثْيَر
برقت صوارمهم وأمطرت الطُّلا
علقًا كثرثار الحيا المتفجر
الواترين فلا يقاد وتيرهم
والفاتكين بحِمْيرٍ وبقيصر
والمانعين حماهم إن يُرتَعى
والحاسمين لكل داءٍ يعتري
وأبو الفضل مشرف بن راشد، قال ابن القطاع: القائل:
سَرتْ ورداء الليل أسحم حالك
ولا سائر إلا النجوم الشوابك
عشية أعشى الدمع إنسان مقلتي
ونمت بأسرار الدموع السوافك
وطاف الكرى بالطرف وهو محجب
كما طاف بالبيت المحجب ناسك
سرت موهنًا ثم استقلت فودعت
يجاذبها حقف من الرمل عاتك
به غصن بان أثمر البدر طالعًا
عليه قناع من دجى الليل حالك
وأحور مكحول المدامع عاقني
عن الصبر فاستولت عليه المهالك
والأمير أبو محمد عمار بن المنصور الكلبي، قال ابن القطاع: كان من أفاضل العلماء، وسادات الأمراء، وذو يدٍ في الفقه والحديث، وله:
تقول: لقد رأيت رجال نجد
وما أبصرت مثلك من يمان
ألفت وقائع الغمرات حتى
كأنك من رداها في أمان
إلى كم ذا الهجوم على المنايا
وكم هذا التعرُّض للطعان
فقلت لها: سمعت بكل شيء
ولم أسمع بكلبيٍّ جبان
وقال في ابن عمه شِكايةً:
ظننتك سيفًا أنتضيك على العِدا
وما خلتُ أني أنتضيك على نفسي
وجئتك أبغي رفعة وكرامة
فأمسيت مقهورًا بقربك في حبس
(٧٦) ينسب إليها علي بن عبد الله الجطيني، كما قال ياقوت.
(٧٧) نزهة المشتاق.
(٧٨) نزهة المشتاق.
(٧٩) سيصفه الرحَّالة قريبًا.
(٨٠) يقول: دعت هذه المغاني لطيبها خيلنا وفرساننا إلى المقام، فاستهوت قلوبنا وقلوب خيلنا؛ حتى خشيت على خيلنا أن تقف فلا تبرح هذا المكان، وإن كانت كريمة لا يعرفها الحِران.
(٨١) يقول: إنه كثير الأمواه والشجر؛ فالندى يسقط على أشجاره ليلًا، فهي تنفض على أعراف الخيل مثل الجمان، أي الفضة.
(٨٢) يقول: سِرْتُ وهذه الأشجار تحجب عني حر الشمس، وتلقي عليَّ من الضياء ما أحتاجه.
(٨٣) الشرق: الشمس، يقول: هذا الشجر كثير الورق ملتف، فضوء الشمس يدخل من خلله؛ فيكون على الثياب كأنه الدنانير، غير أنه يفر من الأصابع.
(٨٤) يقول: هذه الأغصان ثمارها رقيقة؛ فكأنها لذلك أشربة قائمة بنفوسها ولا أواني لها. وهذا ينظر إلى قول البحتري:
يخفي الزجاجة لونها فكأنها
في الكف قائمة بغير إناء
(٨٥) أتى عليهم وأهلكهم.
(٨٦) ابن الأثير.
(٨٧) أي فتح المسلمين مدينة طبرمين.
(٨٨) ابن الأثير.
(٨٩) نزهة المشتاق.
(٩٠) هي مسقط رأس الشاعر ابن حمديس، وولده محمد بن حمديس، ذكره العماد الكاتب وقال: إنه أشعر من والده، وأورد له شعرًا جزلًا. ولأن وقتهما متأخر عن وقت الرحلة لم نتعرض لهما في الرحلة، وكذلك ينسب إليها أبو عمرو عثمان بن علي بن عمر السرقوسي النحوي، قال السلفي: كان من العلم بمكانٍ نحوًا ولغةً، وله تواليف في القراءات والنحو والعروض، وجاء القاهرة وصارت له حلقة للإقراء في جامع عمرو. وينسب إليها الفقيه أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي بكر السرقوسي، ذكره العماد في الخريدة، وأورد له شعرًا.
وقد جاءت سرقوسة في شعر لابن قلاقس السكندري يصف به مركبًا سار به إلى صقلية، قال:
ثم استقلت بي على علاتها
مجنونة سبحت على مجنون
هوجاء تقسم والرياح تقودها
بالنُّون أنَّا من طعام النون
حتى إذا ما البحر أبدته الصَّبا
ذا وجنة بالموج ذات غضون
ألقت به النكباء راحة عائثٍ
قلبت ظهور مشاهد لبطون
وتكفلت سرقوسة بأماننا
في ملجأ للخائفين أمين
(٩١) وهي بلد عبد الرحمن بن محمد بن عمر البثيري الصقلي، ذكره العماد الكاتب في خريدة العصر، وأورد له قصيدة مدح بها رجار (روجر النورمندي).
(٩٢) ينسب إليها محمد بن الحسن بن علي أبو بكر الكركنتي الفقيه المالكي، قال المقريزي في كتاب المقفى: كان من الأخيار وأفاضل المسلمين، قدم الإسكندرية، وتوفي سنة ٥٣٧.
(٩٣) قال ياقوت: ينسب إليها أبو عمر عثمان بن حجاج الشاقي الصقلي، من سكان الإسكندرية. لقيه السلفي وعلق عنه، وتوفي في محرم سنة ٥٤٤، وتفقه على مذهب مالك على الكِبر، وكتب كتبًا كثيرة في الفقه.
(٩٤) وإليها ينسب أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد التميمي المازري، الفقيه المالكي المحدِّث، قال ابن خلكان: هو أحد الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث والكلام عليه، وشرَح صحيح مسلم شرحًا جيدًا سمَّاه كتاب المعلم بفوائد كتاب مسلم، وعليه بنى القاضي عياض كتاب الإكمال، وله في الأدب كتب متعددة، وله كتاب «إيضاح المحصول في برهان الأصول»، وكان فاضلًا متفننًا، وتوفي في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة وعمره ثلاث وثمانون سنة.
(٩٥) ينسب إليها عبد الرحمن بن أبي العباس الكاتب الطرابنشي، أورد له العماد الكاتب في الخريدة أبياتًا جزلة في وصف منتزه، وكذلك ينسب إليها أبو الحسن بن عبد الله الطرابنشي، ذكره العماد أيضًا وأورد له شعرًا، وسليمان بن محمد الطرابنشي، ذكره ابن القطاع في الدرة الخطيرة.
(٩٦) ومن مدائن صقلية مدينتا سمنطار وبلنوبة، ذكرهما ياقوت قال: ومن الأولى أبو بكر عتيق السمنطاري، الرجل الصالح العابد، له كتاب كبير في الرقائق، وكتاب «دليل القاصدين»، يزيد على عشرة مجلدات، قال: قال ابن القطاع: العابد أبو بكر عتيق بن علي بن داود المعروف بالسمنطاري أحد عباد الجزيرة المجتهدين، وزُهَّادها العاملين، وممن رفض الأولى ولم يتعلق منها بسبب، وطلب الأخرى وبالغ في الطلب، وسافر إلى الحجاز فحج وساح في البلدان من أرض اليمن والشام إلى أرض فارس وخراسان، ولقي مَن بها من العُبَّاد وأصحاب الحديث والزهاد، فكتب عنهم جميع ما سمع، وصنَّف كل ما جمع، وله في دخول البلدان ولقياه العلماء كتاب بناه على حروف المعجم في غاية الفصاحة، وله في الرقائق وأخبار الصالحين كتاب كبير لم يُسبق إلى مثله في نهاية الملاحة، وفي الفقه والحديث تآليف حسان في غاية الترتيب والبيان، وله شعر في الزهد ومكائد الزمان، ومنه قوله:
فتن أقبلت وقوم غفول
وزمان على الأنام يصول
ركدت فيه لا تريد زوالًا
عمَّ فيها الفساد والتضليل
أيها الخائن الذي شأنه الإثـ
ـم وكسب الحرام ماذا تقول
بعت دار الخلود بالثمن البخـ
ـس بدنيا عما قريب تزول
قال: وقد توفي لثمانٍ بقين من ربيع الآخر سنة ٤٦٤، قال ياقوت: وإلى بلنوبة ينسب أبو الحسن علي بن عبد الرحمن وأخوه عبد العزيز الصقلي البلنوبي القائل:
بحق المحبة لا تجفني
فإني إليك مشوق مشوق
ولا تنس حق الوداد القديم
فذلك عهد وثيق وثيق
وكن ما حييت شفيقًا عليَّ
فإني عليك شفيق شفيق
ولا تتهمني فيما أقول
فوالله إني صدوق صدوق
(٩٧) ابن جبير.
(٩٨) الإدريسي.
(٩٩) ابن جبير.
(١٠٠) الغضب.
(١٠١) يعزم.
(١٠٢) يتملقه. والبصبصة — في الأصل — تحريك الكلب ذَنَبه طمعًا أو خوفًا.
(١٠٣) كان الفاطميون زمن هذه الرحلة في حروب لا تكاد تنقطع بينهم وبين الرومان، وقد أخذوا من الرومان صقلية، والجزء الجنوبي من إيطاليا. راجع الكلام على صقلية.
(١٠٤) أمره.
(١٠٥) طبقات الأطباء.
(١٠٦) ذكر ابن جلجل أن أبا عبد الله الصقلي كان في الأندلس أيام الناصر مع الراهب نقولا، وقال عنه: إنه طبيب فاضل، وإنه يعرف الإغريقي.
(١٠٧) جاء في «طبقات الأطباء» أن هذين أحمدَ وعُمرَ سافرا من الأندلس إلى المشرق سنة ٣٣٠ﻫ، ثم رجعا إليها سنة ٣٥١، واستخلصهما الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر لنفسه.
(١٠٨) طبقات الأطباء في الكلام على ابن جلجل.
(١٠٩) طبقات الأطباء.
(١١٠) الدولة العباسية والدولة الفاطمية والدولة الأموية بالأندلس.
(١١١) البيت لسلامة بن جندل، يقول: إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته، يقال: قرع لذلك الأمر ظنبوبه: إذا جدَّ فيه، والظنبوب هو طرف العظم اليابس من الساق؛ فالشاعر جعل قرع الصوت على ساق الخف في زجر الفرس قرعًا للظنبوب.
(١١٢) نشير بذلك إلى خرافة جميلة ذكرها المسعودي في كتابه مروج الذهب؛ وهي أن أحد ملوك الهند الأقدمين كان جالسًا ذات يوم في قصره وإخوته حوله، فأخذت عينه طائرًا قد أفرخ في أعلى قصره، ورآه يضرب بجناحيه ويصيح، فتأمل الملك ذلك، فنظر إلى حية تنساب إلى الوكر صاعدة لأكل فراخ الطائر، فدعا الملك بقوسٍ فرمَى الحية فصرعها وسلمت فراخ الطائر، فجاء الطائر بعد هنيهة يصفق بجناحيه، في منقاره حبة وفي مخلابيه حبتان، وجاء إلى الملك وألقى ما كان في منقاره ومخلابيه والملك يرمقه، فوقع الحب بين يدي الملك فتأمله وقال: ما ألقى هذا الطائر ما ألقى إلا أنه أراد بلا شك مكافأتنا على فعلنا به، فأخذ الحب وجعل يتأمله فلم يعرف مثله في إقليمه، فقال جليس من جلسائه حكيم وقد نظر إلى حيرة الملك في الحب: أيها الملك ينبغي أن يودع النبات أرحام الأرض، فإنها تخرج كنه ما فيه، فتقف على الغاية منه، وأداء ما في مخزونه ومكنونه، فدعا بالأكرة وأمرهم بزرع الحب ومراعاته وما يكون منه، فزرع فنبت وأقبل يلتف بالشجر، ثم حصرم وأعنب وهم يرمقونه، والملك يراعيه، إلى أن انتهى في البلوغ وهم لا يقدمون على ذوقه خوفًا أن يكون متلفًا، فأمر الملك بعصر مائه، وأن يودع في أوان وأفراد حب منه، وتركه على حالته، فلما صار في الآنية عصيرًا هدر وقذف بالزبد، وفاحت له روائح عبقة، فقال الملك: عليَّ بشيخ، فأتي به، فلدَّد له من ذلك في إناء، فرآه لونًا عجيبًا، ومنظرًا كاملًا، ولونًا ياقوتيًّا أحمر، وشعاعًا نيرًا، ثم سقوا الشيخ فما شرب ثلاثًا حتى مال وأرخى من مآزره الفضول، وحرك رأسه، ووقع برجليه فطرب، ورفع عقيرته يتغنى، فقال الملك: هذا شراب يذهب بالعقل، وأخاف أن يكون قاتلًا، ألا ترى إلى الشيخ كيف عاد في حال الصِّبا، وسلطان الدم، وقوة الشباب، ثم أمر الملك به فزيد، فسكر الشيخ فنام، فقال الملك: هلك، ثم إن الشيخ أفاق وطلب الزيادة من الشراب وقال: لقد شربته فكشف عني الغموم، وأزال عن ساحتي الأحزان والهموم، وما أراد الطائر إلا مكافأتكم بهذا الشراب الشريف، فقال الملك: هذا شراب أشرف أهل الأرض؛ وذلك أنه رأى شيخًا قد حسن وقوي حيله، وانبسط في نفسه، وطرب في حال طبيعة الحزن، وسلطان البلغم، وجاد هضمه، وجاءه النوم، وصفا لونه، واعترته أريحية، فأمر الملك أن يُمنع العامة من ذلك وقال: هذا شراب الملوك، وأنا السبب فيه، فإن كان فلا يشربه غيري، فاستعمله الملك بقية أيامه، ثم نما في أيدي الناس واستعملوه.
(١١٣) الغول: الصداع والخمار، ولا ينزفون: يسكرون وتذهب عقولهم، والإثم في قوله جل شأنه: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا: هو ما يترتب على اقتراف الذنوب والمعاصي من المضارِّ، قال أبو نواس:
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم
وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه
فإذا عصارة كل ذاك أثام
(١١٤) الأبيات لإحدى الجواري اللائي اشترين من المشرق لأحد أمراء الأندلس، واسمها قمر. ذكرها صاحب نفح الطيب.
(١١٥) المسافرون.
(١١٦) تذوب.
(١١٧) إخوان الصفاء — ومن ذلك تعلم أن العرب سبقوا غيرهم إلى القول بِكُريَّة الأرض وأنها سابحة في الفضاء.
(١١٨) تحفة الألباب.
(١١٩) تقويم البلدان لأبي الفداء.
(١٢٠) رحلة ابن جبير.
(١٢١) ابن اللبانة الشاعر الأندلسي.
(١٢٢) الإدريسي.
(١٢٣) ذكر هذا الجامع بما لا يخرج عما ذكرناه نحن كل من الإدريسي وابن حوقل.
(١٢٤) ابن حوقل.
(١٢٥) ابن حوقل.
(١٢٦) ابن خلدون في مقدمته.
(١٢٧) هذا الحديث من أوله إلى آخره إنما هو من تلفيقنا لفظًا ومعنى، وكل ما هنالك أنا اعتمدنا في عصارته التاريخية على ما ترجمه لنا أحد أصدقائنا من كتاب حضارة العرب لجوستاف لوبون خاصًّا بصقلية.
(١٢٨) كلابرية «جنوب إيطاليا».
(١٢٩) أوروبا.
(١٣٠) حضارة العرب للدكتور جوستاف لوبون.
(١٣١) ابن جبير.
(١٣٢) جوستاف لوبون.
(١٣٣) قال الدكتور لوبون: إن العرب هم الذين حفروا الترع التي لا تزال باقية إلى الآن، وهم الذين اخترعوا الأهوسة ذوات الحواجز وكانت قبلهم مجهولة.
(١٣٤) جوستاف لوبون.
(١٣٥) ابن حوقل.
(١٣٦) قال الدكتور لوبون: إن العرب هم الذين أدخلوا في البلاد صناعة الحرير، وإن في نورمبرج رداء من الحرير مما كان يلبسه أمراء صقلية عليه كتابة بحروف كوفية، قال: وكل شيء يبعث على الاعتقاد بأن صناعة صباغة الأقمشة إنما انتشرت في أوروبا من صقلية.
(١٣٧) أورد الدكتور لوبون هذه الحكاية بعد أن ذكر أن الرهبان كانوا ينسبون مخترعات العرب إلى السحر، قال: في إحدى حملات النورمانديين الذين طرءوا على صقلية في أواخر أيام العرب في صقلية، استكشف الكونت روبارت ويسكرد تمثالًا قائمًا على عمود رخام متوَّجًا بدائرة من البرنز محفور عليها هذه الكلمات: «سيكون لي في أول مايو عند طلوع الشمس تاج ذهبي.» فلم يدرك أحد مغزى هذه الكلمات، غير أن عربيًّا من صقلية كان أسيرًا لدى الكونت أفهم روبرت أنه يدرك معناها الخفي، وأنه إذا وعده إطلاق سراحه فسَّرها له، فلما وعده روبرت نصح له الأعرابي أن يحفر في أول مايو عند طلوع الشمس في المكان الذي ينتهي إليه ظل التمثال، ففعل الكونت ذلك فوجد كنزًا هائلًا لا تقدر قيمته.
(١٣٨) أذهب خوفي.
(١٣٩) تاريخ أبي الفداء.
(١٤٠) كل ما نجم من نبات الأرض.
(١٤١) الأبيات لابن حمديس، وقد تمثلنا بها على الرغم من تأخُّر زمنه عن زمن الرحلة، وبحسب القارئ تنبيهه إلى ذلك.
(١٤٢) كان يلي مصر في ذلك الوقت من قبل العباسيين أبو القاسم أنوجور الإخشيدي، ولصغر سنه كان أبو المسك كافور — وهو الذي اشتراه محمد بن طغج الإخشيد من رجل مصري يسمى محمود بن وهب بن عباس بثمانية عشر دينارًا وجعله أتابك ولديه — فكان كافور قيمًا على أنوجور مستبدًّا طبعًا بالأمر دونه. وكانت الدولة الفاطمية المستولية على طرابلس وتونس والجزائر ومراكش في ذلك العهد طامعة في أخذ مصر، وفعلًا فتحتها بعد ذلك ببضع سنوات بعد موت كافور.
(١٤٣) كان كافور كما يقول ابن خلكان: من أعظم الملوك جودًا، كثير الخشية لله والخوف منه، وكان يجلس للمظالم بنفسه في كل سبت، وكان يرغب في أهل الخير ويعطيهم، وقد امتدحه المتنبي بقصائد عدة.
(١٤٤) كان الخليفة العباسي في ذلك الوقت هو المطيع لله، وفي أيامه كانت فارس في يد معز الدولة بن بويه، والموصل وديار بكر ومصر وربيعة في يد سيف الدولة بن حمدان، ومصر والشام في يد الإخشيد، والبصرة في يد ابن رائق، وخوزستان في يد البريدي، وكرمان في يد أبي علي بن إلياس، وأصفهان والجبل يتنازعها آل بويه، ومرداويج وما وراء النهر في يد بني سامان، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد القرامطة، وذلك عدا الأندلس والمغرب.
(١٤٥) غرباء.
(١٤٦) البيت من أبيات لابن الرومي يقول فيها بعد هذا البيت:
عهدت به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكَا
فقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسد إن بان غودر هالكَا
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكَا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنُّوا لذلكَا
(١٤٧) ترأم: تألف.
(١٤٨) اللهى الأولى (بضم اللام) جمع لهوة؛ وهي العطية، واللها الثانية (بفتح اللام) جمع لهاة؛ وهي هناة حمراء في الحنك معلقة على عكدة اللسان.
(١٤٩) رووا أن كافورًا كان قد وعد المتنبي بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه وعوتب فيه فقال: يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد، أما يدعي المملكة مع كافور؟
(١٥٠) أوضح هذا المعنى أبو بكر الخوارزمي فذكره في ثلاثة أبيات قال:
وكنت إذا نهدت لغزو قوم
وأوجبت السياسة أن يبيدوا
تبرأت الحياة إليك منهم
وجاء إليك يعتذر الحديد
وطلقت الجماجم كل قحفٍ
وأنكر صحبة العنق الوريد
(١٥١) يجاريه ويتساوى به.
(١٥٢) هذه الكلمة لأبي العلاء قالها لما سمع شعر ابن هانئ.
(١٥٣) كان تميم بن المعز شاعرًا ماهرًا لطيفًا ظريفًا، ولم يلِ المملكة لأن ولاية العهد كانت لأخيه العزيز، فوليها بعد أبيه المعز. وقد توفي تميم بمصر سنة ٣٧٤ﻫ، وله شعر جيد يشبه شعر ابن المعتز، فقد كان يحتذي مثاله، ويقف في التشبيهات بجانبه، ويفرغ فيها على قالبه. ولا بأس بأن نورد هنا قطعًا مختارة من شعره؛ إشادة بذكره، وتنويهًا بقَدْره؛ لأنه يظهر أن كثيرًا من أدباء هذا الجيل لا يعرفونه حق معرفته، فمن قوله:
رب صفراء عللتني بصفرا
ء وجنح الظلام مُرْخَى الإزار
بين ماء وروضة وكروم
ورواب منيفة وصحار
تتثنى به الغصون عليها
وتجيب القيان فيها القماري
وكأن الدجى غدائر شعرٍ
وكأن النجوم فيها مداري
وانجلى الغيم عن هلال تبدَّى
في يد الأفق مثل نصف سوار
ويقول:
عتبت فانثنى عليها العتاب
ودعا دمع مقلتيها السكاب
وسعت نحو خدها بيديها
فالتقى الياسمين والعناب
رب مُبْدِي تعنُّت جعل العتـ
ـب رياء وهمُّه الإعتاب
فاسْقِينها مدامةً تصبغ الكأ
س كما يصبغ الخدود الشباب
ما ترى الليل كيف رق دجاه
وبدا طيلسانه ينجاب
وكأن الصباح في الأفق باز
والدُّجى بين مخلبيه غراب
وكأن السماء لجة بحر
وكأن النجوم فيها حباب
وكأن الجوزاء سيف صقيل
وكأن الدجى عليها قراب
ويقول:
وزنجية الآباء كرخية الجلب
عبيرية الأنفاس كرمية النسب
كَمَيت بزلنا دنَّها فتفجَّرت
بأحمر قانٍ مثل قطر من الذهب
فلما شربناها صبونا كأننا
شربنا السرور المحض واللهو والطرب
ولم نأت شيئًا يسخط المجد فعله
سوى أننا بعنا الوقار من اللعب
كأن كئوس الشرب وهي دوائر
قطائع ماء جامد تحمل اللهب
يمد بها كفًّا خضيبًا يديرها
وليس بشيء غيرها هو مختضب
فبتنا نسقي الشمس والليل راكد
ونقرب من بدر السماء وما قرب
وقد حجب الغيم الهلال كأنه
ستارة شرب خلفها وجه من أحب
كأن الثريا تحت حلكة لونها
مداهن بلور على الأرض تضطرب
ويقول:
كأن السحاب الغر أصبحن أكئوسًا
لنا وكأن الراح فيها سنا البرق
إلى أن رأيت النجم وهو مغرب
وأقبل رايات الصباح من الشرق
كأن سواد الليل والصبح طالع
بقايا مجال الكحل في الأعين الزرق
ويقول مفتخرًا:
ألقى الكَمِي فلا أخاف لقاءه
ويفل أقدامي شبا الحدثان
وأكر في صدر الخميس معانقًا
للموت حين يفر كل جبان
وعلمت أخلاق الزمان فلم أضق
ذرعًا بأيامي وغدر زماني
وكما يمل الدهر من إعطائه
فكذا ملالته من الحرمان
وكما يكر لمعشر بسعادة
فكذا يكر لمعشر بهوان
فإذا رماك بشدة فاصبر لها
فلسوف يأتي بعدها بليان
وسل الليالي عن نفاذ عزيمتي
وسل الحوادث عن ثبات جناني
تخبرك أنني لم ألقها
بين العزائم واهن الأركان
أصبحت لا أشتاق إلا للندى
إلفًا ولا أهوى سوى الإحسان
وإذا السيوف قطعن كل ضريبة
قطع السيوف القاطعات لساني
ويقول وهو مما يتغنى به:
قالت وقد نالها للبين أوجعه
والبين صعب على الأحباب موقعه
اجعل يديك على قلبي فقد ضعفت
قواه عن حمل ما فيه وأضلعه
واعطف على المطايا ساعة فعسى
من شت شمل الهوى بالبين يجمعه
وكما يمل الدهر من إعطائه
فكذا ملالته من الحرمان
ويقول:
وما أم خشف ظل يومًا وليلة
ببلقعة بيضاء ظمآن صاديَا
تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي
مولهة حيرى تجوب الفيافيَا
أضر بها حر الهجير فلم تجد
لغلتها من بارد الماء شافيَا
فلما دنت من خشفها انعطفت له
فألفته ملهوف الجوانح طاويَا
بأوجع مني يوم شدت حمولهم
ونادى منادي الحي أن لا تلاقيَا
ويقول:
كأنني يوم ولَّت حسرة وأسًى
غريق بحر يرى الشاطي ويمنعه
وشعره كله مختار ظريف.
(١٥٤) خام أي جبن ونكص.
(١٥٥) أي ذلل، يقال للبعير إذا ذللته الرياضة: بعير مديث، أي مذلل.
(١٥٦) جاء في نفح الطيب: وجزيرة ميورقة مسافة يوم، بها مدينة حسنة، وتدخلها ساقية جارية على الدوام، وفيها يقول ابن اللبانة:
بلد أعارته الحمامة طوقها
وكساه حلة ريشه الطاوس
فكأنما الأنهار فيه مدامة
وكأن ساحات الديار كئوس
وقال يخاطب ملكها في ذلك الوقت:
وغمرت بالإحسان أرض ميورقة
وبنيت ما لم يبنه الإسكندر
وإلى هذه الجزائر ينتسب جماعة من العلماء والأدباء أرجأنا ذكرهم إلى الرسالة الرابعة؛ لأنها موضع ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤