عبد الله نديم

١٢٦١ﻫ–١٣١٤ﻫ

هو عبد الله نديم أفندي بن مصباح بن إبراهيم الأديب الألمعي، والخطيب المفوَّه، نادرة عصره، وأعجوبة دهره.

وُلِد أبوه ببلدة «الطيبة» بالشرقية في شهر ذي الحجة سنة ١٢٢٤ﻫ، ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية، فكان في مبتدأ أمره نجارًا للسفن بدار الصناعة، ثم اتخذ له مخبزًا لصُنع الخبز، ومات بالقاهرة في ٤ رجب سنة ١٣١٠ﻫ.

ووُلد المترجَم بالثغر المذكور في عاشر ذي الحجة سنة ١٢٦١ﻫ، ونشأ في قلة من العيش، ومالت نفسُه إلى الأدب فاشتغل به واسترشد من أهله وطالع كُتبه، وحضر دروس الشيوخ بمسجد الشيخ إبراهيم، وكان قليلَ الاعتناء بالطلب، غير مواظب على الدرس، إلا أن الله وهبه ملَكةً عجيبة وذكاءً مفرطًا، فبرع في الفنون الأدبية، وكتب وترسَّل ونظم الشعر والزجل، وطارح الإخوان، وناظر الأقران، ثم بدا له أن يتعلَّم صناعةً للكسب، فتعلَّم فنَّ الإشارات البرقية، واستُخدم في مكتب البرق ببنها العسل. ثم نُقل إلى مكتب القصر العالي بالقاهرة وبقي به مدة عرَف فيها كثيرًا من أدباء القاهرة وشعرائها، مثل: محمود سامي البارودي، ومحمود صفوت الساعاتي، والشيخ أحمد وهبي، ثم غضب عليه «خليل أغا» أغا القصر، وكان في سطوة لم يبلغْها كافور الإخشيدي، فأمَر بضربه وفصْله، فضاقتْ به الحِيَل، ورقَّت حالُه، حتى توصَّل إلى الشيخ أبي سعدة عمدة «بداوي» في الدقهلية، وأقام عنده يُقرئ أولاده، ثم تشاحنا وافترقا على بغضاء، واتصل بالسيد محمود الغرقاوي أحد أعيان التجار بالمنصورة، فأحسن منزلَه، وفتَح له حانوتًا لبيع المناديل وما أشبهها، فكانت نهايةُ أمره أن بدَّدَ المكسبَ ورأس المال، وجعَل يجوب البلاد وافدًا على أكابرها، فيُكرمون وفادتَه ويهشُّون لمقْدمه؛ لِما رُزق من طلاقة اللسان، وخفَّة الروح، وسرعة الخاطر في النظم والنثر، فيطوف ما يطوف ثم يأوي إلى دار الغرقاوي بالمنصورة.

ثم عاد إلى طنطا سنة ١٢٩٣ﻫ واتصل بشاهين «باشا» كنج مفتش الوجه البحري إذ ذاك، ولاتصاله به سببٌ لا بأس من ذِكْره؛ وهو أن الباشا المذكور كان بينه وبين الشيخ محمد الجندي أحد العلماء بالمسجد الأحمدي صحبةٌ وتزاور، وكان الشيخ يَعرف غلامًا حلاقًا حسن الصوت، فأمره مرة أن يغنِّيَ بحضرة الباشا، فغنَّى بقول المترجَم:

سلوه عن الأرواح فهْي ملاعبُه
وكُفُّوا إذا سلَّ المهندَ حاجبُهْ
وعودوا إذا نامت أراقمُ شعرِه
وولُّوا إذا دبَّتْ إليكم عقاربُهْ
ولا تذكروا الأشباح بالله عنده
فلو أتلفَ الأرواح مَن ذا يطالبُهْ؟
أراه بعيني والدموع تُكاتبه
ويُحجب عني والفؤاد يُراقبُهْ

إلى أن قال:

ولو أنَّ طرفي أرسل الدمعَ مرَّة
سفيرًا لقلبي ما توالتْ كتائبُهْ
وكان كثيرًا ما يتغنَّى بها، فطرِب الباشا طربًا شديدًا، واستظرف قائلَ الأبيات وتمنَّى رؤيتَه، فأرسلوا له بالحضور، فلما حضر إلى طندتا١ وواجهه استقبح صورتَه، إلا أنه أعجبه ظرفُه وأدبه، ومال إليه، فاتخذه نديمًا لا يُمَل، ورفيقًا حيث حَل، فلما استقرت به النوى وملأ يدَه من الباشا، استعداه على أبي سعدة الذي كان يُقرئ أطفالَه وادَّعى أنه أخَّر له ثلاثين دينارًا من أجرة التعليم، فأمر الباشا بإشخاصه إلى طنطا، وألزمه أن يدفع للمترجم مائة، فدفعها عن يد وهو صاغر.

وكان مجلس شاهين باشا محطَّ رِحال الأدباء، ومنتجع الشعراء والندماء، لا يخلو من مطارحات أدبية، ومساجلات شعرية، وللمترجَم بينهم المقام الأعلى، والقِدْح المعلَّى، وحسبُك ما وقع له من طائفة «الأدباتية»، وهم مشهورون بالقُطر المصري، يَستجدُون الناسَ في الطُرق بإنشاد الأزجال والضرب على الطبل، وأغلب أزجالهم مرتجلة في مقتضى الحال، فكان للمترجَم معهم يومٌ مشهود، ذكره في مجلة الأستاذ، ومنها نقلناه، قال:

«اتفق لي أني كنتُ بمولد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه سنة ١٢٩٤ﻫ هجرية، وكان معي السيد علي أبو النصر، والشيخ رمضان حلاوة، والسيد محمد قاسم، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، فجلسنا على قهوة الصباغ نتفرج على أديب٢ وقف يناظر آخر، فلما فطَن أحدُهما لانتقادنا عليهما لفت أخاه إلينا وخصَّانا بالكلام، فأخذا يَمدحانِنا واحدًا فواحدًا، إلى أن جاء دورُهما إليَّ، فقال أحدُهما يخاطبني:
انعم بقرشك يا جندي
والا اكسنا امال يا أفندي
إلا انا وحياتك عندي
بقى لي شهرين طول جوعان

فقلت على سبيل المزح معه:

أما الفلوس أنا مديشي
وانت تقول لي مامشيشي
يطلع عليَّ حشيشي
أقوم أملص لك لودان

ثم أخذْنا نتبادل الكلام نحو ساعة حتى غُلبَا عندما فرَغ محفوظهما، فلما قمنا وتوجهنا إلى منزل المرحوم شاهين باشا، وكنا نازلين عنده جميعًا، أخبره السيد علي أبو النصر بما كان منِّي مع الأديبين، فلما أصبحنا استدعى شاهين باشا شيخ الأدباتية وطلب منه أن يستحضر أمهر مَن عنده، ووعده أن يعطيَهم ألف قرش إن غلبوني، فإن غلبتُهم ضرَب كلَّ واحد منهم عشرين كرباجًا، فرضي بذلك، واستحضر الشيخ داود، والحاج إسماعيل، الشهيرَين بعمل الزجَل وإنشاده ارتجالًا في أي غرض، واستحضر معهما ستة من أشهر الحفظة المقتدرين على الارتجال أيضًا، وعقد الباشا لذلك مجلسًا أمام بيته بطنطا، وأجلسني بينه وبين المرحوم جعفر «باشا» مظهر، وقد وقف الناس ألوفًا والعساكر تَدفعُهم عنَّا، ثم ابتدأ الشيخُ فقال:

أول كلامي حمد الله
ثم الصلاة على الهادي
ماذا تريد يا عبد الله
قدام أميرنا وأسيادي

فقلت:

أنا أريد أحمد ربي
بعد الصلاة على المختار
وإن كنت تطمع في أدبي
أسمَّعك حسن الأشعار

فقال:

دعنا من الأدب المشهور
وادخل بنا باب الدعكه
ندخل على أسيادنا بسرور
ونغنم الخير والبركه

فقلت:

هيا احتكم في البحر وشوف
فن النديم ولا فنك
دلوقت تسمع يا متحوف
أحسن أدب وحياة دقنك

فقال: هات مدح في الحضرة على قد:

تعمل عمايلك يا منصان
يا ابو الشفيفه العسليه
يا صاحب الحجل الرنان
ودي الأمور الحيلية
ماذا تريد من دي الولهان
قل لي واسعف
أحسن أنا من خمر الحان
قصدي أرشف
وإن كنت تسمح يا ابو الخير
يبقى الوصال «الدوا» ليه

فقلت:

المجلس العالي محمود
فيه الأماره والأعيان
واليوم دا يوم باين مشهود
خلعت عليه حلة إحسان
شاهين باشا فيه موجود
حظه أزهر
أما المدير هذا المسعود
جعفر مظهر
فإنه في الناس معدود
من ضمن أرباب العرفان

فقال:

القصد منك يا نديمنا
تعمل زجل هيله بيله
إلا انت دلوقت غريمنا
قصدي احدفك بالقلقيله

فقلت:

انت صغار لسه نونو
وفي الزجل منتش مجدع
اتبع نديم تلقى فنونو
تأتيك من المعنى الأبدع

وبعد أن دار الكلام بيني وبينه في كثير من هذا الوزن، قام الشيخ داود وقال:

قصدي أقول كلام – يحكي لضمات الزهور – هات اشجنا بنظام
من فن «كان وكان»
ادخل بنا لمعان – كالبكر من خلف الستور – في قلب متحلي
في النظم بالإتقان

فقلت:

اسمع كلام نديم – من طيه كل السرور – واعقل نصيحة خبير
يدعوك للعرفان
لا تستخف بخصم – لو كان من أوهى الطيور – واصفح فكل صَفوح
يعلو على الأعيان
واخشَ اللئيم دواما – فاللؤم داعٍ للشرور – واحفظ مودة حر
في عهده ما خان
هذي نصيحة حر – إن قلت زانت للنحور – والفكر فكر ذكي
لا يعرف النسيان

فأعرض عن «كان وكان» عجزًا منه، وقال: هات فخرًا على قد:

يا صبا نجدٍ ورامه
هجتَ للمشتاق وَجْدا
كل صب في غرامه
ما اشتكى في الليل سُهْدا
والهوى أحرق ضِرامه
كل أحشائي وقلبى

فقلت:

فخر مثلي في بيانه
والغبي يفخر بماله
والأدب أحسن صفاتي
فالذكي حسنه كماله
كلُّ قول المرء يفنى
غير محمود المآثر

دور

قد كان لي سعد السعود خدام
لما التقينا في الطريق
وقلت بالحاجب أروح قدام
وانت ورايا يا صديق
فصرت أنظر للقوام بالقام
وعادل القد الرشيق
حتى ملكت الروح وا روحاه
لو يرجع اليوم ينظر

دور

قال المدلع عاشقي: ما الحال؟
جفني جرح منك الفؤاد
كم من شجي مثلك سباه الحال
حتى غدا خصم الرقاد
قلت ارحموا من في التصابي مال
عن كل أبواب الرشاد
قال إن ترُم مني الوصال وصفاه
هات اليمين الأكبر

ثم طلبت منه أن يأتيَ باليمين من هذا الوزن، فوقف، فقصدت الحاج إسماعيل، فوقف، فطلبت من الستة، فوقفوا، فقال المرحوم شاهين باشا: نحسبها لك واحدة.

ثم قال الشيخ: هات غزَلًا بمعنى بديع على قد:

أهيف رشقني بقوام
مثل المران
والوجد عذبني بناره

فقلت له: أقول تحميلة وتقولون أخرى من جنسها، فقال: هات، فقلت:

يا أهل الصبابة يا عشاق
سلوا المشتاق
فالعشق ما له غير أهله

فوقف الجميع، ولم يستطع واحد منهم الدخول معي في هذا المضيق، فقلت ومشيت إلى آخر الأدوار الآتية:

أشكو إليكم أحزاني
بل هجراني
من أهيف صادني نبله
أهيف بنظرة في خده
خدني عبده
وجت سقامي تشهد له
وأدمعي نزلت تجري
تنظر صدري
رأت فؤادي بيرقص له
قالت لو أتلفت عيوني
قال: سيبوني
سيد الملاح يعرف شغله
ما يعرف العشق الأجلاف
يا أهل الإنصاف
ما للعذول يكثر عذله
عاقل رأى مجنون يشرب
حتى يطرب
فراح شعوره مع عقله

إلى أن قلت:

لما رآه سلب الألباب
خاف الأسباب
وراح يعضعض في نعله
وصرت وحدي متهني
أفضل أغني
للحب إن شخشخ حجله
أرعى النجوم والنار تكوي
قلبي المشوي
والوجد كتفني بحبله
قد بعت روحي للفتان
من غير أثمان
وبعت ملكي من أجله
كيف الخلاص والقلب كسير
والصب أسير
والجفن يجرحني بنصله؟

ثم قلت:

يقول لي يا مسكين مالك
بيِّن حالك
عسى يكون عندي حلُّه
فقلت يا سيدي عبدك
من نار خدك
حرق اللهيب جسمه كله
أخدت حبيب قلبي النخوة
بعد القسوة
وجه يغازلني بدله
خطر ولكن في قلبي
بهجة لي
وجاد لمسكينو بوصله
من فرحتي هرولت ابكي
من غير ما اشكي
والدمع من كترو بلُّه
حركت قلبه للرحمة
من دي الفحمة
فجاد بياسمينو وفله
فقلت: أحييت الفاني
يا إنساني
الله يجازيك من فضله
وكل ما يرجو العاشق
غير الفاسق
والسر لا يحسن نقله

وإلى هنا صفق الباشا والحاضرون، ثم عُدنا للزجل المعتاد بما يطول ذكرُه، فإن الشيخ رمضان كتب من زجل هذا المجلس خمس كراريس، وكلُّه محفوظ عندنا لم يضِع منه شيء، وقد استمرت المناظرةُ ثلاث ساعات.»

•••

ولقد سألتُ بعض مَن حضر هذا المجلس عمَّا كتبه المترجَم فأنكره، وأخبرني أنه تغالى فيما كتب، وذكر أناسًا لم يكونوا حاضريه، والله تعالى أعلم.

ثم اتصل المترجَم بالتنونجي «بك» فجعله وكيلًا على ضِياعه، ثم لحق بالإسكندرية مسقطِ رأسه ومنبت غَرسه، وكان منه ما سنقصُّه عليك.

تلك خلاصة ترجمته في أول أمره ومبتدأ خبره، وكان القطر المصري في أثناء ذلك في اضطراب، وهرَج ومرَج، من اختلال الأحوال، وفساد الحُكَّام، واعتلاء الإفرنج على الأهلين، وقد سئم الناس حكْمَ الخديو إسماعيل وتمنَّوا زوال دولته.

فلما وفد المترجَم على الثغر رأى لفيفًا من الشباب ألَّفوا جمعية «مصر الفتاة» يتآمرون فيها سرًّا خوفًا من بطش الخديو، فعرف منهم البعض، واشتغل بالكتابة في صحف الأخبار، فأُعجب الكُتَّاب بمقالاته، واقتدَوا به في تحسين الإنشاء، وكان سقيمًا منحطًّا في ذلك العهد، ثم سعى مع جمْع من الأدباء، فألَّفوا جمعية سمَّوها «الجمعية الخيرية الإسلامية» سنة ١٢٩٦ﻫ آخر سِني إسماعيل في الحكم، وجعلوه مدير مدرستها، ثم عُزِل الخديو وتولَّى ابنُه توفيق، ففرح الناس وظنُّوا انفراجَ الأزمة، وجدَّ المترجم واجتهد في إنجاح مسعاه في الجمعية، حتى حمل الخديو على زيارة مدرستها، فزارها يوم امتحان تلاميذها، وجعلها تحت رعاية ولي عهده عباس، وفُتحت لهم أبواب المدرسة البحرية ليدرسوا بها، وقررت الحكومة مائتين وخمسين دينارًا في السنة مساعدة لهم.

وطفق المترجَم يؤلِّف القلوب، ويحضُّ الأهلين على الاتحاد بالمقالات والخطب، ينفثُها قلمُه ولسانه، وألَّف قصة سمَّاها: «الوطن وطالع التوفيق»، وأخرى سمَّاها: «العرب»، شرح فيهما ما كانت عليه حالةُ القُطر وما طرأ عليه، ثم مثَّلهما هو وتلاميذه بأحد ملاعب الثغر بحضور الخديو، فكان لهما تأثيرٌ كبير في النفوس، واشتهر المترجَم، وعلا كعبُه، ولَهِج الناسُ بذكره.

ثم طرأ فسادٌ على الجمعية نسبوه إليه فانفصل منها، وكان قد شرع في إنشاء صحيفة سمَّاها: «التنكيت والتبكيت» مزج فيها الهزل بالجد، وظهر أولُ عدد منها في ٨ رجب سنة ١٢٩٨ﻫ، وظهر في أثناء ذلك وميضُ الثورة العُرابية من خلل الرماد، فوافقت هوًى في نفس المترجَم، وضمَّه قادتُها إليهم، وشدُّوا أزرَهم به، فملأ صحيفتَه بمحامدهم، ودعا إلى القيام بناصرهم، وخطب الخطب المهيِّجة، ونظم القصائد الحماسية، وندب الوطن ورثاه، وحضَّ على الاجتماع والتكاتف ونبذِ أضاليل الإفرنج، فأثَّرت قالتُه في النفوس وأشربتها القلوب.

وانتسب المترجَم إلى الإمام الحسن السبط رضي الله عنه، وإن كان بعض مَن عرفوه ينكرونها، ثم أوقف صحيفتَه بعد أن ظهر منها ثمانية عشر عددًا، آخرها تاريخه ٢٣ ذي القعدة سنة ١٢٩٨ﻫ، وكانت أسبوعية تظهر يوم الأحد، وانتقل إلى القاهرة وهي جذوة من نار، وغيَّر اسم صحيفته بأمر من عرابي كبير الثوار، فسمَّاها: «الطائف» تيمُّنًا باسم بلدة بالحجاز مشهورة، وتفاؤلًا بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب «أحمد فارس»، واسترسل المترجَم مع رجال الثورة حتى صار جُذَيلها المحكك، وعُذَيقها المرجب، ولقَّبوه بخطيب الحزب الوطني، وقام سراة القطر وأعيانه يعقدون المجتمعات ويولمون الولائم للعرابيين، ويدعون المترجَم للخطابة، وكانت له بها المواقف المشهودة، والأيام المعدودة، حتى قامت الحرب بالإسكندرية بين الإنكليز والمصريين يوم الثلاثاء ٢٥ شعبان ١٢٩٩ﻫ فسافر إليها مع جماعة من رؤساء الجند وبات بها ليلة، ولحق بعرابي وقد رجع إلى كفر الدوار، ثم انتقل معه إلى التل الكبير وهو ينشئ صحيفة «الطائف» بالمعسكر، فيضمِّنها أخبارَ الانتصار، ويحشوها بما فيه تهدئة للأفكار، حتى وقعت الوقعةُ الكبرى على المصريين بالتل الكبير، فجاء مع عرابي وعلي الروبي إلى القاهرة يوم الأربعاء ٢٩ شوال من السنة المذكورة، واتفقوا على إرساله إلى الإسكندرية بكتاب يطلبون به مطلبًا من الخديو. فسافر به يوم الخميس، ولما وصل إلى كفر الدوار بلغه القبضُ على زعماء الثورة ودخول الإنكليز القاهرة، فعاد إليها ليلًا، وبقي في داره بجهة العشماوي إلى الصباح، وخرج مع والده وخادمه فركبوا عجلة وقصدوا بها بولاق، ورآه شاهين فؤاد المفتش بالمصرف العقاري وهو من مماليك القصر السابقين، فظنَّه غيرَ مطلوب، ولولا ذلك لقبض عليه، وودَّعه أبوه عند وصوله إلى بولاق واختفى مع خادمه تسعة أعوام لا يُهتدى لمكانه، حتى أعيا الحكومةَ أمرُه فجَعلتْ ألف دينار لمن يرشد إليه. وبثت عليه العيون فلم يظفروا بطائل وأعيتهم الحيَلُ، فحُكِم عليه بالنفي من القُطر المصري مدة حياته، ويئس أصحابُه من وجوده، وأُشيع القبضُ عليه وخنقُه أو موتُه حتف أنفه أو هربه إلى بلاد الإفرنج، ولا غروَ إذا عُدَّ اختفاؤه من الأمور الغريبة فأمره غريب من أوله، وكان حين ودَّع أباه ببولاق قصد دارَ صديق له يُدعى الشيخ مصطفى فأقام بها أيامًا، ثم غيَّر زيَّه فلبس ثوبًا من الصوف الأحمر (زعبوطًا) واعتمَّ بعمامة حمراء وسدَل على عينَيه منديلًا، وأخفى شاربه، وأعفى لحيته، فتغيَّرت هيئتُه، ونزل مع خادمه في سفينة قاصدة «بنها» ومنها إلى «منية الغرقى» بقرب طلخا، وقصَد الشيخ شحاتة القصبي من مشايخ الطريقة الصاوية كان أخذ عليه العهد، وكان مشهورًا بالصلاح والتقوى، فلم يعرفْه لتغيُّر شكله، فجلس هنيهة حتى انصرف من في المجلس فعرَّفه حاله، وأقام عنده ثلاثًا، ثم أشار عليه الشيخ بالانتقال معتذرًا بكثرة الواردين، فتحوَّل إلى دار أحد الدراويش الموثوق بهم فآواه شهرًا، ثم قصد بلدة أخرى، وطوَّحت به الطوائح ولقي الأهوال.

وحدث أنه نزل مرة عند قوم فأخفَوه في قاعة مظلمة يتوصَّل إليها من سرداب طويل شديد الظلمة، ترشَح أرضُها بالماء لانخفاضها وقربها من خليج مارٍّ بجانب تلك البلدة، وكان لا يتمكن من الكتابة والمطالعة إلا على مصباح صغير من زيت الحجر وهو الغاز أو الجاز كثير الدخان، فقاسى، الشدائد بهذا المكان تسعة أشهر، ولما خرج منه كاد لا يُبصر الطريق لِما غشِي عينَيه، وكان كلما حلَّ أو ارتحل يُغيِّر اسمه وحليته، فتارةً يُبخِّر لحيتَه بالكبريت حتى تبيض ويخضبها بالحناء أخرى، وغيَّر اسمَ خادمه حسين فسمَّاه صالحًا، وظنَّه الناس شيخًا من الصلحاء، حتى لقي مرة بعضَ مَن يخشاه وحادثه فستره الله وشمله بعنايته حتى فارقه، ثم ألقت به يدُ الأقدار إلى بلدة «العتوة القبلية» في الغربية، فاختفى عند عمدتها الشيخ محمد الهمشري فأكرم مثواه، وأقام في داره ثلاث سنوات ونيفًا، تزوَّج فيها ووُلدت له بنت وماتت ولم يشعر به أحدٌ، وزوَّج خادمه حسينًا بأخت زوجته، ثم مات في أثنائها ربُّ الدار، وكان شهمًا ذا مروءة كبيرة، وله امرأة مثله شهامة ومروءة، فاستحضرت أكبرَ أولادها وأعلمته أن ضيفهم المختفي عندهم هو «عبد الله نديم» طريد الحكومة، وسألته: هل يطمع في الجُعْل ويسلِّمه، أو يكون كأبيه في حفظ الجار وحماية الذِّمار؟ فاهتز الولد لقولها وأبى إلا أن يقتديَ بأبيه في الكرم، ولَعمري إن ما آتته تلك الأسرة من مكارم الأخلاق وعلوِّ الهمة لممَّا يندر مثله في هذا الزمن.

وتنقَّل من بلدة إلى أخرى، وماتت زوجتُه، فذهب إلى القرشية نزيلًا عند أحمد «باشا» المنشاوي، فكان يجتمع به صديقه القديم الأديب محمد أفندي التميمي وغيره، وتزوَّج هناك ببنت مصطفى منى من أهل المحلة الكبرى، إلا أنه لم يحمد المقام، فانتقل إلى دار التميمي في شهر ذي القعدة سنة ١٣٠٥ﻫ، فأقام بها شهرًا، ثم سافر إلى «الدلجمون» في البحيرة فلم يمكث بها غير أسبوع، وعاد إلى الغربية، وقصد «البكاتوش» فكان يُقيم تارةً عند عُمدتها الشيخ إبراهيم حرفوش، وينتقل تارةً إلى دار جاره أحمد جودة، وكان رجلًا قويَّ الجنان، لا يُبالي بظلام الليل أنَّى سار فيه، فصار يصحب المترجم إذا أراد الانتقال في الليل الحالك، ويتجشَّم معه أضيق المسالك، وجعل المترجَم إقامتَه بين «البكاتوش» و«شباس الشهداء»، ينزل فيها عند «محمد معبد» الحلاق، فيلقى عنده من الكرم والمروءة ما لقيه إبراهيم بن المهدي عند ذلك الحلاق المشهور مدة اختفائه من المأمون، ولم يزل كذلك حتى انتقل عند صديقه وصديقنا الأديب الكامل الشاعر الناثر محمد شكري المكي كاتب المركز بدسوق الذي أخبرني قائلًا: بينما أنا بالمركز يومًا إذ دخل عليَّ الشيخ إبراهيم خرفوش عمدة البكاتوش، فسلَّم وجلس، ولمحتُ منه أنه يريد أن يُسِرَّ إليَّ أمرًا، فترقَّب خلوَّ المكان، ثم أخبرني أن شخصًا عنده مشتاقٌ إليَّ، وهو صديق لي لم يرَني منذ ثماني سنوات، فاستخبرتُه عنه فانصرف ولم يخبرْني به، ثم صار يتردَّد عليَّ بعد ذلك يُذاكرني في هذا الصديق ولا يبوح باسمه، حتى وثِق مني، فأخبرني أنه مختفٍ واسمه «عبد الله»، فقلت: لعله عبد الله نديم؟ فقال: نعم، فكتبت له بيتين من نظمي وسألته توصيلهما إليه، وهما:

ولقد نذرتُ إذا لقيتُكَ سالمًا
لأقبلنَّ مواطئَ الأقدام
ولأُثنينَّ على سجاياكَ التي
حثَّتْ على التحرير والإقدام

فذهب بهما، وعاد لي بعد يومين بقصيدة من نظم المترجَم بخطِّه، عدَّتُها مائة بيت من البحر والقافية، يتشوَّق فيها إليَّ ويذكر ما لاقاه أيام الثورة والاختفاء، ويتمنَّى لو فرَّج الله عنه فيفعل كيت وكيت، وكأنه نسي نفسَه وما هو فيه من الضيق، فكتبتُ له أبياتًا أطلب الاجتماع به، وبعد أسبوع حضر لي إبراهيم حرفوش ومعه ورقة بخط المترجم يطلبني فيها إليه يوم الجمعة بشباس الشهداء، فذهبتُ في الميعاد، فوجدتُ محمد معبد الحلاق ينتظرني، فذهب بي إلى داره وهي دار صغيرة على تل، وقد أنزلوا المترجَم في مكان عالٍ لا سُلَّم له، فصَعِدتُ إليه على سُلَّم من الخشب رفعوه بعد صعودي، فلما التقينا ووقعت العين على العين تعانقنا طويلًا، وأدركتنْي عليه شفقة، فقبَّلت يده، ثم جلسنا نتحادث في القديم والحديث، وأطلعني على كُتبه التي ألَّفها مدة الاختفاء، منها: بديعية له شرحها شرحًا لطيفًا لم يكملْه، وثلاثة دواوين من نظمه، وجزء من «كان ويكون»، ثم فارقتُه وقتَ العصر.

•••

وانتقل المترجَم عند صديقه المذكور بزوجته وكُتبه، مدعيًا أنه ابنُ عمه أتاه زائرًا من الحجاز، وسمَّى نفسه عليًّا اليمني، فمكث نحو ستة أشهر، ثم انتقل بمفرده إلى شباس الشهداء، ولحقت به زوجتُه بعد عشرين يومًا، ثم أعادها بعد خمسة وعشرين يومًا إلى دار شكري «أفندي» بدسوق، ولحقها فمكثا ستة أشهر أخرى، ثم عاد إلى البكاتوش عند أحمد جودة، وكانت زوجتُه هذه تُسيء إليه وتُغاضبه، فجمعت عليه مع ضيق الاختفاء سوء معاشرة الأهل، حتى ضاق ذرعه منها مرة، وهمَّ بإظهار نفسه للحكومة، ثم تراجع وأصلح أمرَه معها، ولكمتْه مرة على فمه فكادت تُسقط ثنيتَيه من الفك الأعلى فربطهما بخيط من الحرير، وكان خادمه حسين مختفيًا مع زوجته ببلدة الجميزة التابعة لمركز السنطة، فطلبت زوجةُ المترجَم الذهاب إليه فأذن لها، فلما استقرت عنده تشاحنت مع زوجته، وكاد الأمر ينفضح، فأسرع الخادم لسيده بالبكاتوش مستغيثًا، فانتقل المترجَم إلى الجميزة وأصلح بينهما، وبقي هناك نحو شهرين فاستأنس وطاب له المقام، وعرَفه عمدة البلدة فتغاضى عنه وكتم أمره، فكان يخرج للتنزه على غير عادته في الاختفاء، فيلتفُّ عليه العمدة وبعض أناس من البلدة، وهو يقرأ لهم ويعظهم ويسامرهم وهم مبتهجون به.

وكان يتردد على البلدة رجل يقال له «حسن الفرارجي» كان منتظمًا في العسكر، ثم استُخدم جاسوسًا سريًّا، فلما بصر بالمترجَم أنكر حاله لِما رآه عليه من سيما الاختفاء، ورجَّح أنه «عبد الله نديم»، فكتب إلى الديوان الخديوي يُنبئهم بوجود رجل من العرابيين مختفٍ بالجميزة، وأسرع إلى ديوان الداخلية فأوضح لهم أمره، فأعطوه ورقة بحليته، فلما تحقق منه أخبرهم به، فأمروا بالقبض عليه، وحضر من طنطا محمد أفندي فريد وكيل الحكمدار ومعه نفرٌ من الشرطة ستروا ملابسهم بثياب أخرى، فأحاط بعضُهم بالبلدة متفرقين، وصَعِد وكيل الحكمدار مع الآخرين على تل مشرف على أفنية الدور، وأحسَّ المترجَم بتلك الحركة، فأوجس في نفسه خيفة، وأراد الانتقال إلى دار أخرى، فأخذ عَيْبَته على كتفه وصَعِد على سطح المكان، فأبصره الذين على التل، فصاحوا وصوَّبوا بنادقهم عليه، وأمروه بالنزول فنزل، ثم أحاطوا بالدار، وطرقوا الباب طرقًا عنيفًا، وأيقن المترجَم أنه مأخوذ لا محالة، ففتحه لهم، وواجههم متجلدًا، فسأله محمد أفندي فريد عن اسمه، فقال له: «سبحان الله، أتجهل اسمي وأنت مأمور بالقبض عليَّ! أنا عبد الله نديم، ذو الذنب العظيم، سلَّمت أمري لله»، فقبضوا عليه هو وخادمه، وأعماهم الله عن كُتبه وأوراقه، ولولا ذلك لأصابه شرٌّ عظيم بسبب أهاجيه في الخديو وأسرته، وكان القبض عليه في ٢٩ صفر سنة ١٣٠٩، ولم يَنل الواشي به شيئًا من الجُعل لفوات الأجل المضروب للمكافأة، ثم استاقوهما إلى المركز، وسألوه عمن اختفى عندهم فلم يُقرَّ بأحد، وسألوا خادمه وضربوه فأقرَّ بالبعض، ونقلوهما إلى طنطا، فسُجنا بعض أيام، ووكيل النيابة يوالي سؤالَهما، وانتهى الأمرُ بعفو الخديو عنه وعمن آواه، ونفيه خارج القُطر، فاختار يافا ثغر القدس الشريف، ووصل إليها في غروب يوم الجمعة ١٢ ربيع الأول، ونزل عند السيد علي «أفندي» أبي المواهب مفتيها، ولما دخل داره وعرَّفه بنفسه، قام واعتنقه، وضحك وبكى، فأقام عنده شهرًا، ثم اتخذ له دارًا، وعرفه أعيانها وفضلاؤها، وأكرموه وواسوه، جزاهم الله خيرًا، ثم رحل رحلته إلى نابلس وسبطية وقلقيلا وغيرها من البلاد الفلسطينية، واجتمع بطائفة السامرة واطَّلع على كُتبهم ومعتقداتهم كما رأيتُه بخطه في كتاب أرسله لأحد أصدقائه في مستهل رمضان من تلك السنة، ولم يزل مقيمًا بيافا حتى مات الخديو توفيق، وتولَّى ولدُه عباس في جمادى الثانية، فعفا عنه وأباح له العود إلى مصر، قال في آخر ذلك الكتاب: «عزمنا على الحضور بعد العيد إن شاء الله تعالى، فإن موسم سيدنا موسى الكليم يُعمل في نصف شوال، ولا أحضر حتى أزورَه مرة ثانية، فإنه صاحب الأمر بالعفو عني، وإن كان الظاهر خلافه، وذلك أني عند دخولي حضرته الشريفة أنشدتُه في الحال:

رجوتُكَ يا كليمَ الله حاجًّا
أرجيها وقد حققتُ فضلك
فقل لي مثلما لك قبلُ أوحى
إلهُ الخلق قد أوتيت سؤلك

فرأيته ليلًا يقول لي: قم روِّح، ثلاثًا.»

•••

ولما عاد إلى مصر استوطن القاهرة، وأنشأ مجلة «الأستاذ» في شهر صفر سنة ١٣١٠، فبرزت موشحة ببديع مقالاته، وغرر أزجاله وموشحاته، وبدت الوحشةُ في أثناء ذلك بين الخديو والإنكليز، وكان ما كان من عزل صنيعتهم مصطفى فهمي كبير الوزراء ومعاكستهم فيما يريدون، فقام المترجَم يستنهض الهِمم ويحضُّ على مؤازرة الخديو ونبْذ طاعة سواه، وكتب في ذلك المقالات الطويلة «بالأستاذ»، حتى أحفظ الإنكليز وخشُوا من اتساع الخرق لمكانته السابقة في النفوس، وانتهزها حُسَّادُه فرصة فسعَوا بما سعَوا، ولفَّقوا له ما لفقوا، فأوقفوا مجلتَه في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة، وأعادوه إلى يافا منفيًّا، بعد أن أعطَوه أربعمائة دينار، وأجروا عليه خمسة وعشرين كلَّ شهر، واشترطوا ألا يكتبَ بشأن مصر كلمة، ولم ينفعْه الخديو لقِصَر يده.

فلما استقر المترجَم بيافا لم يسلم من السعاية به لدى السلطان فأمر بإبعاده، فعاد إلى إسكندرية متحيرًا، وقد لفظتْه البلاد لفظ النواة، فسعى له الغازي مختار «باشا» ومساعده حتى قبِله السلطان عبد الحميد بدار السلطنة، واستخدمه في ديوان المعارف، ووظف له خمسة وأربعين دينارًا مجيديًّا في الشهر، فأمضى بها بقية أيامه شريدًا عن وطنه، بعيدًا عن أهله وخلَّانه، حتى اشتدت عليه علةُ السلِّ، فلقي حِمامَه في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة ١٣١٤ رحمه الله.

ودُفِن بمقبرة يحيى أفندي في بشكطاش، وضاعت مؤلفاتُه ودواوينه، ولم يظهر منها إلا جزء من «كان ويكون» كان يطبعه ذيلًا للأستاذ، وكتاب آخر نسبوه إليه، اسمه «المسامير» محشو بالهجو القبيح في الشيخ أبي الهدى الصيادي نزيل دار السلطنة.

•••

ومن تأمَّل بعين الاتعاظ في تقلُّب الأحوال بالمترجَم، وما ذاقه من حلو الزمان ومُرِّه، وقاساه مدةَ الاختفاء، ثم النفي حتى مات غريبًا طريدًا، حُقَّ له العجب، وعرَف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بَنيه.

ونشأ المترجَم فقيرًا كما قدَّمنا، وعاش في قلة، فإن أصاب شيئًا بدَّده بالإسراف، وكان في أول أمره يرتدي الملابس الإفرنجية المعلومة، فلما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقفطان، واهتمَّ بعمامة خضراء إشارة إلى الشرف، وكان شهيَّ الحديث حلو الفكاهة، إذا أوجز ودَّ المحدث أنه لم يوجز، لقيتُه مرة في آخر إقامته بمصر، فرأيتُ رجلًا في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ، أما شِعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا، وقد انتخب أخوه عبد الفتاح أفندي جملةً صالحة من مقالاته، جمعها في كتاب سمَّاه: «سلافة النديم»، فارجع إليه إن شئت.

ومن مختار شعره قوله من قصيدة لم نعثر منها إلا على هذا القدر:

سيوفُ الثنا تصدا ومِقْوَليَ‎ الغمدُ
ومَن سار في نصري تكفله الخمدُ

ومنها:

ومن عجب الأيام شهم أخو حجا
يعارضه غرٌّ ويفحمه وغدُ
ومن غرر الأخلاق أن تُهدر الدِّما
لتحفظ أعراضٌ تكفلها المجدُ

ويقال إنه نظمها بحضرة شاهين باشا تبكيتًا لمن زعم قصور الشعراء عن معارضة أبي الطيِّب المتنبي في قوله:

ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بُدُّ

ومن شعره قوله أيام اختفائه، وكتَب بها إلى صديق له يُسلِّيه على نازلة نزلت به:

يا صاحبي دع عنك قولَ الهازلِ
واسمع نصيحة عارفٍ بالحاصلِ
اجهَلْ تجد صفو الزمان فإنه
من قسمة الفدم الغبيِّ الجاهلِ
ودَعِ التعقُّل بالتغفل يستقمْ
أمرُ المعاش فحظه للغافلِ
وارضَ البلادة تغتنمْ من بابها
مالًا وجاهًا بعد ذكرٍ خاملِس
وإذا أبيتَ سوى العلوم فلا تضقْ
بحروب دهرٍ لا يميل لفاضلِ
قلِّبْ تواريخَ الأُلَى سبقوا تجدْ
دُنياكَ ما قِيدت بغير الباطلِ
تجدِ الأفاضلَ في الزوايا كلهم
حالَ الحياة وبعدَها بمحافلِ
العلمُ ستر كالسحاب به ترى
شمسَ الحقيقة خلفَ ذاك الحائلِ
هل أبصرتْ عيناك ديوانًا به
مدح البليغ جميل سعدٍ حافلِ
إن قلتَ: إي فاذكر لنا مَن نالَهُ
أو: لا، فعِشْ كالناسِ في ذا الساحلِ
ضدَّان لا تلقاهما في واحدٍ
مالُ الغبيِّ وحكمةٌ للكاملِ

ثم ذيَّلها بنثر أضربنا عن ذكره.

ومن شعره ما ضمَّنه كتابًا كتبَه مدة اختفائه لأحد أصدقائه:

وبعدُ فهذا شرحُ حالة غائب
عليه من اللطف الخفي ستورُ
تدور به الأهوالُ حول مدارها
فيصبرُ والقلب الرضيُّ صبورُ
عسى فرَجٌ يأتي به الله إنه
على فرجي دون الأنام قديرُ
١  وهو الاسم الأصيل لمدينة «طنطا».
٢  يقصد أنه واحد من طائفة «الأدباتية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤