علم النفس الفردي

أصدر الأستاذ بول جيوم — أستاذ علم النفس في السربون — كتابًا عنوانه: «مدخل إلى علم النفس» في عام ١٩٤١، حين كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني. ويدور هذا الكتاب على المُوازنة بين علم الطبيعة وعلم النفس، مع بيان الأدوار التاريخية التي قطَعها علم الطبيعة حتى أصبح علمًا. كذلك علم النفس لم يُولَد في تاريخ الفكر علمًا كاملًا، ولكنه اجتاز المرحلة السابقة على الدور العلمي. قال في مقدمة الكتاب١ بعد أن قرَّر وجود علم النفس العلمي: «إن الباحثين المُوقِنين بأهمية أعمالهم وقوَّتها تُحفِّزهم الهمَّة إلى إكمال هذه البحوث والدفاع عنها أمام النقد.» وقال في خاتمة الكتاب: «إن إحدى القلاع التي تصدُر عنها مُقاومة علم النفس هي، ولا ريب، تلك الفلسفة التي تُعلَّم في الفصول النهائية من مدارس الليسيه؛ ذلك أن علم النفس الذي يتعلَّمونه هناك ليس إلا جزءًا من مذهب، ونوعًا من الجدل يقوم على خدمة الفلسفة، وذلك العلم بعيدٌ كل البُعد عما يُدرَّس تحت هذا الاسم اليوم في جامعات العالم أجمع.»٢
هذا وليس جيوم آخر عالم فرنسي نادى بهذا الرأي؛ فقد سجَّله من قبلُ ألفرد بينيه، وكان رئيس معمل النفس بالسربون، فقال في كتابه «النفس والجسم»٣ بعد مناقشة جملة التعريفات لعلم النفس: «هذا إذن هو التعريف الذي نضعه لعلم النفس، إنه يدرس عددًا معيَّنًا من القوانين نُسمِّيها عقلية؛ لتكون في مُقابِل قوانين الطبيعة الخارجية …» والعلم هو الذي يحفل بكشف القوانين.
وكتب الأستاذ بيرون مقدمة لكتابه «علم النفس التجريبي» تقع في عشرين صفحة، لخَّص فيها المراحل التاريخية التي اجتازها علم النفس، وميَّز بين العلم والفلسفة، وأثبت استقلاله عنها.٤

وانفصل أدلر عن مدرسة فرويد عام ١٩١٢، وأخذ يُبشِّر بعلم نفس جديد سمَّاه علم النفس الفردي. يرى فرويد أن الغريزة الجنسية هي القوة الدافعة في سلوك البشر، فاختلف أدلر معه، وذهب إلى أن شعور الإنسان بالنقص هو الذي يدفعه إلى تعويضه؛ وذلك لوجود النزعة إلى القوة والسيطرة والتفوُّق في كلٍّ منَّا بالفطرة. فبينما يتَّخذ فرويد الغريزة الجنسية أساس السلوك، يجعل أدلر غريزة السيطرة الدافع إلى التصرف في الحياة.

اعتمد أدلر على فكرةٍ بيولوجيةٍ مجرَّبة، وهي أن العضو إذا أُصيبَ بضعفٍ قام عنه عضوٌ آخر بأداء وظيفته، مثال ذلك: إذا استُؤصلت إحدى الكُليتَين تضخَّمت الأخرى حتى تقوم بوظيفة الاثنتين. وانتقل أدلر من هذه البداية البيولوجية إلى تعليل ظهور الأمراض العصبية والنفسية؛ فإذا شعر المرء بنقصٍ ما تشكَّل سلوكه بأحد أشكال ثلاثة: الانحلال أو المرض العصبي أو النبوغ. فإذا لم يتغلَّب على الشعور بالنقص انزلق إلى الفساد والانحلال، أو هرب إلى الأوهام يحتضنها ويعيش في ظلها، وهذا هو المرض العصبي، فإذا استطاع تعويض نقصه أصبح نابغًا.

ضع هذه الألفاظ الثلاثة (الانحلال، المرض العصبي، النبوغ) بعضهما إلى جانب بعض، تنفُذْ إلى صميم نظرية أدلر في تعويض الشعور بالنقص.

هذا فيما يختصُّ بتفسير الأحوال العصبية التي عُني بها أول كل شيء. أما الأشخاص العاديون فإن سلوكهم في الحياة يتوقَّف على الطريقة التي يحلُّون بها هذه المشكلات الأساسية في الحياة، وهي: اختيار المهنة، والصلة بالمجتمع، والحب.

وليست هذه المشكلات الثلاث واقعةً تحت باب الأخلاق ومعايير القيم؛ فلم يكن أدلر كاتب أخلاق أو فيلسوفًا، بل كان عالمًا نفسانيًّا؛ ثم إنه لم ينظر فيما يجب أن تكون عليه حياة الإنسان، وأنه «إذا كان على المرء أن يعيش بين بني جنسه، بل إذا كان حب المجتمع فطرة فيه؛ فإن على الفرد أن يُلائم بين نفسه وبين مُقتضيات بيئته … إلخ» (ص١٤٠). ويبدو أن الروح الفلسفي الجدلي الذي أقبل به الأستاذ رمزي على تأليف هذا البحث، هو الذي حدَاه إلى الوقوع في هذا اللَّبْس المُنافي لعلم النفس. والرأي عند أدلر أن أسلوب الحياة لا يُفرَض على المرء فرضًا بالوراثة، بل يُحدِّده مركز الأسرة التي ينشأ فيها الطفل، وأن «تكوين الأنماط البشرية يبدأ من هذه الفترة المُبكرة». ولا ريب أن الطفل قبل الخامسة لا يعرف القيم والمعايير الخلقية، بل يكتسب أسلوب الحياة بالقدوة والمثال، ومن البيئة التي يعيش فيها.

ولقد ذهب مكدوجل جملةً إلى أن كتابات أدلر عسيرة الفهم، كثيرة التناقض، قليلة التماسك. أما تحامُل مكدوجل على أدلر فأمرٌ مفهوم؛ لأن صاحب مذهب الغرائز المُتعددة وما يتصل بها من انفعالات، يجب أن يُدافع عن مذهبه مع إنكار مذهب كل عالم سواه. يقول مكدوجل: «إني لَأجد آراء أدلر عسيرةً كل العسر على الفهم، بل هي أشد عسرًا من آراء فرويد.» وانظر معي إلى ما يقوله الأستاذ وودورث، ومنزلته معروفة في هذا العلم: «نستطيع أن نقول إن آراء أدلر أسهل من آراء فرويد.» ويقول في موضعٍ آخر: «إننا إذا نظرنا إلى مذهب أدلر نجد أن علم النفس الذي قال به مُتماسكٌ بكل تأكيد.» ولو اطَّلعنا على ختام الفصل الذي كتبه مكدوجل عن أدلر لَبرح الخفاء، وعرفنا السر في تلك الحملة، وفيه يقول: «إني لَأرى أن نظرية أدلر يمكن أن يُعبَّر عنها بوضوحٍ أكثر، وأن تأخذ مكانًا لائقًا في جملة نظرية الأمراض العصبية، لو أنه اعترف بالغريزتَين الأساسيتين اللتين أسمَيتهما بالسيطرة والخضوع.»

وممَّا يتَّصل بعلم النفس الفردي، التحدثُ عن اللاشعور؛ إذ يُنقِّب المرء في مؤلَّفات أدلر، ويَذرَعها هي ومؤلَّفات أتباعه جَيئةً، ثم يَذرَعها ذُهوبًا، عساه يقع على فصلٍ واحد يُغنِيه في الحديث عن اللاشعور، أو عن جانب من فصل يستطيع أن يخرج منه برأيٍ حاسم عمَّا يقولون فيه، ثم يتناول اللاشعور — واللاشعور عماد المدرسة التحليلية كلها — عند أصحاب المدرسة التحليلية (فرويد وأدلر ويونج) فلا تجد شيئًا. وفي أحد كُتُب أدلر فصلٌ من عشر صفحات عنوانه «اللاشعور»، جاء فيه: «إن بعض الملَكات النفسية لا ينبغي البحث عنها في عالم الشعور، ولو أننا نستطيع توجيه الانتباه إلى حدٍّ ما بواسطة الشعور، إلا أن الباعث على هذا الانتباه لا يقع في الشعور، بل في أهوائنا، وهذه بدَورها تقع في الأغلب في دائرة اللاشعور.»

يعترف إذن أدلر باللاشعور وعلى الخصوص في أحوال العلاج النفسي. وقد أثبت الأستاذ رمزي هذا الرأي بعد ثلاث صفحات من ابتداء الفصل، فقال: «كان أدلر يرى أن علاج النفس ينبغي أن يبدأ بإخراج أفكار العظمة والسيطرة إلى نطاق الشعور.» ومعنى ذلك إخراجها من اللاشعور إلى الشعور. ثم ذكَر مثالًا أورده أدلر عن علاج فتاة كانت تُصيبها نوباتٌ عصبية مع التفكير في الانتحار والرغبة في التشرد: «وتبيَّن أدلر أن هدف المريضة اللاشعوري الذي انسرب إليها منذ طفولتها هو أن تُحوِّل نفسها رجلًا» (ص١١٦).

وليس صحيحًا أن أدلر وأتباعه «رأوا أن الشعور ضربٌ من النشاط العقلي»؛ ولهذا عاد ينتقد أدلر وأصحابه بقوله: «إنهم يخلطون بين الشعور والانتباه.» ولم يخلط أدلر بين الشعور والانتباه، بل ميَّز بينهما، ووضَّح ذلك فيما نقلناه عنه في الفقرة السابقة.

يذهب أدلر إلى أن مَيلَين عظيمَين يُوجِّهان جميع الظواهر النفسية، هما: الشعور الاجتماعي، والنزعة إلى السيطرة. ويتوقَّف عليهما تحديد المشكلات الأساسية في الحياة: الصلة بالمجتمع، واختيار المهنة والحب. فإذا أنكر الإنسان الحياة الاجتماعية ابتعد عن الناس ونفر منهم، وأصبح غير اجتماعي. وقد يزيد الشذوذ عند بعضهم، فتصدُر عنهم أفعالٌ عجيبة، أو يرتكبون الجرائم. ويتوقَّف اختيار المهنة على فهم طبيعة المجتمع، وانقسامه إلى طبقات، وانقسام كل طبقة إلى أصحابِ مِهنٍ مختلفة، ثم انتساب كل فرد إلى المهنة التي تُلائمه.

أما ميول الفرد الجنسية التي هي عند أدلر الحب، ففيها يقول: «لأن الحب أصل والحياة الجنسية فرع، ولأن الحب ينشأ منذ الطفولة، ولا تظهر الحياة الجنسية [في مذهب أدلر] إلا عند البلوغ.» ويعزو أدلر الاضطرابات التي تعتري حياة الأطفال النفسية إلى عدم شعورهم بالمحبة، وهو يذهب إلى أن قسوة المُستبِدِّين وكراهيتهم وظلمهم للعباد يرجع إلى ذلك العامل الذي يثبت في أنفسهم منذ الطفولة. ويعترض الأستاذ فالنتين، أستاذ التربية في جامعة برمنجهام، على هذه النظرية الأدلرية الأخيرة بأن الإحصاءات الدقيقة المؤيِّدة لها تنقُصنا، ولكنه من جهةٍ أخرى يعترف بأن تقارير عيادات الطفولة أثبتت أن الأطفال الذين يفقدون حب آبائهم يصبحون مصدر مشكلات كثيرة؛ لأن الطفل الذي يلتمس الحب فلا يجده يركبه الحسد والغيرة، ويميل إلى سلوكٍ يُحاول به استرعاء الأنظار إليه وإثبات سيطرته، وقد يدَّعي المرض في بعض الأحيان التماسًا للعطف.

ولقد ضرب أدلر مثالًا طريفًا يُوضِّح به كيف يؤدِّي شعور الطفل بفضل المحبة إلى أفعالٍ انتقامية، وهو قصة طفلة صغيرة كانت سببًا في غرق ثلاثة أطفال: «كانت تنعَم بحب أبوَيها إلى سنِّ السادسة، ثم أنجبا طفلةً حوَّلا إليها عطفهما وحبهما، فشعرت الكبرى بكراهيةٍ شديدة لأختها، وأخذت تضطهدها؛ فنهرَها أبواها. وحدث بعد ذلك أن سكان ذلك المكان عثروا على طفلةٍ صغيرةٍ غريقة في النزهة القريبة من القرية، وعثروا على طفلةٍ ثانيةٍ غريقة، ثم ضُبِطت الطفلة أخيرًا وهي تدفع ثالثة إلى الماء، فاعترفت بجرائمها، وأُرسِلت إلى المصحَّة.»

علم النفس الجنائي

آثار الانفعالات النفسية هي الأعراض التي تبدو على الأعضاء الظاهرة أو الباطنة لجسم الإنسان، بسبب عامل من العوامل التي تؤثِّر في تلك الأعضاء تأثيرًا خاصًّا، كالسرور والحزن والغضب والخوف والتهيُّج والهبوط وغيرها. فكل حالة من هذه الحالات لها تأثيرها الخاص في المجموع العصبي، وبجملته جهاز الحركة. وقد دلَّت الخبرة على أن حالتَي السرور والحزن، وهما إجمالًا الحالتان الرئيسيتان اللتان تتفرَّع عنهما معظم الحالات الأخرى، لهما نتيجتان عكسيتان من حيث التأثير في أعضاء الجسم، وأعراضهما مُتضادَّة؛ فحالة السرور تزيد في مدى الحركات الخارجية، وتجعلها أكثر من المعتاد؛ وتُقلِّل من مدى الحركات الداخلية، وتجعلها أقل من المُعتاد؛٥ على نقيض حالة الحزن، فإنها تؤدِّي إلى عكس ذلك؛ أي إلى إضعاف الحركات الخارجية وتقوية الحركات الداخلية؛ بمعنى أن حركة الانبساط تقلُّ، وحركة الانقباض تزيد أكثر من المألوف.٦

وإنه لممَّا يُوجِب الحيرةَ معرفةُ العلة الأساسية لهذه الظواهر العضوية المُتباينة؛ فقد يسأل الإنسان نفسه: لماذا تُولِّد حالة السرور انتشارًا في عضلات الجسم وأعضائه، وحالة الحزن والكآبة تُولِّد فيه قبضًا وانكماشًا؟ ولماذا لا يكون الأمر معكوسًا؟ ولكن في اعتقادي أن هذا اللغز يسهل حلُّه إذا كنَّا نُسلِّم بصحة قانونَي «الوراثة» و«النشوء والارتقاء»؛ فإن هذه المظاهر المُتباينة قد ورثناها عن جدَّتنا الأولى في عالم الأحياء، وهي الخلية البسيطة مَنشأ الكائنات الحية وبجملتها الإنسان؛ فهي صفاتٌ غريزية في الإنسان والحيوان من مبدأ خلقهما حتى الآن.

ولكن الاقتناع بذلك يقتضي منَّا تسليمًا بتوافُر غريزة أودعها الله في نفس كل كائن حي منذ القِدم، وهي غريزة حب البقاء، وأن جميع أعمال الإنسان والحيوان ومقاصده ترمي إلى هذه الغاية، حتى إن الميل الجنسي وكل ما يتفرَّع عنه مَرجعه إليها؛ لأن القصد منه التناسل؛ أي بقاء النوع. فغريزة حب البقاء قد يتولَّد عنها كثيرٌ من العوامل التي ترمي إلى الغاية نفسها. ومن بين هذه العوامل ميلُ الكائن الحي إلى السعي لتحصيل قوَّته، ومن البدهي أن هذا السعي يتطلَّب منه البسط والانتشار، بعكس عامل الخوف أو الفزع؛ فإنه يدعوه إلى الانكماش والتقلص. وهذه الظواهر التي تُشاهَد في الأحياء الراقية تُشاهَد في الأحياء الدنيئة، حتى في أبسطها تركيبًا مثل الأميبا.٧ فبعمل التجارب على هذا الكائن الحي الدقيق بوضعه تحت عدسة المِجهر (الميكرسكوب)، يُلاحَظ أنه يتأثَّر بالمُنبِّهات. فإذا وُخز بسنٍّ حادٍّ كسنِّ الإبرة، أو مُسَّ سطحه بسائل كاوٍ أو حِرِّيف، أو سُلِّط عليه تيارٌ كهربائي شديد، أو قُرِع بجسمٍ صلب على اللوح الزجاجي الموضوع عليه الحيوان؛ يتقلَّص وينكمش في الحال، ويأخذ شكلًا كرويًّا، كمن يريد أن يجمع كل قُواه المُنتشرة، ويلمَّ شتات أطرافه في نقطة ارتكاز واحدة يتَّخذها مركزًا للدفاع، أو لمُواجهة الخطر المُحدِق به. وعلى النقيض من ذلك إذا لامسه سائلٌ مُغذٍّ؛ فإنه ينبسط وتظهر أطرافه، وتنتشر بقصد الْتِهام العناصر المُغذِّية التي بداخل ذلك السائل وهضمها. ويُسمَّى النوع الأول من المُنبِّهات، وهو الذي يدفع الخلية إلى التقلُّص أو التكوُّر، ﺑ «المُنبِّه المُنفِّر»؛ والنوع الثاني الذي يُنبِّهها إلى البسط والانتشار ﺑ «المُنبِّه الجذَّاب». وهذه التجارب معروفة لكل باحث فزيولوجي وبيولوجي.

وقد تُشاهَد هذه الحالات في وضوح في بعض الحيوانات ذات الخلايا المُتعددة. ولو كانت من النوع المُنحط كالديدان والحشرات، والحيوانات ذات الأصداف والدروع الطبيعية كالمحار والقواقع؛ فإنها بمجرد اللمس تتقلَّص وتنكمش، أو تتكرَّر، أو تهرع إلى أصدافها ودروعها؛ وبالعكس إذا قابلت ما تستطيبه أو تلتذُّ به؛ فإنها تنفرد وتنتشر، وتفتح أصدافها وتبرُز منها. وقد نُفسِّر بهذا ما نسمعه أحيانًا ونعدُّه من قبيل الأساطير والخرافات، من أن زيدًا من الناس اجتذب إليه الوحوش بقيثارته، أو الطيور بصفيره، أو الثعابين بمِزماره؛ فإن السرور أو الطرب يجتذبها إلى مصدره، في حين أنها تفرُّ من الألم، وتهرع إلى أوكارها، وتنكمش فيها خوفًا ورعبًا.

وكما أن الكائنات الحية من أول الخلية البسيطة إلى أرقاها نوعًا، وهو الإنسان، يجذبها السرور إلى مصدره وينشرها، وتنفر من الألم وتفرُّ من وجهه؛ كذلك عضلات الجسم وأنسجته وخلاياه خاضعةٌ نفسها لهذه المؤثِّرات. فلو عُرِض سطح عضلة من العضلات لسائلٍ حِريف أو كاوٍ أو شديد البرودة أو الحرارة، أو وُخزت بآلةٍ مدبَّبة، أو سُلِّط عليها تيارٌ كهربائي قوي؛ انكمشت العضلة وتقلَّصت، حتى ولو بعدَ قطعِ العصب المُحرِّك (لكيلا يكون هناك شكٌّ في أن للفعل المُنعكِس دخلًا في تقلُّصها). أما لو وُضع عليها سائلٌ مُغذٍّ لذيذ، وعلى درجة من الحرارة مُعتدلة، أو دُلكت دلكًا لطيفًا؛ انبسطت العضلة وانشرحت.

ولا أظن أنني مُخطئٌ إذا ما قلت إن كلمة «انبساط» التي يستعملها عامَّتنا للتعبير عن حالة السرور ما هي إلا كلمةٌ بليغة المعنى، مُنطبقة تمامًا على تلك الظاهرة الطبيعية التي أيَّدها العلم الصحيح، حتى في أبسط الأحياء تركيبًا وأدقها حجمًا. فلننظر كيف يفعل بنا السرور؛ فإنه يحملنا على بسط أيدينا وأرجُلنا وسائر أعضائنا، وكثيرًا ما نُشاهِد الصبي عند الفرح يُصفِّق بيدَيه مبسوطتَين، ويُطوِّح برِداء رأسه نحو السماء طربًا، ويفتح شدقَيه بالصياح والتهليل. ولننظر كيف يفعل بنا الحزن أو الخوف من الانقباض والانكماش وتقلُّص العضلات.

أليست لكلٍّ منَّا خبرة بما يعتري الإنسانَ عند رؤية الأشباح المُخيفة، أو سماع الأصوات المُزعِجة، أو لمس الأجسام الغريبة في الظلام؛ من قشعريرةٍ خاصة في البدن، أو انقباض في الجلد يقف منه الشعر أحيانًا، وخفَقان في القلب، واضطراب في حركة التنفس، وامتقاع في لون البشرة، وبُرودة في الأطراف؟ وما ذلك إلا لكَونِ رؤية الشبح المُخيف، أو سماع الصوت المُزعِج، أو لمس الجسم الغريب، كلها عوامل نفذت عن طريق الحواس (البصر أو السمع أو اللمس) إلى المخ، فأيقظت فيه ذكرى مُخيفة، فتظهر في الحال آثار الانفعالات على الإنسان.

فإذا سلَّمنا بهذه الطريقة التي تدلُّ على صحتها وتؤيِّدها الشواهد الكثيرة في حياتنا اليومية، أمكننا أن نُدرِك في سهولةٍ سرَّ انكماش عضلات الجسم في حالة الخوف وانبساطها في حالة السرور؛ فهي غريزة ورِثناها عن جدَّتنا الخلية من بدء خلقها في العصور الأولى، وحملتها إلينا سفينة الوراثة مع ما تزوَّدته في مراحلها من ثمرات الأجيال الغابرة، وهي تمخر عُباب الدهر جريًا على سنة النشوء والارتقاء، ولا زالت ممثَّلة في الخلايا الكثيرة التي تتألَّف منها مجموعة أجسامنا البشرية حتى الآن.

غير أن المؤثِّرات النفسية قد تكون مباشرة، كوقوع حادث فُجائي يصطدم بالحواس، فيُنبِّه مركز الحركة من المجموع العصبي، فتبدو آثار الانفعال الخاصة بكل حادث على حسب نوعه؛ وقد يكون التنبيه بطريقٍ غير مباشر، بتنبيه مركز الحركة بواسطة الذاكرة أو المُخيِّلة، وعندئذٍ تبرُز آثار الانفعال النفساني على أعضاء الحركة بالصورة التي ألِفها الإنسان واعتادها من قبلُ في مثل هذه الأحوال. أو في كلمةٍ أخرى، إن الانفعالات قد يكون مصدر التنبيه فيها إما خارجيًا، كأن يطرُق عامل الخوف أو الحزن أو السرور باب الحواس، فيُوقِظ مركز الحركة وهو يدفع الأعضاء إلى العمل؛ وإما باطنيًّا بأن يقع التنبيه على المركز العصبي للحركة من الداخل مباشرة بوساطة عامل نفساني باطني، كذكرى حادثٍ مُؤلِم أو مُخيف أو مُحزِن أو سارٍّ، فتتجلَّى على الأعضاء الأعراض الخاصة بكل عامل من هذه العوامل.

ولأجل تقريب ذلك للفهم يمكن، من قبيل الفرض، تشبيه الحوادث أو ذكرياتها بالتيارات الكهربائية، وتشبيه الأعصاب بالأسلاك المُوصلة للتيار ومركز الحركة، سواء كان من المراكز الواقعة في المخ أو في الحبل الشوكي بالمُحرِّك «الدينامو»، والحافظة بوعاء تُخزَّن فيه السيَّالات الكهربائية للحوادث عند وقوعها، كما تحفظ القُوى الكهربائية في البطاريات المعروفة بالمُكثفات. فإذا وقع حادثٌ ما، أو اصطدم بإحدى الحواس الخمس، كحاسة اللمس مثلًا التي تكون بمثابة أحد قطعي الاتصال، يمرُّ السيَّال الكهربائي ﺑ «أعصاب الحس»، ومنها إلى مركز الحركة (الدينامو)، فيتنبَّه المركز المذكور، ويقوم بأداء وظيفته، وهي تحريك الأعضاء المُسلَّط عليها ذلك المركز، ويدفعها إلى الحركة بواسطة الأعصاب المُحرِّكة.

فإن كان الحادث مُزعِجًا أو مُنفِّرًا قامت الأعضاء المُخصَّصة للدفاع عن الجسم بواجبها، وإن كان جذَّابًا أو مُحرِّضًا تولَّدت فيها الحركات الخاصة بالتعدِّي أو الهجوم، وإن كان سارًّا بدَت على الكائن الحي علامات السرور والانشراح، وإن كان مُحزِنًا بدَت عليه آثار الكآبة والانقباض.

ولكن مثل هذه الحوادث لا تمرُّ عادةً من غير أن تترك صورةً خالدة في الذاكرة، وهي حكمةٌ أودعها الخالق — سبحانه وتعالى — في نفس المخلوق؛ لكي يتَّخذ له منها عِبرة وموعظة، ولكي تُكسِبه في مستقبل حياته خبرةً تَقِيه شر الوقوع في الخطأ، أو الاندفاع إلى مواضع الخطر مرةً أخرى. فإذا ما لمس الطفل النار مرة ولذعته، رسخت هذه الذكرى المُؤلِمة في ذهنه؛ لكيلا يلمِس النار مرةً ثانية. فإذا وقع بصره عليها ولو عن بُعدٍ تنبَّهت لديه ذكرى الألم، بل ربما تقلَّصت عضلات جسمه في موضعه السابق فلا يقربها. ولعل الكثير منَّا لاحظ كيف تتقلَّص عضلات المَعدة، ويعترينا تهوعٌ وغثيان قد يعقبهما قيءٌ أحيانًا بمجرد وقوع بصرنا على دواء أو شراب علِمْنا بالخبرة أنه كريه الطعم، بل ربما كان مجرد تذكُّره كافيًا لدى البعض منَّا لإحداث هذه الأعراض.

فممَّا تقدَّم يتبيَّن لنا كيف أن صور الحوادث تُحفَظ في المخ، وفوق ذلك؛ فإن الشواهد كلها تؤيِّد أنها لا تُحفَظ فيه فقط لمجرد الحفظ، بل تُحفَظ فيه بترتيب ونظام، كما لو كان لكل نوع منها مُستودَعٌ خاص به يُشحَن بجانب من السيَّال الكهربائي لكل حادث حالَ مرورِه بالأعصاب واشتغال المُحرِّك؛ وذلك حتى يسهل الرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى الحكم على أمر من الأمور عن طريق المُوازنة والقياس.

فإذا أُوقظَ في الذهن نوعٌ من الخواطر أو الذكريات، اندفع السيَّال الكهربائي من المُستودَع الخاص بذلك النوع إلى مركز الحركة، فيقوم هذا بتنبيه أعضاء الحركة الخاضعة له. وهذا ما يُعبَّر عنه بحسب الاصطلاح العلمي أو الفني بالدافع الذاتي.

إنما لا يُفهَم من ذلك أن هناك اتصالًا دائمًا بين مُستودَعات الحوادث وبين المُحرِّك، لكيلا يكون التنبيه واقعًا باستمرار على مركز الحركة، بل هذا الاتصال مقطوع، كما لو كان في طريق الأعصاب المُوصلة بينهما زرٌّ كهربائي قاطع للتيَّار، لا يتصل إلا إذا عمدت يد عامل من العوامل المُنبِّهة إلى وصله؛ حتى لا يتحمَّل الإنسان في حياته أوجاع مصائبه الماضية بغير ضرورة أو مُقتضٍ، ولا ينوء تحت عبء ما يحمله في ذاكرته من مجموعة آلامه وأوصابه التي انتابته في ماضي العمر.

فإذا ما ضغطت يد العامل المُنبِّه على «زر» الاتصال، اتصل التيار، وانطلق من المُستودَع بعض الشحنة إلى مركز الحركة، وعندئذٍ تتكرَّر الانفعالات الخاصة بهذا النوع من الحوادث في صورة قد تكون مُخفَّفة نوعًا ممَّا لو كان الحادث مُحقَّقًا، كما لو كانت المُكثفات فقدت بمرور الزمن جزءًا من قوة كهربائيتها.

ويرجع الإسهاب في هذا الموضوع، وهو ما للانفعالات النفسية من الارتباط بالجرائم، إلى الرغبة في تعليل آثار تلك الانفعالات، وردِّها إلى أسباب الطبيعية؛ حتى يمكننا فهمها علميًّا، والاستفادة منها عمليًّا، ولكني قبل أن أنتقل إلى جوهر الموضوع أريد أن أدفع مقدَّمًا اعتراضًا يبدو من الكثيرين، وهو أن المُجرِم الماهر المُدرَّب الذي ماتت من قلبه كل عاطفة قد يستطيع استخدام كل ما أُوتي من قوة في أن يُخفِي عواطفه، فلا تبدو عليه آثار الانفعال.

صحيح قد يكون من الهيِّن عليه أن يُخفِي الآثار الظاهرة لحركاته وإشاراته الخارجية، أو يُلطِّف كثيرًا من حدَّتها بحيث لا تبدو محسوسة، كما أنه ليس من المحتَّم أن يبكي المرء عند الحزن أو يضحك عند السرور، ولكن ليست الأعيُن والشِّفاه والأيدي والأرجُل هي التي تشهد علينا دون غيرها، فإن هذه إذا التزمت الصمت وقويت على الكتمان، فهناك أعضاءٌ أخرى لا سلطان لإرادتنا عليها قد تكشف الستار بالرغم منَّا عن الرواية التي تُمثَّل في مَسرح المُخيِّلة، وتنمُّ عن تفاصيل المعركة التي تدور رحاها في ميدان الضمير. وبيان ذلك أن في الجسم نوعَين من الأعضاء من حيث الحركة؛ فالنوع الأول تتألَّف منه الأعضاء ذات الحركة الإرادية؛ أي الخاضعة في حركاتها لمركز الإرادة في المخ، كالأيدي والأرجُل والشِّفاه والجفون والعيون وغيرها من سائر الأعضاء التي يمكننا تحريكها أو وقف حركتها كلما أردنا؛ والنوع الثاني يتألَّف من الأعضاء ذات الحركة غير الإرادية، كعضلات القلب المُبطنة لجدران الأوعية الدموية والعضلات، والأنسجة الأخرى لبعض الأحشاء الصدرية والبطنية والحوضية، وكذلك غُدَد العرق والدمع واللُّعاب وغيرها من الغُدد ذات الإفرازات المختلفة.

فالنوع الأول من الأعضاء خاضع في حركته لجهازٍ عصبي يختلف في نوعه عن الجهاز العصبي للأعضاء ذات الحركة غير الإرادية. ويُسمَّى الأول ﺑ «الجهاز العصبي الإرادي»، والثاني ﺑ «الجهاز العصبي الذاتي». والأول مراكزه العصبية واقعة في منطقة الحركات الإرادية من المخ، والثاني مراكزه العصبية بعيدة عن مراكز الإرادة مقطوع الاتصال بها. ومعظم هذا الجهاز الأخير مؤلَّف من سلسلة من العُقَد العصبية واقعة على جانبَي العمود الفقري (ومعروفة بِاسم العظيم السمبتاوي)، وتقوم عُقَد أخرى قائمة في الدماغ، والبعض الآخر في جدران الأعضاء نفسها عليها هذه المراكز في القلب.

فالفرق بين هذَين الجهازين جليٌّ واضح من حيث التأثير في حركات الأعضاء؛ فإن كان في وُسْعنا أن نمنع أيدينا وأرجُلنا عن الحركة، أو إبداء أي إشارة تنمُّ عمَّا نُبطِن في نفوسنا؛ فمَن منَّا يستطيع أن يُغيِّر بإرادته دقَّات قلبه، وسرعة نبضه، ودرجة امتلائه، وقوة ضغط دمه، وكمية إفراز غُدة من غُدَد جسمه، أو حركات أمعائه أو أحشائه الباطنية، أو درجة حرارة جسمه؟ فإذا كان ليس في وُسْعنا ذلك، وعلِمْنا بالتجربة والمُشاهَدات أن لكل انفعال نفساني آثارًا خاصةً به، ومميزاتٍ تُسجِّلها علينا أعضاؤنا المُتمتعة بالحركة الذاتية كما يسجِّل الترمومتر والبارومتر درجات الحرارة والرطوبة، وأن أمهر مُمثِّلي العالم مهما بلغ من الدُّربة والحنكة لا يقوى على سترها وإخفائها؛ ألسنا نجني من وراء دراسة هذه الآثار وكشفها أجلَّ فائدة عملية؟ أو إنه بقدر ما يُوجَد لدينا من الآلات المُتقَنة الصنع، التي بها نستطيع رصد حركات الأعضاء الباطنية بدقة، بقدر ما يسهل علينا كشف ما يجُول بخاطر المتَّهَم الموضوع تحت الاختبار، واستخراج مكنون أسراره، وإن آلاتٍ كهذه يكون مثلها كمثل المِجهر الذي يكشف لنا أنواع الجراثيم ودقائق الأنسجة المختلفة للجسم في تشخيص الحالات المرَضية؟

علم النفس الجنائي العملي

إلى هنا قد انتهينا من الكلام في الموضوع من الوجهة العلمية، بقي علينا أن نتكلَّم عنه من حيث التطبيق، وكيف يمكننا الاستفادة منه في الأبحاث الجنائية عمليًّا.

ولنبدأ الآن بتجربةٍ سهلة نتيجة الاختبار الشخصي،٨ وقد أجريتها على الآلة الموسيقية المعروفة ﺑ «الكمنجة»؛ فقد أجريت عليها تمريناتٍ عديدةً على وترٍ مُنفرد في أوقات وحالاتٍ نفسانية مختلفة، فلاحظت أن لكل حالة منها تأثيرًا خاصًّا على حركات العفق (أعني الضغط على الأوتار بالأصابع لإحداث النغمات المختلفة)، وبمراقبة تأثير كل حالة منها مراقبةً دقيقة ظهر أنه في حالة السرور تنخفض أصوات الأنغام المُتولِّدة من العفق على مسافاتٍ مقدَّرة عن أصولها قليلًا، وذلك سواء عند الصعود بالأصابع على وجه الكمنجة لتوليد الأنغام العالية، أو عند النزول في اتجاه طرف الكمنجة الوحشي المعبَّر عنه ﺑ «البنجق» لتوليد الأنغام المُنخفضة؛ أي إن حالة السرور تُولِّد انخفاضًا في النغمات المعفوقة على العموم، سواء في حالة الصعود (وهي التي تستدعي جذب الساعد للداخل)، أو في حالة النزول (وهي التي تستدعي بسطه للخارج)؛ وإن حالة الحزن تُولِّد ارتفاعًا في الأصوات المعفوقة على العموم (أي في حالتَي الصعود والنزول)، وحالة الغضب والتنبيه العصبي تُولِّد ارتفاعًا في النغمات الصاعدة وانخفاضها في النغمات الهابطة على أصولها قليلًا، وحالة الهبوط والانحطاط تُولِّد انخفاضًا في النغمات الصاعدة وارتفاعًا في النغمات الهابطة. وإذا ما عرفنا أن النغمات الصاعدة هي التي تتولَّد من الزحف باليد على وجه الكمنجة إلى الداخل، وهذا يقتضي قبض الساعد، وأن النغمات الهابطة تتولَّد من تحريك اليد إلى الخارج، وهذا يقتضي بسط الساعد؛ استخلصنا النتيجة الآتية:
  • السرور يزيد حركات البسط، ويُقلِّل حركات القبض.

  • الحزن يُقلِّل حركات البسط، ويزيد حركات القبض.

  • الغضب يزيد حركات البسط، ويزيد حركات القبض.

  • الهبوط يُقلِّل حركات البسط، ويُقلِّل حركات القبض.

وقد قام علماء النفس بتجارب عديدة بالطُّرق الفنية الصحيحة، فتبيَّن بالاختبار أن لكل حالة نفسانية تأثيرًا خاصًّا على حركات التنفس والنبض والدورة الدموية وغير ذلك، بحيث إذا قِيسَت تلك الحركات بدقة، ودُوِّنت في شكل موجات بوساطة الأجهزة المخصَّصة لذلك، والمعروفة لدى علماء الفزيولوجيا؛ أمكن في سهولةٍ تشخيص الحالة النفسية المُتسلِّطة على الشخص في وقت الاختبار، ومعرفتها في دقة. فلأجل قياس التنفس وُضِع جهاز يُسمَّى البنوموجراف، وهو مؤلَّف من أسطوانةٍ حلزونية من السلك، مكسوَّة بغلافٍ رقيق من المطَّاط (الكاوتشوك)، تُربَط على الصدر، بحيث إن أقلَّ حركة في التنفس تؤثِّر في طول الأسطوانة، فتنكمش أو تنفرد بحسب حالتَي الشهيق والزفير، وفي نهاية الأسطوانة أنبوبةٌ رقيقة من المطاط. وفي طرفها «ترمسة» مجوَّفة صغيرة من المطاط كذلك، وهذه يرتكز على أحد سطحَيها ذراعٌ صغير يعلو وينخفض مع سطح «الترمسة» عند انتفاخه أو انبطاحه، تبعًا لدرجة امتلائها بالهواء القادم من الأسطوانة عند انكماشها، أو تفريغه منها عند انفرادها. وهذا الذراع الصغير مسلَّط على ذراعٍ أطول منه بمثابة مؤشِّر أو عقربٍ طويل لكي يُضعِف حركة الذراع الصغير ويُكبِّرها حتى تبدو أخف الحركات كبيرةً واضحة. والمؤشِّر أو الذراع الكبير تارةً يكون مركَّبًا على وجه لوح مدرَّج لقياس حركات التنفس، وتارةً يكون طرفه مسلَّطًا على سطح شريط من الورق ملفوف على أسطوانةٍ ذات حركة آلية بطيئة مُنتظمة، ويكون طرف المؤشِّر مغموسًا في الحبر لكي يرسم على سطح الشريط الموجات الناشئة عن حركات التنفُّس من شهيق وزفير. وقد دلَّ الاختبار على النتائج الآتية:
  • في حالة السرور يُسرع التنفس ويصير خفيفًا (تأمَّلْ في الضحك).

  • في حالة الحزن يُبطئ التنفس ويصير عميقًا (تأمَّلْ في التنهُّد).

  • في حالة الغضب يُسرع التنفس ويصير قويًّا.

  • في حالة الهبوط يُبطئ التنفس ويصير خفيفًا.

ولمَّا تمَّت تجارب على النبض بوساطة جهاز خاص معروف بِاسم سفجموجراف، وهو جهازٌ بُنِي على نظرية البنوموجراف تقريبًا، ويُركَّب فوق المِعصم عادةً، حسَّاس لنبض الشريان الكعبري؛ تبيَّن ما يأتي:
  • في حالة السرور يُبطئ النبض ويصير قويًّا.

  • في حالة الحزن يُسرع النبض ويصير ضعيفًا.٩
  • في حالة الغضب يُسرع النبض ويصير قويًّا.

  • في حالة الهبوط يُبطئ النبض ويصير ضعيفًا.

وهناك أيضًا جهاز يُسمَّى ﺑ «البلتزموجراف» لقياس مقدار توارُد الدم في عضو من الأعضاء، وهو مؤلَّف من أسطوانة من الزجاج تُملأ بالماء، ويُغمَر العضو المراد اختباره كالساعد مثلًا، ويُحكَم سدُّ فُوَّهتها بمعجونٍ يمنع تسرُّب الماء، وبها ثقبٌ متَّصِل بأنبوبةٍ رفيعة من المطَّاط، في نهايتها «ترمسة» صغيرة من المطَّاط مسلَّطة على عقربٍ يتبَع في حركته ضغط الهواء الذي يرِد إلى «الترمسة»؛ فأقل زيادة في توارُد الدم في العضو المُختبَر يبدو أثرها في كمية الماء التي تملأ الأسطوانة، فيرتفع الماء قليلًا؛ وبذلك يضغط على كمية الهواء التي بداخل الأنبوبة؛ وبالتالي «الترمسة»، فتنتفخ هذه الأخيرة قليلًا فيتحرَّك العقرب. وقد وُجِد بالتجربة أن لكل انفعال تأثيرًا خاصًّا في كمية الدم التي تتوارد على ذلك العضو الموضوع تحت التجربة.

كذلك تبدو آثار الانفعالات النفسانية في حركة الساق الناشئة من الدقِّ على وتر الركبة بتأثير الفعل المُنعكِس، وبمعنى أن الزاوية التي تتألَّف من هذه الحركات تختلف درجتها باختلاف الحالات النفسية المُتنوعة؛ أي إن لكل حالة منها زاويةً خاصة بها. وقد استُخدم لذلك جهازٌ خاصٌّ ذو مِطرقة صغيرة تدقُّ على ذلك الوتر دقاتٍ مُتساوية القوة في فتراتٍ مُنتظمة، ثم رُصدت الحالات النفسية المختلفة حال إجراء هذه العملية. وعلى هذا القياس قِيست معظم حركات الجسم وسكناته.

تجارب الأستاذ منستربرج

وقد وضع العلَّامة هوجو منستربرج، أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، وأحد أعلام علم النفس العملي الحديث؛ بعضَ تجارب قيِّمة في هذا الموضوع، وذات فائدة عظمى، ننقل بعضها لأهميتها:
  • التجربة الأولى: جاء بلوحٍ مركَّب على أربع «بيل» يتحرَّك على سطحٍ أملس؛ ليكون اللوح سهل الحركة ما أمكن، ثم أمر الطالب المُراد اختباره بأن يضع يده على اللوح المذكور بعد أن حمل ذراعه بالقرب من المِرفق بحاملٍ متَّصِل بحبلٍ معلَّق في السقف؛ لتكون يده مُطلَقة الحرية في التحرك إلى أي اتجاه كان. وأحضر بطاقاتٍ عديدةً على كلٍّ منها حرفٌ معيَّن من الأحرف الهجائية، واختار من بينها حرفًا عرَضه على الطالب، وأمره أن يحصر ذهنه فيه جيدًا. وبعد ذلك وضع الحرف بين باقي الأحرف التي صُفَّت في شبه نصف دائرة حول اللوح الذي عليه يد الطالب، فلاحَظ أن يده تحرَّكت في اتجاه مكان الحرف الذي كان حصر فيه ذهنه. ولمَّا نقل الحرف المذكور من مكانه تحرَّكت اليد ثانيًا في اتجاه المكان الجديد لذلك الحرف. وهكذا كلما غيَّر مكان الحرف تحرَّكت يد الطالب نحو المكان على غير قصد منه. ومن ذلك علِم الأستاذ منستربرج أن هناك صلةً بين حركة اليد وبين الحرف الذي ارتبط به ذهن الطالب، وقال: «إنه لو جيء، قياسًا على ذلك، بمجرمٍ يُنكر سلاحه الذي وُجِد بمحل الحادثة، ووُضع هذا السلاح بينَ أسلحةٍ عديدةٍ أخرى في شبه نصف دائرة حول ذلك اللوح الذي يُكلَّف الجاني بوضع يده عليه، وشُوهِدت يده تتبَع في اتجاهها مكان ذلك السلاح دون سواه؛ لدلَّ ذلك على أن للمتَّهَم صلة بالسلاح المذكور.» وقد أطلق على هذا الجهاز البسيط اسم أتوماتوجراف؛ أي كاتب الحركة الذاتية؛ لأنه ركَّب في طرف اللوح جهازًا صغيرًا يُسجِّل اتجاهات الحركة على قطعة من الورق أسفل اللوح.
  • التجربة الثانية: لمَّا كانت حالة الخوف ينشأ عنها تقلُّص في عضلات الجسم، وخاصةً عضلات أعضاء الحركة، فقد استخدم الدكتور منستربرج كرةً صغيرة من المطَّاط متَّصِلًا بها أنبوبةٌ رفيعة، في نهايتها «ترمسة» صغيرة من المطَّاط أيضًا، والترمسة مسلَّطة على ذراعٍ صغيرٍ متَّصِل بذراعٍ كبير يعظم الحركة مركَّب على لوحٍ مقسَّم، بحيث إن أقل انقباض في الأصابع يُحدِث ضغطًا على الكرة التي في قبضة اليد يظهر أثره مكبَّرًا على اللوح بوساطة المؤشِّر. فإذا ذُكِر أمام المتَّهَم اسم المجني عليه أو اسم متَّهَم آخر كان شريكًا له في الجريمة بين عشرين اسمًا مثلًا لأشخاصٍ آخرين، ولُوحِظ أن المؤشِّر تحرَّك عند ذِكر اسم المجني عليه أو الشريك دون باقي الأسماء؛ أمكن أن نستنبط من ذلك وجود علاقة بين المتَّهَم والشخص المُسمَّى بالرغم من تجاهُله إياه؛ وما ذلك إلا بسبب كَوْن سماعه هذا الاسم أحدث في نفسه انفعالاتٍ نتيجة الخوف، فتتقلَّص عضلات اليد والأصابع، فيضغط الشخص، على غير قصد منه وبدون انتباه، على الكرة التي في يده، فيضغط الهواء الذي فيها، ويملأ الترمسة فتنتفخ؛ وبذلك يتحرَّك المؤشِّر.
  • التجربة الثالثة: لاحَظ منستربرج أن لكرة العين نوعًا من الحركة، قد يكون مستقلًّا عن إرادة الشخص وقصده، فتتحرَّك في اتجاهٍ معيَّن وهو لا يعلم من أمرها شيئًا. ولإثبات ذلك قد جهَّز بطاقاتٍ كتب على كلٍّ منها كلمة من الكلمات العادية، إنما جعل من بينها كلمةً ذات تأثير خاص في نفس الطالب الذي ستُجرى معه التجربة، وأخذ يعرض عليه الكلمات تباعًا بعد أن اتفق معه مبدئيًّا على أمورٍ معيَّنة، وهي أن يقرأ الطالب الكلمة التي تُعرَض عليه ويتأمَّلها، ثم يُغمِض عينَيه ويُدير وجهه إلى أحد الجانبَين قليلًا، ثم يفتح عينَيه في الحال؛ فلاحَظ أنه في الكلمات الاعتيادية كانت كُرتا العينَين تتبَعان في اتجاههما اتجاه الوجه أثناء تحوُّله عن مكان الكلمة، أما الكلمة ذات التأثير الخاص فإنه عند عرضها لاحَظ أن كُرتَي العينَين لا تزالان في اتجاه تلك الكلمة بالرغم من تحوُّل الوجه عنها إلى جانبٍ آخر، كما تبيَّن له ذلك من مُشاهدة عينَي الطالب حال فتحه جفنَيه عقب إدارته وجهه. وقد كرَّر الأستاذ التجربة مرارًا، فكانت النتيجة واحدة في كل مرة؛ ومن ذلك أيقن أن للكلمة ذات الأهمية الخاصة تأثيرًا خاصًّا في حركات العينَين واجتذابها إلى مصدرها، حتى ولو أُديرَ الوجه إلى اتجاهٍ آخر.

    فلو كنَّا في المسائل الجنائية نعرض تباعًا على المتَّهَم الموضوع تحت الاختبار أسلحةً عديدةً مختلفة من بينها السلاح الذي وُجِد في محل الحادث، وظهر لنا أثناء إجراء التجربة على الوجه السالف الذِّكر أن لهذا السلاح، وحده دون باقي الأسلحة التي عُرِضت على المتَّهَم، الأثرَ نفسه الذي للكلمة الخاصة لدى الطالب، بمعنى أن كُرتَي عينَي المتَّهَم لم تتحوَّلا عنه بالرغم من إدارته وجهه إلى اتجاهٍ آخر؛ كان ذلك دليلًا على وجود علاقة للمتَّهَم بهذا السلاح، بالرغم من إنكاره ملكيته وتجاهُله إياه.

  • التجربة الرابعة: وهي أن يؤتى بلوحَين من النحاس، كلٌّ منهما متَّصِل بأحد طرفَي سلكٍ كهربائي متفرِّع من بطاريةٍ كهربائية، وفي طريق التيار جلفانومتر دقيق (وهو عبارة عن جهازٍ ذي إبرةٍ مغناطيسية لقياس مقدار مُقاومة التيار)، ويضع المتَّهَم المُراد اختباره إحدى يدَيه على لوح والأخرى على اللوح الآخر، ثم تُذكَر له أسماءٌ كثيرة من بينها اسم شريكه في الجريمة أو اسم المقتول مثلًا، فيُشاهد أن إبرة «الجلفانومتر» تتحرَّك عند ذِكر أحد هذَين الاسمين دون غيرهما من الأسماء الأخرى. وهكذا كلما أُعيدَت التجربة كانت النتيجة ثابتة. ومن هذا يُستدلُّ على وجود ارتباط بين المتَّهَم وبين الشخص المُسمَّى. كذلك الحال لو ذُكِر أمامه أمرٌ يدَّعي جهله أو أنه لا يهمُّه، ولُوحِظ تحرُّك عقرب المقياس؛ فإن ذلك يدل على كذبه فيما يدَّعي.

وإني لإخال القارئ يُساوره الشك والدهشة، ولكن على حد المثل السائر: «إذا ظهر السبب بطل العَجب.» فتعليل ذلك ليس بالأمر العسير، فكلُّنا نعلَم منذ عهد المدرسة أنه إذا أُحرِج أحدنا أثناء الامتحان بسؤالٍ صعب، أو وُجِّهت إليه من المُمتحِن كلمة أو عبارةٌ مُحرِجة؛ أخذ العَرق يتصبَّب من جبينه؛ وما ذلك إلا لكَوْن السؤال أو الكلمة المُحرِجة نبَّهت غُدَد العرق إلى العمل فيكثر إفرازها. كذلك الحال بالنسبة للمتَّهَم الذي ذُكِر أمامه اسم شريكه في الجريمة، أو ذُكِرت أمامه أمورٌ لها ارتباط بالواقعة أو بتفاصيلها أو طريقة ارتكابها؛ فإنه بالرغم من تظاهُره بعدم المُبالاة، وتصنُّعه الجهل لِما يُلقى على سمعه، نرى عقرب «الجلفانومتر» ينحرف عن موضعه؛ لأن سماعه هذه الوقائع يُنبِّه من مجموعه العصبي المراكز المُتسلِّطة على غُدَد العرق، حيث توجد في راحة اليدَين بكثرة فيزيد إفرازها؛ وبذلك تزيد مُقاومة التيار الكهربائي فيتحرَّك العقرب.

ومهما يكُن التنبيه ضعيفًا، والزيادة في إفراز الغُدد العرقية طفيفة، فإنها تكفي لأن يظهر أثرها في التيار الكهربائي حال مروره في جسم المتَّهَم وقت الاختبار، كما قد يكون لإفراز الغُدد الصمَّاء بتأثير الانفعال النفسي شأنٌ يُذكَر في تغيير مُقاومة التيار الكهربائي حال مروره بالجسم.

الفائدة العملية من هذه التجارب للمُحقِّق

ومن ذلك يبين كيف أن استخراج مكنون الفكر قد يكون بطُرقٍ هي في حدِّ ذاتها على جانب من البساطة، غير أن مُقاومة المتَّهَم لنتائجها تكون مع ذلك خارجة عن طاقته البشرية، وفوق مُتناول كل ما أُوتي من عزم وإرادة، وأنه لا يقوى على سترها مهما حاول إخفاءها.

فمِثل هذه الوسائل لو هذَّبتها الأيدي العالمة العاملة، وارتقت مع توالي الأزمان جريًا على سنة الرُّقي الطبيعية لجميع الأشياء؛ لا بد أن تصبح يومًا ما كأداةٍ نقرأ بها أفكار غيرنا كما لو كنَّا نقرأ كتابًا. ومع ذلك فإني أرى أن علم النفس العملي في الوقت الحاضر قد يؤدي لنا خدماتٍ جليلةَ القدر عظيمة الفائدة في التحقيقات الجنائية.

ورُب مُعترِض على هذا يقول: كيف يعتمد القاضي في حكمه بإدانة متَّهَم على مجرد استنتاجات تافهة كظواهر الخوف والاضطراب التي تبدو على شخصٍ متَّهَم بجريمة، في حين أنه كما يمكن تعليل هذه بأنها نتيجة ارتكاب الجُرم، يمكن كذلك تعليلها بأنها نتيجة ارتباك البريء ورهبته موقف الاتهام؟ وهو اعتراض طالما كنت أسمعه من الكثيرين، ولكن هذا خطأٌ محض في فهم المُراد باستخدام علم النفس في التحقيق الجنائي.

فليس هذا هو الغرض المقصود من القول باستخدامه عمليًّا في وقتنا الحاضر، فإنه بالرغم من أن علم النفس الحديث مؤسَّس على قواعد علمية صحيحة نتيجة الاختبارات المُتكررة والتجارب الطويلة، وبالرغم من كَوْنه قطع شوطًا بعيدًا في مِضمار الرُّقي بجانب العلوم الطبيعية الأخرى، وبلغ شأوًا عاليًا في معارج التقدم والفلاح؛ فإنه لم يصل بعدُ إلى الدرجة التي يمكننا معها استخدامه كفاية في ذاته لإقامة الدليل على متَّهَم ليس عليه أي برهان آخر، ولكن ذلك لا يمنع من استخدامه في الوقت الحالي كمجرد وسيلة للوصول إلى الأدلة المعدودة أمام المحاكم الآن، والتي تُثبِت الجريمة على المتَّهَم بالبرهان المقبول قانونًا أمام القضاء، ولست أرى أي محل للاعتراض على ذلك متى كان المتَّهَم لديه الضمان الكافي بأن الذي ستقبَله المحاكم في إثبات التهمة عليه إنما هي الأدلة وأوجُه الإثبات العادية التي اصطلح عليها القضاء، وأنه لم يكن الغرض من استخدام علم النفس إلا كواسطة للوصول إلى تلك الإثباتات القانونية، وهناك فرقٌ عظيم بينَ عدِّه كواسطة للوصول إلى غايةٍ معيَّنة وبين جعله هذه الغاية نفسها. وحَسْب القارئ الحادثة التالية التي أذكُرها بهذه المناسبة على سبيل المثال لتكون بمثابة برهان حي ودليل عملي محسوس، وهي تتلخَّص في أنه في عام سنة ١٩١٤م وقع حادث شروع في قتل بإحدى القُرى التابعة لمركز السنبلاوين، وملخَّصه أن شخصًا من الأهالي أُطلقَ عليه عيارٌ ناري من يد مجهول حال خروجه من القرية قاصدًا غيطه، وكان الوقت قُبَيل العشاء، وقد أُطلقَ العيار من مزرعة على جانب الطريق، فأُصيب المجني عليه في ساعده الأيسر. ولما كنت وكيلًا لنيابة ذلك المركز وقتئذٍ فقد قمت للتحقيق، وفي خلاله حامت الشبهة حول شخص كان خطيبًا لزوجة المجني عليه، ولكن والدها أبى أن يُزوِّجها منه لسوء سلوكه، وزوَّجها من المجني عليه.

أخذت في البحث١٠ عن هذا المتَّهَم، فوجدته في مكانٍ بعيد عن مكان الحادث بمسيرة ربع ساعة، وهو يروي زراعة كان معيَّنًا خفيرًا عليها، وكانت بيده عصاه، وقد شهد اثنان من أهالي القرية بأنهما رأياه عقب سماعهما العيار يسير على شاطئ التُّرعة متَّجِهًا نحو المزرعة التي وُجِد فيها، وكان مُجدًّا في السير قليلًا وبيده تلك العصا. ولما كان المتَّهَم خفيرًا خاصًّا لزراعة بعض الأعيان، ومرخَّصًا له بحمل السلاح؛ فقد سُئل بطبيعة الحال عن سلاحه، فادَّعى فقْدَه منذ عشرين. وما غيَّر أن الشهود شهدوا بأنهم رأوه يحمله قبل الحادث بيومٍ واحد، ولكن نتيجة التحقيق لم تتقدَّم بعد ذلك خطوةً واحدة، في حين أن ما وصلت إليه من الأدلة لم يكن سوى شبهات لا تكفي لإدانة المتَّهَم قانونًا، غير أنها كوَّنت عندي شِبه عقيدة بأنه هو الفاعل؛ ولذلك حصرتُ اهتمامي في البحث عن السلاح؛ لأنه كان الطريق الوحيد المفتوح أمامي للبحث. وبعد قليل من التأمُّل لاح لي أن السلاح لم يُخبَّأ في القرية، وأن البحث عنه فيها عقيم، ولا بد أنه يكون خارجها؛ لأن المتَّهَم لم يكن لديه من الوقت ما يكفي العودة إليها بعد الحادث كما هو ظاهر من الوقائع المُتقدمة. وبطبيعة الحال أرجأت التفتيش إلى الصباح؛ لأن البحث عن السلاح في وسط المزارع والغيطان ليلًا ضربٌ من العبث، فوضعت الحرس الكافي حول تلك المزارع لكيلا يقرَبها أحد.
ولمَّا طلع النهار خرجت لإجراء البحث والتفتيش، وبصحبتي المتَّهَم كعادتي عند كل تفتيش، لعلِّي أستفيد ممَّا قد يبدو عليه من التأثيرات النفسية حال إجراء البحث؛ إذ كان ذلك يُساعدني أحيانًا في الوصول إلى غايتي، ولكني بمجرد أن خرجت من القرية وقفت برهةً حائرًا؛ لأني وجدت أمامي ميدانًا للتفتيش متَّسِع الأرجاء مُترامي الأطراف، وأنَّى لي أن أهتدي إلى المكان الذي خبَّأ المتَّهَم سلاحه فيه، وخاصةً أن التفتيش في الخلاء يتطلَّب عناءً شديدًا ومجهودًا عظيمًا قد يستغرق كل نهاري ولا أصل إلى نتيجةٍ ما؟ وبينما أنا مُسترسِل في أفكاري وحيرتي إذ تذكَّرت في الحال بعض تجارب العلَّامة منستربرج بشأن ضربات القلب وتأثير الانفعالات النفسانية فيها، فوضعت يدي في يد المتَّهَم، وبينما كنت مُمسِكًا بمِعصمه وضعت إبهامي١١ خلسة على الشريان الكعبري (وهو الذي يجسُّ منه الأطباء النبض عادة). وبعد أن تملَّكت موضع النبض منه جيِّدًا، وأصبحت دقَّات قلبه تحت إشرافي ومُراقبتي؛ ألقيت عليه أسئلةً عديدةً مُتتابعة بشأن محل إخفاء السلاح، وعددت الأمكنة التي يحتمل أن يكون أخفاه فيها، فذكَرت له بعض المزارع، ثم ساقيته الخاصة، ثم الترعة فالقناة فالمَصرف وهكذا؛ فلاحظت أن النبض عند ذِكر المَصرف كان يشتد ويُسرع كثيرًا، وإذا ما حوَّلت الكلام عنه إلى أماكن أخرى كان النبض يهدأ ويكاد يعود إلى حالته الطبيعية، وهكذا كلما ذكَرت له المَصرف يعود النبض فيَقْوى ويُسرع، وكان أثر الانفعال محسوسًا لدرجةٍ أثارت دهشتي، وكانت دقَّات قلبه قويةً واضحة، حتى خُيِّل إليَّ أني أسمعها من صدره، فترجَّح لديَّ أن المتَّهَم ألقى سلاحه في ذلك المَصرف، ولكنه مصرفٌ عميق متَّسِع العرض مُمتد الطول، والبحث فيه شاقٌّ، فضلًا عن أنه يستلزم مهارة في الغوص، ففي أي مكان منه ألقى المتَّهَم سلاحه؟ إن هذه لمُعضِلةٌ ثانية، ولكن بعد أن قدحتُ زناد الفكر قليلًا أمكنني تعيين ذلك المكان وتحديده بوجه التقريب، والفضل في هذا راجع إلى العصا التي كانت بيد المتَّهَم؛ فهي التي أشارت لي عليه ودلَّتني إلى موضعه. وتفسير ذلك أن للمتَّهَم ساقيةً خاصة على مَقربة من المَصرف، وقد اعتاد أن يترك عصاه فيها حينما كان يحمل بندقيته في أثناء الحراسة، كما علِمت ذلك اتفاقًا من التحقيق؛ فالعصا كانت إذن عند ساقيته وقت ارتكابه الجريمة، ولم تكن معه بطبيعة الحال؛ لأنه كان يحمل سلاحه، وبعد أن أطلق العيار فرَّ هاربًا نحو الساقية، وتناول عصاه منها كما هو ظاهر من وجودها معه عند ضبطه. ولمَّا كانت الساقية مِلكه الخاص، فهو لا يُخاطر بإلقاء سلاحه فيها، وإنما أول شيء يتبادر إلى ذهنه هو المَصرف؛ لقُرْبه وصعوبة انتشال البندقية منه نظرًا لعمقه. ولما كان الجاني شديد الرغبة عادةً في التخلص من سلاحه بأسرع ما يمكن، فإن أقرب مكان من المصرف إليه هو الواقع تجاه الساقية، هو المكان الذي يتبادر إلى الذهن أنه ألقى سلاحه فيه؛ حتى يصبح حُرًّا طليقًا من الدليل الخطير الذي يحمله بين يدَيه. وعلى أثر مرور هذه الخواطر مِلتُ إلى مأمور المركز، وعيَّنت له المكان الذي يجب البحث فيه أولًا، ولكن المتَّهَم عندما رأى الرجال المكلَّفين بهذا البحث متَّجِهين نحو ذلك المكان بدَت على وجهه دلائل الارتباك والحيرة، وشحب لونه وجفَّ لعابه. ولكي يُداري اضطرابه وقتئذٍ، ويُظهِر عدم اكتراثه بما يجري حوله؛ أخذ يُولِّي وجهه شطر موضع آخر، ويُحوِّله عن مكان البحث من المَصرف، ولكن بالرغم من كَوْنه أدار وجهه فإن كُرتَي عينَيه كانتا لا تزالان في اتجاه ذلك المكان نفسه، فازداد اعتقادي بوجود السلاح فيه، وقوِي أملي في الحصول عليه. وبالفعل لم تمضِ خمس دقائق في البحث حتى انتُشلت البندقية من قاع المَصرف.

إن هذه المُشاهدة البسيطة أثارت اهتمامي بعلم النفس التجريبي، وزادتني إيمانًا بجليل قدره ويقينًا بجزيل نفعه، حيث رأيتُني أجتني ثمار تجربة من أسهل التجارب بغير الاستعانة بأية آلة أو جهاز خاص، فلم أشَأ أن أتركها تمرُّ بدون أن يكون لها أثرٌ رسمي ثابت، فسجَّلتها في مَحضري الذي أخذتْ به محكمة الجنايات فيما بعد، واعتمدت عليه في إدانة المتَّهَم. وكنت منذ ذلك الحين أجد لذةً مُضاعفة وشوقًا عظيمًا في مطالعة ما كتبه علماء النفس في هذا الصدد، وتطبيق ما أقف عليه من المعلومات في الحياة العملية.

وممَّا تقدَّم نرى كيف كان البحث عن سلاح المتَّهَم في ميدان مُخيِّلته أسهل منالًا وأقل عناءً من البحث عنه في ميدان الطبيعة الفسيح المُتعدد الأمكنة المُتشعِّب الأرجاء.

فالتجارب النفسية قد تؤدِّي على تفاهتها وسهولة تناولها أجلَّ الخِدم للمُحقِّق وأعظمها فائدة إذا عرف كيف يستخدمها وينتفع بها. ومن ذا الذي يُنكِر على علم النفس فضله على القانون وشدة حاجة رجال القضاء إليه؟ فهو للمُحقِّق كنبراسٍ يُضيء له ظُلمة الحوادث، فيستعين به في أشدها غموضًا على استجلاء غامضها، كما أنه يكون له منه أداةً ماضية يستخدمها في هَتْك ما أُسدلَ على بعض الجرائم من الأستار والحُجب الكثيفة. وبه يستعين القاضي على فهم عقلية كل متَّهَم أو شاهد، وفهم كثير من الأمور والمُعضِلات التي يُشكِل على الكثيرين فهمها أو تعليلها تعليلًا صحيحًا، فيكون له خير ضمان من الوقوع في الخطأ أو الزلل، وبه يستطيع أن يُقدر العقاب المُناسب لكل مُجرِم تقديرًا صحيحًا، ويختار له أكثر أنواع العقاب مُلاءمةً لعقليته، كما أن القاضي الفطِن قد يستطيع به أن ينفُذ إلى خاطر الشخص؛ فإن كان شاهدًا يتبيَّن مواضع الصدق والكذب من شهادته، أو كان متَّهَمًا يقرأ ما سطَّرته يد الحوادث على صحيفة ضميره، ويعلَم منها إن كان مُجرِمًا حقًّا فيدينه، ويتبيَّن مَبلغ تأصُّل الإجرام من نفسه، أو بريئًا فيقضي ببراءته.

وهو للمُحامي أكبر عَون على فهم حقيقة موقف مُوكِّله ودراسة عقليته، بل عقلية القضاة الذين يتولَّون مُحاكمته، فيسهُل عليه التفاهم معهم ومُخاطبتهم بالأساليب والعبارات التي يسهل إقناعهم بها، والتي يستطيع بها أن يبثَّ إلى أفهامهم كل ما يجول في خاطره من آراء مع ما يُعزِّزها من الأدلة والبراهين، وأن يبسط لهم بأسلوبٍ شيقٍ سهل الفهم عليهم كلَّ ما يُحيط بمُوكِّله من الشئون والظروف والأساليب المُوجِبة لتخفيف العقاب عنه أو إعفائه منه أصالة.

فعِلم النفس في الواقع علمٌ جليل القدر، يحتاج إليه القاضي والمُحقِّق والمُحامي والطبيب والمُربِّي والمُعلِّم والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والموسيقي والمُصوِّر والشاعر والمُمثِّل والروائي والمُؤرِّخ والحفَّار والنقَّاش حتى التاجر والصانع، ويمكن إجمال مزاياه في أوجز عبارة بأنه «لغة العقول»؛ إذ به يمكنها أن تتخاطب وتتفاهم، وبه يمكننا أن ندرسها ونقرأ ما فيها، ونقف منها على دخائلها وما تُكنُّه من أسرار، ونُشخِّص أدواءها وما بها من عِلل أو شذوذ، ونضع لها العلاج الذي يُلائمها ويُساعد على شفائها وتقويمها.

١  ص٣٧٤، من الكتاب المذكور، مجلة الكتاب، ص١٤٠.
٢  مقال الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في الكتاب.
٣  الدكتور أحمد الأهواني.
٤  «علم النفس الفردي» الكتاب.
٥  والمراد بالحركات الخارجية والداخلية هنا هي حركات البسط والقبض.
٦  بصرف النظر عن كَوْن الحركات مصدرها الأعضاء الخارجية أو الأعضاء الباطنية (مقال الدكتور محمد فتحي بك في «مجلة القانون والاقتصاد»).
٧  وهي قطعة من مادةٍ زلالية تُعرَف بِاسم البروتوبالاسما — أي المادة الأولية — وبداخلها نواةٌ صغيرة، وهي ذات حركة زحفية تؤدِّيها بواسطة نُتؤات تبرُز من مادتها الزلالية المُحيطة بالنواة كالأطراف، وتُسمَّى بالأعضاء الكاذبة، ويُسمَّى هذا النوع من الحيوان حيوانًا أوليًّا، ويُسمَّى أحيانًا ذا الخلية الفردية؛ تمييزًا له عن الحيوانات المركَّبة من خلايا.
٨  مقال الدكتور محمد فتحي بك وتجربته.
٩  ممَّا هو جدير بالملاحظة أن لحالتَي السرور والحزن أثرهما في ضربات القلب على نقيض ما في التنفس.
١٠  مقال الدكتور المستشار محمد فتحي بك في مجلة «القانون والاقتصاد».
١١  ولو أن الجس عادة بالسبابة أو الوسطى؛ حتى لا أُوقظ الشبهة من نفسه، وألفت نظره إلى قصدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤