الأمراض الخُلقية والأمراض النفسية

تنزل بالمرء، إلى جانب الأمراض البدنية، اضطراباتٌ نفسية لا سبيل للإرادة أن تتحكَّم فيها. فهذا يُدمِن الخمر إدمانًا يؤثِر بغيره الموت على الحياة، وهذا يستسلم للانفعال والعنف وسرعة التهيج، وذاك مُستهتر أو يائس أو يُفكر في الانتحار، أو ينغمس في شهواته الجنسية. وكلٌّ من هؤلاء قد يُحاول أن ينتزع نفسه من سلطان هذه الآفات بلا جدوى، والناس ينحون عليهم باللائمة، ولكن العلم الحديث يحكم عليهم بالبراءة بدعوى أنهم — أسوةً بالمُصابين بأمراضٍ عصبية أو جنونية — غيرُ مسئولين عن أفعالهم، وأنهم كسائر المَرضى لهم على المجتمع حق للعلاج.

من الحِكم القديمة المأثورة أن الزمان — أو الحياة — إذا قلب للمرء ظهْرَ المِجن، ولم يجد المرء للتغلب عليه من سبيل؛ فإما أن يلجأ إلى السباب والشتائم، وإما أن يُصيبه وجع في الرأس، وإما أن يُكثر من الدعاء والصلاة، وإما أن يشرب الخمر حتى يسكر، وإلا فيُجنُّ أو ينتحر. وهذه الحكمة وإن كان ينقصها شيء من الدقة، فإنها حقيقةٌ علمية لا شك فيها. إن الحياة جهاد، والمرء في جهاده تعتريه عقبات تؤدِّي إلى اضطرابات، يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع، وهي:١
  • (١)

    أمراضٌ بدنية — أو عضوية كما يُسمُّونها — وأعراضها عادةً جسمانية، وأسبابها جسمانية، وإن تأتَّى عنها أحيانًا أعراضٌ نفسية.

  • (٢)

    اضطراباتٌ نفسية — أو أمراضٌ عصبية أو وظيفية كما يُسمُّونها — وأعراضها كذلك جسمانية أو نفسية، ولكن أسبابها غير جسمانية، ترجع إلى نزاع في العقل الباطن.

  • (٣)

    أمراض خلقية، وهي، كالاضطرابات العصبية أو الوظيفية، أسبابها غير جسمانية، وترجع إلى نزاع في العقل الباطن، أو رغباتٍ مكبوتة لا يشعر بها صاحبها، مثال ذلك: الشذوذ الجنسي، والاستسلام للغضب والعنف رغم أنف صاحبه، ونزوع أرستقراطية من أسرةٍ شريفة إلى نشل السلع كلما زارت محلًّا تجاريًّا.

  • (٤)

    الشرور أو الآثام، وهي كل ما يُخالف مبادئ السلوك والأخلاق، وتختلف عن الأمراض الخلقية في كَوْن مُرتكِبها يأتيها عمدًا ومن تلقاء ذاته، ولإرادته التحكم فيها، ويستطيع أن ينأى عنها إذا شاء.

وقد يصعب أحيانًا الفصل بين هذه الأنواع، على أنها — بوجهٍ عام — يتميَّز بعضها من بعض، ولكلٍّ منها علاجٌ خاص. ويمكن التمثيل على هذه الأنواع والتفريق بينها، إذا تأمَّلنا في بعض الغرائز الأصلية كالخوف والميل الجنسي والطموح، كما يأتي:

الخوف

  • (١)

    أُصيبَ جندي في ساحة القتال بشظية من قنبلة، فأحدثت تلفًا في المخ نتج عنه شلل في الساق، وجُنَّ في الوقت ذاته. هذا مرضٌ بدني أو عضوي، أعراضه جسمانية ونفسية معًا.

  • (٢)

    جندي لم يُصَب بشيء، ولكنه يخشى ذلك، فيحدث في عقله الباطن نزاع أو نضال بين الرغبة في الهرب والقيام بواجب التضحية والشهامة وحب الوطن، وبالرغم من أنه لم يُصَب بأذًى ينتج عن هذا النضال النفساني شلل في الساق كالحالة السابقة. هذا مرضٌ عصبي أو نفساني أو وظيفي كما يُسمُّونه؛ لأن الشلل لم يتسبَّب من أي خلل في الجسم.

  • (٣)

    جندي حدث له ما حدث في الحالة السالفة، إلا أنه لم يُصَب بشلل أو أي خلل في عضو من أعضائه، ولكنه أصبح رغم أنفه وعلى غير إرادته مُشاكسًا عنيفًا، مُحبًّا للخصام، كثير المُعاكسة لزملائه إلى أقصى حد، يأتي أعمالًا مُستهترة تُعرِّض الغير للخطر. هذه الحالة تدلُّ على اضطراب في السلوك، ومخالفة جريئة غير معقولة للنظام العسكري. الجندي هنا مُصاب بمرضٍ أخلاقي.

  • (٤)

    جنديٌّ آخر حدث له ما حدث في الحالة الثانية، إلا أنه لا يُصاب بالشلل، ولا بمرضٍ أخلاقي كما في الحالة الثالثة، وإنما يهرب من الجيش، ويُقال عنه إنه جبان. هذا مجرد شر أو إثم، ولا يُسمَّى مرضًا أخلاقيًّا كالحالة السالفة؛ لأن الهرب حدث عمدًا وعن سبق إصرار، وبإرادته لا رغم أنفه.

الميل الجنسي

  • (١)

    امرأة اندفعت في تيَّار ميولها الجنسية، فأُصيبت بالزهري — وهو مرضٌ عضوي أو جسماني في أصله وأعراضه — ولم تُعالَج علاجًا كافيًا، فكمن ميكروب الداء في مخِّها؛ ممَّا ختم حياتها بالجنون، وأعراض الجنون عقلية، وإن كان سببه في هذه الحالة مرضًا عُضويًّا، والأعراض العقلية والعضوية هنا تُعالَج كأنها عضوية فقط.

  • (٢)

    امرأةٌ سليمة الجسم والعقل، تزوَّجت من رجلٍ سليم الجسم والعقل، ولكنها كانت تتألَّم كلما اقترب منها زوجها، وبالرغم من أن الألم هنا كان عضويًّا — في عضو التناسل — فإن سببه كان عقليًّا أو عصبيًّا. وقد تبيَّن من التحليل النفساني أنها في طفولتها كان قد اعتدى على عفافها أثيم، وقد كان الحادث نسيًا منسيًّا، ولكن الزواج أخرجه من العقل الباطن وأودعه العقل الواعي. هذا مرضٌ عقليٌّ محض، أو عصبي أو وظيفي كما يُسمُّونه.

  • (٣)

    امرأة كالحالة السابقة، أي اعتُدي على عفافها في طفولتها، ورغم نسيانها الحادث فإنها أُصيبت في مرحلة المُراهقة بداءٍ لم تستطع التخلص منه رغم كل محاولة، وهو شذوذٌ جنسي عافت بسببه الرجال وأحبَّت النساء، وما لم تُعالَج قد تُفسد غيرها. وهذا، ولا مِراء، مرضٌ أخلاقي؛ لأنه خارج عن إرادتها.

  • (٤)

    امرأة كالحالة السابقة ضعيفة الشخصية، استسلمت عمدًا لشهواتها الجنسية، واندفعت فيها بإرادتها. هذه الحالة مجرد شر أو إثم، وليس مرضًا خُلقيًّا.

الطموح

  • (١)

    قد يدفع الطموح بصاحبه إلى المُجازفة والمُخاطرة، فيُصاب بالملاريا أو ذات الرئة أو مرض في القلب. هذا مرضٌ عضوي أو جسمانيٌّ محض.

  • (٢)

    قد يكون الطموح أساسًا لعقدةٍ نفسية، كالمُغالاة في تقدير الذات — أو مركب الكمال كما يُسمُّونه أحيانًا — ممَّا يؤدِّي بصاحبه إلى «النورستانيا» مثلًا، كما يحدث لرجال الأعمال ورجال الفن. هذا مرضٌ وظيفي أو عصبي.

  • (٣)

    في الحالة السابقة قد يكبت الرجل الطُّموح، فتبدو عليه ميول القسوة والعنف و«السادزم»؛ أي الميل لتعذيب الغير، ويُحاول أن يتخلَّص من هذه الميول بلا جدوى. هذا داءٌ أخلاقي.

  • (٤)

    في الحالة السابق قد لا يُصاب الرجل بشيء ممَّا سبق، ولكنه تحقيقًا لرغبته في بلوغ المنزلة السامية التي ينشُدها وتحقيقًا لمطامحه، يعمد إلى الاختلاس أو التزوير أو التدليس. هذا مجرد إثم أو شر، وليس مرضًا خلقيًّا؛ لأن صاحبه أراده وتعمَّده.

١  الهلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤