المذهبان القديم والجديد

كتب أحد الكتاب فصلًا في مجلة الهلال الغراء نحلنا فيه زعامة المذهب القديم وسمى جديدًا وسمى قديمًا واحتج ونازع «فرددنا عليه بهذا الفصل.»

زعم الكاتب فيما كتب أن ما نقول به، من احتذاء العرب في أساليبهم والارتياضِ بكلامهم، والحرص على لغتهم، وأن يكون الكاتب في هذه اللغة حَسن البيان رشيق المعرض رائع الخلابة يثبت في ألفاظه وينظر في أعطاف كلامه ويفتنُّ في أساليبه، كل هذا وما إليه «مذهب قديم» و«وطنية أدبية» ترجع العلة فيها إلى ذلك العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي، ثم قال: «وإن أهل المذهب القديم يهملون العلم؛ لأن العلوم تتعارض ومعتقدات العرب»، وظاهر أنه يعني بالعرب المسلمين لا غيرهم، فإن الجاهلية أصبحت من أكاذيب التاريخ وبَلِيَتْ معتقداتها بلًى أدخلها في قبور أهلها.

فالمذهب القديم إذن هو أن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها، وأن تكون هذه الأسفار القديمة التي تحويها لا تزال حية تنزل من كل زمن منزلة أمة من العرب الفصحاء، وأن يكون الدين العربي لا يزال هو هو كأنما نزل به الوحي أمس لا يَفْتننا فيه علم ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين؛ إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء لا منفعة فيهما معًا إلا بقيامهما معًا.

ولكن ما هو المذهب الجديد؟ أنأخذ بالمقابلة فنقول: إذا كان الأبيض هو القديم فالأسود هو الجديد، وإذا كانت الفصاحة، وإذا كان الحرص على ميراث التاريخ، وإذا كان القانون الطبيعي للفضيلة الاجتماعية، وإذا كنا نولد بجلود كجلود آبائنا؛ فالركاكة، وإهمال القومية التاريخية، والتحلل من قيود الواجبات، والانسلاخ من الجلد؛ لأنها ليست أوربية، كل هذا جديد؛ لأن كل ذلك قديم؟! أم هناك حقيقة ثابتة محدودة خفيتْ على عِظمها وخطرها في هذه اللغة خفاء أمريكا في هول المحيط، حتى بعث الله لها في أيامنا هذه من يرميها ببصره فكشفها وسماها، وكان منها المذهب الجديد وكانت هي إياه؟

لو تأمل أصحابنا تاريخ هذه اللغة وآدابها لرأوا في كل عصر من عصورها شيئًا كان يمكن أن يسمى مذهبًا جديدًا، ولكنا لم نجد أحدًا سماه كذلك ولا بناه على أنه شيء بنفسه إلا في هذه الأيام الأخيرة، ثم لم نجده إلا في هؤلاء الذين غلبت عليهم صناعة الترجمة، ورجعوا من العربية إلى طبع ضعيف ومادة واهنة، فورد عليهم من الصناعة ما لا تقوم به أداتهم وسال بهم الوادي عجزًا، فلم يكن بُدٌّ من أن تُدخِل اللغات الأعجمية الضيمَ على عربيتهم، وصار أكثرهم بِلغتيه كالميزان ثقلت كِفة منه فرجحت وخفت الأخرى فظهرت فارغة، ولو هو وضع في هذه وزن ما في تلك وكافأ بينهما لانقلب الأمر وكانتا على سواء فلا واف ولا ناقص.

العلة في الحقيقة لا ترجع إلى مذهب قديم أو جديد، بل إلى الضعف في لغة والقوة في أخرى، وأن صاحب المذهب الجديد، أخذ بالحزم في واحدة وبالتضييع في الثانية، وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر، فتعلق به وأمضى أمره عليه، وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من العصبية للأدب الأجنبي وأهله، فلما ضربتْ هذه العصبية واستحكمت وجَّهت الذوق في الأدب وأساليبه إلى تفسير معين بحكم المذهب والهوى ثم جعلت الفهم من وراء الذوق.

وأنت تعلم أنَّ الذوق الأدبي في شيء إنما هو من فهمه، وأنَّ الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأنَّ النقد إنما هو الذوق والفهم جميعًا، ومن هاهنا جاء ذلك الخطأ الذي يحسبونه صوابًا، على أنك واجد في القوم من لا تتهم فهمه ولكنك لا تبرِّي إنصافه، ومن لا تتهم فيه هذا ولا ذاك ولكنه مع ذلك يجيء فهمه خطأ؛ لأنه لا يريد أن يجيء إلا هكذا، لمكان العصبية من نفسه لرأي على رأي، أو شخص على شخص، أو دين على دين، مما لا يكون الشأن فيه إلا للحس الباطن.

وقد قال علماء الأدب: إنه لما اتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر ونزعت البوادي إلى القرى وفشا التأدب والظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة فاختاروا أحسنها مسمعًا وألطفها من القلب موقعًا، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلمها وأشرفها، كما رأيتهم يختصرون «الطويل» فإنهم وجدوا للعرب فيه نحوًا من ستين لفظة أكثرها بشع شنع، فنبذوا جميع ذلك وتركوه واكتفوا بالطويل؛ لخفته على اللسان، وقع هذا ومثله في عصر بعد عصر، وما رأينا أحدًا سماه مذهبًا جديدًا أو زعمه، والقرآن نفسه مذهب جديد بكل معاني هذه الكلمة، وما قال فيه أحد هذا القول لا من أهل اللغة ولا ممن دخلوا عليها؛ وقد نقل عبد الحميد الكاتب أشياء من الأساليب الفارسية فأدخلها في كتابته، وترجم العلماء عن اللغات المختلفة أكثر مما يترجم كتَّاب هذه الأيام، ومنهم من كان يرجع في التصحيح وتحرير الألفاظ إلى رجال أهدفوهم لذلك من العلماء باللغة، وظهرت الأفكار المتباينة، وتعدَّدت الأساليب في الكتابة، وافتنَّ المتأخرون من القرن الرابع إلى التاسع في فنون من الجد والهزل، وفي نكت بديعية لم يعرفها العرب إلى أن اختلط لسانهم، وفي كل ذلك لم يقل أديب ولا عالم ولا كاتب إن له مذهبًا جديدًا من مذهب قديم؛ لأنهم كانوا أبصر باللغة وأقدر على تصريفها وأعلم بحكمة الوضع فيها وأحرص على وجوه الفائدة منها والانتفاع بها، ثم كانت أسباب اللغة ميسرة لهم، ينشأ الناشئ منهم على حفظ ورواية، ويتلقى عن أشياخ ثقات قد أخلصوا نيتهم للعلم وناصَحوا عن أنفسهم فيه وجمعوا واستوعبوا وكأنما عُصرت أرواحهم من الفنون عصرًا، وكأن في الواحد منهم روح مكتبة كبرى.

فلما تعطل الزمن وأصبح الأدب صَحفيًّا، وآلت العربية وآدابها إلى بضعة كتب مدرسية، وانزوى ذلك العلم المستطيل١ وأصبحت المكاتب له كالقبور المملوءة بالتوابيت، وفشت العصبية بيننا للأجنبي وحضارته، رجع الأمر على مقدار ذلك في صغر الشأن وضعف المنزلة، واحتاج أهل هذا القليل من العربية إلى أن يعتبروه كلًّا بنفسه لا جزءًا من كله، فكان لذلك مذهبًا وكان مذهبًا جديدًا.
وإذا أنت لم تجد في كل العلماء المتقدمين من استطاع أن يقول: إنه صاحب مذهب جديد في اللغة أو يرى لنفسه رأيًا إلا أنه يعمل لحفظها ونمائها ورونقها، وإلا أنهُ يُرقق ما استطاع ويتصرف بما أطاق؛ فإنك واجد في أهل سنة ١٩٢٣٢ ومن يقول في هذه اللغة بعينها: لك مذهبك ولي مذهبي، ولك لغتك ولي لغتي. فمتى كنت يا فتى صاحب اللغة وواضعها ومنزِّل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومطلق شواذها؟ ومن سلَّم لك بهذا حتى يسلم لك حق التصرف «كما يتصرف المالك في ملكه»، وحتى يكون لك من هذا حق الإيجاد، ومن الإيجاد ما تسميه أنت مذهبك ولغتك؟ إنه لأهون عليك أن تولد ولادة جديدة فيكون لك عمر جديد تبتدئ فيه الأدب على حقه من قوة التحصيل وتستأنف دراسة اللغة بما يجعلك شيئًا فيها، من أن تلد مذهبًا جديرًا أو تبتدع لغة تسميها لغتك، فإنك عُمر واحد في عصر واحد بين ملايين من الأعمار في عصور متطاولة، وإن ما تحدثه على خطأ لا يبقى على أنه صواب، ولن يبقى أبدًا إلا كما تبقى العلة على أنها علة، فلا يقاس عليها أمر الصحيح، ولا يحكم بها فيمن لم يعتل.
إن أرادوا بالمذهب الجديد العلم والتحقيق وتمحيص الرأي والإبداع في المعنى، على أن تبقى اللغة قائمة على أصولها، على أن يكون التفنن «طرائق» كما قيل مثلًا في ابتداع القاضي الفاضل الذي سموه الطريقة الفاضلية، لا مذاهب يراد بها إثبات ومحو، فإننا لا ندفع شيئًا من هذا ولا ننازِع فيه، بل هو رأينا، بل هو رأي الحياة، بل هو قانون الطبيعة، ولكنا مع هذا نزيد عليه أن الأصل في كل ذلك سلامة اللغة وسلامة القومية، فلا ننظر في آراء الأمم إلا على أننا شرقيون، ولا ننقل من لغات الإفرنج إلا على أننا أهل لغة لها خصائصها، ولا تصرفنا مدنيتهم عن أنفسنا، ولا نأتي بسيوفهم لرقابنا، وبنزغاتهم بقلوبنا، وكوكايينهم لأنوفنا، بل نوُثر الفضيلة على الرأي وإن كان من رأس المجنون «نيتشه»٣ ونرغب في المصلحة الجافية الخشنة على المفسدة اللينة الناعمة وإن كانت نعومة الأنوثة الباريسية.

وانظر كم بين من يسلم لفلان وغيره من علماء أوربا؛ لأنهم من علماء أوربا، وبين من لا يسلم إلا عن اقتناع وعن بينة من المصلحة والعائدة وبعد أن تبلغ الحجة مبلغها! فهذا فلان كاتب شرقي ينزع إلى الاشتراكية ويدين بها ويراها مائدة الخالق التي مُدت في أرضه للناس جميعًا، وينعي علينا أننا نتجاهلها كأننا لم نُلِم بها، على أننا نراها تلك المائدة بعينها غير أننا نزيد عليه أنها ممدودة للناس جميعًا؛ ليتدافع عنها الناس جميعًا فلا يصل إليها أحد، ونفضل على كل هذه المائدة الخيالية بما حفلت به من لذائذها وألوانها، تلك اللقيمات التي يفرضها نظام الزكاة في الإسلام فرضًا لا يتم الإسلام لأحد إلا به، وعلى هذا فاعتبر.

ولا يفوتنَّ صاحبنا أن كثرة الآراء في هذا العصر وكثرة العقول المفكرة والاستقلال الفكري التام، بلا قيد ولا شرط، ثم الرغبة في أن يكون لكل عقل أثر في الاجتماع، ولكل أثر دليل عليه، ولكل دليل أتباع، كل ذلك سينتهي إلى أن تكون علة الاجتماع الإنساني لا بُرءَ منها إلا بالقيود الإلهية التي تسمى «الأديان» وها نحن أولاء نرى في أوربا وأمريكا أنَّ من الغفلة ما هو مذهب، ومن الرقاعة مذهب، ومن تَسَفُّل الشهوات مذهب، ومن الجنون مذهب، ومن كل شذوذ مذهب ومن غير المذهب مذهب أيضًا.

تلك واحدة، والثانية: أنهم إن أرادوا «بالمذهب الجديد» أن يكتب الكاتب في العربية منصرفًا إلى المعنى والغرض، تاركًا اللغة وشأنها، متعسفًا فيها، آخذًا ما يتفق كما يتفق، وما يجري على قلمه كما يجري، معتبرًا ذلك اعتبار من يرى أن مخه بلا غلاف من عظام رأسه، وأن عظام رأسه كعظام رجليه، وأن أصابع قدميه كأهداب عينيه، وأن مطلق التركيب هو مطلق النظام والمناسبة، وأن اللغة أداة ولا بأس بالأداة ما اتفق منها، ولا بأس أن يمزع الجراح مزعًا من جلد العليل بأسنانه أو بأظافره أو بنصل الفأس، ما دامت مُعقمة، وما دام ذلك بعينه هو فعل المِبضَع لا يزيد المبضع عليه إلا في الدقة، إن أرادوا بهذا أو أشباهه ما يسمونه المذهب الأدبي الجديد، قلنا: لا، ثم لا، ثم لا، ثلاث مرات!

فأما الأولى فإن خيرًا من ترك الجاهل في جهله أن يُزجَر عن جهله، وإذا كان مذهب الضعف أن لا يحمل عليه إلا بقدره وفي طاقته، فهل يجعل ذلك أصلًا للقوة؟ والضعف إن هو إلا استثناء منها، وقاعدة الاستثناء أن يُقيَّد بنصه ولا يُتوسَّعَ فيه.

ثم أيُّما خير لآدابنا وعلومنا وكتبنا: أن نحرص على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا، ونحتمل فيه ضعف الضعفاء، ونصبر على مدافعتهم عن إفساده، حتى ينشأ جيل أقوى من جيل وتخرج أمة خير من أمة، فتجد الأصل سليمًا فتبني عليه وتزيد فيه، أم ندع الصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى تحول ضعفًا، فإذا جاء مَن بعدنا وجد الأصل فاسدًا فزاده فسادًا، ويعود «مذهبنا الجديد» بعد حين من الدهر مذهبًا قديمًا فيُستحدَث منه جديد على نمط آخر، ثم يتقادم هذا أيضًا على السنة نفسها، وهلمَّ إلى أن تصير هذه العربية في بعض أزمانها لعنة على كل أزمانها، فُتنسخ جملة واحدة، ويصبح الكلام المأنوس الذي تراه اليوم سهلًا لينًا وهو الجاسي الجِلْف الغليظ الذي يحسن ترجمته يومئذ إلى عالم بصير بما كان يُسمَّى من قبل فعلًا واسمًا وحرفًا، وإلا فليقل لنا أصحاب المذهب الجديد: ما هو حد التجديد عندهم؟ ولِمَ يقصرونه على حد معين؟ بل كيف يقصرونه وفي الناس من هو أضعف من ضعيفهم، فوجب أن يكون له جديد من جديدهم على مقدار ضعفه، ما دام شكل القياس واحدًا والقضية فيه واحدة والعلة لا تختلف!

وأما الثانية فإن هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا من لا حفل به من زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق، فإذا كان الُمعْجز في لغة من اللغات بإجماع علمائها وأدبائها هو من قديمها خاصة، فهل يكون الجديد فيها كمالًا يسمو أم نقصًا يتدلَّى؟

ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة، ولا يدنو الفهم منها إلا بالِمران والمزاولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء عليها وإحكام اللغة والبصر بدقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق فيها، وكل هذا مما يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها ضربًا من الفساد والجهل، فلا تزال اللغة كلها مذهبًا قديمًا، وإنما يكون المذهب الجديد فيها رجلًا إلى حين، ثم يدخل مذهبه القبر.

وما عسى أن يصنع كاتب وعشرة ومائة وألف في لغة يَخفُق على كِتابها المعجز أربعمائة مليون قلب؟ وكم من أسلوب ركيك أو ضعيف أو عامي ظهر في هذه اللغة منذ دونوا وكتبوا، وكم من فكر فاسد أو زائغ أو مدخول، وكم من كتاب كان يصلح أن يسمى بلغة اليوم مذهبًا جديدًا، فأين كل ذلك وأين أثره في اللغة وأساليبها بعد ثلاثة عشر قرنًا؟ لقد ابتلعته ثلاث عشرة موجة فانحدر إلى أعماق الموت الطامي!

على أني رأيت لأصحاب «المذهب الجديد» أصلًا في تاريخ الأدب العربي، وكانت جذوره ممن انتحلوا الإسلام وهم يدينون بغيره، وممن كانوا يدينون به وتزندقوا فيه، حتى قال الجاحظ في بعض رسائله، يعني هؤلاء وأولئك: «فكل سخنة عين رأيناها في أحداثنا وأغبيائنا (تَأَمَّلْ) فمن قِبَلهم كان أولها.» ورحم الله أبا عثمان إن التاريخ ليعيد نفسه اليوم «بسخنة عين جديدة.»٤

وأما الثالثة فإن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تركيب ألفاظها، كما أن الهزة والطرب ليست في النغمات، ولكن في وجوه تأليفها، وهذا هو الفن كل الفن في الأسلوب؛ لأنه يرجع إلى الذوق الموسيقي في حروف هذه اللغة وأجراس حروفها، وأشهد: ما رأيت قطُّ كاتبًا واحدًا من أهل «المذهب الجديد» يحسن شيئًا من هذا الأمر، ولو هو أحسنه لانكشف له من إحسانه ما لا يبقي عنده شكًّا في إبطال هذا المذهب وَتَوْهِيَتِه، ولذا تراهم يعتلون لمذهبهم الجديد بالفن والمنطق والفكر وبكل شيء إلا الفصاحة، وإذا فَصُحُوا جاءوا بالكلام الفج الثقيل، والمجازات المستوخمة، والاستعارات الباردة؛ والتشبيهات المجنونة، والعبارات الطويلة المضربة التي تقع من النفس كما تقع الكرة المنفوخة من الأرض لا تزال تنبو عن موضع إلى موضع حتى تهمد!

ولا نريد أن نطيل في هذا الوجه؛ فقد استوفينا أكثر الكلام عليه في الجزء الثاني من «تاريخ آداب العرب»، وإنما نقول: إن الكلام الوحشي الغريب ينقسم إلى قسمين: ما كان خشنًا مستغربًا لا يعلمه إلا باحث مطلع، وما كان مأنوسًا واقعًا في غير موقعه، كما ترى في أساليب بعض كتاب هذه الأيام التي تنفجر بما لا يطاق على رقتها، وتهب عليك هبوب النسيم، ولكنه بين موضع وموضع لا بد أن يكنس الأرض!

فالقسم الأول نافر بنفسه، فهو وحشي على حالة واحدة لا تختلف، والثاني نافر بموضعه، فهو وحشي يعلو ويَسْفُل على مقدار اضطرابه، ثم هي وحشية المذهب الجديد اختص بها ولا يكادون يتنبهون إليها.

هذه كلمة لم نعرض في إجمالها للتفاصيل، وإنما حَدَرناها حدْرًا، وإذا أنت أردت تشبيهًا في مخاصمة المذهب الجديد للقديم وما يتوهمه هذا الجديد وما ينتهي إليه أمره، قلنا لك: التمس رجلًا يرى ظل رأسه على حائط فيضربه برأسه الذي على عنقه!

ولكن اعلم أنَّا وإياك إلا نُحَذِّرْه ونمنعه فقد جنينا عليه وإن لم نمسَّه بأذى، وإن كان هو برأسه فَلقَ رأسه.

١  كانوا يسمون الرواية: العلم المستطيل. وكانت الرواية عند العلماء سرًّا من أسرار النشأة الفصيحة، وبها نهض الأدب قديمًا كما فصلناه في الجزء الأول من: «تاريخ آداب العرب».
٢  تاريخ كتابة هذا الفصل.
٣  هو فيلسوف ألماني تركته الإنسانية مجنونًا فأراد أن يتركها مجنونة.
٤  سترى تفصيلًا لذلك في مقالات الأدب العربي في الجامعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤