الجملة القرآنية١

نبهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام على «رسائل الأحزان»٢ بقول جاء في بعض معانيه أني لو تركتُ «الجملة القرآنية» والحديث الشريف ونزعتُ إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليَّ ولملأت الدهر ثم لحطمتُ في أهل المذهب الجديد حطمة لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهبًا وحدي!

ولقد وقفت طويلًا عند قولها: «الجملة القرآنية»، فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل، حتى لكأنها «المكرسكوب» وما يجهر به من الجراثيم مما يكون خفيًّا فيُستعْلن، ودقيقًا فيُستعظم، وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تُعرف العلل الكبرى إلا به.

وإذا أنا تركت الجملة القرآنية وعربيتها وفصاحتها وسموَّها وقيامها في تربية الملكة وإرهاف المنطق وصقل الذوق مقام نشأة خالصة في أفصح قبائل العرب، وردَّها تاريخنا القديم إلينا حتى كأننا فيه، وصلتنا به حتى كأنه فينا، وحفظها لنا منطق رسول الله ومنطق الفصحاء من قومه حتى لكأن ألسنتهم — عند التلاوة — هي تدور في أفواهنا وسلائقهم هي تقيمنا على أوزانها، إذا أنا فعلتُ ذلك ورضيته، أَفَتُراني أتبع أسلوب الترجمة في الجملة الإنجيلية، وأُسِفُّ إلى هذه الرطانة الأعجمية المعربة، وأرتضخ تلك اللكنة المعوجَّة، وأعين بنفسي على لغتي وقوميتي، وأكتب كتابة تميت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة، فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سُنَّتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشياء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها؟

كنت أعرف أن صاحبنا الكاتب البليغ المدقق الشيخ إبراهيم اليازجي لما أرادوه على تصحيح ترجمة الأناجيل رغب إليهم أن يصرِّف قلمه في الترجمة فينزلها منزلتها من اللسان ويتخير ألفاظها ويزيل عجمتهما ويخلصها من فساد التركيب وسوء التأليف ويفرغ عليها جزالة ويجعل لها حلاوة، فأبوا عليه كل ذلك ومنعوه منه وأقاموه فيها بمنزلة من يُعْرِب آخر الكلمة فعليه أن يترك الكلمة إلا آخرها.

كنت أعرف ذلك وما فطنت يومًا إلى سببه حتى كانت قولة: «الجملة القرآنية» كالمنبهة عليه، فرأيت القوم قد أثمرت شجرتهم ثمرها المرَّ وخَلَف من بعدهم خَلْف أضاعوا العربية بعربيتهم وأفسدوا اللغة بلغتهم ودفعوا الأقلام في أسلوب ما أدري أهو عبراني إلى العربية أم عربي إلى العبرانية لا يعرفون غيره ولا يطيقون سواه، وترى أحدهم يهوي باللغة إلى الأرض وإنه عند نفسه لطائر بها في طيارة من طراز زبلن!

وليتهم اقتصروا على هذا في أنفسهم وأنصفوا منها، بل هم يدْعون إلى مذهبهم ذلك، ويعتدونه المذهب لا معْدل عنه، ويسمونه الجديد لا رغبة عن دونه، ويعتبرونه الصحيح لا يصح إلا هو، وكلهم يعلم أنه ليس بصاحب لغة ولا هو مَعنيٌّ بها ولا كان ممن يتسمون بعلومها؛ ثم ينقلهم هذا العبث إلى آراء كآراء الصغار في الأمور الكبيرة فيحاولون أن يختلقوا في اللغة فطرة جديدة غير تلك الأولى التي وضعت عليها جبلتها واستقام بها أمرها وتحقق إعجاز الفصاحة العربية بخصائصها.

ومرجع هذا البلاء كله أن عربية الجملة الإنجيلية تغزو عربية الجملة القرآنية من حيث يدري أولئك أو لا يدرون، فما أشبه هذه الأساليب الركيكة في مَقرها من الآداب العربية بالمرض الموروث الكامن في الجسم الصحيح؛ يتربص غفلة أو علة أو تهاونًا فيظهر فإذا هو مشغلة للصحة، ثم يستشري فإذا هو مَفسدة لها، ثم يضرب فيتمكن فإذا هو مزاج جديد، ثم إذا هو الموت بعدُ!

على أني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحدًا من ثلاثة: مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها؛ لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمة به ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعوج اللسان بها، وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف؛ فإنه ليس كل كاتب يبلغ، ولا كل من ارتهن نفسه بصناعة نبغ فيها وإن هو نُسب إليها، وإن عُدَّ في طبقة من أهلها، والكتابة صناعة لها أدواتها، وفيها النمط الأعلى والأوسط وما دون ذلك.

أفمن الرأي أن نعين المستعمرين على خصائصنا ومقوماتنا، أو نتخذ في اللغة أديانًا شتى، أو نجعل قياس العلم من الجهل في بعضه والضعف عن بعضه؟ وإلا فماذا بقي بعد هذه الثلاثة مما ينفسح له جانب العذر إن نحن قلنا بمذهب جديد في اللغة؟

أحَسِبَ إخواننا في مصر أنهم كانوا يحسنون اليوم شيئًا من الكتابة الفصيحة لو لم يكن في العصر الذي خلا من قبلهم أمثالُ السيد جمال الدين ومحمد عبده وعلى يوسف والبارودي والمويلحي وغيرهم ممن دفعوا الاستعمار عن اللغة ببلاغتهم، وردُّوا أساليب السياسة اللغوية بأساليب الفصاحة، وأشرعوا دون الميراث العربي أقلامهم، وحاطوه بألسنتهم، وحفظوه بعقائدهم، حتى أمنوا عليه أن ينتقص أو يمحق أو يزول؟!

ألا فليقرءوا هذه البلاغة الجديدة، التي أنقلها بحروفها عن صحيفة عربية إسلامية تصدر في طنجة، وليأملوا أكان فيهم من يكتب اليوم أبلغ منها بعد أربعين سنة ونيِّف من الاحتلال الإنجليزي والاحتلال الآخر الأوربي في زيغ الطباع وفسادها، لولا تلك النفوس الشرقية العربية الكبيرة التي كانت في هذا السبيل كنفوس الأنبياء قائمة على أنها حمى للحق وشعار فيه ودعوة إليه وجهاد من دونه؟

قالت الصحيفة وهي تبحث في تاريخ الحج وتكتب كلامًا لم يبقَ منه معنى ولا لفظ ولا صيغة إلا وردت في الكتب المختلفة بأفصح عبارة وأبلغ أسلوب، بل هو من بعض دين ذلك الكاتب، واقرأ ماذا قالت:

زيارة الكعبة المعظمة فريضة على كل مسلم ومسلمة، لو عندهم استطاعة صحية ومالية؛ ومن مناسك الحج، سبع مرات طواف حول الكعبة كل عام، في المحل المذكور يجتمع ٢٠٠٠٠٠ من المؤمنين والمؤمنات هم الحجاج الكرام، ولابسين كلهم كسوة بيضاء، وسامعين الخطبة لمفتي الأنام في جبل عرفات، لبيك اللهم لبيك، الكعبة مبنية من طرف إبراهيم خليل الله، ولكن بمرور الدهر والأزمان وبتأثير سيلان وأمطار قد خربت مرارًا ولكن تصلحت من موادِّها القديمة وأحجارها الابتدائية، وحجر الأسود موضوعة بمحلها بيد المبارك المحمدية .

نظرًا للتواريخ القديمة إن ماء زمزم خرجت من ضربة قدم سيدنا إسماعيل ومن المعاني والمعالي … زيارة بيت الله المقدس أهم المادة وهي اجتماع مسلمين العالم في كل سنة في الأرضي المقدسة الحجازية بتأييد الولاء والمخالصة بين عالم الإسلامي.

انتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله!

وأما بعد: فهذه الألفاظ التي نقلناها إنما تنزل من أصولها الجزلة الفصيحة منزلة أولئك الكتاب المفتونين من أصولهم في البلاغة والرأي والتدقيق، فلو خُلق اللفظ من هذه الجملة إنسانًا لكان واحدًا منهم، ولو مُسخ الواحد منهم لفظًا لكان كلمة منها، أفيُقبل منا بعد ذلك أن نغفل عنهم أو نتسامح في أمرهم أو نترخص معهم في أسلوب أو قاعدة أو كلمة؟

ألا إن الأوزان إنما هي بمقاديرها في الميزان وفاءً ونقصًا، لا بمقاديرها في أنفسها زعْمًا ودعوى، فلا تزعمنَّ لي أنك أنت من أنت وأن لغتك هي ما هي وأن الرأي ما ترى والكتابة ما تكتب، بل هلمَّ إلى ميزانك من علماء الكلام إلى ميزان لغتك من اللغة وإلى رأيك من الحقيقة وإلى كتابتك من الكتابة؛ وأنت بعدُ وقبل أيضًا لا تستطيع أن تهجم على علم من العلوم فتقول فيه قولًا إلا على قياس من العلم نفسه ترد إليه قولك وتقيم به حجتك ثم لا يقبل قولك مع هذا ولا يُعد قولًا حتى تكون من أهل هذا العلم وممن لابَسُوه وقَتلوا مسائله درسًا وبحثًا، وأنت كذلك إذا عرضت لك مسألة في فن من الفنون رجعت إلى كتبها وإلى أهلها ففتشت أقوالهم قبل أن تقول شيئًا، وعرفت حكمهم قبل أن تحكم بشيء؛ واتقيت الخطأ بصوابهم، وتحاميت التقصير باجتهادهم؛ ثم ما هو إلا أن تنزل على رأيهم في العلم والفن، لا تحاول مكرًا ولا تتكل على خداع من الرأي ولا تتعلل بعذر من العذر، فليت شعري لِمَ يكون ذلك منك في علم وفي كل علم وفي كل فن ولا يكون كذلك في اللغة وأصولها والكتابة وأساليبها والبلاغة ومذاهبها؟

ثم ما هي اللغة؟ أفرأيت قط شعبًا من الدفاتر قامت عليه حكومة من المجلدات وتملك فيها ملك من المعجمات الضخمة، أم اللغة هي أنت وأنا ونحن وهو وهي وهم وهن، فإذا أهملناها ولم نأخذها على حقها ولم نحسن القيام عليها وجئت أنت تقول: هذا الأسلوب لا أسيغه فما هو من اللغة، ويقول غيرك: وهذا لا أطيقه فما هو منها، وتقول الأخرى: وأنا امرأة أكتب كتابة أنثى، وانسحبنا على هذا نقول بالرأي ونستريح إلى العجز ونحتج بالضعف ويتخذ كل منا ضعفه أو هواه مقياسًا يحدبه علم اللغة في أصله وفرعه، فما عسى أن تكون لغتنا هذه بعدُ، وما عسى أن يبقى منها وأين تكون نهايتها؟ ثم أي علم من العلوم يصلح على مثل هذا أو يستقيم عليه؟ وفيم تكون المجاذبة والمدافعة، وبمَ يقوم المراء والجدل إذا اتفقنا على أن بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم؟

إن هذه العربية بُنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدًا عليها فلا تهرم ولا تموت؛ لأنها أعدت من الأزل فَلكًا دائِرًا للنيِّرين الأرضيِّين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر؛ لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع.

وأنا أتحدَّى كل أصحابنا الذين أشرت إليهم أن يأتوني بكاتب واحد تنقَّل في منازل البلاغة وأطلق أساليب الكتابة العالية، ثم نزل عنها إلى الركاكة أو المذهب الجديد أو ما شئت من الأسماء ولزمها مذهبًا وجعلها طريقة؛ وهذا التاريخ بين أيديهم، وبعضهم بين أيدي بعض؛ فليأتوني بمثل واحدا أسلِّمْ لهم كل ما في يديَّ من الأدلة على سخفهم وأجعل واحدهم هذا بألف من عندي!

فأما أن لا تدري يا أبا خالد وتزعم العلم، وأن تعجز ثم تجنح إلى الرأي، وأن تضعف ثم تتمدح بالسلامة؛ فهذه أساليب ابتدعها من قبلك من أذكياء الثعالب، وزعموا أنه اقتصر على القول بأن العنقود حامض٣ وأراه ما اقتصر على ذلك إلا لأن زمنه كان أحسن من زمننا وأسلم وأقرب إلى الصدق، فلو هو كان من ثعالبنا، لزعم أنه ابتاع زجاجة من الخل وصبها بيده في حبات العنقود الحلو وبذا صار إلى الحموضة ولهذا تركه!

وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه، وهو لو أثنى عليه لطولب به، ولو طولب به لبان عجزه وقصوره، ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟

لقد سألت بعضهم: ما هو هذا الجديد الذي تحامون عنه؟ قال: هو ما يكتب به في الصحف. قلت: فإن فيما يكتب الضعيف والساقط والمرذول، ثم ما هو إلى الجزالة والفصاحة، ثم ما يلتحق بجيد الكلام، فأي هذه تريد؟ وأيها ليس قياسًا من أصله العربي المعروف، أفتجعلون النقص مذهبًا من كماله، ثم لا تكتفون بخطأ واحد وتدَّعون أن الكمال في نفسه يجب أن يعد مذهبًا من النقص؟ أم الجديد هو ما يكتب به في الصحف تعني لأنك أنت تكتب في الصحف؟

أمَا إننا لا ندفع أسلوبهم، فهو على كل حال خير من العامية، ولسنا نقول: إن كل الناس يجب أن يخاطبوا في كل أمور دنياهم من فوق المآذن؛ ولكن الخلاف بيننا وبين هؤلاء جميعًا ينحصر في أمر واحد وهو تفسير لكل فروعه؛ وذلك أن هؤلاء الكتاب لا يريدون أبدًا أن تسمى الغلطة باسمها، فإذا أخطئوا فلا تقولن: أخطئوا، ولكن قل: إنه صواب جديد.

١  نشرت في مجلة الزهراء.
٢  كتاب وضعناه في فلسفة الجمال والحب، ثم وضعنا له «السحاب الأحمر» تكملة؛ فهما كالكتاب الواحد.
٣  هذا مثل مشهور؛ زعموا أن ثعلبًا وقف على دالية من العنب فأبصر عنقودًا يتميز ماءً وحلاوة، فواثبه مرارًا فلم يصل إليه؛ إذ كان عاليًا، فلما أعجزه قال: هذا عنقود حامض لا يؤكل! وانصرف وهو يرى أن العنقود لم يعجزه، ولكنه هو تركه لعلة الحموضة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤