تمصير اللغة١

نريد بهذا التمصير ما ذهبت إليه أوهام قوم فضلاء، يرون أن تكون هذه اللغة التي استُحْفِظوا عليها مصرية بعد أن كانت مُضرية، وأن تطرد لهم مع النيل بعدد الترع وعداد القرى حتى ترسل الكلمة من الكلام فلا يجهلها في مصر جاهل، ويصدر الكتاب من الكتب فيجري في إفهام القوم على طريقة واحدة ويأخذ منهم مأخذًا معروفًا غير متباين بعضه من بعضه، ولا ملتوٍ على فئة دون فئة، ومن ثم يزين لهم الرأي أنه لا يبقى في هذا الجم الغفير من علمائنا وكتابنا وأدبائنا من لا يعرف أين يضع يده من ألفاظ اللغة ومستحدثاتها إذا هو كتب أو مصَّر عن لغة أجنبية — ولا نقول عرَّب، فإن هذا بالطبع غير ما نحن فيه — بل يأخذ من تحت كل لسان، ويلقف عن كل شفة، ولا يبعد في التناول إلى مضطرب واسع، ولا يمضي حيث يمضي إلا مُخِفًّا من هذه القواعد وتلك الضوابط العربية؛ إذ تتهادن يومئذ العدوتان: هذه العامية وهذه الفصحى، وتصلحان بينهما أن لا ترفع إحداهما في وجه الأخرى قلمًا ولا لسانًا، وعلى أن تبيح كلتاهما للثانية حرية الانتفاع بما يشبه حرية التجارة إلا في «المواد» السامة التي يعبر عنها دهاة السياسة اللغوية بالألفاظ العلمية المبتذلة والألفاظ العربية الغريبة، ثم على أن لا تحفل إحداهما ما تركت الأخرى مما سوى ذلك، فتستمر العامية على ما هي وتذهب الفصحى على وجهها.

يقولون: إن هذه هي شروط الصلح بين اللغتين، أو هي المعاني التي ترجع إليها وتترادف بها متى أرادوا أن يبسطوا من هذه الشروط ويخرجوا بها إلى التعدد والكثرة، وإنما تلك آراء كان يتعلق عليها بعض فتياننا إفراطًا في الحمية ومبالغة في الحفيظة لمصر وأملًا مما يكبر في صدورهم، على ما ترى من تهافتها وضعف تصريفها واضطراب أولها وآخرها؛ لأنهم لا يُثبتون النظر فيها ولا يحققون خطوة ما بين الإرادة والقدرة، وفَوْت ما بين الأمل والعمل، ثم لا يعرفونها إلا أحلامًا قريبة الأناة ساكنة الطائر، فكان ذلك عذر العقلاء إذا مروا بها لمامًا، وتروَّحوا بالإعراض عنها سلامًا، حتى تناولها الأستاذ مدير «الجريدة»٢ فحذفها وسوَّاها وأخرج منها طائفة من الرأي تصلح أن تسمى عند المعارضة رأيًا! فقال بالإصلاح بين العامية والفصحى على طريقة تجعل هذه تغتمر تلك وتحيلها إليها فعسى أن يأتي يوم لا تكون العامية فيه شيئًا مذكورًا.

بَيْدَ أنَّه أخرج هذا الرأي البليغ من غير بابه، وتسبب إليه في النظر بما ليس من أسبابه، وجاء به قولًا إن يكن فيه صواب فهو ما آثره من تقريب ما بين العامة والخاصة، وإزالة الجفوة بين هؤلاء وهؤلاء، وتوثيق العقدة المنحلة بين الألسنة والأقلام، أو بين لغة الكتاب ولغة الكلام، ثم ما رآه من التخطي بالعربية إلى الأمام، وإن يكن فيه خطأ فهو ما وراء ذلك مما أرسله في أقواله البليغة سِنادًا لرأيه وتثبيتًا لحجته.

وإن مَجَمَّ هذه الرأي ومستجمعه أن الأستاذ يرى أخذ أسماء المستحدثات من اللغة «اليومية» وإمرارها على الأوزان العربية بقدر الإمكان، فإن لم يكن لها ثمة أسماء فمن معاجم اللغة وكتب العلم — لأن هذه عنده دون اللغة اليومية — فإن لم يصب في هذه أيضًا وضع لها الواضع ما شاء، وأن في استعمال مفردات العامة وتركيبها إحياءً للغة الكلام وإلباسها لباس الفصاحة؛ إذ يكون من ذلك رفع هذه اللغة إلى الاستعمال الكتابي والنزول بالضروري من اللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب والتعامل؛ ذلك وإن ما استعملته العامة إنما هو «قرارات» الأمة في هذه الكلمات التي تريد النزول عنها، وإن الطريقة الوحيدة لإحياء اللغة هى إحياء لغة الرأي العام من ناحية وإرضاء لغة القرآن من ناحية أخرى، وإننا إذا أردنا الصلح بين اللغتين فأقرب الطرق لهذا الصلح أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية، ومتى استعملناها في الكتابة، اضطررنا إلى تخليصها من الضعف وجعلنا العامة يتابعون الكتاب في كتاباتهم … إلخ إلخ.

هذا هو تحصيل رأي الأستاذ، وأكثر ما أوردناه إنما هو من ألفاظه بحروفها، فإن طال عليك ذلك السرد وبَرِمْتَ به جملة فإن لك أن تدمجه في كلمتين، ثم لا تكون قد أخللت من جميعه بشيء؛ وذلك أن الأستاذ يرى «تمصير اللغة»؛ لأننا إذا تابعناه فإننا نلتمس كل ما أشار إليه من العامية المصرية وحدها ونعطي هذه العامية سعة أنفسنا وبذل أقلامنا،٣ فنلبسها بالفصيح ونخلط منها عملًا صالحًا وآخر سيئًا، ولعل هذا الرأي أن يشيع من ناحيتنا — نحن المصريين — ويطمئن في كل أمة لها عربية فتأخذ مأخذنا في عاميتها وتنزع إلى ما نزعنا إليه، فإذا أمكن أن يتفق ذلك وأن تتوافى عليه الأمم، كان لعمري أسرع في فناء العربية ومحوها وَجَدَا عليها شؤمُ هذا الرأي ما لا يَجْدُو تألُّب الأعداء ولو استأصلوا أهلها، وبلغ منها ما لا يبلغه الفاتحون ولو ملكوا تلك الأرض كلها، ثم نتسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية، وسينقاد لذلك من بعدنا ثم من بعدهم إلى أجيال كثيرة يتراخى بعضها عن بعض، فيوشك أن يأتي يوم تكون فيه تلك اللغة الفصحى في كتابها الكريم ضربًا من اللغات الأثرية؛ لأننا لا ننظر فيما يُتَرَخَّص فيه الآن من كلمات معدودة صدرت بها «قرارات الأمة» أن لا تزال على وجه الدهر عامية، ولكنا ننظر إلى الأصل في قاعدة التسامح والترخيص، فإذا أثبتناه وأخذ به غيرنا ولم يكن عندنا لذلك نكير فما أشبهها أن تكون كالقاعدة الاستعمارية التي تبتدئ بالتسامح للمستعمرة والغزاة في أخذ الشيء القليل، ثم تنتهي بالتسامح في كل شيء قَلَّ أو كثر!

ونحن، فإن كنا نفهم رأيًا من هذه الآراء الحاضرة فإننا لا نفهم كيف يكون إحياء العربية باستعمال العامية، وكيف يُرضي لغة القرآن التي تأبى إلا أن تتقيد بها اللهجات الأخرى كما محت من قبل لغات العرب جميعها على فصاحتها وقوة الفطرة في أهلها وردَّتها إلى لغة واحدة هي القرشية، ثم نرضى من جهة أخرى هذه اللهجات العامية التي تأبى أن تتقيد بشيء، وهي أبدًا دائمة التغير بالأسباب المختلفة التي تؤثر فيها وتديرها في الألسنة حتى صارت في بعض قرى مصر كأنها مالطية «متمصرة» وصار بعض هذه القرى لا يفهم عن بعض كما ترى بين أقصى الدلتا وأقصى الصعيد.

وإذا حاولنا مذهب الإصلاح العامي فليت شعري من أي لهجة نأخذ، وأي لهجة في مصر هي غير مصرية فننبذها؛ وإذا ابتغينا بهذا الإصلاح استدراج العامة ليتابعوا الكتاب والخطباء فيما يكتبون ويخطبون فهل يتابعونهم على العامي وحده حتى يُنَزَّلَ في الفصيح؛ إذ يستمرئونه ويسيغونه، حتى إذا عرض لهم الفصيح خالصًا أنكروه وغصُّوا به، أم تكون المتابعة على العامي والفصيح جميعًا؟ وإذا جاز على القوم أن يتابعوا الكتاب والخطباء على الفصيح الممزوج بالعامي، فلم لا يكون ذلك إذا كان الفصيح خالصًا مأنوسًا وكانت القرائن قائمة على ما فيه من جديد أو غريب وكانت ألفاظه لا تبرأ من معانيه ولا هذه تشق على تلك؟

نحن لا نماري في وجوب الإصلاح اللغوي ووجوب أن يكون للغة في هذه النهضة مجمع يحوطها ويصنع لها ولو على الأقل «كمصلحة الكنس والرش»، ولا نقول: إن هذه العربية كاملة في مفرداتها، ولا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها، فإن من يذهب إلى ذلك لا يعدو باللغة وسيلة من وسائل العيش وأداة من أدوات الاجتماع الفطري، وليت شعري ما يصنع أولئك إذا صارت العربية لغة العلوم والفنون الحديثة وجاءوا إلى طائفة واحدة من الحشرات يقسمها العلماء إلى عشرين ألف ضرب اعتبروا في وضع أسمائها تباين ما بينها في طبقات التشريح؟ ثم ماذا يصنعون بضروب سائر الحيوان والنبات وغير النبات مما لا يأتي عليه الإحصاء من متعلقات العلوم وفروعها، وهل تجزئ في ذلك كله ألفاظ لسان العرب وكتب الحيوان والنبات العربية وما إليها مما أطلقت ألفاظه واضطربت أوضاعه واختلفت معانيه واستقامت حدوده حتى ليصح أن تعم اللفظة الواحدة بكثرة ما تطلق عليه في هذه اللغة شطرًا من معاني العلم التي هي فيه؟

إلا وإن أعجب ما في أمرنا من المعروف والمنكر أن تختلف الأمم في معاني الألفاظ واختراعها وتحديدها ووجوه الانتفاع بها، ولا نختلف نحن إلا على ألفاظ هذه المعاني، وأنها عربية أو معربة، وهل نتقبلها أو نردها، ونثبتها أم ننفيها، وننسخها أو نمسخها، وقد فاتنا أن العرب أنفسهم لم يكونوا يعرفون شيئًا يسمى لغة، وإنما كان همهم استيعاب أجزاء البيان في كل ما ينطقون به على أصول الفطرة اللغوية التي ينشئون عليها، وقد ضُبطت هذه الأصول فيما انتهى إلينا من قواعد اللغة وما نقل من ألفاظها، فصار لنا حكمهم إذا نحن تدبرناها ونفذنا في أسرارها وأحسنَّا القيام عليها.

وليس عندنا في وجوه الخطأ اللغوي أكبر ولا أعظم من أن يظن امرؤ أن اللغة بالمفردات لا بالأوضاع والتراكيب، فإن اللغات المرتقبة هي تلك التي تمتاز بوجوه تركيبها ونسق هذه الوجوه فيها، ولا يمكن ألبتة أن تكون لغة من اللغات ذات وَفْرٍ وثروة من الألفاظ إلا أن تدعو إلى ذلك وجوه أوضاعها وتراكيبها، ولا تجد عندنا من الإنكار على من يقول بإباحة التصرف في تراكيب العربية ثم التكذيب له والاستعظام لما جاء به إلا كما عندنا من الرد لقول من يمنع التصرف في مفرداتها — بالتعريب وغير التعريب — ما دامت الحاجة إلى ذلك ماسة، وما دام ذلك لا يخرج اللفظ الموضوع عن الشبه العربي الذي يُجريه في اللغة ويجعله إليها ويلحقه بمادتها ثم ما دمنا نعمل هذا العمل فنقضيه صريحًا محكمًا ونستن فيه سنة العرب في طريقة الوضع اللغوي وحكمة هذه الطريقة ووجه هذه الحكمة.

فأنت ترى أنه لا ينقصنا من اللغة شيء وهي على ما هي من إحكام الأوضاع والتراكيب والاتساع للمفردات ولو أقبلت كأعناق السيل، ولكن ينقص هذه اللغة رجال يعملون ويحسنون إذا عملوا، ويعرفون كيف يتأتى عملهم إلى الإحسان، وكيف يكون عملهم عملًا.

ولقد كان من سوء الصُّنع لهذه العربية أن قامت لإحيائها «مجتمعات» كلها كان يكدح في هذا العمل الجديد على قاعدة قديمة، فلا يعْدُون في طريقة العمل وجهة القصد منه أن يبدلوا لفظًا بلفظ وحرفًا بحرف وينبهوا إلى خطأ في بعض الاستعمال وصواب في بعض الإهمال مما يستخرجونه أو يقفون عليه أو يتفق لهم اتفاقًا، وهذا عمل تكون الجماعة فيه مهما اعتزمت واشتدت كأنها فرد واحد، ويقوم الفرد المضطلع بالجماعة، بل قد يفي بها ويمسح وجهها٤ ويكون منها مكان الإمام ممن خلفه وإن كانوا صفوفًا متراصة متقابلة، وهو أمر كان قديمًا، فإن العلماء والكتاب كانوا يتلقون الرواة والحفاظ بالمسألة عن صواب الكلمة وعن وجه استعمال الحرف من اللغة، وكان المأمون العباسي قد أرصد من هؤلاء طائفة في «دار الحكمة»؛ ليرجع إليها المترجمون، ثم ليتصفحوا عليهم فيصلحوا خطأ أو يقيموا وزنًا أو يغيروا كلمة، وكذلك فعل بعض الأمراء المتأخرين في دواوين الإنشاء حين ضعف الأدباء عن اللغة والْتَوَتْ الألسنة وغلبت العامية، وقد تولى ذلك للفاطميين طاهر بن بابشاذ في القرن الخامس، وابن بري في القرن السادس، وتولاه غيرهما من بعدُ إلى هذه الغاية في عصور ودول مختلفة، على أن كل ذلك قد مضى مع أهله وبقيت اللغة تضرب في حدودها مقبلة مدبرة لم يزد فيها ما زادوا ولم ينقص منها ما نقصوا.

ولسنا نرتاب على حال أنه لو قام في صباح كل يوم مجمع لغوى على هذه الطريقة لانتقض في مساء كل يوم مجمع منها؛ لأن القوم يَدْعُون الجهات الملتبسة إلى الصريحة ويتخطون الأصول إلى الفروع، ويعملون في سد خلة محتملة ويتكلفون لضرورة في الوسع والطاقة، واللغة وافية بكل ما يأتون به، لا يصدُّ عنها إلا الجهل والإهمال، وإلا سوء طلب الطالب وتحصيل المحصل، وهذا — أصلحك الله — أهون الخطب وأخف الضرر، وأيسر ما الْتَاثَ علينا من أمر هذه العربية، فإن المحنة فيها باقية أبدًا ما بقي في الأرض معنى ليس له فيها لفظ، وما دمنا لا نطرق فيها لهذه الألفاظ المحدَثة بقواعد ثابتة وعلى طرق نهجته، وما دامت في أيدينا جامدة لا نغمز منها ولا نعيدها سيرتها الأولى في الوضع والاشتقاق بما لا يفسدها ولا يضارُّ أصولها ولا يأتي بنيانها من «القواعد».

وإن ذلك لَأمرٌ أولُ التبعة فيه على متقدمي العلماء ممن دونوا الأمهات في اللغة وممن كتبوا في العلوم أو ترجموا من كتبها؛ لأنهم — عفا الله عنهم — لم ينظروا لمن بعدهم، فلم يضعوا في ذلك ديوانًا جامعًا، ولا أمضوا فيه بإجماع معروف ينتهي إليه علم أو يقف عليه طريق من طرق الرواية، إنما كان لكل واحد منهم رأيه ونظره ومبلغ علمه وإحاطة روايته؛ فإن اضطر أحدكم إلى ما يُعجله عن الأناة وإحالة الرأي في اختيار اللفظ وتعريبه ودفع إلى الكتابة والتأليف من هذه المضايق، لم يبالِ أن يتناول اللفظ كما هو في لسان أهله ولغة واضعه ما دام لا يرسله إلا في أسلوب محكم من اللغة ولا يحيطه إلا بالتركيب العربي المبين، وهم كانوا أبصر بما قررناه من أن اللغة بالأوضاع والتراكيب لا بالمفردات بالغة ما بلغت، وأن الشأن فيما ينتظم الكلمة الأعجمية انتظامًا عربيًّا لا في الكلمة نفسها.

وهذا الجاحظ عالِمُ كُتَّاب هذه الأمة وفردُ بُلَغَائها المتسعين في الكتابة تتصفح كتبه فتعثر بالشيء من أسماء الأدوات ومصطلحات الفنون، وبعض ذلك لا سبيل إلى فهمه ومعرفة مدلوله إلا بالرجوع إليه في الفارسية والهندية والرومية ونحوها، وإلا إن اتفق للباحث أن يعثر على بيانه وتفسيره في بعض المعجمات العربية أو كتب الفنون، وقد كان دأب هذا البليغ أن لا يتوقف عند اللفظة المحدثة يقلبها ويشققها، ولا يتردد عند الكلمة الدخيلة ينظر فيها ويحققها، وهو قد نص على ذلك في موضع من كتابه «الحيوان» فقال بعد أن ساق ألفاظًا من مصطلحات الزنادقة، كالساتر والغامر والبطلان وغيرها، وأنكر غرابة الدلالة فيها وأنها مهجورة عند أهل دعوته وملته وعند العوام والجمهور: «إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها، على أن أَلْفُظَ بالشيء العتيد الموجود، وأَدَعَ التكلف لما عسى أن لا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة، وأرى أن ألفظ بألفاظ المتكلمين ما دمت خائضًا في صناعة الكلام مع خاصِّ أهل الكلام، فإن ذلك أفْهَمُ عندي وأخفُّ لمؤنتهم عليَّ.

ولكل صناعة ألفاظ قد جُعلت لأهلها بعد امتحان سواها؛ فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وبين معاني تلك الصناعة مشاكلات، وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو في مخاطبة العوام والتجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته، أو في حديثه إذا حدَّث أو خبره إذا أخبر، وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب وألفاظ العوام، وهو في صناعة الكلام داخل، ولكل مقام مقال، ولكل صناعة شكل» ا.ﻫ.

على أننا لا نستقصي القول في هذه الجهة، فإن موقع النية أن نتكلم في «تمصير اللغة» وإنما أفضينا إلى الكلام من هذه الناحية؛ إذ كانت هي سبيلنا إليه، فإن القائلين بهذا الرأي والغالين فيه والكابرين عليه إنما يدَّعون به الإصلاح ويذهبون إلى أنه خير ما ينتهي إليه الصواب من رأي وخير ما يمكن لهم في جانب تلك الغاية، فإنهم — زعموا — يريدون الإصلاح من أقرب السبيل، ويطلبون الحاجة الراهنة والمنفعة الدانية؛ وقد رأوا سواد الأمة عاميًّا فلا بأس أن يكون من هذا السواد ظل في اللغة أو على اللغة أو قريبًا من اللغة، وفاتهم أن من دون هذه السبيل سبيلًا أخرى هي أقرب في منحاهم وأدنى إلى غايتهم لو كانوا يرمون إلى تعليم الأمة وإلى الغاية من هذا التعليم، فإن الزمن الذي تعرب فيه الكتب أو تمصر ثم تطبع وتنشر ثم تقرأ وتدرس لا يذهب باطلًا إذا هو ذهب في تعليم لغة أجنبية من لغات العلوم ثم إلقاء هذه العلوم بها، ويكون من ذلك أن الأمة تستفيد العلوم والفنون محققة وتربح معها فضلًا كبيرًا، وأن تربح إلى لغتها أخرى برمتها وتجمع إليها آدابها وفوائدها، وهذا ما لا يتيسر بعضه إذا مصرنا العربية لتلك الغاية التي زعموا وما يطلبون بها من الكفاية والإصلاح.

وقد أخذت بهذا الرأي جمهورية الصين الحديثة، فإنها فرضت اللغة الإنكليزية على كل من يطلب علمًا أو صناعة؛ حرصًا على الوقت أن تضيع به الترجمة والطبع والدرس، وتفاديًا لما تدخله الترجمة على مصطلحات العلوم والفنون من الضيم في الشرح والتعيين وتحديد الدلالة ونحوها مما ليس منه بد في النقل بين اللغات المتباينة لغة إلى لغة.

على أنه إن يكن في رأي التمصير خير فليس يقوم خيره بشؤمه، وهبْ أن أمرًا من ذلك كائنٌ، وأننا أجرينا التراكيب العامية في الفصيح، وأقحمنا مفردات القوم في اللغة، ومكَّنَّا للعامة على ما يتوهمون من مقاليد الكلام وأتبعناه مَقادتهم، فما جداء ذلك عنهم وماذا يرد على الأمة، ونحن نعلم أن جمهورها إذا احتاجوا إلى كتب في العلم فإنما هي كتب ألف باء تاء، قبل كتب المصطلحات العلمية والفنية! وإنه لعجيب أن نبدأ بالتربية من آخرها، وأن نجيء إلى حال من الضعف فنتوهم فيها القوة، ثم نمضي على ما نخيل نعتدُّه حقًّا فنقرر الأحكام ونؤصل الأصول ونقابل شيئًا بشيء ونستخرج حالًا من حال، وليس لنا مما قِبلَ ذلك جميعه إلا أنه ظن توهمناه يقينًا، وفرض حسبناه قياسًا، وإلا أنها العامية جعلنا نسومها ما ليس في طبيعتها وحسبناها أصلًا بائنًا بنفسه متميزًا من سواه بالصفات التي تجعل الأصل أصلًا وتنفيه من صفات فروعه، مع أن أصل هذه العامية لا يزال في ألسنتنا وأقلامنا، ولا نبرح نردها إليه ونحكمها به ونقيمها على طريقه، ومع أن هذه العامية لا تصلح في تراكيبها وصِيغها للكتابة ما لم تفصح على وجه من الوجوه، وهي بعد لا وزن لها في كل ما ابتعدت به عن الفصيح إلا في عبارات قليلة مما يكون أكبرُ حُسنه أنه أخرج على نسق معروف في البلاغة العربية: كضرب المجاز والكناية وما إلى ذلك، فإذا هي نافرت الفصيح لفظًا أو نسقًا فلستَ واجدًا فيها إلا أطلالًا من كلمات عربية يأباها من يعرفها صحيحة ماثلة، ويَعُدُّها من النقص من يقيمها سوية كاملة، وكيفما أدرتها لا تعرف لها إلا رقة الشأن وسقوط المنزلة بإزالة أصلها الفصيح الذي خرجت منه ولا تزال فيها مادته، فما اختلافنا في لغة هي في طبيعتها اللغوية تأبى أن تكون أصلًا وأن تعد لغة، ومهما جهدتَ بها لا تتحول إلا إلى أصلها المعروف المتميز، فإذا أريدت على غير ذلك التاثت واضطربت وفرت إلى الأسواق والسُّبل!

فإن عارضنا القوم بأنهم يريدون تقريب الفصيح من العامة، لا من العامية؛ ليسهل عليهم أن يتأدبوا أو أن يتعلموا، قلنا: ذلك وجه وسبيله غير ما يقولون به من تمصير هذا الفصيح العربي، فإن لهم مندوحة في طرق مختلفة يفصحون بها العامية نفسها بردِّها إلى أصولها القريبة على نحو ما كانت عليه أيام الأمويين والعباسيين، فإني لأحسب أن العامي من أهل ذلك الزمن لو بُعث اليوم لرأى أكثر أساليبنا الفصيحة دون عاميته.

وقد كنا بسطنا جانبًا من القول في مقالتينا اللتين نشرتا في «البيان» عن الرأي العامي في العربية الفصحى والجنسية العربية في القرآن٥ وأبَنَّا ثمة فساد الرأي في إحالة الفصحى عن وجهها، فلا نعيد شيئًا مما بسطناه، وإنما نرسل كلمة في تحقيق استحالة هذا الرأي، وأن القائلين به مهما عملوا فإنهم لا يعْدون أن يجتذبوا إليهم طائفة من ضعاف شبابنا المتفرنجين يناصرونهم بما تعده الأمة خذلانًا، ويزيدون فيهم بما لا تشعر به الأمة زيادة أو نقصانًا؛ وذلك أنهم يغفلون عن الروح الدينية التي ينشأ عليها المسلمون — أهل هذه العربية — في جهات الأرض، وأن هذه الروح قائمة على نفي العصبية والوطنية كالمصرية وغيرها؛ فقد كانت هذه العصبية عامة في قبائل العرب حتى محاها الإسلام، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وجعلهم إخوة، ثم نفاها النبي ونفى المؤمنين منها بقوله: «ليس منا من دعا إلى عصبية …» الحديث، وما عصبية قبيلة وقبيلة في المعنى إلا كعصبية بلدٍ وبلدٍ ومصرٍ ومصرٍ، وما يقولون به من تمصير اللغة لا يعدو أن يكون وجهًا من وجوه هذه العصبية الممقوتة، فإنك لتجد المسلمين يختلفون في كل شيء حتى في الدين نفسه ولا تجدهم إلا شعورًا واحدًا بالروح الدينية العربية التي مِساكها الكتاب والسنة في عربيتهما الفصيحة، وهي لا سبيل إلى التغيير أو التبديل فيها، لا على وجه التمصير ولا على وجه آخر، وسواء أكان في ذلك إصلاح بين العامية والفصحى أو لم يكن.

فإن شذ عن الجماعة فئة من شبابنا قد أخذوا بغير أخلاق هذا الدين ونشئوا في غير قومه وعلى غير مبادئه فرأوا فيه بظنونهم وقالوا برأيهم ورضوا له ما لا يرضاه لأهله، فهؤلاء مهما كثروا لا يستطيعون أن يحدثوا حدثًا، بل يَفنون والجماعة باقية، وينقصون والأمة نامية، ويذهبون إلى رحمة الله ومن رحمة الله أنهم لا يعودون ثانية.

ولن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة، وإن كنا لا نقول بالعكس، فإن فينا من الفضلاء من يخطئ في الرأي يراه أو يعجل به دون أن يُطيل ترديده وتقليبه، فإذا بصَّرته بما فيه أعانك على نفسه وأحكم ناحية الصواب منها، وأعطاك عن رضًا، وكان في عمله خليقًا أن تعرفه بالحكمة وأن ترى تحوُّله عن الخطأ صوابًا إن لم يكن أحسن من صوابك فليس بدونه.

هذا، وإن أصحابنا لا يجهلون أن الأصل في التربية العامة بالحمل على الأخلاق لا على العقول، وعلى روح الأمة التي تتميز بها وتتفق فيها لا على صفاتها الأخرى، ونحن لا نجد في ذلك شيئًا في المسلمين كافة من المصريين وغيرهم إلا ما أومأنا إليه من الروح الدينية التي تشملهم جميعًا والتي هي أساس هذا الدين فلا سبيل لتمصير العربية واعتبار هذه المصرية أصلًا لغويًّا مجمعًا عليه إلا بتمصير الدين الإسلامي الذي تقوم عليه هذه العربية، فإن بعض ذلك سبب طبيعي إلى بعضه؛ فمن كشف لنا عن الوجه الذي يكون به الدين مصريًّا وطنيًّا، وبصرنا بأسباب ذلك ونتائجه قلنا له: أخطأنا وأصبت وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ.

١  نشرت في مجلة «البيان» سنة ١٩١٢.
٢  هو اليوم مدير الجامعة المصرية. قلت: يعني أحمد لطفي السيد باشا، وكان له يومئذ رأي في تمصير اللغة، وهو اليوم رئيس مجمع فؤاد الأول للغة العربية!
٣  جهدنا من الكتابة.
٤  كناية عن تقدمه عليها.
٥  نجد هذا البحث في كتابنا إعجاز القرآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤