الدرس العاشر

الدخل والادخار والاستثمار

ستتعلم في هذا الدرس

  • تعريف «الدخل» و«الادخار» و«الاستثمار» في الاقتصاد النقدي.

  • كيف يرفع الادخار والاستثمار الدخل المستقبلي للفرد.

  • كيف يزيد الدخل والاستثمار ناتج الاقتصاد في المستقبل.

في الدرس الرابع رأينا أنه حتى روبنسون كروزو — الذي يعيش في عزلة على الجزيرة دون وجود طرف آخر يمارس معه تبادلًا تجاريًّا (عدا الطبيعة) — استطاع تصنيف أفعاله مستخدمًا مفاهيم الدخل والادخار والاستثمار.

وفي الاقتصاد الحديث، الذي يتسم بوجود أفراد كثيرين يستخدمون النقود، تظل المفاهيم واحدة وإن كان تعريفها أسهل. عند الحديث عن الفرد يشير «الدخل» إلى النقود التي يستطيع الفرد إنفاقها على الاستهلاك خلال فترة زمنية محددة، سواء التي يحصل عليها من بيع خدماته من الأيدي العاملة أو من عائدات الأصول التي يملكها. وعند الحديث عن المؤسسات يشير «الدخل» (أو «الإيرادات») إلى إجمالي الإيرادات مخصومًا منها النفقات. ولعلنا نذكر من الدرس السابق أن الإيرادات هي إجمالي النقود التي ينفقها المستهلكون في شراء السلع والخدمات التي تقدمها المؤسسات التجارية، بينما النفقات هي إجمالي النقود التي تنفقها المؤسسة التجارية لإنتاج تلك السلع والخدمات.١
عندما يكون إنفاق الفرد أقل من استهلاكه على مدار فترة زمنية محددة، يصبح الفارق بينهما «مدخرات». (إذا كانت المدخرات سلبية — بمعنى أن الفرد يستهلك أكثر من دخله — يسمى ذلك «اقتراضًا» أو ادخارًا سالبًا.) وعندما ينفق الفرد جزءًا من مدخراته بغرض الحصول على دخل في المستقبل، يسمى ذلك استثمارًا.٢

(١) الاستثمار يزيد الدخل المستقبلي

عيب الادخار (والاستثمار) أنه يقلل حجم الاستهلاك الذي يمكن أن تستمتع به في الوقت الحاضر. ومن ناحية أخرى، فائدة الادخار (والاستثمار) أنه يزيد حجم استهلاكك في المستقبل. يوضح الجدولان التاليان إيجابيات الاستثمار وسلبياته بالنظر إلى شخصين افتراضيين هما بول المسرف وفريدي المدبِّر.

يتعقب الجدولان النشاط المالي لكل من بول وفريدي طوال حياتيهما؛ فهما يعملان في وظيفتين متشابهتين ويتقاضيان راتبًا ثابتًا قدره ٥٠٠٠٠ دولار سنويًّا مقابل ما يقدمانه من عمل. لكن كليهما يدخر نصيبًا من دخله ويستثمره في أصول تدر «فائدة» نسبتها ٥٪ سنويًّا. سنتناول مفهومي مدفوعات الفائدة والدين على نحو أكثر تفصيلًا في الدرس الثاني عشر، أما الآن فكل ما يعنينا هو أن تعرف أن بول وفريدي — بالإضافة إلى راتبيهما — يجنيان كل عام فائدة مقدارها ٥٪ من إجمالي القيمة السوقية لاستثماراتهما.

ويتشابه بول وفريدي في كل شيء عدا الحصة التي يدخرها كل منهما من دخله؛ ذلك أن بول المسرف يدخر ٥٪ فقط من دخله السنوي، وينفق الباقي في الاستهلاك ما بين تناول الطعام خارج المنزل، وشراء الحلي الثمينة، والسفر في العطلات، وهلم جرًّا. بينما يدخر فريدي المدبر ٣٠٪ من إجمالي دخله السنوي، ويضخها في أصوله المالية.

يبين الجدولان أسلوبي الحياة المختلفين والمترتبين على تلك القرارات المرتبطة بالادخار. في السنوات الأولى يتمتع بول بقدر استهلاك يفوق القدر الذي يتمتع به فريدي؛ فهو يستطيع حضور عدد أكبر من الحفلات ويرتدي ثيابًا أفضل ويقضي وقتًا ممتعًا بوجه عام. لكن مع مرور السنوات تتضاءل الفجوة بين الرجلين. ومع أن فريدي المدبر دائمًا يدخر جزءًا كبيرًا من دخله، فإن دخله نفسه يتزايد بوتيرة أسرع بكثير مما يحدث مع بول المسرف. وبحلول السنة السادسة والعشرين نرى أن استهلاك فريدي الذي يبلغ ٥٠٧٨٣ دولارًا يفوق استهلاك بول الذي يبلغ ٥٠٥٦٠ دولارًا. وبدءًا من هذه المرحلة فصاعدًا، يستطيع فريدي أن ينفق على متعه الشخصية الآنية أكثر مما يستطيع بول أن ينفقه. تذكر أن الرجلين يحصلان على دخلين متماثلين من عملهما سنويًّا، ويتقاضيان نفس الراتب. لكن سنوات منتصف العمر في حالة فريدي أكثر رخاءً، لأنه كان مدبرًا جدًّا خلال سنوات عمله الأولى.

الوضع المالي لبول المسرف.
السنة ١ ٢ ٣ ٤ ٢٥ ٢٦ ٢٧ ٤٧ ٤٨ ٤٩
إجمالي القيمة السوقية للأصول (بالدولار) ٢٥٠٠ ٥٠٠٦ ٧٥١٩ ٦١٧٥٧ ٦٤٤١١ ٦٧٠٧٢ ١٢١٧١٢ ١٢٤٥١٧ ١٢٧٣٢٨
دخل الأيدي العاملة (الراتب) (بالدولار) ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠
الإيرادات من الأصول (٥٪ فائدة) (بالدولار) ١٢٥ ٢٥٠ ٣٧٦ ٣٠٨٨ ٣٢٢١ ٣٣٥٤ ٦٠٨٦ ٦٢٢٦ ٦٣٦٦
إجمالي الدخل (بالدولار) ٥٠٠٠٠ ٥٠١٢٥ ٥٠٢٥٠ ٥٠٣٧٦ ٥٣٠٨٨ ٥٣٢٢١ ٥٣٣٥٤ ٥٦٠٨٦ ٥٦٢٢٦ ٥٦٣٦٦
الاستهلاك (٩٥٪ من الدخل) (بالدولار) ٤٧٥٠٠ ٤٧٦١٩ ٤٧٧٣٨ ٤٧٨٥٧ ٥٠٤٣٣ ٥٠٥٦٠ ٥٠٦٨٦ ٥٣٢٨١ ٥٣٤١٥ ٥٣٥٤٨
المدخرات (٥٪ من الدخل) (بالدولار) ٢٥٠٠ ٢٥٠٦ ٢٥١٣ ٢٥١٩ ٢٦٥٤ ٢٦٦١ ٢٦٦٨ ٢٨٠٤ ٢٨١١ ٢٨١٨
الاستثمار في الأصول (= الادخار) (بالدولار) ٢٥٠٠ ٢٥٠٦ ٢٥١٣ ٢٥١٩ ٢٦٥٤ ٢٦٦١ ٢٦٦٨ ٢٨٠٤ ٢٨١١ ٢٨١٨
الوضع المالي لفريدي المدبِّر.
السنة ١ ٢ ٣ ٤ ٢٥ ٢٦ ٢٧ ٤٧ ٤٨ ٤٩
إجمالي القيمة السوقية للأصول (بالدولار) ١٥٠٠٠ ٣٠٢٢٥ ٤٥٦٧٨ ٤٢٩٥٠٣ ٤٥٠٩٤٥ ٤٧٢٧١٠ ٩٨٣٥٢٦ ١٠١٣٢٧٩ ١٠٤٣٤٧٨
دخل الأيدي العاملة (الراتب) (بالدولار) ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠
الإيرادات من الأصول (٥٪ فائدة) (بالدولار) ٧٥٠ ١٥١١ ٢٢٨٤ ٢١٤٧٥ ٢٢٥٤٧ ٢٣٦٣٥ ٤٩١٧٦ ٥٠٦٦٤ ٥٢١٧٤
إجمالي الدخل (بالدولار) ٥٠٠٠٠ ٥٠٧٥٠ ٥١٥١١ ٥٢٢٨٤ ٧١٤٧٥ ٧٢٥٤٧ ٧٣٦٣٥ ٩٩١٧٦ ١٠٠٦٦٤ ١٠٢١٧٤
الاستهلاك (٧٠٪ من الدخل) (بالدولار) ٣٥٠٠٠ ٣٥٥٢٥ ٣٦٠٥٨ ٣٦٥٩٩ ٥٠٠٣٣ ٥٠٧٨٣ ٥١٥٤٥ ٦٩٤٢٣ ٧٠٤٦٥ ٧١٥٢٢
المدخرات (٣٠٪ من الدخل) (بالدولار) ١٥٠٠٠ ١٥٢٢٥ ١٥٤٥٣ ١٥٦٨٥ ٢١٤٤٣ ٢١٧٦٤ ٢٢٠٩١ ٢٩٧٥٣ ٣٠١٩٩ ٣٠٦٥٢
الاستثمار في الأصول (= الادخار) (بالدولار) ١٥٠٠٠ ١٥٢٢٥ ١٥٤٥٣ ١٥٦٨٥ ٢١٤٤٣ ٢١٧٦٤ ٢٢٠٩١ ٢٦٧٥٣ ٣٠١٩٩ ٣٠٦٥٢

الملاحظة الأخيرة اللافتة للنظر هي أن أصول فريدي المالية تكسر حاجز المليون دولار بحلول السنة الثامنة والأربعين من حياته العملية. وقد يظن كثير من الناس أن الأثرياء وحدهم هم من يمتلكون مبلغ المليون دولار. لكن كما يبين الجدول، حتى الشخص الذي يتقاضى ٥٠٠٠٠ دولار سنويًّا ويستثمر في أصول آمنة، يمكنه في النهاية أن يدخر مليون دولار بسهولة من خلال الثبات على ادخار نصيب كبير من دخله؛ على الأقل في عالم يخلو من الضرائب!

(١-١) التقاعد

في الجدولين التاليين سنلقي نظرة على ما سيحدث بعد أن يتقاعد فريدي وبول عن العمل، ويصبح راتب كل منهما صفر دولار. (سنفترض حدوث ذلك بعد مرور ٥٢ عامًا من التحاقهما بالعمل). ببلوغ هذه السن يبدأ الرجلان مرحلة الادخار السالب، بمعنى أن استهلاكهما يفوق دخلهما السنوي.٣ وهذا ممكن لأنهما ادخرا مخزونًا من أصولهما المالية. لا يستطيع الرجلان إنفاق النقود التي تعود عليهما من أرباح الفوائد على هذه الأصول فحسب، بل يمكنهما بيع جزء من الأصول واستهلاك عائدات البيع. (ويسمى ذلك «تقليص أصل» مدخرات الفرد أو أصوله.)

هنا ندرك فوائد السلوك المدبَّر نسبيًّا الذي كان يسلكه فريدي. فهو يستطيع بسهولة خلال سنوات تقاعده أن يحافظ على مستوى استهلاك سنوي ثابت قدره ٧٠٠٠٠ دولار. وهذا لا يقل كثيرًا عن استهلاكه قبل التقاعد، لكنه مستوى معيشي لائق، ويزيد بنسبة ٤٠٪ عن إجمالي راتبه السنوي خلال سنوات العمل!

في المقابل يضطر بول المسرف إلى أن يخفض استهلاكه كثيرًا ما إن يتقاعد عن العمل، فينخفض استهلاكه السنوي إلى ١٥٠٠٠ دولار. والسبب في هذه الضائقة هو أن بول عند تقاعده كان قد ادخر نحو ١٣٦٠٠٠ دولار فقط، بينما ادخر فريدي المدبِّر أكثر من ١٫١ مليون دولار. وهكذا نلاحظ أن فريدي لا يجني من عائدات استثماره دخلًا سنويًّا أعلى بكثير أثناء تقاعده فحسب، بل يملك أيضًا مخزونًا أكبر من الأصول، ومن ثم يمكنه أن يسحب منه لينفق على معيشته.

وكما يوضح الجدولان يواجه بول أزمة حقيقية في السنة الرابعة والستين. ففي هذه المرحلة لا يمكنه حتى أن يدبر ١٥٠٠٠ اللازمة لاستهلاكه السنوي، لأنه استهلك كافة أصوله المالية. وبعد أن يمضي بول هذا العام بميزانية تقشف تبلغ ٥٣٨٤ دولارًا، يصبح على شفا الإفلاس. وإذا لم يكن يريد العودة إلى العمل ثانية، سيضطر إلى طلب المال من الأقارب والمنظمات الخيرية. (لا نزال نصف اقتصاد سوق خالص، لذلك ليست هناك برامج مساعدات حكومية.)

تقاعد بول المسرف.
السنة ٥٠ ٥١ ٥٢ ٥٣ ٦٣ ٦٤ ٦٥ ٧٤ ٧٥
إجمالي القيمة السوقية للأصول (بالدولار) ١٣٠١٤٦ ١٣٢٩٧٢ ١٣٥٨٠٤ ١٢٧٥٩٤ ١٩١٦٩ ٥١٢٨
دخل الأيدي العاملة (الراتب) (بالدولار) ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠
الإيرادات من الأصول (٥٪ فائدة) (بالدولار) ٦٥٠٧ ٦٦٤٩ ٦٧٩٠ ٦٣٨٠ ٩٥٨ ٢٥٦
إجمالي الدخل (بالدولار) ٥٦٥٠٧ ٥٦٦٤٩ ٦٧٩٠ ٦٣٨٠ ٩٥٨ ٢٥٦
الاستهلاك (٩٥٪ من الدخل) (بالدولار) ٥٣٦٨٢ ٥٣٨١٦ ١٥٠٠٠ ١٥٠٠٠ ١٥٠٠٠ ٥٣٨٤ ؟؟؟ ؟؟؟ ؟؟؟
المدخرات (٥٪ من الدخل) (بالدولار) ٢٨٢٥ ٢٨٣٢ ٨٢١٠ ٨٦٢٠ ١٤٠٤٢ ٥١٢٨
الاستثمار في الأصول (= الادخار) (بالدولار) ٢٨٢٥ ٢٨٣٢ ٨٢١٠ ٨٦٢٠ ١٤٠٤٢ ٥١٢٨
تقاعد فريدي المدبِّر.
السنة ٥٠ ٥١ ٥٢ ٥٣ ٦٣ ٦٤ ٦٥ ٧٤ ٧٥
إجمالي القيمة السوقية للأصول (بالدولار) ١٠٧٤١٣٠ ١١٠٥٢٤٢ ١١٣٦٨٢١ ١١٢٣٦٦٢ ٩٤٩٨٧٥ ٩٢٧٣٦٨ ٩٠٣٧٣٧ ٦٣٠١٣٣ ٥٩١٦٤٠
دخل الأيدي العاملة (الراتب) (بالدولار) ٥٠٠٠٠ ٥٠٠٠٠
الإيرادات من الأصول (٥٪ فائدة) (بالدولار) ٥٣٧٠٧ ٥٥٢٦٢ ٥٦٨٤١ ٥٦١٨٣ ٤٧٤٩٤ ٤٦٣٦٨ ٤٥١٨٧ ٣١٥٠٧ ٢٩٥٨٢
إجمالي الدخل (بالدولار) ١٠٣٧٠٧ ١٠٥٢٦٢ ٥٦٨٤١ ٥٦١٨٣ ٤٧٤٩٤ ٤٦٣٦٨ ٤٥١٨٧ ٣١٥٠٧ ٢٩٥٨٢
الاستهلاك (٧٠٪ من الدخل) (بالدولار) ٧٢٥٩٥ ٧٣٦٨٣ ٧٠٠٠٠ ٧٠٠٠٠ ٧٠٠٠٠ ٧٠٠٠٠ ٧٠٠٠٠ ٧٠٠٠٠ ٧٠٠٠٠
المدخرات (٣٠٪ من الدخل) (بالدولار) ٣١١١٢ ٣١٥٧٩ (١٣١٥٩) (١٣٨١٧) (٢٢٥٠٦) (٢٣٦٣٢) (٢٤٨١٣) (٣٨٤٩٣) (٤٠٤١٨)
الاستثمار في الأصول (= الادخار) (بالدولار) ٣١١١٢ ٣١٥٧٩ (١٣١٥٩) (١٣٨١٧) (٢٢٥٠٦) (٢٣٦٣٢) (٢٤٨١٣) (٣٨٤٩٣) (٤٠٤١٨)

وفي تناقض واضح يستطيع فريدي المدبِّر مواصلة أسلوب حياته المريح بعد التقاعد وحتى السنة الخامسة والسبعين من بدء التحاقه بالعمل، وهي السنة التي نفترض أنه سيفارق الحياة فيها. تدبير فريدي لم يمكنه فقط من الإنفاق على نفسه دون الحاجة إلى الآخرين، بل إنه خلَّف لورثته تركة تقدر بنحو ٥٩٢٠٠٠ دولار.

(٢) كيف يُزيد الادخار والاستثمار ناتج الاقتصاد في المستقبل

يدرك كل من لديه وظيفة وحساب بنكي الفوائد التي يمكن أن تعود عليه جراء تأجيل استهلاك اليوم بغرض الاستمتاع باستهلاك أكثر في المستقبل. لكن الكثير من الأفراد يفسرون هذه الزيادة في دخل المدخر بأنها انخفاض موازِن في دخل أحد المقترضين في الاقتصاد.

هذا احتمال قائم قطعًا. على سبيل المثال إذا نسي بيل (المقترض) النقود التي سيتناول بها غداءه يوم الاثنين، فربما يسأل زميلته سالي (المدخر): «هلا أقرضتِني ١٠ دولارات على أن أردها إليك ١١ دولارًا يوم غد؟» إذا وافقت سالي فسيكون واضحًا أن الفائدة التي مقدارها دولار ستُدفع من دخل بيل الذي سينخفض في ذلك الشهر. بعبارة أخرى، إذا كان راتب بيل في ذلك الشهر ٥٠٠٠ دولار، فسيحصل فعليًّا على ٤٩٩٩ دولارًا فقط، لأنه أنفق دولارًا في «شراء القرض» من سالي. في الوقت نفسه، إذا كان راتب سالي ٥٠٠٠ دولار، فستحصل فعليًّا في هذا الشهر تحديدًا على ٥٠٠١ دولار، بسبب حصولها على دولار مقابل تقديمها «خدمة الإقراض» لزميلها بيل.

ما حدث في السيناريو السابق أن بيل موَّل استهلاكه بواسطة «سلفة» قدمتها له سالي. ففي يوم الاثنين المذكور، عندما نسي بيل محفظة نقوده في المنزل، كان على سالي امتلاك ما يكفي من السيولة النقدية لأن تقرض بيل ١٠ دولارات. وربما اضطرها ذلك لأن تعيد ترتيب خطة إنفاقها لذلك اليوم، أو ربما فقط أصبحت سالي تحمل معها نقودًا احتياطية أقل مما كانت تريده في حقيبتها في ذلك اليوم. على كل حال، قدمت سالي خدمة محددة لبيل. وبسبب الخطأ الذي وقع فيه بيل، استفاد كلا الطرفين من صفقة الإقراض التي تمت طواعية بينهما. قد يبدو للوهلة الأولى أن بيل خسر وسالي ربحت، لكن الواقع أن كلا الطرفين استفادا من وراء ما حدث. انخفض إجمالي استهلاك بيل الشهري، لكنه اختار دفع دولار كي يحصل على ١٠ دولارات اعتاد أن ينفقها على غدائه في ذلك اليوم. ما من شيء غير عقلاني أو «غير اقتصادي» في اتخاذ بيل قرارًا بدفع دولار مقابل الحصول على القرض من سالي.

لا شك أن عمليات الإقراض التي تتيح للمقترضين أن يمولوا استهلاكهم الحالي (على حساب استهلاكهم في المستقبل) هي جزء مما يحدث في اقتصاد السوق على نطاق واسع؛ فهي تشكل جزءًا كبيرًا من صناعة بطاقات الائتمان. لكن لا تظن أن كل المدخرات والاستثمارات تحمل هذا الطابع. فعندما تنظر إلى خطة الادخار الموضحة في الجزء السابق، تدرك أنه لا حاجة إلى وجود مقترض واحد أو أكثر يتورطون في الدين أكثر فأكثر بمرور السنوات. الواقع أن أي فرد في اقتصاد السوق يستطيع الحفاظ على مستوى معيشي لائق خلال سنوات التقاعد عن طريق الادخار والاستثمار أثناء سنوات العمل.

كيف يمكن ذلك؟ في مقابل كل شخص يدخر ويربح مبالغ متزايدة من الفائدة مثل سالي، ألا يتعين أن يكون هناك شخص في مكان ما يقترض ويدفع مبالغ متزايدة من دخله مثل بيل؟ يمكن الإجابة بنعم ولا في الوقت نفسه؛ فمَلاك الأمر أن القروض والاستثمارات يمكن أن تتم في الشركات المنتِجة، بدلًا من الاقتصار على إقراض فرد يزيد استهلاكه في الوقت الحالي. فعندما يجري توجيه المدخرات لخدمة التوسع في الإنتاج (بدلًا من تمويل الاستهلاك فقط)، سينمو «إجمالي الناتج» بمرور الوقت، مما يسمح لكل فرد في المجتمع بأن يتمتع بدخل أكبر.

في الدرس الثاني عشر سنتناول آليات الائتمان والدين على نحو أكثر تفصيلًا، أما الآن فكل ما نحتاج إليه هو فهم الصورة العامة لما يمكن أن يحدث إذا قرر كل فرد في المجتمع فجأة أن يدخر نصيبًا كبيرًا من دخله. فلكي يزداد الادخار يتعين على كل فرد تقليل استهلاكه. وهذا يعني أن جميع الأفراد سيقللون من إنفاقهم على ارتياد المطاعم الفخمة، وشراء السيارات الفارهة، واقتناء الأجهزة الإلكترونية، وارتداء الثياب الفاخرة. وفي الوقت نفسه، سيزيد الأفراد مقدار النقود التي يُقرضونها ويستثمرونها في المشروعات التجارية، سواء حدث ذلك على نحو مباشر (بشراء أسهم أو سندات الشركات) أو على نحو غير مباشر (بإيداع النقود في البنوك التي تُقرضها إلى المشروعات التجارية فيما بعد).

ستؤدي هذه التحولات الكبيرة في كيفية إنفاق الأفراد لدخولهم — بتحويلها من الاستهلاك إلى الاستثمار — في نهاية الأمر إلى توجيه العمالة والموارد بعيدًا عن القطاعات المخصص إنتاجها للاستهلاك الفوري، وتوجيههم نحو القطاعات المخصصة للإنتاج طويل الأجل. على سبيل المثال: ستشهد المتاجر الراقية ومتاجر الحلي انخفاضًا حادًّا في مبيعاتها، ومن ثم ستضطر إلى تسريح الأيدي العاملة وتخفيض الكميات المعروضة من السلع. المطاعم الراقية أيضًا ستضطر إلى تسريح العمال وإغلاق عدد من فروعها.

سيبحث العمال الذين سُرِّحوا من وظائفهم عن وظائف في قطاعات أخرى، وستؤدي تلك المنافسة الزائدة إلى خفض معدلات الرواتب في تلك القطاعات. ومع هذه الرواتب المنخفضة سترغب الشركات في تلك القطاعات في توظيف العمال الذين تركوا وظائفهم. وسيعاد توجيه موارد أخرى إلى جانب الأيدي العاملة المسرحة نحو استخدامات جديدة أيضًا. على سبيل المثال: سوف يقلل ملَّاك المباني التي صارت شاغرة (والتي كانت تؤجر لمتاجر الملابس ونحوها) أسعار إيجارها، مما يسهل على الشركات الأخرى التوسع في عملياتها بتأجير هذه المباني.

إذا تجاهلنا اضطرابات العالم الواقعي التي ستحدث جراء هذا التحول، فحتى الزيادة الكبيرة والمفاجئة في حجم الادخار لن تؤثر على «الإنفاق الكلي». صحيح أن الإنفاق على الاستهلاك سينخفض (في بادئ الأمر)، لكن سيقابله ارتفاع في الإنفاق على الاستثمار من جانب الشركات. وسيزيد عدد الوظائف المتاحة (في نهاية الأمر)، لأن النُّدُل وصغار العمال في مراكز التسوق الكبرى سيعملون في المصانع التي تنتج حفَّارات وجرَّارات.

أهم ما نستخلصه من ذلك أن الزيادة المفاجئة في المدخرات تتيح للناتج الاقتصادي التحول من السلع الاستهلاكية إلى السلع الرأسمالية. تمامًا مثلما تمكن روبنسون كروزو من زيادة قوة يده العاملة عن طريق الاستخدام الرشيد للادخار والاستثمار — على الرغم من عدم وجود شخص يُقرضه على الجزيرة — يمكن لجميع الأفراد أن يعزز بعضهم إنتاجية بعض عن طريق ضخ مزيد من الموارد من أجل إنتاج الماكينات والعدد. يمكن أن ترتفع دخول الجميع على مدار السنوات عندما تزداد الإنتاجية البدنية لهم بسبب إنتاج مخزون أكبر من السلع الرأسمالية.

في الدرس الثاني عشر سنقدم تفسيرًا أكثر شمولًا لكيفية تحديد أسعار الفائدة، وتلك منطقة معقدة للغاية. على سبيل المثال: يؤدي تراكم السلع الرأسمالية إلى رفع دخول العمال مباشرة من خلال زيادة الأجور (لأن كل ساعة عمل بمعدات أفضل ستزيد حجم الإنتاج). ونحن في هذا الدرس نكتفي بالتأكيد على أن جميع الأفراد قد يصبحون أكثر ثراء عن طريق الادخار. وليس صحيحًا أن المُقرِض لا يصبح أكثر ثراء إلا حينما يصبح المقترض أكثر فقرًا.

خلاصة الدرس

  • بسبب الفائدة يستطيع الفرد أن يدخر ويستثمر اليوم لكي يزيد دخله في المستقبل. فانخفاض طفيف في استهلاك اليوم من شأنه أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في مقدار الاستهلاك في المستقبل.

  • عندما يدخر الأفراد ويستثمرون، يتحول الاقتصاد تحولًا ماديًّا. فبدلًا من توجيه العمالة والموارد الأخرى لتصنيع أجهزة التليفزيون وأقراص الفيديو الرقمية، يعاد توجيه الإنتاج نحو صناعة الأدوات والمعدات. وهذا يقلل مقدار السلع الاستهلاكية المنتَجة في الوقت الحالي، لكن الأدوات الجديدة ترفع إنتاجية العمال في المستقبل.

  • ادخار شخص ما واستثماره لا يعني بالضرورة أن يغرق شخص آخر في الدين. بل يستطيع كل شخص في الاقتصاد أن يدخر مبالغ كبيرة ويستمتع بدخل أعلى في المستقبل.

مصطلحات جديدة

  • الدخل (للفرد): مقدار النقود التي يمكن إنفاقها على استهلاك السلع خلال فترة زمنية محددة، سواء من بيع خدمات اليد العاملة ومن إيرادات الأصول الأخرى (كالأسهم على سبيل المثال).
  • الدخل/الإيرادات (للشركات): العائدات مخصومًا منها النفقات.
  • المدخرات: مقدار زيادة الدخل عن الإنفاق على الاستهلاك.
  • الاقتراض/الادخار السلبي: مقدار زيادة الإنفاق على الاستهلاك عن الدخل.
  • الاستثمار: المدخرات التي تنفق بغرض زيادة الدخل في المستقبل.
  • الفائدة: الدخل المكتسب خلال فترة زمنية محددة جراء إقراض المدخرات للآخرين. وغالبًا ما يشار إلى الفائدة بأنها نسبة مئوية من أصل القرض تُدفع سنويًّا. على سبيل المثال: إذا أقرض شخص ما اليوم ١٠٠٠ دولار، واستردها بعد عام ١٠٥٠ دولارًا، فعندئذٍ نقول إن أصل القرض هو ١٠٠٠ دولار، والفائدة المحصَّلة ٥٠ دولارًا، ومعدل الفائدة ٥٪.

أسئلة الدرس

(١) هل يمكن أن يحدث الاستثمار دون ادخار؟
(٢) ما هي إيجابيات وسلبيات ادخار جزء كبير من دخلك؟
(٣) ما العلاقة بين الادخار والتقاعد؟
(٤) إذا اقترض شخص ما ليشتري شيئًا اليوم بدلًا من الانتظار والدفع نقدًا، فهل يكون ذلك مثالًا على سلوك غير اقتصادي؟
(٥) هل يستطيع كل فرد في المجتمع أن يراكم الأصول من أجل تقاعده؟ أو بصيغة أخرى هل تترجَم زيادة ثروة أي شخص على أنها زيادة في مديونية شخص آخر؟

هوامش

(١) لاحظ أنه لأننا ما زلنا في الجزء الذي يتناول اقتصاد السوق الخالص من الكتاب، فإننا لا نتعرض للحديث عن الضرائب. على أرض الواقع هناك تعريفات عديدة للدخول تعزى إلى عمليات الحساب قبل وبعد اقتطاع الضرائب.
(٢) يمكن للمؤسسات التجارية أيضًا أن تستثمر بغية زيادة إيراداتها في المستقبل، لكننا لن نتناول ذلك بالشرح في النص لأنه سرعان ما سيقودنا إلى العديد من التفاصيل الحسابية التي تتجاوز نطاق هذا الدرس.
لاحظ أيضًا أنه في أي فترة زمنية لا يمكن أن يكون الاستثمار أعلى من المدخرات، مع أن بعض الاقتصاديين يقولون إن الاستثمار قد يكون أقل من المدخرات. على سبيل المثال: إذا كان أحد الأفراد يحقق دخلًا قدره ١٠٠٠٠٠ دولار ينفق منها ٨٠٠٠٠ دولار على الاستهلاك ويستثمر ١٥٠٠٠ دولار في شراء أسهم، فربما يقول بعض الاقتصاديين إن ما تبقى في حسابه البنكي وقيمته ٥٠٠٠ دولار هو جزء من المدخرات وليس جزءًا من الاستثمار. مع ذلك قد يؤكد اقتصاديون آخرون أن الاستثمار لا بد أن يتساوى بالضرورة مع الادخار. في المثال الذي ذكرناه للتو، سيقول هؤلاء إن هذا الشخص لديه إجمالي مدخرات بقيمة ٢٠٠٠٠ دولار استثمر منها ١٥٠٠٠ في صورة أسهم و٥٠٠٠ دولار في صورة نقود. ويكون هذا الجدال الدائر حول فروق طفيفة كهذه ذا صلة عندما يختلف الاقتصاديون حول هل الاقتصاد سيواجه مشكلة أم لا عندما تزيد المدخرات عن الاستثمارات.
(٣) لاحظ أن الأقواس المستخدمة في الجداول هي تقليد محاسبي يشير إلى الأرقام السالبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤