الدرس الخامس عشر

إخفاقات الاشتراكية نظريًّا

ستتعلم في هذا الدرس

  • تعريف «الاشتراكية» و«الاقتصاد الموجَّه».

  • «مشكلة الحافز» في الاشتراكية.

  • «مشكلة الحساب» في الاشتراكية.

(١) رؤية الاشتراكية الخالصة

في الجزء الثاني من هذا الكتاب شرحنا البنية الأساسية لاقتصاد السوق الخالص وكيفية عمله. وفي هذا الدرس سنشرح فكرة «الاقتصاد الموجَّه» الخالص، أو ما يطلق عليه أيضًا «اقتصاد القيادة والسيطرة». تذكَّر أن ملكية الموارد في اقتصاد السوق الخالص تتوزع بين المواطنين، وأن الناتج الاقتصادي يتحدد عبر مجموعة الأفعال التي تصدر عن أصحاب الموارد جميعًا. وعلى العكس من ذلك، فإن الحكومة في الاقتصاد الموجَّه الخالص تمتلك كل الموارد وتتخذ كل القرارات المتعلقة بكيفية الاستفادة من هذه الموارد. وقد طرح المنظِّرون الاشتراكيون أساليب مختلفة يمكن لمسئولي الحكومة من خلالها الوصول إلى مثل هذه القرارات؛ ربما مع مراعاة رغبات العمال وتفضيلات المستهلكين. لكن في نهاية المطاف، الحكومة هي المسئولة في الاقتصاد الموجَّه الخالص عن إسناد الوظائف إلى العمال، وإعطاء الأوامر لأصحاب المصانع وللمزارعين.

ومع أن تخويل مثل هذه السلطات الهائلة لمسئولي الحكومة١ قد يبدو أمرًا مروعًا للكثير من القراء، فإن جاذبية الاقتصاد الموجَّه قديمًا كانت تتمثل في إمكانية تفادي النتائج التي قد تبدو في ظاهرها غير عادلة، والتي قد تحدث في ظل نظام يقوم على الملكية الخاصة. والحقيقة أن المصطلحات نفسها محملة بالمعاني العاطفية؛ فاقتصاد السوق يسمى «رأسمالية»، بينما يُطلق على الاقتصاد الموجه اسم «الاشتراكية». توحي هذه الأسماء ضمنًا أن اقتصاد السوق معني بخدمة مصالح فئة محدودة من الرأسماليين (من يحوزون الكثير من الممتلكات)، بينما يُفترض بالاقتصاد الموجه أن ينظم بنية الإنتاج بغرض خدمة مصالح أفراد المجتمع كافة. وكما أن الثورات السياسية قضت على هياكل السلطة الملكية والأرستقراطية التي كانت تنحاز إلى قلة نخبوية، فإن الإصلاحات الاشتراكية أيضًا تؤيد «الديمقراطية الاقتصادية» التي يكون فيها الشعب (ممثلًا في المسئولين الحكوميين) سيد قراره فيما يتعلق بالقرارات الاقتصادية المهمة، بدلًا من أن يكون القرار بيد أقلية ثريَّة تملك النصيب الأكبر من الموارد.

وعلى الرغم من حسن نوايا الكثيرين من الإصلاحيين الاشتراكيين، فإن مقترحاتهم تعتريها أوجه قصور جسيمة. سنوضح في هذا الدرس أهم المشكلات النظرية التي تواجه مجتمعًا ينبذ نظام الملكية الخاصة، ويحاول تطبيق الاشتراكية بدلًا منه. بعبارة أخرى، سنحاول أن نتمعن في دراسة فكرة الاشتراكية مع تسليط الضوء على بعض المشكلات الكبرى التي قد تظهر في أي وقت عند تطبيقها، وذلك اعتمادًا على ما لدينا من معرفة بعلم الاقتصاد.

وفي الدرس التالي سنتعرض بإيجاز لتاريخ الاشتراكية؛ لنتعرف على ما حدث على أرض الواقع عندما حاولت بعض الدول بالفعل تطبيق الإصلاحات الاشتراكية. وكما سنرى، فإن النتائج تتنوع ما بين السيئ والمروِّع، وستساعدنا هذه النتائج في التأكيد على الحجج النظرية التي سنشير إليها فيما يأتي.

(٢) مشكلة الحافز في الاشتراكية

أكثر المشكلات التي تعتري الاشتراكية وضوحًا هي أنها تبدِّل الحوافز التي تحرك المنتجين والمستهلكين على حد سواء، وهو ما قد يعرقل أداء أي اقتصاد اشتراكي. إذا حاولت إحدى الحكومات حقًّا تطبيق الشعار الماركسي «الكل يعطي بقدر استطاعته، والكل يأخذ بحسب احتياجاته»، فالأرجح أن غالبية الأفراد لن يكِدُّوا في العمل قدر ما كانوا سيفعلون في ظل النظام الرأسمالي.

وأحد المبادئ الرئيسية للنظام الاشتراكي الخالص هو فصل الإنتاج عن الاستهلاك، بمعنى أن العمال يستخدمون الموارد لينتجوا أولًا قدرًا وفيرًا من الإنتاج، ثم يأتي دور الحكومة في توزيع السلع (كالوحدات السكنية مثلًا) على عدد من المستفيدين وفقًا لمعايير يُعتقَد أنها عادلة أو منصفة (مثل عدد أفراد الأسرة على سبيل المثال). لكن قد يقول كثير من المراقبين إن الطبيعة البشرية نفسها تقضي بأن الأفراد لن يعملوا بجد لخدمة المجتمع بوجه عام، مثلما قد يفعلون إذا كانت ثمار جهودهم ستعود عليهم أنفسهم. وإذا كان هؤلاء المراقبون على صواب فيما يقولون، فربما يوزع النظام الاشتراكي ما يُنتَج من سلع توزيعًا أكثر «عدالة» من النظام الرأسمالي وفقًا لمعايير الإصلاح، لكن السلع التي ستُوزَّع حينئذ ستكون أقل كثيرًا.

(٢-١) من يجمع القمامة؟

ترتبط مشكلة إغواء العمَّال بالعمل ساعات طوال بمشكلة الوظائف المَقِيتة. ولتبسيط الأمور، دعنا نتساءل من سيجمع القمامة ومن سينظف المراحيض العامة في ظل النظام الاشتراكي؟ أما في ظل اقتصاد السوق، فيمكن تعديل الأجور بهدف اجتذاب عدد أكبر من العمال لشغل وظائف بعينها. صحيح أن طفلًا في الثامنة من عمره لن يقول: «أود أن أعمل حارس عقار عندما أكبر.» لكن بعض الأفراد يعملون في هذه الوظيفة لأنها تدر عليهم دخلًا أكبر من الكثير من الوظائف الأخرى التي تتطلب مؤهلات وخبرة مماثلة.

وفي ظل الاشتراكية الخالصة — على الأقل مثلما يعبِّر الشعار الماركسي الشهير — فإن ما «يستهلكه» الأفراد لا علاقة له بما «ينتجه» العمال. وذاك يلغي أبرز الطرق التي يمكن من خلالها أن تعثر الحكومة الاشتراكية على «متطوعين» للعمل في الوظائف المقيتة التي لا غنى للمجتمع عنها. وبطبيعة الحال، اقترح المنظِّرون الاشتراكيون بدائل تعويضية أخرى، مثل مكافأة العاملين في مناجم الفحم بعدد أكبر من أيام العطلات على مدار العام، أو بعدد أطول من ساعات الراحة كل يوم.

ربما تساعد هذه المقترحات بعض الشيء، لكنها مع ذلك قد تؤدي إلى سخافات فيما يتعلق باستغلال الأيدي العاملة النادرة. على سبيل المثال: قد يغري اقتصاد السوق ١٠٠ شخص في إحدى المدن للموافقة طوعًا على الاستيقاظ كل صباح من أجل جمع القمامة ثماني ساعات متصلة، لأنهم سيحصلون على راتب مجز يوفر لهم مستوى معيشة لائق. وفي الأساس، يبدو الأمر وكأن أفرادًا آخرين في اقتصاد السوق يعقدون صفقة قائلين: «إذا توليت أمر جمع قمامتي كل أسبوع، فسأقدم لك خدمات طبية أو أعد لك الطعام أو أعلم أولادك دروس الجبر … إلخ.»

لنؤكد ثانية أن هذا النوع من المقايضة الطوعية لا يكون متاحًا عندما يرغب القادة الاشتراكيون بحق في التخلي عن أساليب الرأسمالية والملكية الخاصة. إذا كان مقدار الاستهلاك الشخصي معتمدًا على اعتبارات أخرى بخلاف إسهام العامل في الناتج الإجمالي — أي إذا كان العمال سيكافَئون بطريقة تختلف عما يحدث في ظل النظام الرأسمالي — فعلى القادة إذن أن يعدِّلوا الخصائص الأخرى للوظائف كي يجدوا عددًا كافيًا من المتطوعين لشغل كل وظيفة. على سبيل المثال: بدلًا من وجود ١٠٠ رجل يجمعون القمامة ويتقاضون راتبًا يكفي لشراء سيارة فارهة، ربما يحتاج النظام الاشتراكي ٢٠٠ رجل يجمعون القمامة لمدة أربع ساعات فقط كل يوم مع امتلاك كل منهم سيارة متواضعة مثل غيره من العمال. ومع أنه يمكن حل مشكلة جمع القمامة بهذه الطريقة — أي تقليل عدد ساعات العمل — فإن القادة الاشتراكيين سيعانون حينها عجزًا بمقدار ١٠٠ عامل في الوظائف الأخرى مقارنة بالنظام الرأسمالي. وهنا تتجلى المشكلة الكبرى، وهي أنه في ظل النظام الاشتراكي من المرجح أن عددًا كبيرًا من العمال، إن لم يكن أغلبهم، لن يبذلوا نفس الجهد الذي كانوا سيبذلونه في ظل النظام الرأسمالي الذي يرتبط فيه مستوى معيشتهم ارتباطًا مباشرًا بأدائهم الوظيفي.

لا شك أن من بين الحلول الواضحة لمشكلات «التقصير» وأداء الوظائف غير المرغوب فيها أن تجبر الحكومةُ الأفرادَ على أداء مهام بعينها. وكما أن للقادة الاشتراكيين سلطة اتخاذ قرار بشأن نوعية المحصول الذي ينبغي زراعته في كل فدان من الأرض الزراعية، فإن بإمكانهم أيضًا من الناحية النظرية أن يحددوا دور كل «وحدة» من وحدات الأيدي العاملة في خطة الإنتاج على المستوى الاقتصادي ككل. وقديمًا ظن عدد من الإصلاحيين السذج أن الحكومة الاشتراكية يمكنها الحفاظ على حق العامل في اختيار وظيفته، لكن مفكرين آخرين كانوا أكثر صراحة بشأن الواجبات المنوطة بالعمال في مجتمع يقوم على الاشتراكية.

لكن حتى وإن أجزنا تطبيق العقاب، فستظل الحكومة الاشتراكية تواجه مشكلة انخفاض في الناتج الكلي نتيجة الافتقار إلى التعاون بين العديد من العمال. أما في اقتصاد السوق، فإن إغراء المكافآت المالية الضخمة يفسح الطريق أمام بزوغ نجم الأفضل والأكفأ بين الجمهور — إذا جاز التعبير — وإظهارهم لمواهبهم وتطلعاتهم. حتى وإن أراد القادة الاشتراكيون تطبيق عقوبات صارمة، فما كانوا سيستطيعون التعرف على ما يمكن أن يحققه شخص مثل بيل جيتس إذا نظروا إليه هو ورفاقه عندما كانوا يبلغون من العمر عشرين عامًا. ربما كان ممكنًا أن يهددوا جيتس الشاب بالجَلد أو السجن إذا لم يعد ما يكفي من التقارير الإحصائية كل ساعة، لكن لم يكن ليخطر ببالهم مطلقًا أن يقولوا: «من الأفضل لك أن تأتي ببعض الأفكار الحاسوبية التي من شأنها أن تحدث ثورة في العالم، وإلا سنقتل أسرتك.» ذلك لأنه لم تكن لدى أحد منهم فكرة عن العبقرية الكامنة في بيل جيتس الشاب (وتوماس إديسون وهنري فورد … وغيرهم) إلى أن تقدم هو وكشف النقاب عن هذه العبقرية في اقتصاد السوق.

(٢-٢) تخصيص رأس المال لشركات جديدة

بإمكان أي شخص أن يدرك على الفور مشكلة الحافز التي تظهر في ظل النظام الاشتراكي عندما يتعلق الأمر بالعمال وتقصيرهم في أداء وظائفهم. وثمة جانب آخر — وإن كان أقل وضوحًا بكثير — من مشكلة الحافز يتعلق ﺑ «تخصيص» رأس المال ﻟ «الشركات» الجديدة في ظل النظام الاشتراكي. وقد استخدمنا علامات التنصيص هنا لأن الدقة تقتضي القول إنه لا يوجد رأس مال نقدي ولا شركات مستقلة بذاتها في ظل النظام الاشتراكي الخالص، بل هناك تشكيلة كبرى من موارد طبيعية، وسلع رأسمالية، وعمال ذوي مهارات متنوعة، وكلها لا بد أن تعامَل بوصفها نقطة انطلاق لدى المسئولين عن التخطيط في الحكومة عندما يقدمون على وضع خطة شاملة للاقتصاد ككل.

ومع ذلك، سيواجه واضعو الخطط الاشتراكيون تحديات تشبه تلك التي تتكفل الأسواق المالية في ظل النظام الرأسمالي بحلِّها. في اقتصاد السوق — على سبيل المثال — قد يُقنع العلماء في إحدى شركات النفط مديريهم بجدوى إنفاق ملياري دولار في تطوير منصة بحرية في مكان ما في خليج المكسيك (مع زيادة تدابير السلامة كي لا تتعرض لتسرب نفطي مماثل لما تعرضت له شركة بريتيش بيتروليوم البريطانية). سيرفع المديرون الأمر بدورهم إلى رؤسائهم وهكذا، إلى أن يوافق المساهمون في نهاية المطاف على هذا المقترح أو يرفضونه. إذا لم يكن لدى الشركة احتياطي نقدي كاف، فقد تضطر إلى إصدار مزيد من السندات أو الأسهم لتمويل المشروع. وسواء مُوِّل المشروع من الداخل أو بمساعدة خارجية، سيتعين على أصحاب رءوس الأموال الخاصة في النهاية المخاطرة بأموالهم المدَّخرة على أمل أن ينتج المشروع ما يكفي من النفط الجديد للسوق من أجل تغطية النفقات الهائلة.

لاحظ أن المخاطر والمكاسب المحتملة لمشروع المنصة البحرية لا تزال قائمة في ظل النظام الاشتراكي، فهي ليست مجرد نواتج لاقتصاد السوق. وواضعو الخطط الاشتراكيون ليسوا على علم بكل شيء، بل يحتاجون هم أيضًا للاعتماد على توجيهات العلماء والخبراء لتقدير عدد براميل النفط التي قد يوفرها المشروع الجديد. وذاك لُبُّ المشكلة؛ كيف يتخير المخططون الاشتراكيون المشروعات «الرابحة» من بين آلاف المقترحات المنافسة؟ وتبقى في النهاية جميع أنواع الأساليب التي يمكن من خلالها زيادة عدد براميل النفط — أو أشكال الطاقة الأخرى — في متناول المخططين المستقبليين، لكن من الواضح أن المخططين الحاليين لا يستطيعون «تمويل» كل هذه الأساليب، لعدم كفاية الموارد. وعندما يتعلق الأمر بمشكلة اختيار أي المشروعات المحفوفة بالمخاطر ينبغي الموافقة عليه وأيها ينبغي رفضه، تظهر مجددًا مسألة الحوافز التي تختلف في ظل النظام الرأسمالي عنها في النظام الاشتراكي.

ولمعرفة السبب وراء ذلك، سنفترض أن مسئولي التخطيط في الحكومة قرروا بسذاجة تمويل تلك المشروعات التي تبشر بتحقيق أعلى عائد — سواء أكان هذا العائد ممثلًا في براميل نفط أو شاحنات صغيرة أو جالونات حليب … إلخ — بإسهام موَحَّد من الموارد المتاحة. قد يمنح هذا القرار مديري المشروعات الحافز للمبالغة في مزايا مقترحاتهم المفضلة. لاحظ أنه لا يشترط بالضرورة أن يكونوا كاذبين فيما يقولون — مع أن بعضهم يكون كذلك بلا شك — لكنهم ولأسباب لا تخفى على أحد سيقدمون أفضل الدراسات ولن يطلبوا من العاملين لديهم قضاء وقت طويل في التفكير في العقبات التي قد تواجهها مقترحاتهم. وستكون النتيجة تبديد موارد المجتمع النادرة، لأنها استُخدمت وفقًا لخطة مركزية اعتمد وضعها على توقعات أكثر المروجين لهذه المشروعات تجردًا من المبادئ أو تهورًا أو كلا الأمرين معًا.

على الجانب الآخر سيواجه مسئولو التخطيط في الحكومة خطر وضع نظام حوافز يقضي على الإبداع وروح المجازفة. على سبيل المثال: قد يتبع مسئولو التخطيط إجراءً يأخذون بموجبه بمشورة علماء مدربين تدريبًا رسميًّا وخبراء آخرين يتسمون بالموضوعية في مختلف التخصصات، لكن إذا تبين في أي مرة أن أحدهم أخطأ خطأً فادحًا في أحد توقعاته، فلن يُسمح له ثانية بالتأثير في خطة الاقتصاد الشاملة. لا شك أن قاعدة كهذه ستقضي على المحتالين وبائعي الأوهام، لكنها أيضًا ستجعل المستشارين الأكفاء أكثر تحفظًا بكثير حيال إبداء توقعاتهم. سيخشى ذوو الأفكار الجريئة معارضة رأي أقرانهم الذي يُتَّخذ بالإجماع، خصوصًا وإن كان مشروعهم عرضة للفشل، لكن هناك احتمالًا أن يحقق المشروع نجاحًا باهرًا.

لا شك أن بإمكان المخططين الاشتراكيين محاولة تجنب كلا النقيضين السابقين من خلال تطبيق نظام حوافز يجمع بين تشجيع روح المغامرة المتعقلة، وفي نفس الوقت يستبعد من لا يخفى انعدام كفاءتهم. على سبيل المثال: يمكنهم أخذ إجمالي الموارد التي ينوون تخصيصها من أجل «تطوير مشروع جديد» ويعهدون بمسئولية جزء محدد من هذه الموارد إلى خبير واحد وفقًا لتاريخه المهني ككل. لن يؤدي وقوع خطأ بعينه إلى إقصاء هذا الخبير ما دامت نجاحاته تعوض إخفاقاته. ولتشجيع الخبراء على المجازفة عندما يرون فرصة لتحقيق عائد كبير، يمكن لواضعي الخطط أيضًا أن يشترطوا ربط المستوى المعيشي للخبراء بمجمل ما يبينه سجل كل منهم الوظيفي فيما يتعلق بالتعامل مع موارد المجتمع النادرة.

نأمل أن تكون قد فهمت ما يجري في ظل النظام الاشتراكي. فأثناء محاولات تصحيح السبل المختلفة لتطبيق الاشتراكية، وجد واضعو الخطط المركزية الذين تحدثنا عنهم من قبل أنفسهم مدفوعين شيئًا فشيئًا نحو إعادة اكتشاف «الرأسمالية».٢

(٢-٣) قوة محتكرة عملاقة

ركزنا حتى الآن على مشكلة الحافز التي قد تواجهها الحكومات الاشتراكية عند حثِّ مواطنيها على المشاركة في الخطة الاقتصادية وفقًا للاتجاه المنشود. لكن هناك العديد من المشاكل المتعلقة بالحافز تسير في الاتجاه المعاكس أيضًا. وتحديدًا، سيكون لدى مسئولي الحكومة القليل من الحافز لأخذ تفضيلات المواطنين (عمالًا ومستهلكين على حد سواء) بعين الاعتبار عند وضع خطة الاقتصاد العامة. ومما يثير السخرية أن كثيرين من الإصلاحيين الاشتراكيين يحذرون من مخاطر «الاحتكارات» الرأسمالية في قطاعات بعينها في الوقت الذي تدعو فيه توصياتهم إلى إيجاد محتكر واحد عملاق — هو الحكومة — يسيطر على كافة قطاعات الاقتصاد.

حتى في الدول التي تسمَّى دولًا رأسمالية، يمكننا اليوم أن نرى أن هذا هو المبدأ السائد. على سبيل المثال: من المقولات الشائعة على سبيل المزاح أن إدارة المرور في أمريكا لا تضم الموظفين الأكثر مودَّة في التعامل مع الآخرين. وقطارات الأنفاق في كثير من المدن تشهد تدهورًا يختلف في درجته من مدينة لأخرى. حالة المستشفيات الحكومية المخصصة لعلاج قدامى المحاربين — ناهيك عن مستشفيات المرضى النفسيين — يمكن أن توصف بأنها وصمة بكل معنى الكلمة. وأخيرًا لاحظ أنه أثناء أشهر الصيف الحارة، تفتح شركات الخمور وشركات تكييف الهواء أذرعها أمام الإقبال المتزايد، بينما تعنِّف المرافق الحكومية عملاءها بسبب استهلاك الكثير من الكهرباء أو المياه.

ثمة تفسير مبسط لهذا النموذج الذي لا خلاف عليه؛ فعندما توفر الهيئات الحكومية (أو مؤسسات القطاع الخاص التي تحظى بدعم حكومي) السلع والخدمات للجمهور، فإنه لا يمكن فصل العاملين فيها من وظائفهم. فنحن نرى المواطنين مضطرين للذهاب إلى إدارة المرور لتجديد رخصة القيادة وما إلى ذلك، ولا يمكنهم إنهاء إجراءات استخراج رخص القيادة في جهة أخرى يعمل بها موظفون أكثر مودة في التعامل معهم. ودائمًا سيكون لدى مدير أحد متاجر بيع المواد الغذائية حافز لإبقاء العمال المتجهمين بعيدًا عن التعامل مع الزبائن، بينما يكاد مدير أحد أقسام إدارة المرور أن يفتقر لمثل هذا الدافع. وإن كان رؤساؤه حريصين حقًّا على إرضاء العملاء، لوضعوا نظام مكافآت يتلقى بموجبه كل مدير فرع في إدارة المرور علاوة تتناسب مع عدد المواطنين الذين قرروا إنهاء إجراءات الترخيص لدى الفرع الذي يرأسه هذا المدير تحديدًا. لكن هذا يعيدنا خطوة إلى الوراء؛ فما الذي قد يجعل رؤساء مديري الفروع يحرصون على إرضاء العملاء، بينما لديهم من المشكلات الأخرى ما يسترعي اهتمامهم؟ فإرضاء العملاء لن يعود بإيرادات أكثر على الحكومة ممن يقررون استخراج رخص القيادة بسبب المعاملة الدمثة التي سيتلقونها من موظفي إدارة المرور.٣

ما من شك في أن الأفراد في أي مجتمع اشتراكي يستطيعون انتخاب مسئولي حكومة جديدة إذا كانوا يعيشون في ظل نظام ديمقراطي، ويستطيعون في النهاية أن يخرجوا في ثورة عنيفة بصرف النظر عن توجهات السلطة الحاكمة. وبوجه عام، يرغب مسئولو كل الحكومات — سواء في دولة محدودة تشرف على اقتصاد سوق كبير، أو حتى في دولة اشتراكية استبدادية يترأسها حاكم ديكتاتور — في إرضاء عامة الناس. ومع ذلك فهناك فارق شاسع في الحوافز التي تواجه «المسئولين» بين اقتصاد السوق الخالص والاقتصاد الموجَّه الخالص. فأسوأ ما يمكن لأي «مستبد» رأسمالي فعله هو أن يفصلك من العمل (إذا كنت موظفًا) أو أن يرفض أن يبيعك ما تريد (إذا كنت مستهلكًا). وعلى النقيض، إذا كانت الحكومة تتخذ كل قرارات التوظيف في الاقتصاد برمته، وتتحكم في كل متاجر المواد الغذائية، فيمكنها حينئذ أن ترهب حقًّا من ينتقدون أداءها إما بإرسالهم إلى العمل في سيبيريا أو تجويعهم. وعندما يحدث ذلك، فلا تتوقع من الصحف أو غيرها من وسائل الإعلام توثيق هذه الانتهاكات؛ فهي مِلك للحكومة أيضًا.

(٣) مشكلة الحساب في الاشتراكية

خلال النقاشات التي كانت تدور حول الاشتراكية على مر التاريخ، كان المعارضون يطرحون المشكلات المتعلقة بالحافز التي أشرنا إليها من قبل، فيرد المؤيدون عادةً بقولهم إن الأفراد الذين ينشئون في ظل فردوس الاشتراكية سيعتادون على العمل من أجل مصلحة جيرانهم. أيضًا كانوا يزعمون أن «اشتراكيًّا» جديدًا سيظهر، وأنه لن يتصف بالأنانية مثل من كانوا يعيشون في ظل النظام الرأسمالي. والفكرة الرئيسية في ذلك أن البشر بطبيعتهم يتصفون بالكرم والإيثار، لكن نظام الملكية الخاصة فرض عليهم الاتصاف بالجشع والقسوة.

يرى الاشتراكيون أنه ربما إذا لم يضطر العمال إلى القلق بشأن توفير نفقات أسرهم، فلن يجدوا غضاضة في الذهاب كل يوم إلى المصانع من أجل خدمة الصالح العام.

وفي هذا السياق خرج معارضو الاشتراكية بنقد أقوى.٤ فحتى لو لم تكن هناك مشاكل تتعلق بالحافز — بحيث يؤدي العمال كل ما يُطلب منهم من مهام عن طيب خاطر، ولم يكن لدى واضعي الخطط الاشتراكيين سوى أفضل النوايا تجاه مواطنيهم — فسيظل استغلال الاشتراكية لموارد المجتمع بكفاءة استغلالًا سيئًا للغاية.

نظرًا لأن جميع الموارد ستكون ملكًا للحكومة الاشتراكية، فلن تكون هناك أي أسواق لها. بعبارة أخرى، لن يتخلى الأفراد عن أموالهم مقابل شراء جرارات زراعية، أو مساحات من الأرض الزراعية، أو براميل من النفط … إلخ. وهذا يعني أنه في ظل الاشتراكية البحتة، لن تكون هناك أسعار للموارد الطبيعية، والعمالة، والسلع الرأسمالية. ودون أن يكون واضعو الخطط الاشتراكيون على علم بأسعار مدخلات الإنتاج، فلن تكون هناك وسيلة لتقدير إجمالي التكلفة النقدية لمشروعاتهم. ومن ثم، لن تكون لديهم فكرة هل هذا المشروع أو ذاك يستغل الموارد الداخلة فيه استغلالًا جيدًا، أو هل من الأفضل للمواطنين إلغاء هذا المشروع واستغلال الموارد التي كانت تدخل فيه في إنتاج شيء آخر.

تذكر أنه في اقتصاد السوق، يستطيع المحاسبون استخدام أسعار السوق ليحددوا هل يحقق أحد المشروعات أرباحًا أم أنه يكبِّد القائمين عليه خسائر. وهذا الإجراء يعطي مؤشرًا يبين ما إذا كان ملاك الموارد الأخرى يوافقون (ضمنيًّا) على قرار صاحب المشروع بتخصيص قدر من الموارد النادرة له أم لا. فالربح يشير إلى أن العملاء على استعداد لأن يدفعوا مقابل الحصول على المنتج النهائي سعرًا أعلى مما أنفقه صاحب المشروع من أجل الحصول على مدخلات الإنتاج. وفي المقابل، تشير الخسارة إلى أن العملاء ينفقون أموالًا أكثر في شراء أنواع أخرى من السلع، مما يتيح لأصحاب الأعمال هؤلاء رفع أسعار المدخلات اللازمة وتغريم صاحب المشروع الأول إذا استمر في نشاطه. باختصار، يحظى أصحاب الأعمال في اقتصاد السوق دائمًا بتوجيه وتقييم مستمرين من خلال اختبار الأرباح والخسائر، وهو ما لا يمكن حدوثه إلا إذا كانت لجميع المدخلات المختلفة أسعار سوقية محددة.

لا يحظى واضعو الخطط في النظام الاشتراكي بتوجيه كهذا. يمكن للمهندسين والكيميائيين وغيرهم من الخبراء أن يوضحوا لهم الإمكانات التكنولوجية لاستخدام مخزون المدخلات لإنتاج مجموعات متنوعة من السلع والخدمات. لكن على الرغم من أنه سيكون باستطاعة واضعي الخطط معرفة هل المشروع مجدٍ من الناحية التكنولوجية أم لا، فإنهم لن يعرفوا هل المشروع اقتصادي أم لا. فمن دون القدرة على تحديد أسعار السوق لكل وحدة من مدخلات الإنتاج، وأيضًا لكل وحدة من وحدات المنتج النهائي، لن يتمكن واضعو الخطط من اختزال إجمالي المدخلات وإجمالي المنتجات إلى قاسم مشترك ورؤية ما إذا كانت العملية بوجه عام قد أنتجت ثروة أم بددتها. وعلى ذلك، فإنه حتى لو تجاهلنا المشكلات المتعلقة بالحافز، فسيواجه واضعو الخطط الاشتراكيون «مشكلة حسابية» لا يمكن تجاوزها.

وللتعرف على طبيعة المشكلة الحسابية، سنحتاج بضع دقائق للتفكير في ذلك التعقيد الهائل الذي يشوب الاقتصاد الحديث. فمنذ أن بدأ القادة الاشتراكيون وضع خطتهم الاقتصادية الكبرى، كانت لديهم حرية التصرف في ملايين العمال ذوي المهارات والطاقات المختلفة، ومخزون من النفط والفحم والماس وغيره من المعادن، ومصانع ومستودعات ومختبرات بحث ومراكز تعليم مختلفة، ومليارات من الجرارات الزراعية والعدد اليدوية وغيرها من المعدات الأخرى التي يملكها أفراد جميعها يمر بمراحل مختلفة من القِدَم، وأخيرًا بنيات تحتية مختلفة تشمل خطوط الطاقة، وخطوط الهواتف، والطرق العامة، والكباري. تذكَّر أيضًا أن القادة الاشتراكيين كانوا بحاجة إلى أمور تتجاوز مجرد حصر مختلف مدخلات الإنتاج التي تقع تحت تصرفهم وذلك من أجل وضع خطة اقتصادية مترابطة. كانوا يحتاجون أيضًا لمعرفة موقع كل وحدة من وحدات مدخلات الإنتاج. على سبيل المثال: إذا كانت خطة الإنتاج تتطلب من أحد الميكانيكيين أن يستبدل في صباح يوم الثلاثاء بالإطارات الهالكة لأحد الجرارات إطارات أخرى جديدة، فلا بد من وجود الميكانيكي والإطارات الجديدة والجرار في نفس المدينة صباح الثلاثاء!

حتى وإن استطاع واضعو الخطط معالجة كل هذه المعلومات — والقيام بذلك سريعًا من أجل تحديث الخطة الاقتصادية في الوقت الحالي استجابة لمتغيرات الأحوال — فلن يتمكنوا من التغلب على المشكلة الحسابية. وبالتشاور مع الخبراء، يمكنهم تحديد مجموعات مختلفة من السلع التي يمكن إنتاجها باستخدام جميع مدخلات الإنتاج المتوفرة لديهم. لكن حتى إذا كانت كل رغبتهم هي إسعاد مواطنيهم قدر الإمكان، فكيف سيتمكنون من تحديد ما ينبغي القيام به تحديدًا؟

الاشتراكيون الذين ينتقدون نظام اقتصاد السوق يشيرون إلى «انتهاكات» محددة، ويظنون أن أي مجموعة من الخبراء يمكنهم تعديل العواقب اللامركزية للنظام الرأسمالي. تثور ثائرة هؤلاء المعارضين على سبيل المثال لأن بعض الأشخاص يملكون ١٠ سيارات رياضية فارهة ويختًا، بينما غيرهم يتضور جوعًا. لكن هذه النظرة الأخلاقية لا تكفي لوضع خطة اقتصادية بديلة. يمكننا الإقرار بأن واضعي الخطط الاشتراكيين لن يستغلوا موارد المجتمع من أجل عدم تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع فيما يتعلق بمستوى المعيشة. لا جدال في هذا القول، لكن لا يزال السؤال المطروح: ما أنواع السلع والخدمات التي ينبغي أن يحصل عليها كل فرد؟ حتى لو قرر المخططون أن يحصل كل مواطن على عدد السيارات نفسه — ربما بناءً على عدد الأفراد من فئة عمرية محددة في كل أسرة، وأماكن عمل أفراد الأسرة — فلا يزالون بحاجة لتحديد إجمالي عدد السيارات التي يجب إنتاجها، ودرجة فخامتها. فرغم كل شيء، سيرغب المواطنون حتمًا في قيادة سيارات مريحة جذابة مزودة بوسادات هوائية وأجهزة تكييف، وسماعات صوت ذات جودة عالية. لكن ضخ قدر كبير من الموارد في شيء كهذا سيترك القليل لإنتاج أشياء أخرى قد يستمتع بها المواطنون أيضًا، مثل مزيد من أقراص الفيديو الرقمية، أو منازل ذات مساحات أكبر، أو مراكز توزيع أكثر (يطلق عليها اسم «المتاجر» في نظام اقتصاد السوق).

«التخطيط» … مصطلح محمَّل بالمعاني

مفارقة «التخطيط» أنه عاجز عن أن يخطط، نتيجة لغياب الحساب الاقتصادي. وما يُطلق عليه اقتصاد مخطَّط ليس من الاقتصاد في شيء على الإطلاق؛ فهو لا يعدو أن يكون نظامًا من التخبط في الظلام. فلا وجود لمسألة الاختيار العقلاني للوسائل بهدف تحقيق أقصى قدر ممكن من الغايات المنشودة. وما يُطلق عليه تخطيط واع هو تحديدًا إلغاء الفعل الهادف الواعي.

لودفيج فون ميزس،
كتاب «الفعل البشري»، صفحة ٦٩٦

(٣-١) كيف تُحَّل مشكلة الحساب؟

بطبيعة الحال، يستطيع واضعو الخطط الاشتراكيون ابتكار سبل مختلفة للحصول على ردود أفعال الأفراد من أجل أن يقدموا لهم خدمة أفضل. ويتمثل أحد تلك الابتكارات في أن يتيحوا للأفراد أو الأسر بعض سبل التأثير في الخطة الاقتصادية العامة. سيكون من التبديد الواضح إنتاج نفس تشكيلة السلع والخدمات لكل فرد من أفراد المجتمع، فالنباتيون مثلًا لن يهتموا بتناول اللحوم المصنعة، وغير المدخنين لن يرغبوا في الحصول على حصة من السجائر. لكن كي يتجنب واضعو الخطط عدم تحقيق المساواة في ظل النظام الرأسمالي، سيكونون في حاجة إلى طريقة ما تكفل حصول كل الأفراد أو الأسر على «المقدار» نفسه من الاستهلاك أيًّا كان نوعه.

على سبيل المثال: يمكنهم تخصيص حصة معينة من نقاط التصويت كل شهر لكل فرد أو أسرة، بحيث تُستخدم هذه النقاط في طلب الحصول على سلع وخدمات مختلفة. وفي هذه الحالة ستستهلك سلع مثل أجهزة التليفزيون أو سيارات الدفع الرباعي نقاطًا أكثر من حصة الأسرة عما يستهلكه طلب عبوة من المياه الغازية أو رغيف من الخبز؛ ذلك أن الموارد اللازمة لإنتاج السلع الأولى ستكون أكثر لا شك. (بعبارة أخرى، لن يكون من العدل أن تصوِّت أسرة للحصول على ١٠ أجهزة تليفزيون، بينما تصوت أخرى للحصول على ١٠ عبوات من أسماك التونة. فالأسرة الأولى هنا ستستهلك أكثر من الثانية.) ومن أجل الحصول على عدد النقاط «الصحيح» لكل نوع من أنواع السلع، سيعتمد واضعو الخطط على التقييم الذي سيقدمه مديرو مراكز التوزيع. فإذا كانت الأرفف مكدسة بأجهزة التليفزيون، بينما تكاد تكون الأرفف المخصصة لعبوات التونة خالية، يمكن لواضعي الخطط تقليل عدد النقاط التي ستُخصَم من الأسرة في حالة طلب الحصول على جهاز تليفزيون، وفي الوقت نفسه زيادة عدد النقاط اللازمة لطلب عبوة التونة. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى التخلص من المخزون الزائد لأجهزة التليفزيون وأيضًا الحيلولة دون نفاد عبوات التونة.

مع الأسف، لا يمكن اللجوء إلى هذا النوع من الحيل إلا في حالة وجود فائض أو عجز في السلع بعد إنتاجها. قبل ذلك، سيتعين على واضعي الخطط إدخال التعديلات على خطتهم الاقتصادية الكبرى ليقرروا هل سينتجون عددًا أكبر أو أقل من أجهزة التليفزيون (أو عبوات التونة) في الفترة المقبلة. واعتمادًا على المعلومات التي تصل إليهم من مديري مراكز التوزيع، ستتكون لديهم فكرة عن عدد أجهزة التليفزيون التي سيطلبها الأشخاص عند كل عدد ممكن من النقاط المخصصة للحصول على تليفزيون. لكن ذلك لن يدلهم على أن القرار الصحيح هو أن: (أ) ينتجوا مزيدًا من أجهزة التليفزيون خلال الفترة المقبلة ويخصصوا لها عددًا أقل من النقاط، أم (ب) ينتجوا عددا أقل من أجهزة التليفزيون خلال الفترة المقبلة ويخصصوا لها عددًا أكبر من النقاط.

لحل هذه الإشكالية، قد يحاول واضعو الخطط الارتقاء بنظام الاختيار. فيمكنهم منح مديري المصانع المختلفة نقاطًا، مما يسمح لهم بطلب كميات مختلفة من الأيدي العاملة والجازولين والكهرباء … إلخ. ومثلما يُسمح للأسر باستخدام ما لديها من نقاط في طلب مجموعة مختلفة من السلع النهائية، يُسمح لمنتجي أجهزة التليفزيون وعبوات التونة باستخدام ما لديهم من نقاط في طلب مجموعة مختلفة من مدخلات الإنتاج. وهذا سيضمن ألا يستأثر منتجو أجهزة التليفزيون بالموارد على نحو جائر وعلى حساب منتجي عبوات التونة.

لكن ذلك أيضًا لن يحل مشكلة الحساب برمتها مثلما سيدرك واضعو الخطط عما قريب. على الرغم من أنه يبدو ملائمًا إرغام كل فرد على استهلاك «المقدار» نفسه من السلع من خلال تخصيص قدر متساو من نقاط الاختيار لكل فرد، سيكون من الهراء الواضح الإصرار على أن يحصل كل مدير مصنع على القدر نفسه من الموارد اللازمة لنشاطه. بمعنى آخر، إذا منح واضعو الخطط كل شهر العدد نفسه من النقاط لمن ينتج أجهزة التليفزيون ولمن ينتج عبوات التونة، فسيضمنون أن المجتمع قد خصص قدرًا متساويًا من الموارد لإنتاج كل من أجهزة التليفزيون وعبوات التونة. لكن لماذا نتوقع من الأساس أن يكون هذا هو التصرف الصحيح من أجل استخدام موارد المجتمع النادرة لتحقيق أقصى قدر من رضا المواطنين؟

لكي يصل المخططون إلى طريقة موضوعية وفعالة لحل هذه الإشكالية الشائكة، يمكنهم أن يمنحوا نقاطًا لكل مدير مصنع بالتناسب مع عدد النقاط التي خصصها المواطنون لتلك السلع في مراكز التوزيع. بعبارة أخرى، إذا استخدم المواطنون في طلب أجهزة التليفزيون نقاطًا تساوي خمسة أضعاف النقاط التي استخدموها في طلب عبوات التونة، يمكن لواضعي الخطط الاشتراكيين في الفترة المقبلة منح مديري مصانع التليفزيون عددًا من النقاط يساوي خمسة أضعاف ما سيحصل عليه منتجو عبوات التونة. وهذه القاعدة ستتيح للمواطنين تقديم تقييم لواضعي الخطط ليس فقط فيما يتعلق بالمخزون المنتهي بالفعل، بل بالقرار الخاص بعدد الوحدات التي ينبغي إنتاجها من كل سلعة في الفترات المقبلة.

الأرجح أنك الآن أدركت الاتجاه الذي يسير فيه نقاشنا. الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للاشتراكيين حل مشكلة الحساب هي جعل نظامهم يعمل على نحو أكثر شبهًا ﺑ … «الرأسمالية».

خلاصة الدرس

  • تقوم الاشتراكية الخالصة على أساس امتلاك الحكومة كل الموارد وتوجيه جميع العمال وفقًا لخطة مركزية موحدة للاقتصاد. ظن الاشتراكيون أن هذا النظام سيكون أكثر فعالية وعدلًا من اقتصاد السوق «الفوضوي» غير المنظم.

  • تعاني الاشتراكية مشكلة حافز، لأنه من غير الوارد أن يعمل الكثيرون من الأفراد بنفس القدر من الجد إذا لم ترتبط مكافآتهم الفردية بأدائهم الشخصي. وإذا أرادت الحكومة تطبيق مبدأ «الكل يعطي بقدر استطاعته، والكل يأخذ بحسب احتياجاته»، فقد يتقلص إجمالي الإنتاج على نحو كارثي.

  • تعاني الاشتراكية أيضًا مشكلة تتعلق بالحساب. فمن دون وجود أسعار سوق لمختلف الموارد وساعات العمل اللازمة لعملية الإنتاج، لن يكون لدى مخططي الاشتراكية أي فكرة عما إذا كانت تلك الموارد تُستغل بكفاءة أم لا. صحيح أنه يمكن تحويل الموارد إلى مشروعات أخرى من أجل إنتاج سلع وخدمات يقبل عليها المواطنون، لكن لن يكون لدى المسئولين عن وضع الخطط تقييمات كافية ترشدهم في هذا الصدد.

مصطلحات جديدة

الاقتصاد الموجَّه/اقتصاد القيادة والسيطرة/الاشتراكية: تنظيم مؤسسي تملك فيه الحكومة جميع الموارد الرئيسية، وتوجه العمالة وفقًا لخطة مركزية موحدة.
الديمقراطية الاقتصادية: تشبيه سياسي كثيرًا ما يستخدمه الاشتراكيون (الديمقراطيون) من أجل تبرير تطبيق الاشتراكية. لن يروق لمعظم الأفراد وجود نظام أرستقراطي تتخذ فيه نخبة محدودة كل القرارات السياسية، بل سيفضلون النظام الديمقراطي المتمثل في مبدأ «لكل مواطن صوت». يؤكد الاشتراكيون على أن برنامجهم يطبق ببساطة هذا المبدأ على الساحة الاقتصادية، إذ ينزع السلطة من أيدي فئة صغيرة من الأثرياء الرأسماليين ويغدقها على أفراد المجتمع ككل.
الفوضويون: من يؤمنون بأنه لا داعي لوجود الحكومات.
التقصير: أن يتعمد الفرد العمل بأقل مما هو قادر عليه.
مشكلة الحساب: الاعتراض الذي أثاره لودفيج فون ميزس ضد الاشتراكية، والذي يشير إلى أن المسئولين عن التخطيط الاشتراكي يفتقرون إلى أسعار السوق للموارد، وهو ما يجعلهم عاجزين عن تحديد هل يستهلك أحد المشروعات موارد أكثر مما ينتج من سلع وخدمات. وإن افترضنا جدلًا أن هؤلاء المسئولين ملائكة، فلن تكون لديهم فكرة عما إذا كانوا يستغلون موارد المجتمع النادرة الاستغلال الأمثل بما يحقق أقصى نفع للمواطنين أم لا.

أسئلة الدرس

  • (١)

    ما المقصود بالاقتصاد الموجَّه؟

  • (٢)

    ما مشكلة الحافز التي تكمن في شعار: «الكل يعطي بقدر استطاعته، والكل يأخذ بحسب احتياجاته»؟

  • (٣)

    هل يمكن لحكومة اشتراكية استخدام العقاب للتغلب على مشكلة التقصير في أداء العمل بين العمال؟

  • (٤)
    لماذا لا يعاني اقتصاد السوق مشكلة الحساب التي يعانيها المسئولون عن وضع الخطط في النظام الاشتراكي؟

هوامش

(١) هناك بعض المفكرين الاشتراكيين الذين هم «فوضويون» أيضًا، بمعنى أنهم يقترحون إلغاء الحكومة إلى جانب إلغاء الملكية الخاصة. ومن الواضح أن هذا النوع من الفكر الاشتراكي لا يؤيد بسط الحكومة سيطرتها على جميع الموارد. ولتبسيط الأمور سوف نواصل افتراض أننا نتعامل مع سيطرة الحكومة، لكن جزءًا كبيرًا من التحليل الاقتصادي سوف ينطبق أيضًا على مقترحات «الاشتراكيين الفوضويين». لكن عليك أن تعي أن الكثيرين ممن يصفون أنفسهم بالاشتراكيين سينكرون أن نظامهم يستلزم سيطرة الحكومة على العمال.
(٢) تحدث الاقتصادي النمساوي الشهير لودفيج فون ميزس عن تلك الفكرة في كتابه «الاشتراكية» الذي نُشر في الأصل باللغة الألمانية عام ١٩٢٢.
(٣) حتى وإن كان الأمر كذلك، فإن المسئولين عن مكافأة مديري فروع إدارة المرور أنفسهم لن يتمكنوا من أخذ الإيرادات الإضافية من استخراج مزيد من التراخيص لأنفسهم.
(٤) طرح لودفيج فون ميزس مشكلة الحساب طرحًا منهجيًّا — سنلخصه في هذا الدرس — في مقال كتبه عام ١٩٢٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤