وجهات نظر

ولم أستطع السكوت، فهاجمتها في عنف، وثبت إلى ذهني الابتسامات التي تومض وتختفي، ووثب إلى ذهني ذلك الرجل الذي يلازمها ولا يتركها، فثرت.

قالت الزوجة: نعم إنه كان يشتري لي كل ما كنت أتمنى أن ألبسه، فساتين ومعاطف من فراء الثعلب ومن فراء أجنة الخراف ذلك الذي نقول عنه الأستراكان شديد الغلاء، ومعاطف من الزبلين والأرمين والفيزون، لا أدري ما هي هذه الأنواع من الفراء، أو أنني على الأقل لم أكن أدريها وإنما لبستها جميعًا، وأثرت بها من الإعجاب ما أثرت، بل أثرت بها أيضًا الحسد والحقد في نفوس الصديقات وغير الصديقات، وكان يشتري لي المجوهرات والحُلي، من الماس واللؤلؤ والزمرد وغير هذا من الأحجار التي يخالها الناس لروعتها صناعية وهي حقيقية بعيدة الجذور والأصول. وكنا نقطن مسكنًا إن رآه مخرج السينما لأخرج عنه فيلمًا وأسماه بيت الأحلام، أثاث من شتى الدول وبيوت الأثاث في العالم أسهمت فيه بأوفى نصيب، وكانت السيارة لا تكمل العام عندنا؛ فهي دائمًا أحدث طرازًا وهي دائمًا أغلى نوعًا.

وأشهد لم يكن زوجي زير نساء، وأستطيع أن أقول عن ثقة إنه لو أحب أن يكون زير نساء لأتاحت له نساء كثيرات — وكثيرات جدًّا — أن يتحلى بهذا اللقب، ولكنه لم يكن، وقد كان زوجي لا يشرب الخمر إلا في حفلات تضم قومًا تصله بهم مصلحة عمل، وكان حينذاك حريصًا كل الحرص، خبيرًا عميق الخبرة، فإن كان للناس الذين تربطهم به مصلحة ميل إلى الشراب فهو يقدِّمه لهم إن كانوا في بيته، وهو يُطنب في وصف المشروب الذي يقدمه، ويتحدث عنه في إحاطة وعلم ومرونة، وإن كان هؤلاء القوم من الذين يميلون إلى الصلاة وذكر الله والتمثُّل بآياته، فهو حينئذٍ يمسك بمسبحة من المرجان الأحمر ذات حلية من خالص الذهب، ثم هو يدير الحديث إلى النحو الذي يستهويهم؛ فيتحدث بالإحاطة والدربة والمرونة نفسها التي يتحدث بها عن الخمر وأنواعها، وإذا أبدى أحد الجالسين إعجابه بالمسبحة نظر إلى هذا المعجب فإن كان ذا مكانة قد تنفعه، عاجل يُهدي إليه المسبحة، ويُصر على هذا الإهداء، حتى يأخذها المعجب، وإن لم يكن ذا مكانة كبرى استطاع في لباقة أن يلوي الحديث إلى وجهة تبعده عن المسبحة. وكان منظر زوجي طريفًا حين يدعو إلى بيته فريقَين ممن يرجو لديهم نفعًا، أحد الفريقَين من هواة الخمر، والفريق الثاني من هواة الدين، فكنت تراه يمسك كأسه بيد، وإحدى مسابحه المرجانية باليد الأخرى، ويدير الحديث على الناحيتين موجهًا إلى كل فريق الحديث الذي يُرضيه.

كانت مصالحه هي كل شيء في حياته، وما كان هذا ليغضبني لولا أنني وجدت نفسي في بيته مصلحة من مصالحه، ووسيلة من وسائله للبلوغ إلى أغراضه؛ فهو لم يقدم لي هدية من حُلي أو ملابس إلا وشفعها بجملته الخالدة أحضرت لك هذا لأننا سنتناول العشاء الليلة عند فلان بك، أو فلان باشا.

كان يخيِّل إليَّ أنني معرض يضع عليه غناه ليرسل الثقة بما ألبس أو أتحلى به إلى نفوس المتعاملين معه. لم ألبس شيئًا غاليًا إلا لأعرض على فلان أو فلان من الناس، لم ألبس شيئًا له ولم ألبس شيئًا لنفسي، ولم ألبس شيئًا لأنني أستحقه، ينسى عيد ميلادي وعيد زواجي وأعياد ميلاد أولادنا، ولكنه لا ينسى أبدًا أن يحمل لي معطفًا أو حلية غالية؛ لأننا سنتناول العشاء أو الغداء في مكان يضم قومًا ذوي أهمية.

وكانت حياتي معه أشبه ما تكون بحياة الزائرين الرسميين في البلاد الأجنبية؛ فهو كل صباح يطالعني ببرنامج اليوم من زيارات ومواعيد؛ فأترك بطاقة في بيت فلان، أو ألبِّي دعوة من فلان، أو أدعو فلانًا آخر إلى وليمة، قد يجد الزائر الرسمي ضمن البرنامج فترة يقضيها في حرية ليشاهد معالم المدينة التي يزورها، أما أنا فلم يكن لي هذا الحق، فالبرنامج لا يفوِّت يومًا، والبرنامج كامل لا يترك ساعة، وقد يداخل الزائر اليومي أمل أن تنتهي الزيارة الرسمية ويعود إلى بلاده وحريته أما أنا فلا أمل لي؛ فهو زوجي ومصالحه تزداد كلما تقدمت به الأيام، والبرنامج ثابت لا يتغير فيه إلا الأشخاص.

تقطعت صلتي بالبيت، تقطعت صلتي بالأولاد، وأصبحت جزءًا من سيارته، ومعرضًا لغناه، ووسيلة لآماله.

ومرضت يومًا فاعتذرت عن عدم تنفيذ البرنامج، لازمت سريري وجاء هو من الخارج وسأل أمه عني، فقالت إنني خرجت، ولكنه دخل فوجدني نائمة في السرير فسألني: أين كنت؟

– هنا.

– أمي تقول إنك خرجت.

– لم يحصل.

– أمي لا تكذب.

– وأنا لم أخرج.

وشتمني وشتمته، وتركني وخرج، قمت إلى ملابسي فجمعتها وخرجت تاركة الحلي والمعاطف لتنفع زوجته القادمة في الدعوات التي ستلبيها.

ولم يطل بي الانتظار في بيت أبي فقد جاءت ورقة الطلاق.

•••

وقال الزوج: لا أعرف سيدة تملك من الفراء أو الحلي ما كانت تملكه زوجتي، لم أقدم إليها إلا أغلى الأشياء وأثمنها. ولم أرَ يومًا ابتسامة شكر على وجهها، لم ترضَ عن شيء أهديته إليها، لم أرَ في عينيها تلك السعادة التي طمعت يومًا أن أراها في عينيها، لم يكن ينقصها شيء، ولكنها مع ذلك كانت ساخطة دائمًا مغضبة دائمًا، لا ترضى ولا تدع لي فرصة أهنأ فيها بالسعادة التي حاولت أن أخلقها في بيتنا بالمال الوافر الذي بذلت في سبيله دمي وأعصابي.

كان الأصدقاء يدعوننا إلى الحفلات فتعتذر بوعكة، أو تدَّعي المرض، وحين أعود أجدها قد خرجت مع أصدقاء آخرين، وإذا سألتها أين كنت ثارت وغضبت وراحت تصرخ في وجهي؛ فأسكت أو أذهب إلى أمي في غرفتها حتى تنام زوجتي فأعود إلى غرفتي، وكنت أخشى أن أطلقها فأجني على أولادي، وإن كان هذا التفكير في ذاته يحتاج إلى إمعان؛ فهي لم تكن تهتم بالأولاد ولا تعبأ بهم، بل كنت أنا أراقب سيرهم في الدراسة، وأرعى من أمرهم ما لا ترعاه هي، وإن شغلتني الحياة قامت أمي على شأنهم في حدب يفتقدونه في حضن أمهم فلا يجدونه، إلا أنني — مع ذلك — كنت واثقًا أن الأم ضرورة للأولاد لا يطيقون عنها غناء؛ فصبرت طالما ألحت أمي أن أقسو أو أطلق، فكنت أتغاضى عن قولها وأصبر؛ فالطلاق في حياة رجال الأعمال فضيحة، وأنا لا أحب أن يلوك الناس اسمي؛ فقد يؤثر هذا على مصالحي وعلى أولادي.

تكرر منها الاعتذار عن الحفلات التي تُدعى إليها، وتكرر اعتذاري أنا أيضًا بمرضها، وكنت ألمح على الوجوه التي تسمع الاعتذار شبح ابتسامة لا تبدو حتى تفنى، ولكن بعد أن تترك في نفسي هاجسًا قوي الوخز ثم لاحظت أنها تلازم مجموعة معينة في خروجها، ولاحظت أن بين هذه المجموعة رجلًا في مثل سنها غير متزوج، ولاحظت أن هذا الرجل بالذات هو الذي يأتي بها إلى البيت، ولا يفارق الجماعة حتى تفارقها هي، وداخلني الشك ولكني أبعدته عن نفسي بحرصي على بيتي وسمعتي وسمعة أولادها، أولادي.

وفي يوم ادَّعت المرض وخرجت إلى عشاء كنت مدعوًّا إليه عند «…» باشا، وحين رجعت ذهبت إلى أمي أسألها هل زوجتي بخير فأنبأتني أنها لم تعد إلا منذ دقائق، وقصدت حجرة نومنا فوجدتها في السرير.

– أين كنتِ؟

– هنا.

– أمي تقول إنك خرجتِ.

– لم يحصل.

– أمي لا تكذب.

– وأنا لم أخرج.

ولم أستطع السكوت، فهاجمتها في عنف، وثبت إلى ذهني الابتسامات التي تومض وتختفي، ووثب إلى ذهني ذلك الرجل الذي يلازمها ولا يتركها، فثرت، وتركت لها الحجرة لأنام في حجرة أخرى. وفي الصباح كانت قد غادرت البيت تاركة المجوهرات والفراء. وكانت الابتسامات ما تزال تلحُّ على تفكيري، وكانت صورة صديقها ما زالت ماثلة أمام عيني، فطلقتها.

•••

وقالت أم الزوج: لم أرَ رجلًا كان يهتم بزوجته مثل ما كان يهتم ابني بزوجته، ولم أرَ امرأة تقابل الهدايا الثمينة التي يقدمها إليها زوجها بهذا البرود والتعالي اللذين كانت تقابل بهما زوجة ابني هدايا ابني، ومع ذلك لم يكن ابني يكف عن إحضار الهدايا إليها، ولم تكف هي عن برودها وتعاليها، ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان، إلا أنها كانت تُهمل أولادها، أولاد ابني، فأقوم أنا على شأنهم، وأرعى أمرهم مع أن صحتي لا تحتمل هذا، ولكن ماذا كنت أفعل وأنا أراهم ضائعين، ولا يهتم بهم أحد أو يراقب مأكلهم وملبسهم إلا الخدم. وانتهى بهم وبي الأمر أنني كنت أقرب إليهم من أمهم، يحبونني أكثر من حبهم لها، ويلجئون إليَّ في مطالبهم، ولا يلجئون إليها، فما كانوا ليجدوها في البيت لو أرادوا اللجوء إليها.

ولو كانت تصاحب زوجها في الدعوات التي يضطره عمله إلى تلبيتها لسكت؛ فإن ابني من رجال الأعمال الكبار، وأصدقاؤه من الأغنياء ذوي الجاه والسلطان، ولكنها مع ذلك لم تكن تأبه بهؤلاء الأصدقاء العظام، بل كانت تخرج دائمًا مع أصدقاء لها، لا هم في العير ولا في النفير، ومع ذلك لم أكن أتكلم، وكم، وكم جاءني ابني يشكوها إليَّ فكنت أقول لا عليك يا ابني إنها زوجتك على كل حال وأم أولادك فاحتملها؛ فيسكت — يا عيني يا ابني — ولا يتكلم.

إلا أنني سمعت من صديقاتي أن همسًا يدول حول صلة بين زوجة ابني وبين صديق لها في الجماعة التي تخرج معها دائمًا. وسمعة النساء هي شرفهن وشرف أزواجهن وأولادهن، ماذا أفعل؟ إن كان ما سمعت صحيحًا فهي مصيبة، وإن لم يكن صحيحًا فإن هذه أمور الكذب فيها كالصدق، والسمعة هي ألسنة الناس، وما دامت الألسنة تتحرك في الأفواه فالفضيحة واقعة، يستوي في ذلك الكذب والصدق، هل أخبر ابني؟ لم أجرؤ فقد أشفقت عليه أن أفعل. أأطلب إليه أن يطلِّقها؟ سيسألني لماذا وقد كنت تدافعين عنها.

وجاءت من عند ربنا، عاد يومًا من عشاء كان مدعوًّا إليه، ولم تذهب هي بدعوى المرض، وسألني عند عودته عن صحتها، فأخبرته أنها لم تعد إلا منذ قليل، ولم أكن كاذبة، الحمد لله لقد أصبح ابني سعيدًا في بيته، ولم يشعر الأولاد بنقص في حياتهم.

•••

أتسألني ما الحق في هذا جميعه؟ وهل أدري؟ وكيف أدري؟ أتستطيع أنت أن تدري؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤