الفصل الثالث

خرجتْ فؤادة من الوزارة، وسارتْ بحذاء السور الحديدي الصدئ، كان رأسُها ثقيلًا، وقلبها ترتجُّ داخله الجلطةُ المتصلِّبة المزمنة، ورأتِ المرأةَ الجالسة على الرصيف، تحتضن طفلَها في صدرها وتمدُّ يدها الفارغة للناس، والشارع صاخب مزدحم، لا يرى الذراعَ الممدودة أحدٌ، وقد يدفعها واحدٌ بعيدًا ليفسح الطريق أو يدوسها آخر وهو مسرع، وسمعتْ بكاء الطفل وهي تمرُّ بجانبها، ورأت هيكلًا صغيرًا له عينان غائرتان وخدَّان بارزان وفمٌ صغير مدبَّب، يحاول دون جدوى أن يمصَّ قطعة جلد أسمر مجعَّد تتدلَّى من صدرها.

ووضعتْ يدَها في جيبها لتُخرج قرشًا، لكنَّ يدها بقيتْ داخل جيبها، ورفعتْ عينيها إلى الشارع، كانت العرباتُ الطويلة تجري الواحدة وراء الأخرى، وفي كل عربة منها رأسٌ لامع يعكس الضوء، ورقبة مكتنزة باللحم تُشبه رقبة الساعاتي.

وأخرجت القرش وأمسكتْه في يدها لحظة، ماذا يفعل القرش؟ هل يكسو عظامَ الهيكل الصغير باللحم؟ هل يُدِرُّ اللبنَ في تلك القطعة المتدلية من الجلد؟ وعضت بأسنانها على شفتها؛ ماذا يمكن أن تفعل؟ اكتشاف كيمائي يقضي على الجوع؟ غازٌ جديد يتنفَّسُه الملايين بدل الأكل؟

وتركت القرش يقع من بين أصابعها في الكفِّ الفارغة الممدودة، لن يفعل القرشُ شيئًا، ولكن ليكن صدقةً عابرة تُرضي بها ضميرها ليكن ثمنًا بخسًا تدفعه وتنسى.

إنها كلماتُ فريد تعود، وصوتُه في رأسها له دبيب، وعيناها تبحثان عن عينيه البُنِّيَّتين اللامعتين، عيونٌ كثيرة من حولها فلماذا عينيه بالذات؟ حين كانت تنظر في عينيه من قُرب لم تكن تشعر بذلك الاستغراب، وهي تستغرب منظرَ العيون عن قُرب، حتى عينَي أمِّها، بل حتى عينيها هي نفسها، حين كانت تُقرِّبُهما من المِرآة يختفي الشكلُ المألوف، كأنهما عينَا حيوان غير أليف، لكن عينَي فريد كان فيهما شيءٌ غريب، شيء قريب، يقترب ويقترب ولا يبدو غريبًا، وحين تتلاشى المسافةُ بينها وبينه ويتلامسان تحسُّ بأمان شديد.

أيكون ذلك كلُّه وهمًا؟ أتخدعها أحاسيسُها إلى هذا الحدِّ؟ وإذا كذبتْ أحاسيسُها فأيَّ شيء تُصدِّق؟ كلماتٌ من حبر على ورق، خطابًا رسميًّا عليه ختمُ الوزارة، شهادة بصَم عليها اثنان؟ أيَّ شيء تُصدِّق إذا كذبتْ أحاسيسُها؟

وتوقَّفتْ فجأةً لتسأل: ولكن ما هي الأحاسيس؟ أيمكن أن تلمسَها؟ أيمكن أن تراها؟ أيمكن أن تشمَّها؟ أيمكن أن تضعها في أنبوبة اختبار وتُحلِّلها؟ أحاسيس … مجرد أحاسيس … حركة غير مرئية تحدث في رأسها، كالأوهام، كالأحلام، كالقوى الخفية، أيؤمن عقلُها الكيميائي بهذه الخزعبلات؟

وتلفَّتتْ حولها كالتائهة، هل الأحاسيس خرافةٌ أم حقيقة؟ لماذا تنظر في عينَي فريد فتحسُّ أنه قريب، وتنظر في عينَي الساعاتي فتحسُّ أنه لصٌّ؛ أهي وهم أم علم؟ أهي حركة عشواء في أعصاب العين أم حركة واعية في خلايا المخ، وكيف تفرِّق بينهما؟ كيف تفرق بين ذبذبة خاطئة لعصب مرهق وبين فكرة سليمة لخلية في المخ؟ وكيف تفكِّر خليةُ المخ؟ تلك الكتلة الصغيرة من البروتوبلازم كيف تُفكِّر؟ من أين تأتيها الفكرةُ، وكيف تسري في نسيجها المادي، كهرباء! تفاعل كيمياوي!

ورفعتْ رأسَها لترى ما حولها، ولمحتِ العمارة ومن فوقِها اللافتةُ البيضاء تحمل حروفَ اسمِها السوداء، وانقبض قلبُها، الأنبوبة ذات الفوهة المفتوحة وقاع بغير محتوى، ولسان اللهب يحرق الهواء ويحترق، وذلك الصفير الحادُّ يُدوِّي في الأذنين حين تصمتُ كلُّ الأشياء.

نعم؛ إنه المعمل، لكنه لم يَعُدْ معملًا، أصبح مصيدةً يتصيَّد عجزَها، يتصيَّد جهلها، يتصيَّد الصمت واللاشيء من رأسها.

ومرَّت أمام باب العمارة ولم تدخل، وسارت بضع خطوات ثم توقَّفت؛ إلى أين تذهب؟ كل مكان أصبح كالمعمل مصيدة للعجز والصمت والصفير، البيت والوزارة والتليفون والشارع، كلُّ شيء أصبح متشابهًا كأنه مترابط.

وعادتْ لتدخل إلى العمارة ولتصعد إلى المعمل. لا مفرَّ ولا مهرب، المصيدة تفتح فكَّيها وهي تدخل بينهما، وسيأتي الساعاتي بعد قليل، سيأتي حتمًا إلى المعمل أو إلى أيِّ مكان، فقد عرَف كلَّ مكان؛ عرَف التليفون والبيت والوزارة والمعمل، سيأتي بعربته الطويلة الزرقاء وعينَيه الجاحظتين ورقبته المكتنزة باللحم، سيأتي حتمًا، فلماذا لا يختلُّ توازن الأرض فيهتز حامل الأنابيب وتسقط الأنبوبة الفارغة وتنكسر؟ لماذا تدور الأرضُ بكل هذا الاتقان؟ لماذا لا يختلُّ توازنُها مرة واحدة فحسب؟

كانت قد دخلتِ المعمل، وارتدتِ الفوطة البيضاء، ووقفتْ وراء النافذة تتأمَّل الشارع وتُراقب العربات كأنما تنتظره، كانت تنتظره فعلًا، ورأت العربة الزرقاء الطويلة تقف أمام العمارة، وخرج منها الساعاتي بنصفه الأعلى الضخم وساقيه الرفيعتين.

وسارتْ بخطوات ثقيلة نحو الباب، ولمحتْ نفسها في المِرآة الطويلة المجاورة للباب؛ كان وجهها قد نحل واستطال، وعيناها غاصتا في محجريها وانطفأتا، وفرجة فمِها زادت اتساعًا، وأسنانها برزت أكثر وأكثر فكأنها أسنانُ أمِّها.

وأطبقتْ شفتيها لتُخبِّئ أسنانَها، وضغطت فكَّها الأعلى فوق الأسفل بكل قوتها لتسحق أسنانها بينهما، أو لتسحق شيئًا آخر. لا بد أن يكون هناك شيءٌ يُسحَق. واصطكت أسنانها محدثةً صوتًا معدنيًّا. دقَّ جرس الباب، وضربت الهواء بقبضتها، وقالت: لن أفتح! ووقفت جامدة كالتمثال، ودقَّ الجرس مرة أخرى فازدادت أنفاسُها سرعةً وأصبح صدرُها يعلو ويهبط كأنما تلهث وتلفَّتت حولها وتصيَّدت الفوَّهة المفتوحة عينيها كالفخ، فسارت وفتحت الباب.

•••

كان يحمل في يديه السمينتين علبةً صغيرة، وتقلَّصت شفته العليا كاشفةً عن أسنانه الكبيرة الصفراء وتذبذبت عيناه الجاحظتان من تحت الزجاج السميك، وقال: هدية بسيطة. ووضع العلبة فوق المنضدة وجلس.

وظلَّت واقفة تنظر إلى الشريط الرفيع الأخضر الملتفِّ حول العلبة، وسمعتْ صوتَه المبتهج يقول: افتحي العلبة. إنه يوجه إليها أمرًا! إنه يكتسب لنفسه حقًّا في أن يأمرها! لقد دفع ثمن هذا الحق وله أن يستخدمَه. ونظرت في عينيه، كانتا تتذبذبان بدرجة أقل، كأنما بدأ يثق في نفسه بعضَ الشيء. إنه أعطاها شيئًا، وإنه دفع له ثمنًا، إنه أصبح قادرًا على أن يشتريَ منها شيئًا، أي شيء، ولو ذلك الحقُّ في أن يأمرَها بأن تفتح العلبة. وظلَّت واقفةً لا تردُّ.

ونهض وفتح العلبة بنفسه، وسار إليها حيث هي واقفة وقرَّب منها العلبة وهو يقول: ما رأيُكِ في هذا الخاتم؟

ورأتْ شيئًا يبرق فوق قطيفة حمراء، وقالت في شرود وهي تنظر إلى أسنانه الصفراء: أنا لا أفهم في هذه الأشياء.

وحملق فيها مندهشًا وقال: إن فيه فصًّا من الماس الحر!

واقترب وجهُه منها، ورأت عينيه الجاحظتين عن قُرب يطفو فوقها غشاءٌ مُعتَم يُخفي ذلك البريق الطبيعي للعينين.

لعله دفع ثمنًا غاليًا، ربما دفع مائة جنيه أو أكثر، ولكن ما قيمة هذا عندها؟

إنها لا تستخدم هذه الأشياء، لا تلبس الخواتم أو الأساور أو العقود، إنها تضيق بجلدها الذي يلتفُّ حول جسمها فكيف تلفُّ حول أعضائها حبلًا آخر؟ إنها تحسُّ ثِقَل عضلاتها وعظامها فكيف تُثقِل مفاصلها بسلاسل معدنية من أيِّ نوع كانت؟

واقترب منها وهو يُردِّد: إن فيه فصًّا من الماس الحر!

وابتسمت في صمت، إنه لن يفهم أبدًا. ماس حر! لن تستخدمه في شيء، فما الفرق بينه وبين قطعة عاج أو زجاج؟ هل يفرِّق الترابُ بين أيِّ شيء؟

وعادت إلى عينيه الذبذبةُ بدرجتها المعهودة وقال بصوت مصدوم: أي هدية يمكن أن تُرضيكِ؟ ولم تعرف بماذا تردُّ. ماذا كان فريد يُهديها؟ هل اشترى لها فريد هدية؟ إنها لا تذكر؛ لم يكن يشتري لها شيئًا، لم يكن هناك شيءٌ قابل للشراء، وماذا كان يمكن أن يشتريَ؟ كلماته؟ نبرة صوته؟ بريق عينيه؟ دفء أنفاسه وحنان شفتيه؟

ووضع يدَه السمينة الطرية فوق كتفها، وقال: ماذا آتي به إليكِ لتكوني سعيدة؟ وتقلَّصت عضلاتُ كتفِها ونفضتْ عنها ثِقلَ يده وتلفَّتتْ حولها؛ ماذا يمكن أن يأتيَ لي به؟ أيمكن أن يأتيَ بالمحتوى الهارب من الأنبوبة؟ أيمكن أن يأتيَ بتلك الفكرة الضائعة؟ أيمكن أن يقطع ذلك الصفير الأخرس غير المنقطع؟ أيمكن أن ترفع السماعة يومًا فينقطع الجرس ويأتيها الصوتُ الغائب؟

ونظرتْ إليه؛ كان يضع العلبةَ في جيبه بأصابع مرتجفة، إنه لن يستطيع شيئًا فماذا تقول له؟ وسارتْ بضع خطوات مضطربة ثم قالت بصوت مختنق: هيا نخرج إني أكاد أختنق.

•••

سارتْ بهما السيارةُ الزرقاء الطويلة في شوارع القاهرة، وظلَّا صامتَين حتى خرجت السيارةُ إلى الخلاء بالقرب من الهرم، ثم سمعتْه يقول بصوت غليظ: في حياتك سرٌّ لا أفهمه، لماذا لا تفتحين قلبَكِ لي؟ ونظرتْ إليه نظرة خاطفة ثم مدَّت بصرَها إلى الصحراء الواسعة، وقالت: لا أعرف لحياتي سرًّا أو معنًى، آكل وأنام كأي حيوان ولا أفعل شيئًا مفيدًا لأحد.

وارتجَّت العتامةُ فوق عينيه الجاحظتين، وقال: ألا زلتِ في هذه المرحلة الأولى؟ وقالت ماذا تعني؟ قال وهو يتنهَّد: كنتُ أعيش هذه المرحلةَ منذ عشرين سنة. وسكتْ لحظة ثم قال: ولكنني اكتشفتُ أن الحياةَ الواقعية شيءٌ آخر.

وقالت: ما تعني؟ وقال وهو يبتسم ابتسامةً ضيقة: كانت المبادئُ الرفيعة تضعني دائمًا في صِدام مع الحياة الواقعية. وقالوا عنِّي «غير متكيِّف».

وسألتْ: مَن هم؟ وقال: زملائي في الجامعة.

وقالتْ: هل كنتَ في الجامعة؟ قال: كنتُ مدرِّسًا صاحبَ مبدأ.

وسألتْ: وماذا حدث؟ وضحك ضحكةً قصيرة ثم قال: ثم تكيَّفتُ!

والتفتَ ناحيتها وثبتتْ عيناه الجاحظتان لحظة، وقال: لم يكن أمامي طريقٌ آخر.

وسألتْ: هل أجريتَ بحثًا وأنت في الجامعة؟

قال: أجريتُ ثلاثة وسبعين بحثًا.

وصاحتْ في دهشة: ثلاثة وسبعون بحثًا؛ كيف؟ هذا مستحيل.

قال وهو يمصمص شفتيه: كان شيئًا بسيطًا جدًّا. كنتُ أضع اسمي فحسب.

وسألت في ذهول: والباحث الحقيقي؟!

قال: كان شابًّا صغيرًا لا يزال يسعى للوصول.

وصاحت: ولكن، لماذا لم تُجرِ أنت بنفسك بحثًا واحدًا عميقًا؟

وقال في بساطة: لم يكن ذلك ممكنًا، ثم إن الاستغراق في أيِّ بحث حقيقي يمتصُّ العمر ويُضيِّع فُرَص الحياة الواقعية.

وسكتتْ لحظةً ساهمة، ونظرتْ في عينيه الجاحظتين المتذبذبتين، وقالت لنفسها: تمامًا كما أحسستُ أول مرة، عينا لصٍّ! لقد سرَق ثلاثة وسبعين بحثًا.

وقالت: ثم ماذا؟ وضحك: ثم أصبحتُ أستاذًا كبيرًا.

وقالت: ثم ماذا؟ وابتسم: طموح الإنسان بغير حدود، اتجهتُ إلى السياسة. قالت: وماذا تعرف في السياسة؟ وقال: كل شيء. يكفي أن أصادق هذا وذاك وأُردِّد بعض شعارات بنبرة فصيحة.

ونظرتْ إلى رقبته المكتنزة باللحم في تقزُّز، وقالت: وهل تحترم نفسَكَ الآن؟ وقال بالصوت نفسه: كيف يحترم الإنسانُ نفسَه يا فؤادة؟ احترامُ النفس لا يحدُث في فراغ؛ إنه ينبع من احترام الآخرين، وأنا؟ أنا رئيس الهيئة العليا للإنشاءات والمباني، ورئيس المجلس السياسي، والصحفُ تكتب عنِّي، وأتحدَّث في الراديو والتلفزيون، وأُعطي نصائحي للناس، العالم كلُّه يحترمني فكيف لا أحترم نفسي؟!

وأوقفَ العربةَ إلى جانب الطريق، ونظر إليها، وقال: صدِّقيني يا فؤادة، إنني أحترم نفسي، بل أكثر من ذلك، إنني أصدق الأكاذيب التي أُردِّدُها أمام الناس، أنا نفسي أصبحتُ أُصدِّقها من كثرة ما ردَّدتُها بصوت قوي مقنِع، ما هو الإنسان يا فؤادة؟ ما هو الإنسان؟ أليس مجموعةً من أحاسيس؟ ما هي الأحاسيس؟ أليست تلك الخبرات المتراكمة من واقع الحياة؟ أكنتُ ألغي كلَّ تلك الخبرات الواقعية وأدُور في فلَك مبادئ ونظريات لا يمكن تطبيقُها في واقعنا؟ أأفعل مثل ما فعله حسنين أفندي؟ وسكت لحظة كأنما يستعيد ذكريات قديمة.

وواصل كلامه؛ حسنين أفندي كان زميلي في الجامعة، وكان يؤمن بأن في رأسه فكرةً جديدة، وبدأ يُجري بحثًا علميًّا، كان يشتري أنابيب الاختبار من مرتَّبه الصغير، وكان يسافر هنا وهناك ليجمع المواد. ثم ماذا حدث؟ وسألتْ في شرود: ماذا حدث له؟

ومصمص شفتيه وقال: سبقه زملاؤه في تسجيل بحوث شكلية من أجل الترقية، وحاربه الأساتذةُ الكبار لأنه رفض أن يبيع اسمَه لأحد ثم فصلوه بتهمة ملفَّقة.

وهزَّتْ رأسها: لا يمكن!

وقال بهدوء: قابلتُه منذ شهور في الشارع، كان ينظر أمامه في ذهول ولم يعرفْني. وابتسم كاشفًا عن أسنانه الصفراء، ورأيتُ طرفَ أصبعه يطلُّ من حذائه. كان شيئًا مؤلمًا جدًّا، هل يحترم أحدٌ حسنين أفندي؟ وصاحتْ: أنا أحترمُه.

وقال بهدوء شديد: ومن أنتِ؟

ونظرتْ إليه في غضب: أنا؟ أنا؟

وأحسَّتْ أن صوتَها يضيع، وأنها تختنق، ففتحتْ باب العربة وخرجتْ إلى الصحراء. وخرج الساعاتي وراءها وسمعتْه يقول: الحقيقة مُرَّة يا فؤادة، ولكن يجب أن تعرفيها؛ كان يمكن أن أكذب عليكِ، ما أسهل الكذب، تعوَّدتُه وخبرتُه، ولكني أحبُّكِ يا فؤادة وأُشفق عليكِ من الحيرة والتمزُّق.

وأمسك يدَها الصغيرة النحيلة في يده السمينة الطرية، وهمس: أحبُّكِ. وشدَّت يدَها وصاحتْ في ضيق: دعْني! دعْني وحدي! لا أريد أن أسمع صوتًا.

وتركَها وعاد ليجلس في العربة، وسارتْ وحدَها في الصحراء وبدأ الصفيرُ يُدوِّي في أذنيها. نعم؛ ليدوِّ الصفيرُ الحاد، فالصمتُ أفضل من ذلك الصوت، ليدوِّ الجرس الأخرس الذي لا ينقطعُ، فالجرس أفضل من تلك الكلمات، وأنت يا فريد استمرَّ في الغياب؛ فماذا كنتَ تفعل لو أنت موجود؟ ماذا كنت تفعل؟ ماذا تفعل قطرةٌ في بحر؟ ماذا تفعل قطرةٌ في بحر؟

وفردَتْ ذراعيها في الهواء واحتضنت الفراغ. نعم؛ الفراغ أفضل، واللاشيء أفضل، ولكن كيف تُصبح لا شيء؟ قدماها تنتقلان فوق الرمل، وأنفاسُها تدخل وتخرج من صدرها، ودقَّاتُ قلبها لا تزال في أذنيها.

كيف يمكن أن يتلاشى جسدُها؟

وخبطتِ الأرض بقدمها: لماذا لا أتلاشى؟ وكتمتْ أنفاسها ليكفَّ الهواء عن الدخول والخروج من صدرها. وضغطتْ بيدها على قلبها ليكفَّ عن الدقِّ.

وخُيِّل إليها أن الهواء كفَّ عن الدخول، وأن صدرَها لم يَعُدْ يعلو ويهبط وأن دقَّاتِ قلبِها لم تَعُدْ مسموعة في أذنيها، وابتسمتِ ابتسامة راضية، إنها تتلاشى، ولكنْ هناك شيءٌ ثقيل يجثمُ على صدرها، وشيءٌ لاسع مُرٌّ يحرُق حلقَها، ورائحة كريهة غريبة تملأ أنفَها، ويدٌ طرية سمينة تُمسِك يدَها. وحاولتْ أن تشدَّ يدَها لكنها لم تجدْها، كانت قد تلاشتْ.

•••

فتحتْ عينيها ورأتِ الدولاب والشمَّاعة والنافذة والسقف بتلك الدائرة المشرشرة وتلفَّتتْ حولها في ذهول، إنها لم تتلاشَ، وهذه هي حجرتُها كما كانت، وها هو رأسها الثقيل فوق الوسادة، وجسمُها بثِقله وكثافته ممدودًا تحت الغطاء، وصوتُ القدمين الزاحفتين تقتربان من الحجرة، والوجه الأسمر ذو التجاعيد يطلُّ من الباب، ورأت العينين الواسعتين تنظران إليها وسمعت الصوتَ الواهن يقول: ما لكِ يا بنتي؟ ما لكِ يا فؤادة؟

وهزَّت رأسَها وقالت بصوت مبحوح: لا شيء يا ماما. لو كنتُ فقط أموت! وعامت العينان الصفراوان في الدموع: لماذا يا فؤادة؟ الموت للعجائز مثلي، كنتِ تكرهين سيرة الموت، ماذا حدث؟

وهمست: فريد. وقالت الأمُّ في فزع: مَن؟ فريد مات؟

وانتفضت في السرير: لا لا؛ إنه غائب فقط، وسوف يعود، وأخفتْ وجهَها تحت الغطاء، وابتلعت لُعابًا غريبًا على فمها، لعابًا لاسعًا مُرًّا. مَن أين أتى هذا اللُّعاب؟ وبدأتْ تتذكَّر بشيء من الوضوح، كانت واقفة في الصحراء تحملق في الفضاء، وأحسَّت بالساعاتي خلفها، وحوَّط ذراعيه حول خصرِها، وأصبحتْ عيناه تقتربان وتتسعان وتزدادان جحوظًا، وأحسَّت شفتَيه الباردتين فوق شفتيها، وأسنانه الكبيرة تصطكُّ بأسنانها، وملأ أنفَها رائحةً معدنية غريبة، كرائحة الحديد الصدئ، وملأ فمَها لُعابًا مرًّا لاسعًا.

نعم؛ كانت ترى وتحسُّ، لكنها لم تكن رؤيةً واضحة، ولم يكن إحساسًا أكيدًا، كان كالحلم الكئيب. وحاولت أن ترفع ذراعَها وتصفعه لكنَّ ذراعَها لم تكن ترتفع.

ومدَّتْ يدَها من تحت الغطاء وتحسَّستْ ذراعها، كانت موجودةً وحرَّكتْها فتحرَّكتْ وأخرجت المنديل من تحت الوسادة وبصقت ثم بصقت، لكن المرارة اللاسعة كانت ملتصقةً بفمها، وخُيِّل إليها أنها موشكة على التقيُّؤ، فدفعتْ عنها الغطاء وسارت إلى الحمَّام، لكن رغبة القيء لم تكن لتتحقق، ودعكت أسنانَها بالفرشاة والمعجون، وغرغرت فمها، وظلَّت المرارة ملتصقة بحلقها تهبط شيئًا فشيئًا إلى جوفها.

وأحسَّتْ يدَ أمِّها النحيلة على كتفها: ماذا حدث لفريد؟ ورفعتْ عينيها إليها، كان في عينَي أمِّها نظرةٌ غريبة فارتعدت: لا أعلم. لا أعلم. دعيني وحدي يا ماما. وسارتْ إلى حجرتها وجلستْ على طرف السرير تُمسك رأسَها بيديها، ودقَّ جرس التليفون فانتفضت؛ إنه هو حتمًا، سيأتي صوتُه الغليظ الصدئ من خلال الأسلاك، سيأتي حتمًا، فلماذا لا يختلُّ توازن الأرض ويقع التليفون وينكسر؟ لكن الأرض تدور بغير خلَل أو كلَل، والتليفون لن يقع ولن ينكسر، وسيأتي صوتُه حتمًا من ثقوب السماعة، كما تأتي الريح من ثقوب الباب، سيأتي حتمًا بغير خلَل أو كلَل، وستلسع مرارتُه حلقَها وستملأ رائحتُه الصدئة أنفَها، فلماذا لا ترتدي ملابسها وتهرب؟

ورفعت جسمها الثقيل ونهضتْ، وارتدتْ ملابسها، ورأت عينَي أمِّها تنظران إليها في صمت، كانت فيهما نظرةٌ غريبة، وتعثَّرت خطواتُها وهي تفتح الباب ووقفت تنظر إليها لحظة، كان يمكن أن تبقى معها، كانت تريد أن تبقى ولكنها فتحت الباب وخرجت.

سارت في الشارع تجرُّ جسمها جرًّا، لم تكن تفكِّر في شيء كان رأسُها هادئًا؛ ليس هدوءًا بمعنى الهدوء، ولكنه كان نوعًا من الشلل، كذلك الذي يصنعه المخدِّر المركَّز بخلايا المخ.

وتركتْ قدميها تسيران وحدهما بغير إشراف من رأسها، ولماذا الرأس دائمًا، لماذا لا يكون العقل في الساقين؟ الرأس لا يفعل شيئًا سوى أن يُحمل فوق الأكتاف ثم يحكم ويتحكَّم، والساقان تقومان بالعبء وتحملان الرأس والكتفين والجسم بأكمله ثم لا تحكمان أبدًا، كما يحدث في الحياة. الذين يعملون يكدحون ولا يحكمون، وتبقى الرءوس محمولة فوق الأعناق تقطف الثمار وتُصدر الأحكام.

كلمات فريد مرة أخرى تعود، ونبرة صوته، وحركة يديه لا تزال باقيةً في رأسها. لماذا تبقى وهو غائب؟ كيف تصنع تلك الحركة في رأسها وتعود تدبُّ من جديد؟

وسارت بحذاء المشتل، وصَعِدت رائحةُ الياسمين إلى أنفها، وعادتْ أنفاس فريد على وجهها برائحتها وسخونتها، وعاد ملمس شفتَيه فوق عنقها، ورفعتْ يدها الصفراء لتلمسَ وجهه، لكنَّ يدَها ارتجفتْ في الهواء ثم سقطت إلى جوارها.

كان النيل كما كان دائمًا، راقدًا محنطًا بجسمه الطويل ذي التجاعيد، ينثني بخمول كمومس عجوز، مستسلمًا راضيًا متكيِّفًا، وتلفَّتتْ حولها، كان كلُّ شيء هادئًا مستسلمًا متكيِّفًا. وهي هل يمكن أن تتكيَّف؟ هل يمكن أن تُصبحَ واحدة من تلك الرءوس المحنَّطة في المكتب؟ هل تضع اسمها فوق بحث لم تُجْرِه كما يفعل الناجحون واللامعون؟

وحلَّقتْ بعينيها في السماء والأرض. ماذا كانت تريد منذ البداية؟ لم تكن تريد شيئًا. لم تكن تريد أن تنجح أو تلمع، كانت تحسُّ فحسب، تحسُّ أن فيها شيئًا ما ليس في الآخرين. إنها لن تعيش وتموت ويبقى العالم كما هو. كانت تحسُّ في رأسها حركة، فكرة جديدة، لا تعرف كيف تنطق بها، الفكرة كانت في رأسها صاحيةً وحيَّة، لكنها لم تكن تخرج، كأنما كانت تصطدم بجدار سميك، أكثر سُمكًا من عِظام رأسها.

كانت كلها أحاسيس، ولكن ما بداية أيِّ شيء جديد؟ كيف بدأ أيُّ مكتشف غيَّر العلم أو التاريخ؟ أليست البداية أحاسيسها؟ وما هو الإحساس؟ فكرة مبهمة، حركة غامضة في خلايا المخ. نعم؛ ألا تكون البداية دائمًا حركةً غامضة في خلايا المخ، لماذا إذن تهزأ بأحاسيسها؟ لماذا تُكذِّبها؟ ألم تحسَّ حين رأت الساعاتي لأول مرة أنه لصٌّ؟ أَخُدِعتْ أحاسيسُها بالعمارة الشاهقة والسيارة الطويلة؟ هل غيَّرت الهيئةُ العليا والمجلس السياسي وكلام الصحف من أحاسيسها الأولى؟ ألم تظلَّ رغم كلِّ هذا تنظر في عينيه الجاحظتين وتحسَّ أنه لصٌّ؟ ألم تلتقط خلايا مخِّها ذلك الكذب اللامرئي في ذبذبة عينيه؟ لماذا إذن تهزأ بأحاسيسها؟

وتوقَّفتْ لحظة عن السير وسألتْ نفسها: هل شكَّتْ في أحاسيسها أبدًا؟ ومتى بدأتْ تشكُّ؟ متى؟ وتلفَّتتْ حولها، واصطدمتْ عيناها بباب المطعم الصغير وتذكَّرتْ، أنها تلك الليلة، تلك الليلة المظلمة المتربة. حين دخلت المطعم ورأت المائدة خاليةً عارية بغير فرش، والهواء يضربها من كل ناحية كجذع شجرة مبتور.

واقتربتْ قدماها من باب المطعم في وجَل أتدخل؟ أتُلقي نظرة؟ ربما، ربما تجده، ربما يكون قد عاد، وانتقلتْ قدماها خطوة ناحية الباب، ووقفتْ لحظة تلتقط أنفاسَها، ثم دخلت الممرَّ الطويل يحوطه الشجرُ، قدماها ترتجفان وقلبُها يخفق، ستخرج من الممر وتنظر إلى المائدة ولا تجده، خيرٌ لها أن تعود الآن، خيرٌ لها أن تعود وفي نفسها بعضُ أمل، إنه هناك موجود، جالس إلى المائدة، ظهره مائل قليلًا إلى الأمام، وشعره الأسود الغزير، وأذناه المحتقنتان بالدم دائمًا، وعيناه البُنِّيَّتان اللامعتان، يتحرَّك فيهما ذلك الشيءُ الغريب؛ الشيء الذي تحسُّه ولا تراه، الشيء الذي يجعله هو نفسه بذاته المنفردة عن الآخرين وكلماته وأفكاره ورائحته الخاصة، هو فريد وليس رجلًا آخر كالملايين.

واستدارتْ لتعود، لكنَّ قدمَيها تحرَّكتَا إلى الإمام، وسارتا إلى نهاية الممرِّ وانحرفتْ إلى اليسار، ووقفتْ لحظة مطرقة لا تقوى على رفْع رأسها، ثم رفعتْ رأسها، وارتطمت عيناها بجدار من الطوب، اختفت المائدة واختفى كلُّ شيء ولم ترَ إلا جدارًا قصيرًا بُنيَ في العَراء كتلك الجدران القصيرة التي تُبنَى فوق الموتى.

وسمعتْ صوتًا خافتًا من ورائها يسأل: هل تريدين سمكًا؟ ونظرتْ خلفها، ورأت امرأة تحمل طفلًا، لم يكن طفلًا. كان هيكلًا عظميًّا صغيرًا يفتح فكَّيه الصغيرين الخاليين من الأسنان ويقبض بهما على ثدْي ضامر جاف، يتدلَّى من صدر المرأة كقطعة من جلد الأحذية. ونظرت إليها المرأة بعينين نصف معتمتين ملتصقتي الرموش وقالت بصوت ضعيف: هل تريدين سمكًا؟ وابتلعت فؤادة لُعابَها المُرَّ، وقالت في شرود: كان هنا مطعمٌ صغير. وقالت المرأة: نعم؛ ولكنه أفلس وترك المكان.

وسألت: ومَن أخذ المكان؟ قالت المرأة: البلدية.

وسألت: ومن بنَى هذا الجدار؟ وقالت المرأة: البلدية.

وسألت وهي تتلفَّتُ حولها للعَراء الواسع: ولماذا بنتْه؟

وردَّت المرأة وهي تشدُّ ثديها الجاف وتدسه بين فكَّي الطفل: زوجي يقول إن البلدية تبني هذا الجدران لتكتب عليها اسمَها.

ونظرتْ إليها المرأة من خلال رموشها الملتصقة ثم قالت: هل تريدين سمكًا؟

وابتسمت ابتسامة واهنة، وقالت: ليس اليوم، ربما آتي لأشتري يومًا.

وخرجتْ من الباب الصغير وسارتْ في الشارع. لم يَعُدْ هناك أمل. لم يَعُدْ هناك شيء. لم يَعُدْ إلا جدارٌ من الطوب، جدار قصير بُنيَ في العَراء لا يصلح لشيء سوى أسماء الموتى.

نعم؛ لم يَعُدْ إلا جدار. وهل كان هناك شيءٌ آخر؟! ليس هناك شيءٌ، كلُّ شيء اختفى كأنه حلم، وما الفرق بين الحقيقة والحلم؟ لو ترك ورقة صغيرة بخطِّ يده لاستطاعت أن تعرف … ورقة عليها حروف تستطيع أن تُفرِّق بين الحلم والحقيقة، أما هي برأسها وذراعيها وساقيها فلا تستطيع.

وهزَّت رأسَها في ضيق، كان رأسُها ثقيلًا كأنما تحجَّر، كأنما أصبح هو الآخر جدارًا من الطوب، وهل كان شيئًا آخر؟ هل كان شيئًا سوى جدار مصمت يُردِّد الصدى، يُردِّد ما سمع وما قرأ، هل قال شيئًا من عنده؟ هل قال شيئًا جيدًا لم يقلْه أحد من قبل؟ ألم يكن يُطلق ذلك الصفير الحاد المتواصل حين تصمت كلُّ الأشياء؟

وبدأ الصفيرُ يطنُّ في رأسها فأمسكتْه بين يديها وجلستْ على السور الحجري، وظلَّت مطرقة لحظة ثم رفعت عينيها المحتقنتين بالدم إلى السماء، أكان كلُّ ذلك حلمًا؟ أكانت أحاسيسُها وهمًا؟ وإذا كذبت أحاسيسُها فماذا تُصدِّق؟ ماذا يمكن أن تُصدِّق؟ اسمًا مكتوبًا على جدار؟ اسمًا مختومًا فوق بحث؟ كلمة مطبوعة في صحيفة؟

ودارتْ بعينيها الحمراوين في السماء. وأنتِ يا سماء، هل أنتِ الجدار العلوي الذي يصنع السقف؟ هل أنتِ جدارٌ مصمت كأيِّ جدار؟ وهزَّت يديها في الهواء وقالت بصوت عالٍ: هل أنتِ جدار؟ لماذا تصمتين؟

وحملق فيها رجلٌ كان يسير في الشارع. واقترب منها يتفحَّصُها بعينيه الضيقتين السوداوين ثم ابتسم نصف ابتسامة، وقال: أدفع لكِ ريالًا فقط؛ إن ساقَيكِ رفيعتان، ونظرتْ إليه في ذهول ثم رفعتْ جسمها الثقيل من فوق السور وحملتْها قدماها بغير وعْي منها إلى بيتها.

•••

كان بابُ البيت مفتوحًا، والصالة مليئة بالناس، وجوهٌ تعرفها ووجوه لا تعرفها. كانوا ينظرون إليها بعيون غريبة، وسمعتْ صوتًا عاليًا كالصراخ، ورأتْ وجهًا يُشبه وجهَ أمِّها بغير تجاعيد، إنها خالتْها سعاد بجسمها السمين وفستانها الأسود الضيِّق، وسمعتْ صوتَها الحادَّ يصرخ: فؤادة …

وحوَّطتْها بذراعيها السمينتين القصيرتين، والتفَّ حولها نساءٌ كثيرات يصرخْن في صوت واحد وتفوح من ملابسهن السوداء رائحةُ عطر، وكادت تختنق، فدفعت عنها الأجسام السمينة وصاحتْ بأعلى صوتها: ابتعدوا عني!

وتفرَّقت من حولها النساءُ مذعورات. وسارتْ بخطوات ثقيلة بطيئة إلى حُجرة أمِّها، كانت نائمة فوق السرير، وقد غُطِّيَ جسمُها ورأسها، واقتربتْ منها بخطوات وجِلة، ومدَّت يدَها بحذَرٍ لتكشف الغطاء. وظهر رأسُ أمِّها ملتفًّا بالطرحة البيضاء، ووجهها ذو التجاعيد، وعيناها مغمضتان، وفمُها مطبق، والحلَق الذهبي الصغير في أذنيها، إنها نائمة كما كانت تنام، لكنَّ أنفاسها ليست عالية.

وتفرَّستْ في جسمها؛ كانت ملامحُها تتغيَّر شيئًا فشيئًا، كأنما تهبط في وجهها وتلتصق بعظامها ويضيع منها الدمُ. وسرَتْ في جسمها قشعريرة؛ أصبح وجهُ أمِّها كوجه تمثال من الجرانيت يشعُّ برودةً غريبة، وأعادت الغطاء فوق الرأس وهي ترتعد، ودوَّى الصراخ في أذنيها كصفير حادٍّ متصل، وسارتْ إلى حجرتها كالتائهة، لكنَّ حجرتَها كانت مليئةً بوجوه لا تعرفها، وخرجتْ إلى الصالة، كانت العيون الجاحظة الغريبة تحوطها وتحاصرها، والصراخ يُدوِّي في رأسها، وسارتْ ناحيةَ الباب بغير وعي، واختفتْ خلف الباب لحظة ثم هبطت السُّلَّم وخرجتْ إلى الشارع تجري.

لم تكن تعرف إلى أين هي تجري، لكنها كانت تجري وتتلفَّتُ وراءها كأنما يُطاردها شبحٌ، كانت تريد أن تهرب إلى مكان بعيد لا يراها فيه أحدٌ، لكنه لم يَدعْها تهرب، لمحَها وهي تجري في الشارع فأوقف العربة الزرقاء وجرى خلفها وأمسكها من ذراعها قائلًا: فؤادة … إلى أين تجرين؟ ووقفتْ تلهث، ورأتْ عينيه الجاحظتين ترتجَّان من تحت زجاج النظارة، وقالت بصوت خائر: لا أدري.

وقال: طلبتُكِ بالتليفون منذ ساعة وعرفتُ الخبر، وأطرق إلى الأرض ثم قال: جئتُ لأعزِّيَكِ.

وتلتفتُ حولها، كان الصراخُ لا يزال يُدوِّي في أذنَيها، وعيون غريبة جاحظة تحاصرها من كل ناحية، وأخفتْ وجهها بين يديها وأجهشت بنشيج مكتوم، وأسندها الساعاتي وأجلسها وانطلقت بهما العربة من شارع إلى شارع، وفي الأفق البعيد كانت ذؤابة الشمس الأخيرة تنطفئ، وانتشرتْ في السماء أجسامٌ رمادية مضرجة بدماء باهتة، وخرجت العربة إلى الخلاء، ولمعتْ رمال الصحراء تحت ضوء العربة، وتذكَّرت وجه أمِّها في الصباح حين كانت تنظر إليها قبل أن تخرج، كان في عينيها نظرةٌ غريبة، نظرة مستجدية ضعيفة تطلب منها أن تبقى معها، لكنها لم ترَ هذه النظرة بوضوح كما تراها الآن، ربما رأتْها وتجاهلتْها بغير عمد، كثيرًا ما تجاهلتْ نظراتِها الصامتة، كثيرًا ما تجاهلتْها، كانت تريد أن تُسرع وتخرج، لماذا كانت تسرع؟ لماذا كانت تخرج؟ إلى أين كانت تذهب؟ لماذا لم تبقَ معها ذلك اليوم الأخير؟ كانت وحدَها، وحدها تمامًا، ربما نادتْها ولم تجدْها، ربما أرادت شيئًا من الماء فلم تجد أحدًا، لماذا تركتْها في ذلك اليوم؟ أيمكن أن يعود ذلك اليوم مرة أخرى؟

وتدفَّقت الدموعُ في أنفها وحلقها، ففتحتْ فمَها للهواء ولهثت، كانت العربة قد وقفت، والساعاتي إلى جوارها جالسٌ صامت، ينظر إلى وجهها الطويل الشاحب ويتأمَّل عينيها الخضراوين الشاردتين، ومدَّ يدَه السمينة الطرية وأمسك يدها النحيلة المرتجفة، وقال: لا تحزني يا فؤادة؛ هذه طبيعة الحياة لا توجد حياةٌ بغير موت، وسكتْ لحظة ثم قال: ما فائدة الحزن؟ لا شيءَ إلا المرض، أنا لا أحزن أبدًا. وإذا حدث لي ما يُحزن فإني أفكِّر في الأشياء المفرحة، أو أسمع لحنًا مرحًا.

ومدَّ يدَه إلى الراديو وأداره، وانبعث لحنٌ راقص، وتجمَّدت الدموعُ في حلقها كالغصَّة، وأحسَّت اختناق ففتحتْ باب العربة وخرجتْ إلى الصحراء، كان في الهواء برودةٌ خفيفة شدَّت عضلاتها، لكن جسمها كان كالعبء الثقيل، وحرَّكتْ ساقيها لتنفضَ عنها ذلك العبءَ المزمن لكنه ظلَّ جاثمًا فوقها، وفتحتْ فمها لتصرخَ وتطرد الغصَّة من حلقها لكنَّ عضلاتِ فمها كانت تنقبض وتنبسط دون أن تطرد شيئًا، وهبطت الغصَّةُ إلى رقبتها، فبدأتْ عضلاتُ رقبتها تنقبض وتنبسط، لكن الغصة انتقلت إلى صدرها وبطنها، وبدأت عضلاتُ صدرها وبطنها تنقبض وتنبسط، وزحفت الغصة كالدودة إلى جميع أجزاء جسمها فأصبحت عضلاتها جميعًا تنقبض وتنبسط في اهتزازات سريعة عنيفة كتشنجات الصرَع، كانت تريد أن تتخلَّص من ذلك الشيء الحبيس في أنسجتها.

وكان اللحن يرنُّ في الصحراء الساكنة، لم تكن تسمعُه، ولكنه كان يسري في الهواء ويدخل ويخرج مع أنفاسها، كانت تلهث وتريد أن تتوقَّفَ، لكن عضلاتِها أفلتتْ من قبضة وعيها وانطلق جسمُها يهتزُّ مع اللحن، يُفرزُ سمومَ الطاقة الحبيسة ويستشعر متعةَ الرقص بغير وعي.

نعم؛ كانت غائبةً عن الوعي، وكانت تستمتع بلذَّة الحركة العنيفة، لكن نقطة صغيرة في رأسها، ربما خلية واحدة من خلايا مخِّها، كانت لاتزال تحتفظ بوعيها، ولا تزال تعرف أنها في الصحراء، وأن الساعاتي يقف وراءها، وأنها حزينة حزنًا شديدًا، أمها ماتتْ، وفريد غائب، وفكرة البحث ضائعة، وحياتها في الوزارة فارغة.

وهزَّتْ رأسها بعنف لتفصل عنه تلك الخلية الواحدة الواعية، لكنها لم تكن تنفصل أبدًا. كانت قد تماسكتْ وتصلَّبت وراحت ترتجُّ داخل رأسها وتمزِّق خلايا مخها الهلامية كقطعة زلط.

وانقطع اللحنُ فجأةً، ربما بلغ نهايتَه، أو ربما أطفأ الساعاتي الراديو، وسقَط جسمُها فوق الرمل منقطعَ الأنفاس مبلَّلًا بالعَرق، منذ متى لم يُبلِّلْ جسمَها مثلُ هذا العَرق؟ منذ زمن لم ترقص رقصةَ الخلاص من سياج العقل؟ منذ متى لم تسمعْ تيوردوراكس السجين؟ منذ متى قال كازانزاكس لا ينقض الجنون إلا الجنون؟ لكن فريد كان يقاوم الجنون، كان يقول جنونُ فردٍ واحد معناه الحبس أو الموت، ولكنه جنونُ الملايين. وماذا يصنع جنونُ الملايين يا فريد؟! كان يقول المعرفة والجوع؛ الجوع موجود ولا ينقص إلا المعرفةُ، لماذا لا يعرفون يا فريد؟ وكيف يعرفون يا فؤادة، وكلُّ شيء من حولهم إما أخرس وإما يكذب؟

وفتحتْ عينَيها، ووجدتْ نفسَها راقدة فوق الرمل، وإلى جوارها كتلةٌ ضخمة من اللحم لها عينان جاحظتان يطلُّ منهما شيء كاذب يتلصَّصُ، وسمعتْ صوتًا غليظًا يقول: أبدعُ رقصة رأيتُها، وأجمل راقصة في الوجود! وحوَّطها بذراعيه وملأتْ أنفَها رائحةُ الحديد الصدئ، وانتشر في فمها اللُّعابُ اللاسع المُرُّ، ورأت عينيه الجاحظتين تبرزان وتتسعان تطلُّ منهما نظرةٌ غريبة مخيفة، وتلفَّتتْ حولها في فزَع، ولم ترَ إلا الصحراء والظلام. وحاولتْ أن تتنفَّس ولم تستطع، فدفعتْه بعيدًا عنها بكل قوتها ونهضتْ مسرعة لتجريَ. وجرى وراءها.

لم يكن أمامها إلا ظلامٌ يتَّسع، ومن خلفها ذلك الشبحُ الجاحظ العينين يطاردها، وخُيِّل إليها أن الأرض المنبسطة أمامها تعلو وتتكوَّر لتُصبح عينين كبيرتين جاحظتين، وهي تجري بينهما في خندق طويل ضيِّق، وكانت السماء أيضًا بكتلتها المقعَّرة السوداء قد أصبحت عينَين كبيرتين جاحظتين تجثمان فوقها وتضغطان عليها، واصطدمتْ بشيء مقعَّر صلب وسقطتْ على الأرض فاقدةَ الوعي.

فقدت وعيها تمامًا فيما عدا تلك الخلية الواحدة الواعية، استقطبت حواسها الخمس، وظلَّت ترى وتسمع وتحس وتذوق وتشم، وأحسَّت الكف السمينة الطرية فوق صدرها، وشمَّت رائحة الحديد الصدئ، وذاقتْ طعمَ اللعاب اللاسع المر.

وتحوَّلت الكف الطرية إلى أصابع غليظة ترتعش، لم تكن رعشة ثابتة في مكانها، لكنها رعشة هابطة أسفل، إلى بطنها وفخذيها، ورأت رقبته المكتنزة باللحم كجذع شجرة عجوز يبرز منها برعم صغير أسود كان يمكن أن يعيش وينمو لكنه مات وتعفَّن، وقميصه الحريري المفتوح يكشف عن صدر سمين أملس بغير شعر، ويهبط إلى حزام من الجلد مفكوك، يدور حول بطن منتفخ عالٍ تتدلَّى منه ساقان رفيعتان معوجتان بغير شعر، وكان بطنه المرتفع يعلو ويهبط مع أنفاسه المتقطعة، وتنبعث من داخله حشرجةٌ خافته غريبة كأنين ثور جريح.

وزحفت فوق جسدها برودة ثقيلة غريبة، برودة لم يعرفها جسمها من قبل سوى مرة واحدة سابقة، كانت راقدة فوق ملاءة من الجلد ومن حولها أجهزة معدنية، مشارط وإبر ومقصات، وأمسك الطبيب إبرة حادة طويلة وغرزها في ذراعها. وسرتْ في جسمها تلك البرودة الثقيلة الغريبة فكأنما هي تغطس في حوض ماء مثلَّج وجسمها يثقل ويعرق شيئًا فشيئًا.

ولم يكن تحتها ماء، كان هناك شيءٌ ناعم له ملمس الرمل، وهواء بارد يدخل في ثوبها المفكوك، ولعاب مرٌّ لاسع يتجمَّع في جوفها، ورائحة صدئة عتيقة تسدُّ أنفها، وإلى جوارها كتلة ضخمة ممددة على الأرض، تلهث وترتج، وترتج معها عينان جاحظتان مطفأتان وساقان رفيعتان مرتخيتان، وحاولت أن تفتح فمها لتبصق لكنها لم تستطع واقترب جفناها الثقيلتان وانغلقتا.

•••

فتحتْ عينَيها لترى نور النهار يدخل من شقوق الشيش، ونظرتْ حولها في ذهول، كان كلُّ شيء في حجرتها كما كان دائمًا؛ الدولاب والشمَّاعة والنافذة والسقف والدائرة المشرشرة، وسمعت صوت القدمين تزحفان في الصالة وتقتربان من حجرتها، ونظرتْ إلى الباب تنتظر ظهورَ وجهِ أمِّها، لكنَّ وقتًا طويلًا مرَّ دون أن يظهر وجهُ أمِّها، وانتفضت من فوق السرير واقفةً على قدميها، لقد تذكَّرت، وسارتْ بقدمين مرتجفتين إلى الصالة، واقتربت من باب حجرة أمِّها في وجَل، أكان حلمًا؟ أم أنها ماتت حقًّا؟ ومدَّت رأسَها لتنظر داخل الحجرة وارتطمت عيناها بالسرير الخالي وتراجعتْ إلى الوراء في ذُعْر، وسارت إلى المطبخ، وإلى حجرة الطعام، وإلى الحمَّام لم تكن أمُّها في أي مكان، وأحسَّتْ بدوار، فأسندتْ رأسَها إلى الحائط، كانت كتلةً صلبة تلفُّ وتدور داخل رأسها وترتطم بعظامه، وشيءٌ مرٌّ لاسع يلتصق بحلقها. وزحفت مستندةً إلى الحائط لتصل إلى الحوض، وفتحتْ فمَها لتبصق لكن المرارةَ ضغطت على جوفها فتقيَّأتْ، وفاحت الرائحةُ الصدئة الكريهة من فمها وأنفها وملابسها، وخلعتْ ملابسها ووضعتْ جسمَها تحت الماء الجاري، وغسلتْه بالليفة والصابون، لكنَّ الرائحة لم تَزُلْ، كانت قد نفذت إلى أحشائها وخلاياها وامتزجت بدمائها.

وعادتْ تستندُ على الجدران إلى حجرتها، ودارتْ بعينَيها المحتقنتَين بالدم حولها ثم استقرَّتْ فوق وجهِ أمِّها معلَّقًا بجوار الدولاب، ونظرتْ إليها أمُّها بعينيها الواسعتين الصفراوين تطلُّ منهما تلك النظرةُ الضعيفة تستجديها أن تبقَى، وأخفَتْ وجهَها بيديها، ألَا تكفُّ أمُّها عن هذه النظرة الساحقة؟ ألم تُكفِّر عن ذنبها؟ ألم تملأْ جوفَها بذلك العلقم اللاسع المُرِّ؟ ألم تنقع جسدها في تلك المرارة الصدئة المركَّزة؟ هل هناك حزنٌ أشد من هذا الحزن؟ وما هو الحزن؟ كيف يحزن الناس؟ صراخٌ عالٍ يجلو الصوت ويُفرج عن الكَبت؟ ملابس سوداء جديدة تنعش جدتُها الجسم؟ ولائم وذبائح تفتح الشهية وتملأ البطن؟ أهناك أُمٌّ ماتتْ وحظيتْ بأكثر من هذا الحزن؟ هل خلَّفتْ أمٌّ ابنةً تتجرَّع من بعدها السُّمَّ؟ أهناك وفاءٌ للأمومة أكثر من هذا الوفاء؟ أهناك سدادٌ لديون البنوَّة أكثر من هذا السداد؟

وسارتْ إلى السرير تحسُّ بعضَ ارتياح، وفردتْ ذراعيها وساقيها، لا زال جسمُها ثقيلًا ولا زال جوفُها مُرًّا، متى؟ متى يضيع هذا الثقلُ تمامًا وينتهي العبء؟

وانبعث من التليفون الجرسُ، إنه هو، لا أحدَ غيره، لم يعدْ هناك شيءٌ سواه، لم يبقَ إلا أن تتجرَّعَ السُّمَّ يومًا بعد يوم، ستملأ جوفَها بالعلقم اللاسع المُر، وستنقع جسمها في المرارة الصدئة المركَّزة، لم يبقَ إلا الموتُ البطيء.

ومدَّتْ يدَها النحيلة الصفراء، ورفعت السمَّاعة، وجاءها الصوتُ الغليظ اللزج: صباح الخير يا فؤادة، كيف أنتِ؟

وقالت بفتور: أعيش.

قال: ماذا ستفعلين الليلة؟

قالت: لا أدري، لم يبقَ لي شيء.

قال: وأين أنا؟ أنا الباقي لك.

قالت: نعم؛ لم يبقَ إلا أنت.

قال: سأمرُّ عليكِ بالمعمل في الثامنة والنصف.

•••

كانت على وشك أن تخرج من باب البيت حين لمحتْ شيئًا، شيئًا أبيض يلمع من وراء الزجاج، وعادت إلى الوراء بضعَ خطوات، وقرَّبت عينيها من الصندوق، نعم؛ كان هناك خطابٌ، وبدأ جسمُها ينتفض، وفتحت الصندوق وأمسكت الخطاب بأصابع نحيلة طويلة ترتجف، والتقطتْ عيناها الحروف المربَّعة الكبيرة وتلك التاء الطويلة ذات الذيل الملفوف، ودبَّ قلبُها، إنه خطُّ فريد. وتلفَّتتْ حولها في ذهول، حلمٌ أم حقيقة؟ ورأتِ السُّلَّم والباب وصندوق البريد، ومدَّت أصبعًا مرتجفًا ولمستْ صندوق البريد. نعم؛ إنه موجود ومحسوس، وضغطتْ بأصابعها على الخطاب، إنه ورقة حقيقية لها سُمكُها وكثافتها. ورفعتْ أصبعها الصغيرة ولمستْ جفنَها، إنه مفتوح.

وقلبت الخطابَ على ظهره وبطنه، وتفقَّدتْ زواياه وأطرافه، لم يكن عليه إلا اسمُها والعنوان، وقرَّبتْه من أنفها، وشمَّت الرائحة المميَّزة للورق وخِتْم البريد، وفتحتِ الخطاب وسحبتْ ورقةً طويلة شفَّافة تملؤها السطورُ:

فؤادة …

كم يوم مضى منذ لقائنا الأخير … منذ تلك الليلةِ القصيرة المحمَّلة بأول رياح الشتاء، كنتِ تجلسين أمامي ومن خلفك النيل، وفي عينَيك ذلك البريقُ الغريب الذي يقول: عندي شيءٌ جديد، وأصابعك الطويلة الرفيعة تنقرُ على ظهر المائدة بهدوء يخفي من تحته بركانًا مكتومًا. كنتِ صامتةً وعرفتُ أنكِ تتألمين. وقلتِ لي بعد صمت طويل: ما رأيكَ يا فريد؟ سأترك الوزارة. كنتُ أفهمُكِ، وأردتُ أن أقولَ لكَ في تلك اللحظة: اتركيها وتعالَي معي، لكنكِ تذكرين أنني لم أرد، كنتُ أحسُّ أن لك دورًا آخر غير دوري، كان دورُكِ هو أن تصنعي شيئًا جديدًا لو أعطيت الفرصة، وكان دوري هو أن أصنع الفرصةَ ليصنع الناسُ الجديد. وما الجديد؟ تغيير القديم؟ وماذا يصنع التغيير؟ أليس هو التفكير؟ هل تذكرين؟ ذلك الطفل الصغير الذي يدور حول الموائد في المطعم، هل تذكرين يده اليابسة المشقَّقة وهو يمدُّها من أجل قطعة خبز أو قرش، وكان الناس يُشفقون عليه ويعطونه قرشًا بغير تفكير، لو أنهم فكَّروا ماذا يفعل قرش؟! لو أنهم فكَّروا لماذا هو يجوع؟! نعم يا فؤادة، إنه التفكير، إنها الفكرة التي تخرج من الرأس، وهل تخرج الفكرةُ من الرأس بغير نُطْق؟

كان دورُكِ أن تصنعي الفكرة وكان دوري أن أصنع النطقَ، ولم أكنْ أستطيعُ وحدي شيئًا. لم يكن دوري سهلًا أو مقنعًا كما تبدو الكلماتُ سهلةً ومقنعة، كان نوعًا من الجنون، فكيف تنطق الأفواه المكمَّمة؟

وكيف ينفذ الصوتُ من خلال كمامات سميكة كالجدران؟ كان نوعًا من الجنون، وجنونُ فرد واحد لا يصنع شيئًا ولكنها الجموع، هل تذكرين ذلك الحوار القديم؟

أجل، لم أكن واحدًا، كان معي آخرون، لم نملك إلا ذلك الدور البسيط الخطير، تلك الكلماتُ الطبيعية البسيطة التي وُلدتْ مع أول إنسان، أن يُفكِّر وأن ينطق، لم تكن إلا هذه الكلمات نقولها ونكتبها، لم تكن مدافع أو بنادق أو قنابل، كانت كلماتٍ فحسب.

وافترقنا في تلك الليلة القصيرة، وسرتُ وحدي في شارع النيل، كنتُ أفكِّر فيكِ، كنتُ أحسُّ أنكِ تتألمين، أنَّ في أعماقك فكرةً جديدة تُصارع من أجل الخروج، تُصارع وحدها جدرانًا عالية … في الوزارة والبيت والشارع وعِظام رأسك، نعم يا فؤادة، كان هناك جدارٌ آخر في رأسك، جدار قصير لم يُولد معك، لكنه بُنيَ يومًا بعد يوم من الصمت الطويل، وقلتُ لنفسي ليلتها وأنا أسير: إنه جدار قصير وسينهار حتمًا حين تنهار الجدران الأخرى.

ولم أصل إلى البيت، كان هناك رجلٌ يتعقَّبني، أظنُّ أنه لم يكن واحدًا، كانوا أكثر من واحد …

بل كانوا كثيرون مسلَّحين، ولم يكن معي شيءٌ، تذكرين، كنتُ أرتدي القميص البنِّيَّ والبنطلون، وفتشوا جيوبي، ولم يجدوا شيئًا، وهل توضع الكلمات في الجيوب، وأمسكوا بي ووضعوني في الحديد، لكن الكلمات حملها الهواء فهل يمسكون الهواء ويضعونه في الحديد؟

الجدران من حولي، لكنك معي، أحسُّ يدَكِ الصغيرةَ الناعمة على وجهي وأرى عينيك الخضراوين في عيني، يطلُّ منهما ذلك الشيءُ الجديد الحبيس يريد أن ينطق ولا يستطيع، لا تحزني يا فؤادة ولا تبكي، فالكلمات في الهواء خارج الجدران، تعيش وتدخل مع الهواء إلى الصدور، وسيأتي حتمًا يومٌ تسقط فيه الكمامات وتنطق الأفواه من جديد.

فريد
(انتهت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤