تعقيب من الفكر الكلاسيكي إلى الوقت الحاضر

مثلما حدث مع الأيام الذهبية للفلسفة الإغريقية في فترةِ ما قبل المسيحية بكل ما تميَّزت به تلك الفترة من تقليد ثريٍّ بالجدل عندما أَفَل نجمها على مدار القرون التالية؛ وصلت الفترة «الكلاسيكية» للفكر الهندي إلى نهايةٍ تدريجية. وإذا ضممنا المراحل الأولى للتقليد، مثلما فعلتُ في هذا الكتاب، وجدنا أن هذه الفترة الكلاسيكية ازدهرت على مدار فترة مدهشة تُقدَّر بنحو ١٥٠٠ عام، شهدت فيها القرون الخمسة الأولى الميلادية أكبرَ قدرٍ من النشاط والتنوع. إن النصوص والسجلات التي بقيت حتى يومنا الحاضر تشهد على وجود العديد والعديد من النصوص والسجلات الأخرى التي فُقِدت أو ما زالت غير مكتشَفة أو غير مفحوصة؛ مما يدلُّ على تراثٍ من الفكر والجدل الأصلي غنيٍّ ومتنوعٍ على نحوٍ استثنائي. إن فقدانَ كثيرٍ من هذه النصوص هو بلا شك يعود إلى حدٍّ كبير إلى افتقار الهند، جزئيًّا أو كليًّا، إلى تقليدِ تدوينِ تفاصيل عن الشخصيات أو الحقائق أو الأحداث التاريخية أو حفظ المعلومات كسجلٍّ تاريخي في حدِّ ذاته. وقدرٌ كبير من المعلومات التي بحوزتنا ظلَّ باقيًا دون وجود أية معلومات تقريبًا حول مؤلِّفه أو مصدره ما عدا وجود اسم المؤلف؛ مما جعل الأكاديميين أمام مهمة كبيرة، بالإضافة إلى مهمَّتَي التحرير والترجمة، وهذه المهمة هي محاولة وضعِ هذه الأعمال في السياق الدقيق لهذا التقليد. وعلى الرغم من بذل الكثير من الجهود الأكاديمية في محاولةٍ لتجميع الحقائق المتعلقة بالسِّيَر الذاتية وتواريخ الأحداث الزمنية، فإنه ما زال من الصعب للغاية التأكد من الموقع الجغرافي الذي نشأت فيه تلك المدارس الفكرية وحُفظ فيه علمها ودُرِّس للآخرين، أو في تحديد كيفية انتشارها وأماكن انتشارها، أو معرفة التواريخ إلا على نحوٍ تقريبي، أو معرفة مؤلفي الأعمال على نحوٍ دقيق. وفي بعض الأحيان يكون الاسم المدوَّن على النص لا يعدو كونه مجرد اسم؛ ولذلك فثَمَّة أمورٌ كثيرة لا نعلمها ببساطة عن الأسئلة المتعلقة باستمرارية التقليد الهندي، أو عما حدث «بين» الأجزاء التي نعرفها، أو «قبل» أو «بعد» مراحل أو أحداث رئيسية معينة نعلمها بقدر أكبر من التأكد.

جزءٌ كبيرٌ من عملية تجميع مخطَّط التأريخ الزمني الذي اتبعتُه في هذا الكتاب قامت به مجموعة من الروَّاد الأكاديميين المتخصصين في علم الهنديات. وقد بدأ هذا الفرع المعرفي في القرن التاسع عشر عندما تعلَّم أفراد الإرساليات الغربية والأكاديميون المسافرون اللغةَ السنسكريتية، وبدءُوا يحرِّرون ويترجمون النصوص الهندية. وقد اقترفوا الكثير من الأخطاء — لا سيما أخطاء من نوعية «النظر إلى النصوص الهندية من منظور العين الغربية/المسيحية» — ورغم ذلك فإن هذا العمل الأوَّلي قد قدَّم إسهامًا كبيرًا في جعْل الفكر الهندي سهلَ الفهم بالنسبة للغرب. وعلى الرغم من أن هذا العمل الأوَّلي ما زال موجودًا في أنحاء العالم، فإنه يظل فرعًا معرفيًّا صغيرًا نسبيًّا، وما زال أمامنا قدرٌ هائلٌ من المعلومات اللازمة دراستها على نحوٍ صحيح.

وفي الهند نفسها، وإلى أن تعلَّم الغرباء اللغة السنسكريتية، كانت قِلَّةٌ فقط من الصفوة هم الذين يتمتعون بمعرفة النصوص الدينية الفلسفية؛ فاللغة السنسكريتية كانت أولًا لغة كهنة البرهمية، وأصبحت فيما بعد لغة «المفكرين» المتعلمين، وهذا يجعلها شبيهةً باللغة اللاتينية في أوروبا في العصور الوسطى. وبعد تَراجُع الفترة الكلاسيكية، كانت تُوجد بعض المناطق التي ظلَّت فيها تقاليدُ فلسفية معينة، ولو على أساسٍ تفاعلي أقل نطاقًا. ومن تلك التقاليد التي نعرفها كانت تلك المدرسة الفكرية الجديدة المسماة «نيايا»؛ حيث تطوَّرت النيايا الكلاسيكية، وخضعت للنقد وإعادة التفسير، وكُتب عنها الكثير من النصوص الإضافية. واستمر حَفَظَة التقليد البرهمي في دراسة القواعد اللغوية التي وضعها بانيني وحفظها. أما ما ازدهر على نحوٍ أكبر وكان له تأثير أكبر فكان معاقل التقاليد التعبدية؛ مثل ذلك التقليد الذي كان رامانوجا عضوًا فيه. وبعض هذه المجموعات (لا سيما مجموعات عبدة شيفا) قدَّموا معتقداتهم الإيمانية بصفتها أنظمة ميتافيزيقية شديدة التعقيد، ورغم ذلك فقد تمثَّل الأمر في أن راقت الاهتمامات العقلانية لأقلية صغيرة جدًّا فحسب. وعلى الرغم من أن شانكارا ترك تراثًا من المراكز التي يمكن للناس تطبيق فلسفته فيها، فقد كان هذا لغرض الممارسة الدينية بدلًا من كونها منتديات للجدل أو للتأويل. وبقيت البوذية في خارج الهند فقط، في دول مثل الصين والتبت واليابان وسريلانكا وميانمار (بورما) وتايلاند. واستمرَّ البوذيون الأكاديميون، لا سيما مَنْ في التبت، في الانخراط في مناقشات ذات مستوًى فلسفي رفيع داخل المدارس البوذية الخاصة بهم، لكن التقليد استمر إلى حدٍّ كبيرٍ بصفته ديانة.

ومن عدة نواحٍ، كان اهتمام الغرباء هو ما أثار الهنود لإحياء التقاليد الهندية الأقل «رواجًا» من منطلق الوعي بالذات، فرؤية الآخرين الذين يتعلمون اللغة السنسكريتية ويبحثون في النصوص ويحرِّرونها، ويرغبون في معرفة تاريخ أفكار الهند؛ حفَّزت الهنودَ على استئناف اهتمامها الحثيث على نحوٍ أكبر بتقاليدهم الكلاسيكية، وبعضهم فعل ذلك بهدف ترويج تقليدهم المميز الخاص بهم مثلما كان يحدث في الماضي. وكان هذا هو الحال، وخصوصًا مع فلسفة أدفايتا فيدانتا لشانكارا، تلك الفلسفة التي نجحت كثيرًا في تقديم نفسها على هيئة نموذج مبسَّط للاستهلاك الغربي. وهذا النموذج يلقى اهتمامًا في الأساس لدى الغربيين المهتمين بالناحية الخلاصية لهذه الفلسفة. وفي الهند أيضًا ظلَّت نقطةُ تركيزِ شانكارا متمحورة في الأساس حول الجانب العملي إلى حدٍّ كبير.

لقد كانت المؤسسات التعليمية في الهند (التي أسس البريطانيون عددًا كبيرًا منها في القرن التاسع عشر) هي التي وفَّرت المناخ الذي ازدهرت فيه الفلسفة الهندية مرة أخرى خلال القرن العشرين. وانضم الباحثون الهنود المحترفون إلى الأكاديميين الغربيين في دراسة النصوص الكلاسيكية، في أقسام الجامعات في الهند والغرب على حدٍّ سواء، واستأنفوا الجدل حول المزايا النسبية لأنظمة الفكر المختلفة، وترابطها الداخلي، وصحة حُججها، ونقاط القوة أو نقاط الضعف في منهجياتها. وفي العموم، فقد درسوا هذه الأمور من خلال مجموعة متنوِّعة من فروع المعارف، حيث تناول الباحثون النصوص من زوايا مختلفة. وأثار اللغويون والمؤرخون وطلاب الدين والفلاسفة أنواعًا مختلفة من الأسئلة وأسهموا في الجدل المعاصر بطرق مختلفة.

وبسبب التأثُّر بالأسلوب الغربي في التعامل مع الأمور، أصبح هناك ميلٌ لفصل الفلسفة بمعناها الجدَلي العقلاني عن أي سياق يتضمَّن موضوعات مصطبغة بصبغة دينية إلى حدٍّ كبير؛ ولذلك ففي الهند، وكذلك في الغرب، أصبحت الفلسفة الهندية على نحوٍ أكثر تحديدًا فرعًا معرفيًّا أكاديميًّا يهتمُّ في المقام الأول بالمنطق والتحليل اللغوي. ومن أجل أن تحظى الفلسفة الهندية بتعامل جدي على الصعيد الدولي للفلسفة الغربية المعاصرة، كان لزامًا أن تنافس فقط من خلال هذين المجالين المتمثلين في المنطق والتحليل اللغوي، فهما ما يشغلان اهتمام فلاسفة الغرب المعاصرين. واعتمادًا في المقام الأول على أعمال مفكري فلسفة نيايا وكذلك أعمال المفكرين البوذيين، كرَّس بعض الباحثين حياتهم المهنيَّة للترويج للفلسفة الهندية على أساس الجدل المنطقي فحسب؛ من أجل التغلُّب على التصورات المسبقة لدى الغرب التي ترى الفكر الهندي «صوفيًّا» و«سحريًّا» ولا يمتُّ للمنطق بصلة. وكان كثيرون يعتقدون (وكثيرون ما زالوا يعتقدون) أن العقلانية حكر على الغرب فحسب. وعلى الرغم من ضرورة الاحتفاء بأي نجاح في التغلب على تلك التصورات الخاطئة، فإنه يُرجى أيضًا ألا يمرَّ وقتٌ طويل حتى يصبح الفلاسفة المحترفون أقلَّ ترددًا في بذل الاهتمام الواجب تجاه السياق الأوسع نطاقًا الذي تطوَّر فيه المنطق الهندي، وأن يلتفتوا إلى الأسباب المبرَّرة لتطوُّر ذلك المنطق؛ حيث إن تجريد المنطق الهندي تجريدًا كاملًا من سياق تطوُّره هو ظاهرة ثقافية غربية فحسب انتهجوها عند التعامل معه. لقد كانت رؤية العالم في الهند الكلاسيكية أعمق كثيرًا من ذلك التصور الموجود لدى الغرب؛ إذ كانت تركِّز في الأساس على طبيعة الحقيقة نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤