محطَّة

في المحطة الأولى صعد الشاب، واحد من شُبَّان هذه الأيام، القميص «نُص كُم» ومفتوح مع أنَّنا لا نزال في الشتاء، وشعرات الصدْر القليلة بارزة من فتحته، والبلوفر مخلوع ومربوط من أكمامه حول العنق، والسلسلة إيَّاها تارةً ملفوفةٌ حولَ ساعِدِه، وأخرى دائرةٌ بين أصابِعِه، ونوت المحاضرات راقدة في إهمال تحت إبطه.

وفي المحطَّة التالية صعدتِ الفتاة، واحدة من بنات هذه الأيام، نحيفة، قمحية، حتى ابتسامتها قمحية، شعرها ذيل حصان، وصدْرُها لم يبلُغْ بعدُ حبَّ الرُّمَّان، ولكن «السوتيان» تكفَّل بإنضاج حب الرُّمَّان، وكانتْ تُمْسِك في يدها مندوب العائلة؛ أخاها الصغير، المُوفَد — لا بدَّ — لحراسة الحَمَل النحيف من قُطْعان الذئاب.

وأتوبيساتنا مزدحمة، ودائمًا مزدحمة، حتى ليُخَيَّل لي أننا لا نعتَبِر ازدحامَها مشكلةً، ولكننا نعدُّه مفخرةً قومية كالأهرام وأبي الهول، سنظلُّ نحتفظ بها إلى أبد الدهر.

وكان الأوتوبيس مزدحمًا، ومزدحمًا بالرجال الكِبار، كلُّهم يرتدون السترات الغامقة، وأربطة العنق الوقورة، الجالسون جالسون في أدب واتِّزان، والواقفون واقفون، رغم تلاصقهم وازدحامهم، في جدٍّ وحزمٍ، حتى حين كان الأوتوبيس يهوي بالواحد منهم ويجعله يتأرجح كالدائخ ذات اليمين وذات اليسار، كان يفعل هذا في جدٍّ ووقارٍ أيضًا، وبوجْهٍ صارم الملامح والقَسَمات.

والسيد الجالس بجواري كان هو الآخَر مِن هذا الصنف الوَقور الحازم، بل كان واضحًا أنه أكثرُ الرُّكَّاب جدًّا ووَقارًا؛ إذْ كان هو الوحيد الذي يرتدي بالطو فوق بدلته، مع أنَّ الصباح كان جميلًا مُشْرِقًا يُغرِي الإنسان بالمشي عاريًا تحت أشعة الشمس.

وحين صعد الشابُّ، صعد مبتسمًا، ولكنَّ أحدًا من الرجال الكبار لم يعبأ به أو بابتسامته.

وحين صعدتِ الفتاة، صعدتْ مبتسمة، ورمَقَها الرجال الكبار ذوو السترات بنظرات سيئة النية، ولكنَّهم اطمأَنُّوا حين وجدوا أنَّها في أعمار بناتِهم أو دون ذلك، وأنَّها لا تصلح للفراش، بل لا «يليق» أن تُرَى مع أحدهم في الشارع؛ ولهذا سُرْعانَ ما صرفوا النظر عنها وعن ابتسامتها!

ولكنَّ جاري أعلَنَ رأْيَه بصراحة، فقد شعرتُ به يتمَلْمَل داخل البالطو حين صعدت الفتاة، وما لبث أن عقد ملامِحَه وقال في شبه غمغمة مستنكِرة: «ودي إيه اللي يخلِّيها تِركب في الزحمة دي كمان؟! قلة أدب!»

وكدتُ أنا الآخَر أصرِفُ النَّظَر عنها، لولا أن حدث شيء؛ نفس الشيء الذي يحدث كلَّما صعد إلى عربة الأوتوبيس راكب جديد، فقد تقَلْقَلَتْ صدور، واصطدمتْ بطون، واستُعْمِلَت الأكتاف للمرور، وتُبُودِلَتْ كلمات الاعتذار بالإنجليزية والفرنسية والعربية والبلدية، وحدثتْ حركة تنقُّلات وترقيات بين أصحاب الأمكنة، وحاوَلَ كلٌّ منهم أن ينتَهِزَ الفرصةَ ويحتلَّ المكان الذي طال حلمه به.

وكان من نتيجة تلك الحركة، أن جاءتْ وقفةُ الشاب الصغير بجوار الفتاة الصغيرة، وجاءتْ وقفتُهما بجوار المقعد الذي أحتَلُّه أنا والسيد جاري.

ورمق كلٌّ منهما الآخَر بنظرةٍ سريعةٍ لا هدفَ لها ولا معنى، لم تُغيِّر من الابتسامة التي صعد بها كلٌّ منهما، بل لم يَلْحَظْها أحدٌ من رُكَّاب العربة.

وكنتُ قد عانَيْتُ الأمَرَّين من السيد جاري، فمنذُ أن جلس بجواري وهو لم يكفَّ أبدًا عن الحركة، ولا عن التعليق، ولا عن إعطاء الأوامر الخاصة للسائق حين تدخل العربة في مأزق، أوامِر يقولها بينه وبين نفسه: «اطلع يا جدع»، «خُدْ يمينك»، «سَوَّاق نِيلة.»

وأنا لا أحبُّ أن يُنادِيَني أحدٌ بكلمة: «السيد»، لستُ أدري لماذا، تصوَّر اسمك مقرونًا بلقب «السيد»، حتمًا ستُحِسُّ أنَّ شيئًا فيك قد تغيَّر أو تجمَّد، أو أنك أُحِلْتَ مثلًا إلى الاستيداع، ولكنْ هناك أناسٌ تُحِسُّ أنَّ لقب: «السيد فلان» يُناسِبهم جدًّا، وكان جاري من هذا الصنف، لا تملك حين ترى طربوشه وتكشيرته ومعطفه والشعر الأبيض في ذقنه التي تُحْلَق يومًا بعد يوم إلَّا أن تقول له: يا سيد، وإن لم تَقُلْها له غضب، ولهذا فهو الذي يبدؤك باللَّقَب حتى لا تنسى أن تُعِيدَه إليه إذا حادَثْتَه.

كان واضحًا أنه يحب الأصول، والأصول أن لا يأخذ الناس على بعضهم بسهولة، ومع هذا فمنذ أن جلس بجواري وهو لا يُعامِلُني بالأصول أبدًا؛ فقد احتلَّ وحدَه أكثر من ثُلثَي المقعد، ومع هذا ظلَّ كوعه مغروزًا في جنبي يكاد يُخرِج حجابي الحاجز، وكان قد قرأ من جريدتي أضعافَ ما قرأْتُه منها، وحين قرَّرتٌ حلًّا للإشكال أن أُعْطِيَها له ألْقَى عليها نظرةً سريعةً ثم طَوَاها وردَّها لي، وما كدتُ أفتحُها حتى وجدتُ وجهَه يتسلَّل من فوق كتفي ويُعاوِد القراءة، ولعلَّه لمح فيها دواءً مقوِّيًا «للأعصاب»، ثم إنَّ عينه لم تغفل عني لحظة، حدَّق في وجهي مرات، ربما ليرى إن كنت أحمل شبَهَ إحدى العائلات التي يعرفها، وحين أخرجتُ محفظتي لأدفع، جرَدَ كلَّ محتوياتها بنظراته الجانبية، واشمأنط حين وجدها شبه خالية، حتى حذائي لم يسلم من تحديقاته، ربما ليعرف إن كان نعله جديدًا أم مجددًا أو ليدرك نوع جوربي وحالته الداخلية، ومن كثرة خجلي أدخلتُ قدمي تحت المقعد لأُرِيحَه وأُرِيحَ نفسي.

ولم يُنقِذني من نظراته إلَّا مجيء الشاب الصغير والفتاة الصغيرة؛ فقد تركني وتحوَّل إليهما.

ولأنني كنت بعيدًا عن النافذة، لم يعُدْ أمامي لكي أقطع الوقت إلَّا أن أنظر في وجوه الرُّكَّاب، ولم تُفْلِح هذه التسلية لقطع أي وقت، فقد كفَتْني نظرةٌ واحدةٌ إلى الوجوه لكي أُدْرِك أنها نُسَخ متفاوتة الإتقان من جاري العزيز، وهكذا لم يَعُدْ أمامي إلَّا أن أُراقِب الشاب الصغير والفتاة الصغيرة.

وبدأتُ أجِدُ في مراقبتهما تسلية عظمى.

فقد لمحتُ ابتسامةَ الشاب الطبيعية يَرْتَجِف سطحُها قليلًا قليلًا، ويتغيَّر شكْلُها، ويُصبِح لها معنًى خاصٌّ مضى يمسح به وجه الفتاة وشعرها وجسدها وحتى ملابس أخيها الصغير.

المسألة فيها إعجاب إذن.

وكان إعجابًا، مجرد إعجاب، غير موجَّه إلى الفتاة بعينها، ولكن إعجاب أي شاب صغير بأي فتاة صغيرة.

ولكنَّ الأمور بدأتْ تتطوَّر.

فقد اتسعتِ ابتسامتُه حتى شملتْ وجهَه كلَّه، وبدأتِ السلسلة تضطرب في يده، وأصابعه تتجاذَبها بلا وعيٍ وفي عصبية.

وقلتُ في نفسي: عظيمٌ! إنه يُريد أن يكلِّمها.

وأن ينظر الشاب إلى فتاة مسألة سهلة، وأن يبتسم لها مسألة أسهل، أمَّا أن يكلِّمها، فتلك هي المشكلة، المشكلة التي شغلتْ جيلَنا كلَّه أيام أن كنَّا طلبةً في الكليات وشُبَّانًا حديثي التخرج، كنتَ لا تجدُ شابًّا منَّا إلَّا ولديه مشكلة من هذا النوع، وكلَّ يوم يَنْتَحِي بك صديق من أصدقائك ركنًا ويسوق مقدِّمات طويلة، ويدَّعي أول الأمر أن المشكلة خاصةٌ بشابٍّ آخَر، ثم ينفجر في النهاية قائلًا: أحبها يا أخي، وأعبدها، وهي جميلة، وأراها كل يوم، وتراني، وأجلس بجوارها في المدرج أو في الأوتوبيس وأبتسم لها كثيرًا، وأحيانًا يُخيَّل إليَّ أنها تبتسم لي، فدبِّرْني، ماذا أصنع؟!

وتجدُ أنَّ الحلَّ في غاية السهولة، فتقول: كلِّمْها يا أخي، كلِّمْها، ولا بدَّ أن يضحك مستشيرُك ضحكة هستيرية مغتصبة ويقول: «وجبت إيه من عندك؟! ما انا عارف، إنما ازاي؟ إزاي اكلِّمْها؟!»

ولا تظنَّ أنَّ مستشيرَك هذا قد فتح صدْرَه لك وحدَك باعتبارِك صديقَه الحميم، فلستَ إلَّا واحدًا من عشرات وربما مئات، حدَّثَهم، وكاشَفَهم، وخبَطَ رأسَه في الحائط أمامَهم وهو يقول: «المشكلة كيف أكلِّمها؟!» وتظلُّ المشكلة معلَّقةً شهورًا طويلة وربما سنين، أحدُ زملائنا ظلَّ يحبُّ زميلةً له خمس سنوات بأكملها، دون أن يجرؤ على مخاطبتها، وحين جمع شجاعة الدنيا وذهب يُحادِثها، ألْقَى على مسامِعِها الجُمَل الخمْسَ التي كان قد جهَّزَها، ثم استأذن منها وغادَرَها في الحال، حتى قبل أن تفتح هي فمَها وتردَّ.

ونفس الوضْع لدى الفتيات، ولكنَّهن لا يَمْلَأْنَ الدنيا عويلًا وصراخًا كما يفعل الشبَّان، هن يصمتن على نار، والمشكلة تحيِّرهن، وصدورهن العذراء تحتَرِق احتراقًا داخليًّا لا تُطْفِئه دموع، ولا تنهُّدات، وتؤجِّجه الأغاني والروايات، وكل جنس يريد الآخَر، ويراه، ويلمَحُه، وليس بينه وبين الآخَر مسافة، ومع هذا فهناك حائط زجاجي سميك لا يدري أحدٌ مَن أقامَه ولا يَجْرُؤ أحدٌ على كَسْره.

ولكنَّ جيلَنا أفاقَ، فوجَدْنا إخوتَنا الصِّغار، وأطفالَ جيراننا، وأولادَ المعارف، قد استطالَتْ أجسامُهم فجأةً، واخضرَّتْ شواربهم، وكشفوا الصدور والسواعد، وبدأتْ أصواتُهم تتغيَّر، وبدأت إذا حاولتَ أن تمنَعَ الواحدَ منهم عن مناقشتك قال لك: «إزاي؟! أنا مش عيِّل، أنا راجل زيي زيك!»

وكان الشابُّ لا يزال يبتسم في غموض وحيرة، ويحرِّك رأسَه ليأخذ وجهُه أوضاعًا مختلفة، وينظر إلى قدمَيْه مرةً، ثم يسرح فجأة ويتأمَّل سقف العربة، ويمسك بعامود الأوتوبيس، ويقبض عليه بشدة لكي تبدو عضلات ذراعه المنتفخة ثم يرمق بقية الركاب، ويتمَلْمَل مُحْرَجًا، ويعود ينظر إلى الفتاة، تلك النظرات الخاصة.

وابتسمتُ، كان الشاب الصغير واقعًا في نفس المشكلة التي لم نَجِدْ لها حلًّا، ترى هل لم يجدوا لها هم الآخَرون حلًّا؟ ارتباك الشاب واضحٌ، وأتحدَّاه إنْ كان يستطيع أن ينجح فيما فشلنا فيه!

كان لا يزال يُحاصِرها بنظراته ورغَباته الخَرْساء، ويُحاوِل أن تلتقِيَ أعيُنُهما ليكلِّمَها بعينيه، وكانتِ الفتاة واقفةً بجواره تمامًا، ولكنها لم تكن تنظر إليه، كانتْ عيناها مركزتين على رأس أخيها الصغير، ومع هذا كانتْ تبتسم بطريقةٍ ما، ابتسامة تحسُّ معها أن الفتاة وإنْ كانتْ لا ترى نظرات الشاب الموجَّهة إليها وتدَّعي أنَّها لا تحفِل بوجودِه، ومع ذلك تحس من الطريقة التي تبتسم بها أنها تُدْرِك وجودَه، وتشعُرُ أنَّه يُحاصِرها بنظراته، وأنه حائر مرتبك متردِّد، وكأنَّ لها ألف عين غير مرئية، تنقل لها بطريقة خفية كلَّ ما يحدث عن كثب منها.

وبدأتُ أنفَعِل، وكأنِّي أُشاهِد مباراة للأشبال.

وبدأ قلبي يدقُّ، ويتمنَّى أن يبْقَى كلُّ شيء على ما هو عليه، وأن يبْقَى الشاب مرتبكًا متردِّدًا، وأن تبْقَى الفتاة صامدةً كالقلعة الحصينة، حتى ولو لم تكفَّ عن ابتساماتها التي لم يكن لها أي مكان في أوتوبيس مزدحم كهذا.

واكتشفتُ أنَّني لستُ وحدي الذي يَشهَد الصراع، فقد الْتَقَتْ نظراتي المتلصِّصة بنظرات السيد جاري وهي تؤدِّي نفس المهمة، وطبعًا كان اللقاء مُخْجِلًا لكلَيْنا، وعقد جاري ملامِحَه حتى أصبحتْ أكثر جدية وخطورة، وادَّعَى أنه ينظر أمامَه، نظرات دوغري لا يمكن أن يلومه عليها أحد، ولم يمنعه هذا طبعًا من أن يحرِّك عينيه في محجرَيْهما خِلسةً ليشهد ما يدور هناك، وكذلك لم يمنعني خجلي من أن أجعل نظراتي تسترق الخُطَى هي الأخرى في دوريات استطلاعية متقاربة، كنَّا فقط نتحاشَى أن تلتَقِي أنظارنا، وإذا الْتَقَتْ — لسوء الحظ — طَلَى كلٌّ منَّا وجهَه بقشرةٍ سطحية مبتسمة، وادَّعى أنه فقط ينظر ببراءة إلى وجه الرجل الأفطس الواقف قريبًا من الشاب والفتاة سابحًا في ملكوت من صنعه.

ظلِلْتُ أنا وجاري نلعب لعبة «الاستغماية» هذه حتى حدث شيء.

فقد وقف الأوتوبيس ثم تحرَّك.

وكعادة الأوتوبيس إذا وقف ثم تحرَّك حدثَت الاصطدامات التي لا بد منها بين كلِّ جارٍ وجارٍ، والْتَقَتِ الوجوه مبتسمة ومعتذِرة.

وكذلك الْتَقَى وجهُ الشاب بوجه الفتاة، وابتسم الشاب معتذرًا.

وقبِلَتِ الفتاة اعتذارَه باسِمة.

وأعتقد أنَّ قلوبنا نحن الأربعة قد دقَّتْ بعنف.

وازدادتْ حركة الشاب، حتى حذاؤه، كان يتحرَّك بتردُّد وعصبية، وكأنَّما يحاول أن يجد له مكانًا بين الأحذية الضخمة الكثيرة المتراكمة حوله، ولم تكفَّ عضلات وجهه عن التغيُّر، تنقبض وتنبسط وترتجف، وأحيانًا يبتسم فجأة بلا سبب، ثم يلتفت إلى الفتاة وكأنَّه يَهُمُّ بعمل شيء، ولكنه سرعان ما يرتدُّ وبه بعض الشحوب.

والفتاة كانتْ قد أمسكتْ بيَدِ أخيها الصغير، بعد أن كان هو الذي يُمْسِك بيَدِها، وراحتْ تضغط عليها ضغطات منتظمة، بينما وجهُها قد اتخذ زاوية معينة لا يَحِيد عنها.

أمَّا جاري فقد راح يتأفَّف من الحر، ولكنْ يبدو أنَّه أحسَّ بأنَّ الأمور سوف تتطوَّر حالًا، فقد ترك خجَلَه مني جانبًا، واستدار بوجهه كليَّة إلى حيث يقفان، ولم يرفع عينيه منذ تلك اللحظة عنهما أبدًا.

وعلى حين بغتة، استدار الشاب مرة، وحمل وجهه ظرفًا كثيرًا، وأعاد اعتذاره إلى الفتاة عن الصدمة السابقة في همس خافت، بدا لي كأنه نجوى.

ولم ترُدَّ الفتاة هذه المرة، ولكنَّها خفضَتْ رأسَها واحمرَّ وجهُها.

وازداد اضطرابي.

وازداد أكثر حين عنَّ لأحد الركاب الواقفين، وكان سمينًا ذا كرش عظيم، أنْ يُغيِّر من وقفته، فتحرَّك حتى أصبَحَ جسَدُه الضخم يَحُول بينَنا وبينَهما، وكان اضطراب جاري أفظع، ورحنا نحن الاثنين نصوِّب للرجل وكرشه نظرات نارية ملتهبة تكاد تخرقه أو تُذِيبه لكي نستطيع العودة إلى متابعة المشهد.

ويبدو أن الرجل أحسَّ من نظراتنا أننا نتَّهِمه بتهمة أبشع من مجرد التستر، فقد وقف مُحْرَجًا مرتَبِكًا لا يدري ماذا يفعل ليُرْضِيَنا، وسرعان ما خفَّ الجار إلى نجدته فقال له بصوت جادٍّ آمِر: «ما تتفضَّل حضرِتك تخُش جوَّه، فيه وَسَع جوَّه، اتفضَّل جوَّه، مِضايِق نفسَك ومضايِق الناس ليه؟! ما دام فيه وَسَع نضيَّق على نفسنا ليه؟!»

وتحرَّك الرجل وهو يشكر للجار نصيحته.

وعُدْنا إلى مسرح الأحداث، وعاد وجْهُ جاري يَحْفِل بالاستمتاع والنشوة.

وخِفْتُ أن أكونَ قد عدتُ متأخِّرًا كثيرًا، ولكنْ حمدًا لله، كل ما كان قد حدث أنَّ الفتاة قد رفعتْ رأسَها، وأنَّ الشابَّ كان قد مدَّ ذراعَه الأيسر ليمسك عامود الأوتوبيس، فأصبح ذراعُه لصقَ شعْرِها.

ولمحتُ فمَه يرتجف، لا بدَّ أنَّه يجرِّب كلماتٍ ما قبل أن ينطِقَها، وأحسستُ بالارتياح، هكذا كنَّا نفعل، ولكننا كنا حين نُوجَد في حضرة الفتاة تتسمَّر الكلمات على أفواهنا ولا ننطق.

ولكنَّ الشابَّ هزَّ نفسَه، وقال في همس مُلِحٍّ: «أنا شفت حضرتك في الجامعة، في الآداب؟ مش كده؟!»

وما كاد ينتهي من آخِر كلماتِه حتى كان وجهُها في حالة غضب كامل، وحتى كانتْ قدِ استدارتْ إلى الناحية الأخرى في اشمئزاز ظاهِر، بينما راحتْ يدُها تُتابِع ضغْطَها على يد الأخ الأصغر، والمسكين يحاوِل أن يخلِّص يدَه من يدِها بلا فائدة.

وصحيح أنِّي لم أستَرِحْ إلى الطريقة التي غضبتْ بها؛ فقد غضبتْ بسرعة غير عادية، وكأنَّها كانتْ تتوقَّع أن تحدُثَ محاولةٌ كهذه، ثم لماذا تلك الضغطات العصبية على يد مندوب العائلة؟

ومع هذا رحتُ أرمُقُ الشابَّ الصغير في شماتة، وتوقَّعتُ أنَّ وجهه لا بدَّ أن يحفِل حالًا بالبياض والعرق؛ ففي أمثال هذه المناسبات كانت صدمتُنا تمتدُّ إلى أسبوع، وربما أكثر.

ولكني لم أجِدْ في وجهِه شحوبًا ما، ولم أجِدْ نقطةَ عرقٍ باردة واحدة، وجدتُ ابتسامتَه لا تزال كما هي، وكل شيء فيه كما هو، وكأنَّه هو الآخَر كان يتوقَّع هذه الغضبةَ الأولى، وقلتُ لنفسي: لا بد أنه من الصنف البارد «التِّلِم»، ولكني أدركتُ أنِّي ظلمْتُه، فلم يكن يبدو عليه برودٌ أو تلامة، كان شابًّا عاديًّا جدًّا، لا تحسُّ به جريئًا ولا خائفًا، ولا واسع الحيلة أو قليل الدهاء.

وفي أيامنا كنتَ تقتلنا ولا نستطيع أن نكرِّر المحاولة، وكنَّا لا نعمل شيئًا طوال أيام كثيرة إلَّا أنْ نستَعِيد دقائق ما حدث في المحاولة الأولى، ونهوي إلى آبار خجل لا قرار لها، ونظل نؤنِّب أنفسَنا، ونلعن مَن أشار علينا، ونسُبُّ الدنيا والحظ وأحيانًا نفكِّر في الانتحار.

أمَّا الشاب الصغير فقد اقترب مرة أخرى منها وهمس في إلحاح جديد: «الله! مش المدموازيل في الآداب؟!»

ولم تتحرَّك شعرةٌ واحدةٌ فيها، وكأنَّها لم تسمع.

وبدأتُ أتفاءل.

ولو كنتُ مكانَه لهبطتُ من الأوتوبيس في الحال، ولظلِلتُ أَهِيم على وجهي في الشوارع حتى أنسى مرارة الفشل، ولكنَّه، قبلَ أن يختفيَ صدى الجملة الثانية، كان قد اقترب بوجهه من وجهها للمرة الثالثة، اقترب كثيرًا، وهمس في عصبية: «حضرتك رايحة هناك؟»

وظلَّ رأسُها ثابتًا في مكانه، ووجهُها ثابتًا على وضْعه، ونظراتُها مركَّزة على رأس الأخ الأصغر، شفتاها فقط اشتدَّ ضغطها عليهما حتى برزتا إلى أمام في شبه احتقار، وصحيحٌ أنِّي كنتُ أتوقَّع من فتاةٍ غضبَتْ في أول محاولة أن تصنع شيئًا أكثر من هذا في ثالث محاولة، ولكن من الطريقة التي ضغطتْ بها شفتَيْها أحسستُ أنَّ صبرَها قد فرغ، وأنَّ الويل له لو حاول مرة أخرى.

وحاول، اقترب منها كثيرًا، وكادتِ السلسلة تنقطع في أصابعه وهو يهمس بسرعة وفروغ صبر: «لازم رايحة البيت؟»

وكتمتُ أنفاسي في انتظار النتيجة.

وبدا أنَّه فشل في هذه المرة الأخيرة أيضًا، لولا … لولا ذيل الحصان اللعين، فقد لمحتُه يهتزُّ، خُيِّل لي أولَ الأمر أنَّه يهتزُّ اهتزازًا طبيعيًّا، ولكن أبدًا، كان اهتزازه عن عمدٍ، وعن سبق إصرار، وكانتْ تقول به: «أيوه.»

وفي الحال، وقبل أن تغيِّر رأيَها، قال بسرعة وانتصار: «في الجيزة! مش كده؟!»

وقالتْ هذه المرة بلسانها، وقد انتقل الخجل من وجهها إلى ابتساماتها: «أيوه.»

وكدتُ أوجِّه لكمةً إلى رأس مندوب العائلة الذي كان واقفًا يتفرَّج على الشارع من خلال النافذة في بلاهة منقطعة النظير.

ولكني لم ألبث أنا الآخَر أن رحتُ أتطلَّع مثلَه، وقد تركتُ جاري العزيز مستغرقًا في المشهد الذي يدور أمامَه دون أن ينبس بحرف، ووجهُه لا يزال يحفل بالنشوة والمتعة!

وحين عدتُ من رحلة يأسي، كانتِ الأمور قد تطوَّرتْ بسرعة، وكان الشابُّ يُحادِثُها بصوت الواثق من نفسه، بصوت الرجل الظافِر حين يهتك حجب الخجل عن أنثاه في إصرار.

وكانتْ قد تركتْ يدَ الأخ الأصغر وراحتْ يدُها اليسرى تقضم أظافرَ اليمنى وتعبث بها، بينما الأخ يحاول أن يجذب يدَها ليَعود يُمْسِكها بلا فائدة، وكان ذيل حصانها يهتزُّ باستمرار، اهتزازات أفقية، ورأسية، وبيضاوية، ودائرية، وأحيانًا يرتعش، فقط يرتعش، شعراته المنضمَّة إلى بعضها في حزمة ترتعش، وتتباعد قليلًا، ثم تعود إلى الانضمام.

ولم أعُدْ كثيرَ الحماس لسماع ما يدور بينهما، جاري كان هو المتحمِّس، وكان من فرْط حماسِه قد مدَّ رقبتَه على آخِرها حتى كادتْ تصبح له أذنٌ عند فم الفتى وأخرى عند فم الفتاة.

وحين عدتُ كان الشاب يتحرَّك كمَن يستعدُّ للنزول، فقال لها وكل عضلة في وجهه وذراعيه تنتفض وتشجِّعها: «خلاص!»

واهتز ذيل الحصان اهتزازات رأسية كثيرة متلاحقة.

وعاد وهو يقول: «أوعي تنسي النمرة.»

واهتزَّ ذيل الحصان اهتزازاتٍ أفقيةً تنفي بها.

– «طب كام؟!»

وواجهتْه بعيون مرتعشة وقالت: «مش ٨٩٩؟!»

ثم سكتتْ وخجلتْ وأطرقتْ، وبسرعة عادتْ تقول: «٨٩٩٥٩٢.»

وتهلَّل وجهُه فرحًا، وكاد يُعانِقها قائلًا: «برافو! إيه ده؟! دا انتي داهية! ح تكلميني إمتى؟!»

– «يمكن بكره.»

– «لأ، النهارده.»

– «أما اشوف.»

– «النهارده!»

– «طب، النهارده.»

وخُيِّل إليَّ أنه يكاد — لولا الناس — يُقبِّلُها، بل لم أستبعِدْ أن يفعَلَها، فقد كان واضحًا أنهما لا يُحسَّان كثيرًا بكلِّ ما حولَهما.

وقال الشاب هامسًا: «بس حاسبي، أخويا صوته شبهي تمام، إوعي تغلطي فيه! ابقي اتأكِّدي إنِّي أنا اللي برد.»

– «أتأكد إزاي؟»

– «لمَّا أقول أنا أحمد ردي.»

– «اسمك أحمد؟»

– «أيوه، وانتي؟!»

وأطرقتْ، وارتفع ذيل الحصان في الهواء كثيرًا، وكأنَّها ترفع راية الخجل، وغمغَمَتْ باسم لا يمكن أن يسمعه أحد، ولكن الولد لقَطَه وسمِعَه، عرفتُ هذا حين قال: «اسمك حلو قوي!»

ثم أردف بجرأة: «زيك.»

وسحب جاري رقبته الممتدَّة بسرعة وكأنَّما لسعتْه ولعة سيجارة، أو كأنما أحسَّ أن الشابَّ يُغازِله هو، غير أنه لم يلبث أن أعاد رأسَه إلى وضْعِه في الحال؛ حتى لا تفوتَه كلمة.

وكان الأوتوبيس يستعدُّ للوقوف في محطة الجامعة، وكان الشاب هو الآخَر يستعدُّ للنزول، وقبل أن يأخُذَ طريقَه إلى الباب همس: «لولا المحاضرة مهمة، كنت وصلتك! خلاص؟»

– «خلاص.»

– «النهارده؟»

– «النهارده.»

– «فاكرة النمرة؟»

– «مش ح انساها.»

– «طب كام؟»

وخجلتُ من نفسي وأنا أحاول أن أنافس الفتاة وأجهد ذاكرتي لأتذكَّر الرقم، ولكني فشلتُ.

وقالتِ الفتاة بسرعة وكأنَّها جهاز تسجيل: «مش ٨٩٩٥٩٢؟!»

وقال الشاب في انبهار: «برافو، أنا ح اقعد طول النهار جنب التليفون، أوريفوار»، وتدفَّقتِ الدماء إلى وجنتَيْها تردُّ.

وهبط الشاب، وبشعاع واحد من عينَيْها ودَّعَتْه، واطمأنَّتْ على جمال مشيته، ثم عادتْ يدُها تتسرَّب في وهنٍ وهيام وتسمح ليد الأخ الأصغر أن تقبض عليها وتفعل بها ما تشاء.

ولستُ أدري كيف أدركتْ وهي في قمة حالتها هذه أنَّ محطَّتها هي التالية، فقد وجدتُها بعد قليل تجذب يدَ أخيها، وتأخُذُ طريقَها إلى الباب.

وما كادَ جسدُها النحيل يختفي في الكتلة البشرية المتزاحِمة قرب الباب حتى أفاق جاري من نشوته في الحال، وما لبثَ أن ارتفَعَ صوتُه، وراح يضرب كفًّا بكفٍّ، وينظر إلى بقية الركاب، وكأنما يستنجد بهم ويُشهِدهم ويقول في غضب حقيقي: «أمَّا كلام فارغ صحيح وقلة أدب! البلد خلاص باظت! انفلَتْ عيارهم! إيه ده؟! لازم يوقَّفوا في كل أوتوبيس عسكري من بوليس الآداب! لازم يقاوموهم زي ما بيقاوموا النشَّالين، دي مسخرة دي! دانا شايفُه بعيني بيمد إيدُه عليها، مش كده يا أستاذ؟! والله، لولانا كان مد إيدُه عليها وهي ساكتة، دا إجرام ده! ما فيش بوظان بعد كده! دانا سامعُه بودْني بيدِّيها نمرة تليفونه، بودني! كده واللَّا لأ يا محترم؟! كده واللا لأ؟! وكل ده في محطة واحدة، دا لازم القيامة ح تقوم! والله، يمكن قامتْ فعلًا! لازم القيامة قامتْ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤