الفصل العاشر

عمر الأول١

(١٩٧٢م)

«أجل، إني لأهرب من مشيئة الله إلى مشيئة الله.»

عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)

ولد ثاني الخلفاء الراشدين عمر الأول (عمر بن الخطاب بن نوفل، الملقب بالفاروق عمر، أي الذي يفصل بين الحق والباطل) حوالي سنة ٥٩٠ ميلادية في مكة، ودخل في الإسلام حوالي سنة ٦١٨م، وهاجر مع الرسول، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه سنة ٦٢٢م إلى المدينة حيث أُسست الدولة الإسلامية الأولى. كان عمر، رضي الله عنه، أقرب الصحابة إلى النبي، عليه السلام، وإلى أول خلفائه أبي بكر الصديق الذي توفي سنة ٦٣٤م، فتولى عمر الخلافة من بعده، وخلال السنوات العشر التي قضاها في الحكم فتحت جيوش المسلمين مناطق واسعة من الدولتين المجاورتين، وهما الدولة البيزنطية والدولة الفارسية، وبذلك وضع حجر الأساس للدولة الإسلامية العالمية. وقد سقطت دمشق، التي احتلت لأول مرة سنة ٦٣٥م لفترة قصيرة، بعد الانتصار الحاسم على البيزنطيين في معركة اليرموك سقوطًا نهائيًّا في يد المسلمين بعد ذلك بسنة واحدة. ومع احتلال القدس وأنطاكية تمَّ فتح سوريا في سنة ٦٣٨م، وفي أثناء ذلك مهَّد الانتصار على الفرس في القادسية لفتح بلاد الرافدين، ثم تمَّ فتح بلاد فارس بعد معركة نهاوند حوالي سنة ٦٤٠م، وفي سنة ٦٣٩م دخل أحد جيوش المسلمين مصر البيزنطية، وتم الاستيلاء على الإسكندرية سنة ٦٤٢م، وعلى طرابلس الليبية سنة ٦٤٣م. ترك عمر إدارة هذه المعارك لقواده، بينما أمسك بيده مقاليد السلطة المركزية وطبع شخصيته الحازمة على الدولة الإسلامية بأسرها. وفي سنة ٦٤٤م قُتل عمر لأسباب غير معروفة بيد عبد مسيحي، وانتقلت الخلافة بعده إلى عثمان بن عفان.

تتعرض الديانات والدول لامتحان قاسٍ عندما يموت مؤسسوها الأوائل. وقد قامت السلطة التي بلَّغ بها النبي محمد رسالته واتخذ قراراته الحاسمة على الوحي الإلهي، ولذلك كانت بالنسبة للمؤمنين بالإسلام سلطة مطلقة ومؤكدة، ولم يكن لأحد من الخلفاء الراشدين أن يزعم لنفسه سلطة تقاربها أو تقارن بها، وذلك لأن الوحي الإلهي نفسه قد وصفه بأنه خاتم النبيِّين: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (سورة الأحزاب: ٤٠).

ما الذي كان يمكن أن تستند إليه الجماعة الإسلامية بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى؟ كان الوحي الذي أُنزل على محمد، وهو القرآن الكريم، موجودًا بطبيعة الحال، ولكنه لم يكن قد دوِّن بعد، كما كان يحتاج إلى التفسير والتطبيق على المشكلات المتجددة للحياة اليومية. لقد تضمن تعاليم عامة جدًّا لهداية الجماعة وتنظيمها. ولكن الجماعة، كوحدة اجتماعية وسياسية، كانت منذ البداية عنصرًا أساسيًّا من عناصر الدين الإسلامي. لقد نشأت المسيحية قبل ذلك بستة قرون ونمت في إطار النظام السياسي العلماني للدولة الرومانية التي كانت تفسح المجال لديانات مختلفة ولا تشترط عليها إلا أن تعطي لقيصر ما لقيصر. أما في البنية الاجتماعية لبلاد العرب فقد بقيت العوامل الدينية والسياسية متداخلة ومتشابكة بحيث لا يمكن الفصل بينها. وهكذا أتيحت لمحمد الفرصة واقتضت الضرورة أيضًا أن يجعل من الإسلام نظامًا دينيًّا وسياسيًّا متكاملًا. وقد تحقق له هذا عن طريق الارتفاع بالإسلام والجماعة الإسلامية «فوق» الوحدات القائمة في بيئته، أي فوق القبائل العربية. كانت الجماعة هي التجسيد الأرضي للدين. وكانت أي محاولة للفصل بينهما — على أساس نظرية الدولتين مثلًا — أمرًا مستحيلًا. فقد كان حلُّ الجماعة معناه القضاء على الدين.

وكان أخطر الأمور التي واجهت المسلمين أن محمدًا، عليه السلام، لم يترك وراءه خليفة ولا تعليمات بكيفية تحديد خليفة بعده. وكان على الجماعة أن تتولى هذه المهمة بنفسها. وكان من الطبيعي أن يرجع المسلمون إلى الإجراء الذي كانت تتبعه القبائل العربية لاختيار رئيس القبيلة؛ أي إلى اختيار الرجال الأحرار من أبناء القبيلة. ولم تكن جميع الأصوات بطبيعة الحال ذات وزن واحد، فنتيجة الانتخاب كانت تعكس التفاوت في نفوذ الناخبين.

تبين بعد وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، في سنة ٦٣٢م أن الجماعة الإسلامية منقسمة إلى أحزاب مختلفة. وكان أحد هذه الأحزاب يتكون من «المهاجرين»، أي من المسلمين الأوائل الذين آمنوا بالرسول والتفوا حوله في مكة، ثم هاجروا معه إلى المدينة في سنة ٦٢٢م حيث أسس هناك أول دولة إسلامية. وكان الحزب الثاني يتألف من «الأنصار»، وهم من قبائل المدينة الذين شاركوا في وضع الأسس الأولى للدولة. ثم ظهر، في البداية على الأقل، حزب ثالث من بني هاشم، أي من أقرب أقارب الرسول، سواء منهم من هاجر معه أو من لم يهاجر. كان مرشحهم هو علي، ابن عم الرسول الذي كان بغير شكٍّ يتمتع بقدر عظيم من الهيبة والاحترام، ولكن يبدو أن نفوذ الهاشميين في ذلك الوقت لم يكن كافيًا لإشراكه في المنافسة بشكل جدِّي. وأعلن الأنصار، الذين آزروا النبيَّ على مدى عشر سنوات، عن رغبتهم في أن يكون واحد منهم هو خليفته. غير أنهم عجزوا عن تحقيق هذه الرغبة، لا سيما وأنهم لم يستطيعوا التغلب على الخلافات القبلية التي كانت لا تزال محتدمة بينهم. وهكذا انحصر مجال الاختيار بين زعيمي المهاجرين، وهما أبو بكر وعمر. وتنازل عمر لأبي بكر الذي يكبره في السنِّ، فبايعه المسلمون أول خليفة لرسول الله. ولما توفى أبو بكر بعد ذلك بسنتين، تولى عمر بن الخطاب الخلافة دون أي صعوبة تذكر.٢

وصفت أجيال المسلمين اللاحقة أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب بالخلفاء الراشدين، واعتبر بعض المتشددين أن هؤلاء الأربعة هم الخلفاء الحقيقيون وكل من عداهم ممن جاء بعدهم مجرد ملوك دنيويين. ولكن حتى عثمان وعلي بن أبي طالب كانا، في أثناء حياتهما، موضع خلاف بين أنصارهما والخارجين عليهما، ولهذا يحتلُّ أبو بكر وعمر في الوعي التاريخي للمسلمين مكانة فريدة، بل إن عمر يتفوق على سلفه بكثير، ربما بسبب طول فترة حكمه التي امتدَّت عشر سنوات وثبتت فيها دعائم الدولة الإسلامية العالمية. وتزخر مؤلفات المؤرخين المسلمين، بل كذلك كتب علوم الدين والشريعة والأدب، بأخبار مستفيضة عن أعماله وأقواله وقراراته الحازمة.

ومع ذلك فليس من السهل تكوين صورة عن عمر يمكن أن تصمد أمام الشروط التي يتطلبها المؤرخ النقدي الحديث. فلم تكن الأخبار التاريخية عند الرواة المسلمين الأوائل غاية في ذاتها، بل انحصرت قيمتها في تكوين صورة تاريخية دالة ومتسقة مع معتقداتهم وتوقعاتهم، أو صورة تتوافق فيها الوقائع مع هذه المعتقدات والتوقعات. لذلك كان قدر كبير من الأخبار والمعلومات التي وصلتنا عن عمر نوعًا من «حكايات الخوارق» أو الروايات التي تروى عن الأبطال والعظماء وتهدف لاستخلاص العبرة والموعظة منها. أضف إلى ذلك أن الكثير من تلك الأخبار لا يخرج عن كونه مجرد تهيؤات أو تخيلات تشريعية تلبي حاجة المسلمين إلى معايير يقينية يهتدون بها في سلوكهم. لقد كانوا يستندون عن طيب خاطر للنموذج والقدوة العالية للخليفة العظيم، وذلك في الأحوال التي يصعب عليهم فيها أن يجدوا نصًّا واضحًا في الكتاب الكريم أو في السنة المشرفة. بل إننا لنكتشف في بعض الحالات أن القاعدة أو التنظيم الذي ينسب إلى عمر (رضي الله عنه) ليس سوى نوع من التنظيم المنهجي ومن التثبيت أو التأكيد لممارسة عملية ظهرت وتطورت في عصر لاحق، وإن كان عمر هو الذي وضع أسسها الأولى، بذلك، أدَّى هذا «الحجاب» المنسوج من الحكايات الخارقة والتخيلات التشريعية إلى حجب الصورة «الحقيقية» لعمر وجعل الوصول إليها أمرًا بالغ الصعوبة. ومع ذلك فلا شكَّ في أن الصورة التي كونها المسلمون عنه صورة شديدة التأثير ومِن ثَمَّ على قدر كبير من الواقعية.

كان عمر بن الخطاب بن نوفل ينتمي إلى نفس القبيلة التي ينتمي إليها النبي، عليه السلام، وهي قريش وإن لم يكن من ذوي قرباه. وقد كان واحدًا من زعماء عشيرة «عدي»، كما كان يشارك مثل الكثيرين من أثرياء مكة في تجارة القوافل مع سوريا. ولم يكن عمر من أوائل المؤمنين بالإسلام، بل يقال إنه ساهم فترة غير قصيرة في اضطهادهم. ولما دخل الرجل المرموق في الإسلام — وكان ذلك قبل الهجرة بسنوات قليلة — كان ذلك كسبًا كبيرًا للجماعة الإسلامية الصغيرة ودفعة قوية لها. كانت قوته الجسدية وقوامه الطويل الفارع تظهرانه في صورة المحارب المهاب. وقد شارك بالفعل في بعض المعارك الإسلامية المبكرة، ولكن دوره الرئيسي يقوم على كونه هو الصحابي المقرَّب من الرسول، عليه السلام، وموضع مشورته، ومع ذلك فقد تقدم عليه — وفاقه في الاضطلاع بهذا الدور — أبو بكر الصديق الذي نشأ في الظروف نفسها، كما كان أكبر منه سنًّا وأسبق منه في الدخول في الإسلام. وقد اتخذ النبيُّ، عليه السلام، من بنتيهما زوجين له.

ومما يشهد على قدرة النبي، عليه السلام، على القيادة وموهبته الفذة فيها، كما يدل كذلك على الخلق الرفيع لأبي بكر وعمر، أنه لم يقم بينهما أبدًا أي نوع من المنافسة، وبعد تولي أبي بكر أمر الخلافة، استمرت الصلة الوثيقة بينه وبين عمر الذي كان له حتى في ذلك الوقت — بفضل شخصيته القوية — تأثير كبير في تدبير شئون الدولة. وربما يكون هذا الرجل العنيف، الذي لم يخلُ في بعض الأحيان من فظاظة، قد تعلم الكثير من أبي بكر الأهدأ منه طبعًا والأكثر حكمة. وليس من شك في أن الاثنين كانا هما الخلفين الطبيعيَّين للنبي، عليه السلام، كما كانا أفضل وأقدر من كل منافسيهما على تسيير شئون الجماعة الإسلامية على نفس الطريق وبالمعنى نفسه الذي أراده الرسول.

لم يستطع القرار السريع الناجح — في حسم موضوع الخلافة بعد وفاة النبي — أن يحلَّ جميع مشكلات الجماعة الإسلامية؛ كانت أكثر القبائل العربية، في العامين الأخيرين من حياة النبي، عليه السلام، قد اعترفت اعترافًا كليًّا أو جزئيًّا بنبوته وقيادته وانضمت إلى صفوف الدولة الإسلامية. ولكن الالتزامات والواجبات التي ترتبت على ذلك، من تنفيذ للأوامر وتحمل للنفقات، بدت للكثيرين بمنزلة عبء ثقيل الوطأة عليهم. فلما انتقل محمد إلى الرفيق الأعلى، انتهز عدد من القبائل الفرصة للخروج على الإسلام، وقامت سلسلة من حركات الردَّة تحت قيادة بعض «الأنبياء» الكذَّابين. وقد زخرت الفترة القصيرة لحكم أبي بكر (من ٦٣٢ إلى ٦٣٤م) بالجهود الشاقة التي استهدفت سحق هذه الحركات والقضاء على مدبريها. ولم يتطلب ذلك قوة عسكرية متفوقة فحسب، وإنما تطلب كذلك حنكة دبلوماسية عظيمة؛ إذ كان من أهم الأمور ألا تدفع القبائل للسير في طريق العداوة الأبدية، بل أن تعود مرة أخرى — أو لأول مرة — إلى الإسلام، وقد نجح كلٌّ من أبي بكر وعمر في ذلك نجاحًا رائعًا.

وعلى المدى الطويل أصبح من الأمور الضرورية، لإدماج القبائل في صفوف الجماعة الإسلامية، أن تلبى مطالبها، وتروَّض طاقاتها، وقد تمَّ هذا بالفعل عن طريق الفتوح الإسلامية التي بدأت في ذلك الحين. والواقع أن عقيدة التوحيد لا ترتبط بالضرورة بالطموح الديني العالمي، ويتضح هذا في الديانة اليهودية التي اتسمت بصفة دائمة بالتوتر والصراع بين المبدأ العالمي ﻟ «إله السماء والأرض» وبين المبدأ الخاص بالديانة الشعبية «إله إسرائيل». ونحن نجد في الإسلام عناصر من كلا المبدأين. فمن ناحية أرسل الله محمدًا، عليه السلام، إلى البشر كافة وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء: ١٠٧)، كما أنه عليه السلام هو خاتم الأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه بوحي إلهيٍّ موحَّد، وفي الحالين تتضح عالمية الرسالة المحمدية. ومن ناحية أخرى لا نجد أبدًا في الإسلام أي ذكر ﻟ «إله عربي» أو «إله للعرب». ولكن القرآن الكريم هو الوحي الإلهي الذي أنزله الله باللغة العربية: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف: ٢)، كما أن محمدًا، عليه الصلاة والسلام، قد اتجه بطبيعة الحال برسالته إلى شعبه.

إذا كان التوسع العربي-الإسلامي قد بدأ بعد وفاة الرسول وزلزل الأرض كلها، فقد كان أهم الدوافع لذلك هو الشعور بالتفوق والوعي بالرسالة اللذين استمدَّهما العرب من الديانة الجديدة، كما استمدُّوا منها القوة والقدرة على التنظيم. وينبغي مع ذلك ألَّا نغفل عن أن قسمًا من الجيوش الإسلامية لم يحركها الإيمان وحده، بل كذلك الرغبة في الحصول على الغنائم. لقد عرفت القبائل العربية منذ القدم الحروب المستمرة في سبيل المرعى الشحيح، وملأت هذه الحروب حياة الرجال وحدَّت من النمو السكاني. فلما أراد الإسلام أن يجمع هذه القبائل في دولة واحدة، وجد نفسه مضطرًّا لإنهاء الحروب المشتعلة بينها وإقامة «سلام إسلامي»٣ تستظل بظله. بذلك نشأت الحاجة الملحة لإيجاد عمل جديد يشغل المحاربين من رجال القبائل، والاهتمام بتوفير الغذاء الكافي للعدد المتزايد من سكان شبه الجزيرة العربية. وكان أبسط حل لهذه المشكلة هو فتح بلاد أخرى عن طريق الحرب.

ربما يكون محمد، عليه الصلاة والسلام، قد سبق إلى التفكير بهذا المنطق. فقد بدأ سياسة التوسع نحو الشمال — أي في المنطقة التي تقع تحت نفوذ الدولة البيزنطية — قبل فتح مكة بقليل. وقد مني بالفشل أول زحف كبير على شرق الأردن في عام ٦٢٩م، ولكن الحملة التي أُرسلت في العام التالي استطاعت الاستيلاء على أجزاء من تلك المنطقة ووضعت مدينة «إيلياء» (إيلات) الواقعة على خليج العقبة تحت سيطرة المسلمين. وحشد النبي، عليه السلام، قبل وفاته مباشرة جيشًا آخر للزحف نحو الشمال، ولم يكد أبو بكر يأذن له بالانطلاق حتى اضطرته الحرب مع القبائل المرتدَّة إلى استدعائه على وجه السرعة. وفي خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، بدأت المعارك الأولى للمسلمين مع الفرس، كما بدأ الإعداد المنظم لفتح سوريا البيزنطية. ولكن الفتوح الإسلامية لم تبلغ ذروتها إلا في عهد عمر، رضي الله عنه (٦٣٤–٦٤٤م). ولدى وفاة عمر، كانت تقع في أيدي المسلمين — بالإضافة إلى شبه الجزيرة العربية — سوريا والعراق بأكملهما والمناطق الغربية من بلاد فارس من ناحية، ومصر وليبيا من الناحية الأخرى. وبذلك وُضعِت أسس الدولة الإسلامية العالمية.

هكذا واجه الإسلام تحديًا تاريخيًّا كبيرًا بالمعنى الذي قصده توينبي،٤ فانتصاراته العسكرية المذهلة على الدولتين العالميتين المتفوقتين عليه في المدنية والقوة، وهما بيزنطة وفارس، يمكن تفسيرها من خلال الظروف المواتية آنذاك، ولم تكن هاتان الدولتان قد استُهلكت قواهما في الحرب المدمرة بينهما فحسب، بل كانت عوامل الضعف بسبب الصعوبات والمشكلات الداخلية قد دبت فيهما.٥ والأهم من ذلك أن سكان الأقاليم والولايات التي بدأ المسلمون بالزحف عليها، لم يكونوا يحسُّون بأي ولاء تجاه الحكومات المحلية للدولتين الكبيرتين. فالجماعات المسيحية في سوريا ومصر كان يُنظر إليها من جانب الكنيسة الرسمية في بيزنطة على اعتبار أنها جماعات ملحدة أو آبقة، كما كانت تتعرض للقمع والاضطهاد. وسكان سوريا والعراق كانوا يشعرون، من خلال لغتهم الآرامية السامية، بأنهم أقرب إلى العرب منهم إلى الإغريق والفرس. ولهذا لم تستطع الدولتان القديمتان الاعتماد على قواتهما المحلية في حربهما مع الجيوش الإسلامية، كما أن السكان نظروا في أكثر الأحيان إلى المسلمين نظرتهم إلى المحررين لهم من قهر السلطة الكريهة التي كانت تحكمهم.

لو كان المسلمون اقتصروا على إحلال حكم عربي أجنبي محل حكم بيزنطي وفارسي لظل انتصارهم العظيم بالتأكيد محدودًا وقصير الأجل. ولكن في اللحظة نفسها التي تخطى فيها الإسلام حدود شبه الجزيرة العربية نشأ وضع حاسم تمَّت فيه الغلبة منذ ذلك الحين للعناصر العالمية على العناصر العربية والقومية، وكانت الإجابة عن مشكلة التحدي التاريخي تتلخص في إيجاد مجتمع جديد وحضارة جديدة لا يقتصران على عرب شبه الجزيرة، بل يشملان شعوبًا وحضارات أخرى. ومن الطبيعي أن الطريق المؤدي لتحقيق هذا الهدف لم يكن منذ البداية واضح المعالم. فقد ظلت المصلحة القومية العربية، التي كان لها دور حاسم في تحقيق التوسع الإسلامي، قوة مؤثرة دخل معها مبدأ عالمية الإسلام في صراع مستمر، وبيَّن التطور التاريخي اللاحق أن المستقبل قد أثبت صدق هذا المبدأ، وذلك إلى أن ظهر وضع جديد مع ظهور القومية العربية في العصر الحديث.

بعد القضاء على حركات الردَّة وانتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية بأكملها، بدا الأمر وكأن الدين الجديد قد أصبح هو والعروبة شيئًا واحدًا.٦ وقد عمل على تأكيد هذا أن عمر، رضي الله عنه، أبعد الجماعات غير الإسلامية عن شبه الجزيرة العربية، وهي الجماعات التي كان النبي، عليه السلام، قد أقرَّ صراحة بوجودها. كان النبي قد دخل في صراع مع اليهود بعد أن أخلفوا وعدهم بالاعتراف بنبوته، وكان قد طردهم من المدينة، واحتل مساكنهم في بعض الواحات وصادر أراضيهم، ولكنه تركهم يعيشون في أراضيهم القديمة ليزرعوها ويعطوا المسلمين نصف المحصول. أما عمر فأمر بتهجيرهم إلى سوريا. وكانت تعيش في نجران التي تقع إلى الجنوب من بلاد العرب جماعة مسيحية كبيرة أعلنت خضوعها للنبي وعقدت معه معاهدة تضمن لها حماية استقلالها وأملاكها في مقابل دفع الجزية وتقديم المساعدة في وقت الحرب. ولكن عمر أمر بتهجير هذه الجماعة أيضًا إلى العراق وسوريا. والأخبار التي وصلتنا عن هذا الموضوع توحي بأن المؤرخين الذين جاءت هذه الأخبار على لسانهم لم يكونوا مستريحين لمخالفة عمر للقرارات الواضحة التي اتخذها النبي، عليه السلام، بشأن هذه الجماعات من «أهل الكتاب». ومن الواضح أن اهتمام عمر كان موجهًا قبل كل شيء نحو حماية وتأمين وحدة بلاد العرب الدينية والسياسية التي تمَّ التوصل إليها بعد جهود مضنية، والتي كانت في نظره هي الشرط الأساسي لوجود الإسلام، وذلك عن طريق استبعاد العناصر الدخيلة بشكل نهائي.

والواقع أنه لم يكن هناك أي وجود لسياسة كسب أنصار جدد للإسلام. فقد تمَّ تهجير اليهود والمسيحيين الذين كانوا يعيشون في بلاد العرب، ولكنهم لم يُكرهوا أبدًا على الدخول في الإسلام، لقد كان من الممكن الترحيب بدخولهم فيه طواعية، كما حدث في بعض الحالات التي بلغتنا أخبارها، ولكن إكراههم على ذلك كان أمرًا مستبعدًا تمامًا، وأما عن الكفار فكان فرض الإسلام عليهم يعتبر أمرًا واجبًا، وإذا كان ذلك لم يتبع بوضوح في عهد الرسول، فقد أصبح هو القاعدة منذ حروب الردَّة. ذلك أن الإسلام دخل منذ بدايته في صراع مع الكفار العرب، أما اليهود والمسيحيون فقد شعر النبي على الدوام بالعلاقة الوثيقة التي تربطه بهم، وذلك من خلال وحدة الوحي الإلهي التي يشاركون فيها. لقد كانوا من «أهل الكتاب»، أي أصحاب كتب منزَّلة، كما كانوا موحدين مثل المسلمين. وقد أضيفت إلى ذلك مع مرور الزمن اعتبارات سياسية عملية؛ فلما تبين أن أي محاولة لإكراه الزرادشتيين في الدولة الفارسية على الدخول في الإسلام ستكون عقيمة، شأنها في ذلك شأن أي محاولة مع المسيحيين في الدولة البيزنطية، فقد وُضِع الزرادشتيون — مع الاستشهاد بالنبي ولكن عمليًّا منذ عهد عمر — على قدم المساواة مع «أهل الكتاب» (وكذلك مع مشركي الهند في مرحلة لاحقة).

وإذا كان الإسلام قد جعل ﻟ «أهل الكتاب» وضعًا خاصًّا، فلم يكن معنى ذلك طمس الحدود القائمة بينه وبينهم. وحيثما أرادت جماعات أهل الكتاب أن تعيش في ظل الحكم الإسلامي، كان عليها أن تخضع لشروطه وأحكامه. وكان النظام المعبر أوضح تعبير عن هذا الوضع هو نظام دفع الجزية للدولة الإسلامية. وعند هذه المرحلة تبيَّن منذ البداية بأجلى صورة أن الإسلام والعروبة ليسا شيئًا واحدًا. كانت الجزية تُطلب أيضًا من المسيحيين العرب، وكان هذا مبدأً جديدًا لم يستطع الذين طُبق عليهم أن يفهموه فهمًا تامًّا. فالأمير جبلة بن الأيهم — الذي كان آخر أمراء دولة الغساسنة العربية الذين حكموا منذ نهاية القرن الخامس دولة مسيحية صغيرة على الحدود السورية للدولة البيزنطية — هذا الأمير أثبت في صراعه مع المسلمين أنه خصم خطر، على الرغم من الهزيمة التي كان قد مُني بها أمامهم مع حلفائه البيزنطيين. وقد كان على استعداد لإعلان خضوعه للخليفة لو وافق على إعفائه من الجزية، ولكن عمر أصرَّ على موقفه، وصمَّم على التمسك بالمبدأ حتى ولو رجع جبلة للانضمام إلى صفوف البيزنطيين. كذلك رفضت قبيلة بني تغلب المسيحية أداء الجزية المفروضة على غير المسلمين، كما هدَّدت هي الأخرى باللجوء إلى البيزنطيين. ولما كان بنو تغلب قد اشتهروا بأنهم محاربون أشداء، فقد عمد عمر إلى نوع من التنازل الشكلي، إذ أمر بأن تعتبر الجزية زكاة شبيهة بالزكاة المفروضة على المسلمين وإن جعل قيمتها مساوية لقيمة الجزية. ونحن لا نعلم إن كانت هذه الأخبار تتفق في تفاصيلها مع الوقائع التاريخية، ولكنها تعبِّر، على كل حال، عن الصعوبات التي واجهها التصور الإسلامي الجديد الذي لا يحدِّد الوضع القانوني بالانتماء إلى الشعب بل بالانتماء للدين.

أما عن معاملة السكان غير المسلمين في المناطق التي تمَّ فتحها فقد أوجدت الدولة الإسلامية نظامًا بسيطًا وعمليًّا، وهو نظام ظل متبعًا حتى العصر الحديث، بل ما زال محتفظًا ببعض ملامحه حتى يومنا الحاضر. فكما أن المسلم لم يكن في البداية يواجه الدولة بوصفه فردًا، بل بتوسط القبيلة ومن خلال انتمائه إليها، فكذلك لم يتوجه الإسلام لسكان البلاد المفتوحة باعتبارهم أفرادًا، بل توجه إلى المجموع أو إلى الجماعة الدينية. وقد تمَّ هذا بشكل طبيعي بسبب لجوء المسئولين عن السلطة في أغلب الأحوال إلى الهرب، بينما بقي رجال الكنيسة المحلية — الذين عاشوا في ظل الدولة البيزنطية في حالة صراع مع الدولة الأرثوذكسية — مع جماعاتهم الدينية وكانوا هم الممثلين لها في التعامل مع الفاتحين الجدد. وقد عقد المسلمون مع الجماعات الدينية معاهدات تضمن حمايتها، ويتعهد فيها المغلوبون بدفع الجزية للدولة الإسلامية في مقابل عدم المساس بممتلكاتهم ولا التدخل في شئونهم الخاصة. وكان رجال الدين مسئولين أمام الدولة عن الالتزام بنصوص المعاهدة، كما أصبحوا بذلك هم الرؤساء المدنيين لجماعاتهم. كان القانون الديني هو المعمول به داخل هذه الجماعات، وفي القرون اللاحقة اتُّخذت سلسلة من القرارات والتعليمات التي أكدت الوضع المتدني لغير المسلمين تمييزًا لهم من المسلمين. وعلى سبيل التمحك في السلطة التي كان يتمتع بها الخليفة العظيم سميت هذه التعليمات «شروط عمر»، ولكن الأمر الثابت المؤكد هو أن الخليفة العادل لم يكن له أي شأن بها لا من قريب ولا من بعيد. صحيح أن المسيحيين واليهود لم يكونوا متساوين في الحقوق تمامًا مع المسلمين، ولكنهم في العهود السابقة لم يتمتعوا في معظم الأحيان بأي مساواة في الحقوق مع البيئة التي كانت تحيط بهم، ولذلك شعروا في ظل الدولة الإسلامية بتحسن أوضاعهم نتيجة عدم تدخلها في شئونهم. أما بالنسبة للفرس فقد سار التطور في مسار آخر مختلف؛ إذ لم تلجأ طبقة النبلاء أو الكبراء من ملاك الأراضي إلى الهرب من المسلمين، وإنما أعلنت خضوعها لهم وأسرعت بالدخول في الإسلام لكي تحتفظ بسلطتها ونفوذها. بذلك اندمجت بلاد فارس بسرعة نسبية في المجتمع الإسلامي.

والجدير بأن يذكر أن التنظيم القبليَّ العربي ظلَّ قائمًا في هذا المجتمع. فالمسلم العربي كان بطبيعته ينتمي إلى الإسلام عن طريق قبيلته، أما غير العربي الذي دخل في الإسلام فلم يكن ليستطيع أن يفعل ذلك إلا من خلال انتمائه أو بالأحرى تبعيته لإحدى القبائل العربية. ومع ذلك فلم يكن هذا سوى إطار تمَّت فيه مع مرور الزمن تغييرات جوهرية. كان معنى الإسلام هو الخلاص من الشرك والوثنية ومن الصراعات القبلية، أي كان معناه الخروج من المجتمع البدوي والرعوي على الإطلاق. وفي ظل الإسلام توجه العرب بعيدًا عن الصحراء وفي اتجاه المدينة. وكلمة الهجرة، التي تدل على هجرة النبي، عليه الصلاة والسلام، وصحبه من مكة إلى المدينة، سرعان ما استُخدمت بعد ذلك للدلالة على تخلِّي إنسان عن الحياة القبلية ودخوله في الجماعة الإسلامية، وكان هذا يحدث له بوجه عام بصفته محاربًا، ولم تكن الحياة في أثناء الحملات العسكرية لتختلف كثيرًا عن حياة البدو خلال الغارات التي اعتادوا أن يشاركوا فيها سعيًا وراء الغنائم. ولكن الفرق بين الحالين كان يتضح بعد الانتهاء من الحرب. وقد أمر عمر، رضي الله عنه، الجيوش الإسلامية أن تؤسس مدنًا جديدة في المناطق المفتوحة وتقيم فيها. وبهذه الطريقة نشأت مدن البصرة والكوفة والموصل في العراق، كما نشأت في مصر مدينة الفسطاط التي صارت بعد ذلك نواة القاهرة.

ومن المحتمل أن القوات الإسلامية كانت تقوم في أثناء الحملات العسكرية بإطعام نفسها بنفسها، ولكنها عندما كانت تضطر إلى لزوم المدن العسكرية كانت الدولة هي التي تتولى مهمة إمدادها بالمؤن التي تحتاجها. وقد طوَّر عمر نظام توزيع الغنائم — الذي كانت الدولة قد أخذته عن شيوخ القبائل — وجعل منه نظامًا ضريبيًّا شديد الإحكام؛ إذ كانت الدولة تقوم بدفع هبات من دخولها للمستحقين للإعالة والرعاية. وكان من حق كل مسلم حر من حيث المبدأ أن يكون واحدًا من هؤلاء المستحقين، ولكن هذه الهبات كانت من الناحية العملية مقصورة على المحاربين المقيمين في المدن العسكرية وعلى عائلاتهم، بالإضافة إلى سكان العاصمة التي كانت في المدينة المنوَّرة. وقد أمر عمر — رضي الله عنه — بإعداد قوائم تسجل فيها أسماء المستحقين لإعالة الدولة، وكانت هذه القوائم منظمة تنظيمًا دقيقًا حسب أسماء القبائل.

وقد أدت إعالة الدولة للمسلمين وتركيزهم في المدن الجديدة المعسكرة إلى عزلهم عن المجتمعات المحلية. وكان هذا أمرًا ضروريًّا عندما كان يتحتم وضعهم على أهبة الاستعداد وتحت تصرف الدولة. وينسب إلى عمر إصدار قرار يحظر على المسلمين الاستيلاء على أراضٍ زراعية في المناطق التي فُتحت، بل يحظر عليهم الاشتغال بحرفة الزراعة، وإذا كان من المحتمل أن مثل هذا القرار لم يصدر أبدًا، فمن المؤكد أن عددًا كبيرًا من المسلمين من بين القادة والجنود البسطاء قد استولوا على أراضٍ زراعية كبيرة وصغيرة وقاموا بفلاحتها. والمهم أن هذا الخبر يدل على وجود بعض المناقشات التي كانت تدور حول سياسة الحكومة. وقد كان من حق الدولة، تبعًا للتقاليد البدوية، أن تحتفظ بنصيب محدَّد من الغنائم، وأن تقوم بتوزيع الأنصبة المتبقية. ولكن الدولة اتجهت بدلًا من ذلك إلى تعظيم مواردها لتتمكن من الوفاء بمهامها وواجباتها المتنامية. ومن هنا نشأت بعد ذلك النظرية التي تقول إن كل الأراضي التي فُتحت ملك للدولة، وذلك لكي تستطيع أن تفيد جميع المسلمين — بما فيهم الأجيال التالية — من خراجها، وقد أُرجع هذا التنظيم أيضًا إلى عمر، رضي الله عنه.

كانت أقل التنظيمات التي أقامتها الدولة الإسلامية المبكرة قدرة على البقاء هي تلك التي استهدفت عزل العرب. وكانت المزايا التي تعود على المرء من الدخول في الإسلام قد شجعت الأعداد الكبيرة من الفرس والسوريين والمصريين على الإسراع بالدخول في الإسلام. واندفع سكان المناطق المحيطة بمدن العسكر الجديدة للإقامة فيها، كما وجد العرب من مصلحتهم أن يعيشوا في المدن العريقة بالأقاليم المفتوحة. وبعد وفاة عمر بوقت قصير انتقل مركز الثقل للدولة من المدينة إلى دمشق ذات التاريخ التليد. ونما المجتمع الإسلامي الجديد وازدهرت حضارته في مراكز المدن الواقعة خارج شبه الجزيرة العربية. والواقع أن جذور هذا التطور ممتدة في السياسة التي انتهجها عمر، كما هي موجودة بشكل خاص في تلك الحقيقة التي تقول إنه في حقبة الفتوح الإسلامية التي بدأت على يديه لم يسمح أبدًا — بالرغم من حرصه على المصالح العربية — بأن يوحِّد بين الإسلام والعروبة، بل تمسك بالطابع العالمي الشامل للإسلام. ولعلَّ شيئًا لم يؤثر في تطور الإسلام منذ ظهوره مثل هذه السياسة التي يرجع الفضل فيها لعمر بن الخطاب.

من المشكوك فيه أن يكون الخليفة العظيم قد فكر في النتائج المترتبة على سياسته، وقد نجد هنا مادة جديدة تصلح لمناقشة السؤال القديم عن التاريخ وهل هو من صنع الأفراد أو الأبطال؟ والمؤكد أن عمر لم يكن ليتابع مثل هذه المناقشة أو يفهمها، فهو في القرارات الحاسمة التي أصدرها لم يكن مجرد فرد حر، وإنما كان يشعر بأنه مجرد أداة لتنفيذ خطة إلهية. ولكنه اتخذ قرارات فاصلة. وعندما اتُّهم ذات مرة بضعف الإيمان لأنه رفض أن يذهب إلى مكان انتشر فيه وباء الطاعون أجاب بقوله: «أجل، إني لأهرب من مشيئة الله إلى مشيئة الله!» وهذه العبارة تلخص جهود علم الكلام عند المسلمين في التوفيق بين ضرورة الفعل الإنساني من ناحية، وبين الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة من ناحية أخرى. وكون عمر هو الذي نطق بهذه العبارة لهو دليل كافٍ على شخصية هذا الخليفة القدوة والنموذج الصانع للمعايير. وسواء صدقت نسبة العبارة إليه أو لم تصدق؛ فإنها تتسق مع شخصيته التاريخية.

لقد كان من أهم عوامل ضعف الإسلام في العصور المتأخرة أنه تشبث بالتراث بشكل عبودي. وربما كانت القدرة الفائقة على استلهام المواقف والقرارات الجديدة الحاسمة من التراث، وعلى ضوء المصلحة العامة للجماعة — أي على ضوء العقل وحده — ربما كانت هذه القدرة الفائقة هي أعظم خصال هذا الخليفة العظيم. وربما كان هو الذي أطلق الدفعة الأولى لجمع الوحي الإلهي في القرآن الكريم، وإن كان يروى عنه في الوقت نفسه أنه اعترض على تدوين الأخبار المتعلقة بأعمال النبي، عليه السلام، وأقواله لكي يحول دون وجود شيء ينافس القرآن الكريم.

وقد كان قرار عمر بتهجير غير المسلمين كافة خارج شبه الجزيرة العربية — وذلك على خلاف التعاليم المأثورة عن النبي عليه السلام — دليلًا تاريخيًّا آخر على تلك القدرة على اتخاذ القرار الحر. وليس من قبيل الصدفة أن نجد خلال التاريخ الممتد للشريعة الإسلامية أن أولئك الذين يستشهدون بعمر أو يهيبون به هم دائمًا الذين يبحثون عن طرق جديدة لاختراق التراث الذي تزايد جموده مع الزمن، والذين يعطون الصدارة لمتطلبات التطور التاريخي، والمصلحة العامة، والعقل.

١  هكذا كتب العنوان الأصلي للمقال، وربما أراد الأستاذ شتيبات بهذه الصفة غير المألوفة أن يميِّز عمر بن الخطاب عن عمر بن عبد العزيز الذي لُقب بخامس الخلفاء الراشدين بسبب ورعه وعلمه وعدله وزهده ما جعل منه نموذجًا مثاليًّا للحاكم المسلم، وقرَّبه من نماذج القدوة عند الخلفاء الراشدين. وقد نشر المقال سنة ١٩٧٢م في المجلد الثاني من كتاب عظماء التاريخ الذي حرره كورت فاسمان ونشر لدى دار روفولت في زيوريخ. والجدير بالذكر أن شتيبات شارك في هذه الموسوعة بمقال آخر عن محمد علي ونشر في المجلد السابع منها سنة ١٩٧٦م (ع. م).
٢  يضع الأستاذ شتيبات هنا ثلاثة هوامش للتعريف بالخلفاء الراشدين الثلاثة أبي بكر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وهي تهم القارئ الغربي ولا تقدم جديدًا للقارئ العربي، ولذلك رأيت حذفها (ع. م).
٣  في الأصل باللاتينية Pax islamica.
٤  هو المؤرخ وفيلسوف التاريخ الكبير أرنولد توينبي (١٨٨٩ – ١٩٧٥م)، بدأ حياته أستاذًا جامعيًّا وفي الوقت نفسه موظفًا بوزارة الخارجية البريطانية، وأتاح له عمله القيام برحلات عديدة تزود فيها بمادة غزيرة لدراساته التاريخية المستفيضة. بدأ منذ سنة ١٩٢١م كتابة تاريخ التطور الحضاري للبشرية، وهو دراسة التاريخ (في ١٢ جزءًا من ١٩٣٤ إلى ١٩٦١م) وقد اختصر الأجزاء الستة الأولى منه في مجلد واحد (١٩٤٧م، نقله إلى العربية المؤرخ الكبير المرحوم محمد فؤاد شبل) تأثر بفلسفة برجسون، وفي رأيه أنه لا توجد نواة حضارية أولى، فكل الشعوب مهيأة للازدهار الحضاري، ولكنها تسير في طريق هذا الازدهار بصور وأشكال مختلفة، والتاريخ الحضاري يمضي في سبيله بغير تخطيط، وكل شيء ممكن في أي وقت. وقد تشكك توينبي فيما يسمى بمورفولوجيا التاريخ والحضارة وقدَّم نظريته الشهيرة عن الاستجابة والتحدي؛ إذ تنهار الحضارة عندما تخفق في تحقيق الاستجابة الملائمة للتحديات التي تواجهها، كما أن خطر انهيارها أو اندثارها لا يأتي من خارجها — حتى ولو كان غزوًا أجنبيًّا — وإنما يأتي من داخلها حينما تخنق القوى المبدعة فيها، ويستبد بها الفساد من داخلها. من أهم مؤلفاته بجانب دراسته الشاملة للتاريخ البشري: الفكر التاريخي عند الإغريق (١٩٢٤م) المسيحية والمدنية (١٩٤٦م) محاكمة المدنية (١٩٤٨م) المسيحية بين ديانات العالم (١٩٥٧م) الهللينية، تاريخ مدنية (١٩٥٩م) والبشرية من أين وإلى أين، دفاع عن الدولة العالمية (١٩٦٩م) (ع. م).
٥  وصلت الصراعات المستمرة لأكثر من ألف عام بين الفرس من ناحية والقوى الأوروبية في شرق البحر الأبيض المتوسط (أي الإغريق والرومان ثم البيزنطيين) إلى ذروتها في القرنين السادس والسابع بعد الميلاد. واستطاع الفرس احتلال أنطاكية في سنة ٥٤م، وفي سنة ٦١م — في عهد خسرو الثاني الساساني — هددوا القسطنطينية نفسها، ثم زحفوا بين سنتي ٦١٣ و٦١٥م مرة أخرى إلى سوريا وتمكنوا في سنة ٦١٩م من الاستيلاء على مصر. واستطاع الإمبراطور البيزنطي هيراقليطس بعد جهود مضنية استمرت من ٦٢٢ حتى ٦٣٠م أن يستردَّ المناطق المحتلة وأن يرجع الصليب المقدس، الذي كان الفرس قد اغتصبوه، مرة أخرى إلى مكانه في القدس.
٦  أو بتعبير آخر: إن الدين الجديد قد تماهى مع العروبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤