الفصل الثاني

ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان١

(١٩٩٦م)

«إن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائمًا أن تفسَّر في إطار سياق تاريخي.»

فريتس شتيبات

ليس من قبيل المبالغة أن أقول إن هذا المعهد كان له تأثير هائل على الدراسات الشرقية، لا في لبنان والعالم العربي وحدهما، بل كذلك في ألمانيا ذاتها. لقد قدَّم تيسيرات فنية عديدة للباحثين الألمان والعرب على السواء. وإذا كان المستشرقون الألمان يعتزون بتراث طويل وعريق في دراسة اللغات والحضارات الشرقية، فلا بد من القول إن معظم جهودهم قد اتجهت إلى الماضي. وقد استطاع المعهد الشرقي في بيروت أن يقدم للمستشرقين الألمان فرصة العمل في بيئة شرقية، وأن فرصة العمل في بيئة شرقية، وأن يلفت أنظارهم إلى الشرق الحي، وينبههم إلى أن لغات وحضارات الماضي كانت وما تزال واقعًا ينبض بالحياة ويؤكد تأثيرها المستمر بأشكال وصور مختلفة على ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية والمشكلات والقضايا الملحة في الوقت الراهن. وهكذا يمكن القول إن المعهد الشرقي قد ساهم بدور ملحوظ في الاهتمام المتزايد بدراسة الشرق الحديث من مختلف جوانبه وآفاقه المترامية.

والتوسع في آفاق البحث والدراسة، لا سيما إذا تطرق لموضوعات معاصرة، لا يمكن أن يخلو من المخاطر والمآزق. والواقع أن حجة العلماء الذين يرفضون التعرض لمثل هذه الموضوعات تتلخص في الغالب في أن تناول الشئون المعاصرة يمكن أن يجرَّ الباحث للانزلاق في السياسة. تلك بالطبع حجة مشروعة. فالحق أن جهد الباحث العلمي يمكن أن يفقد الكثير من قيمته، إن لم يفقد كل قيمته، إذا رجحت في ميزان عمله كفةُ الأغراض السياسية كفةَ البحث الخالص عن الحقيقة. ولكن لا يمكن من ناحية أخرى أن ننكر أن على العلماء والباحثين — شأنهم في هذا شأن بقية المواطنين — واجبًا يقتضي منهم خدمة الصالح العام من خلال المعرفة التي حصَّلوها في تخصصاتهم المختلفة. صحيح أن البحث عن الحقيقة لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون تابعًا لأي اهتمام آخر غير البحث عن الحقيقة، أضف إلى هذا أنه لا ينبغي على هؤلاء الباحثين أن يدَّعوا الصدق المطلق لمعارفهم، وأن عليهم في هذه الحدود أن يشاركوا بإرادتهم واختيارهم في تكوين الرأي العام. ومن حسن الحظ أن عددًا كبيرًا من شباب الباحثين قد بدءُوا السير في هذا الاتجاه.

أود الآن أن أقدم بعض الملاحظات المتصلة بمجال تخصصي في الدراسات الإسلامية عن قضيتين يدور حولهما النقاش العام بشأن الشرق الأوسط، وأعتقد أن هاتين القضيتين من الأهمية بحيث ينبغي على الباحثين المتخصصين أن يدلوا فيهما بدلوهم:
  • (١)

    وصف الإسلام بأنه عقبة كبرى أمام السلام العالمي في عصرنا.

  • (٢)

    مشكلة الحوار بين الأديان، وبالأخص بين الإسلام والمسيحية.

ولست أضيف جديدًا إذا قلت إننا نلاحظ منذ سنوات قليلة ميلًا شديدًا ومفاجئًا في الغرب إلى اعتبار الإسلام خطرًا يهدد العالم الحرَّ، بل اعتباره مصدر الإزعاج الباقي للسلام على الأرض. لقد بدأت هذه الظاهرة مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية.

وتفسير هذه الظاهرة يفرض نفسه بنفسه، فمن الناس من يشعر ببساطة بالحاجة الدائمة لمواجهة خطر أو عدو يهدده، وإذا كان الخطر الشيوعي قد انحسر، فإن الإسلام والمدَّ الإسلامي هما البديل المناسب. ولديَّ يقين مؤكد بأن الدوافع الكامنة وراء هذا الموقف دوافع غير عقلانية. ولهذا أعتقد أنه لا ينبغي أن تترك هذه الظاهرة بغير تفسير وتعليق دقيق، لا سيما إذا تبنتها جهات محترمة أو ارتفعت بها أصوات مؤثرة.

ولعل أهم المناقشات التي دارت في هذا السياق على المستوى الأكاديمي قد افتتحتها مقالة نشرت في مجلة «الشئون الخارجية» الأمريكية في العام الماضي (١٩٩٣م). وعنوان هذه المقالة هو «صدام الحضارات» ومؤلفها هو صمويل ب. هنتنجتون أستاذ علم الحكومات ومدير معهد جون أولين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد.٢ ويسعى مؤلف المقال إلى وضع نموذج يساعد على فهم العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك على أساس افتراض مؤداه أن «المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم الجديد لن يكون في المقام الأول أيديولوجيًّا ولا اقتصاديًّا، وأن التقسيمات الكبرى بين أبناء البشر وكذلك المصادر الأساسية للصراع ستكون كلها حضارية» (ص٢٢ من المقال المذكور) ويحدد هنتنجتون سبع أو ثماني حضارات كبرى ستشكل صورة العالم على نطاق واسع. هذه الحضارات في رأيه هي الحضارة الغربية، والصينية الكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندية، والسلافية الأرثوذوكسية، والأمريكية-اللاتينية، وربما أمكن إضافة الحضارة الأفريقية إليها. ويذكر صاحب المقال أن «أهم» العوامل التي تميِّز الحضارات بعضها عن بعض هو عامل «الدين» (ص٢٥).
لن أستطيع الدخول في تفصيلات المناقشات التي أعقبت نشر مقال هنتنجتون، ولا أن ألخص الانتقادات التي وُجهت للفرض الذي طرحه. يكفي القول في هذا السياق إن هنتنجتون يؤكد نقطة مهمة بتشديده على أهمية تحديد الهوية الذاتية في توجه البشر ومواقفهم من الحياة، وكذلك على أهمية الحضارة والدين بوصفهما عنصرين أساسيين في تحديد تلك الهوية. فلا شك في أن الناس يشعرون بالحاجة الشديدة إلى الاعتماد على القوى التي لا تأتي من الخارج، وإنما تنبع من داخلهم وتعبر عن شخصيتهم الأصيلة المتفردة، ويستندون فيها إلى «سند من تراثهم الخاص» كما يقول أستاذي فالتر براونه.٣

وفي تقديري أن هنتنجتون يبالغ مبالغة شديدة في حديثه عن تأثير هذين العاملين على الممارسة السياسية في العالم. فمن الصحيح — فيما يتعلق بالإسلام — أن اقتناع المسلمين جميعًا بأنهم يكونون جماعة أو «أمة»، قد وحَّد بينهم على الدوام في الشعور بالتضامن والتكافل. ولكن من الصحيح أيضًا أن العالم الإسلامي الرحب تعيش فيه شعوب وفئات اجتماعية مختلفة المشاعر والمصالح. وأغلب الظن أن هذه الشعوب والفئات المتعددة ليست على استعداد للتضحية بمصالحها الحيوية في سبيل وحدة إسلامية أعظم. وليس هذا من قبيل المصادفة؛ لأن الدين الإسلامي يتيح للأفراد والجماعات مجالًا واسعًا وأفقًا رحبًا للتفسير. ولا توجد كذلك في الإسلام سلطة عليا لتقرير ما هو التفسير الصحيح، فليس فيه «بابا» ولا «دالاي لاما»، لا مجمع كنسي ولا مجلس مسكوني، والمؤمنون يتمتعون بحرية واسعة في هذا الشأن (أي في حرية التفسير) ما داموا يسعون بإخلاص وصدق للوصول إلى الحقيقة. ومن الممكن، والحال كذلك، أن يتوصل المؤمنون إلى استنتاجات مختلفة عن الموقف الصحيح من قضية معينة، كأن تكون هذه القضية هي قبول أو رفض الحضارة الغربية أو أي حضارة غيرها. وهنالك من جهة أخرى مشاعر الانتماء والتوحد في مصير مشترك، وهي مشاعر تتجاوز حدود الجماعة الدينية ولها مع ذلك تأثير قوي لا يستهان به. وأضرب لهذا مثلًا واحدًا من العلاقات القوية والحميمة التي تربط بين المسلمين والمسيحيين العرب، وهو مثل لا يفسح له نموذج هنتنجتون عن الحضارات القائمة على الدين أي مكان فيه. لقد تحدَّى هنتنجتون نقاده أن يقدموا نموذجًا أفضل من نموذجه. ويبدو لي أن تقسيم البشر إلى مجتمعات صناعية وأخرى غير صناعية أو في سبيلها إلى التصنيع — وهو الذي تثار حوله المناقشات تحت شعار «الصراع بين الشمال والجنوب» أو غيره من الشعارات — يمكن أن يفي بهذا الغرض.

مجمل القول أن العيب الذي يؤخذ على حجة هنتنجتون عن الحضارات هو أن هذه الحضارات ليست متجانسة بل ولا محددة تحديدًا كافيًا للتمييز القاطع بينها. والظاهر أن استخدام مفهوم الحضارة مع مفهوم الدين الملازم له باعتبارهما يمثلان الخط الأساسي للتفرقة بين أطراف الصراع الكبرى في عالم اليوم، الظاهر أن هذا لن يساعد كثيرًا على تفهم هذه الصراعات.

وينبغي أن نذكر وجهًا آخر من وجوه الاعتراض على نموذج هنتنجتون. فإعطاء الدين هذا الوزن الكبير واعتباره العامل المحدد لتكوين الجماعات يمكن أن يؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة، خصوصًا أن هنتنجتون ينظر في الأساس إلى الصراع على أنه يعني الحرب: «إن خطوط الحدود الخاطئة التي تفصل بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل،٤ والحرب العالمية القادمة، إذا قامت مثل هذه الحرب، ستكون حربًا بين الحضارات.» ويبدو له (أي لهنتنجتون) بوضوح مَن سيكون هو العدو الأول للغرب في مثل هذا الصدام بين الحضارات. إنه في نظره هو الإسلام الذي يملك «حدودًا دموية»، بل إنه يرى أن «الإسلام والصين الكونفوشيوسية» يشكلان ارتباطًا عسكريًّا لمواجهة القوة العسكرية للغرب (راجع المقال السابق ذكره عن صدام الحضارات ص٢٢، ٣٤، ٣٥، ٤٧).

أود الآن أن أكرر رأيي في أن الحضارة والدين، وإن لم يكونا هما العاملين الوحيدين في تكوين الهوية الجماعية للبشر، فلا شك في أنهما يقومان بدور مهم في تكوين هذه الهوية. ولو سلَّم الرأي العام في الغرب «المسيحي» — وفقًا لتصور هنتنجتون — بأن الإسلام هو عدوه الطبيعي، لما استنتج المسلمون من ذلك سوى أن عليهم ألَّا يتوقعوا من الغرب غير العدوان عليهم. ذلك على التحديد هو الذي يمكن أن يدفع المسلمين كافة، بصرف النظر عن الاختلافات القائمة بينهم في المشاعر والمصالح، إلى اتخاذ موقف عدائي موحَّد ضد الغرب، إن هنتنجتون، حتى ولو أخذ حضارات أخرى في الاعتبار، إنما يضع في الواقع إطارًا نظريًّا لاستنفار كلٍّ من الإسلام والمسيحية تجاه الآخر. وهكذا نجده يتنبأ بنبوءة يتوقع لها أن تتحقق.

ليس من الخطر الشديد فحسب أن نعطي للدين الدور الأساسي في تحديد تكون الجماعات في نظام عالمي مهيأ للحرب. إنني مقتنع كذلك بأن هذا ببساطة خطأ فادح في التفكير. ولكي أكون أكثر تحديدًا فإنني أقول إنه لا المسيحية ولا الإسلام، بحكم طبيعتيهما وماهيتيهما، يريدان الحرب. ونحن نعلم من التاريخ أن كليهما قد استُغلَّ في بعض العهود لتبرير الحرب وتعبئة جماهير المؤمنين بهما للقتال. ولكن لا ينبغي أبدًا أن نعتبر أن ذلك كان هو هدفهما الحقيقي، ذلك أن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائمًا أن تفسَّر في إطار سياق تاريخي. وقد ذكرت من قبل أن ظهور عداوة عامة من جانب الغرب تجاه الإسلام يمكن كذلك أن يدفع المسلمين من جانبهم إلى اتخاذ موقف عدواني موحَّد ضد الغرب. غير أن ردَّ الفعل هذا لن يكون نابعًا من نزعة عدوانية أساسية في داخل الإسلام، بل سيكون نتيجة مترتبة على مجموعة من العوامل التاريخية وعلى الأفعال وردود الأفعال من كلا الطرفين.

إن هنتنجتون يبني آراءه، بقصد أو بغير قصد، على افتراض مؤداه أن الأديان يواجه بعضها البعض بطريقة لا بد أن تؤدي بالضرورة إلى كل أنواع الصراع، بما في ذلك الصراعات العنيفة. وأنا في الحقيقة أرفض هذا الافتراض رفضًا تامًّا: صحيحٌ أن الأديان يمكن أن تقود إلى الصراع، ولكن حدوث هذا ليس أمرًا حتميًّا. وإذا أردنا للصراع ألَّا يتفجر، فينبغي أن نفكر تفكيرًا هادئًا في هاتين «الاستراتيجيتين»:
  • (١)

    تجنب تكوين التكتلات السياسية التي تساعد على تفجُّر الصراعات المصبوغة باللون الديني.

  • (٢)

    وأن نعمل على زيادة التفاهم المتبادل وإيجاد الأرض المشتركة بين أتباع الديانات المختلفة بغية التقليل من إمكانات الصراع.

وقد سبق أن أبديت بعض الملاحظات عن الاستراتيجية الأولى، أما عن الثانية فأود أن أشير بصددها إلى النشاط الملحوظ في تبادل المعلومات والخبرات والآراء الذي يطلق عليه في هذه الأيام اسم حوار الأديان.

ويعدُّ حوار الأديان في نظر دوائر واسعة من الرأي العام أمرًا جديرًا بالثناء، كما أن هناك من يقول إن مساندته «تصرف سياسي سليم» … ولكن هذه المواقف لا ينبغي أن تقودنا إلى الظن بأنه ليس في حاجة إلى التشجيع. فبينما يحمل مؤيدوه عن طريق الكلام في أغلب الأحيان أفكارًا سطحية عنه، نجد من ناحية أخرى مقاومة رهيبة له، وهي مقاومة ترتكز على اقتناعات عميقة الجذور في الوجدان. ونستطيع أن نميز في أصحاب هذا الفريق بين مجموعتين؛ إحداهما ترى أن حوار الأديان عمل عقيم، والأخرى تخشى أن يؤدي هذا الحوار إلى تخريب الدين الذي تؤمن به. ولنبدأ «حوارنا» معهما بالفريق الأول.

يمكننا أن نُميِّز، بين أصحاب الرأي القائل بعقم الحوار بين الأديان، مجموعتين اثنتين. فالمجموعة الأولى تزعم أن الدين — بما هو دين — شيء لا وزن له، ومِن ثَمَّ فإن رفض أصحابها للدخول في حوار الأديان هو نتيجة منطقية لموقفهم الذي لا يمكن قبوله من الناحية التاريخية ولا يستحق مجرد مناقشته. أما أصحاب المجموعة الثانية فيحترمون الدين، أو على الأقل دينهم، أشد الاحترام، ولكنهم يرفضون الدخول في حوار مع أصحاب الأديان الأخرى. وقد قام أحد زملائي المستشرقين منذ وقت قريب بنشر كتاب عن تاريخ العقيدة الإسلامية، وهو كتاب بالغ الأهمية يصف المؤلف في مقدمته الحوار بين الأديان بأنه ظاهرة دالة على «روح العصر»، وإن كان هو نفسه لا يحب أن ينخرط فيها أو يلتزم بها. وهو يشرح أسباب هذا الموقف الرافض بقوله: إنه لشيء «مرعب» أن يحاول معلمو الدين «أن يجدوا، أو يخترعوا، أقصى ما يمكنهم إيجاده أو اختراعه من سمات مشتركة بين أديان العالم، وذلك رغبة منهم في إلغاء أسباب التوتر عن طريق الافتعال السطحي للتجانس بينها»؛ ولهذا نجده يقول عن نفسه: «إنه يحجم عن التسرع باكتشاف أوجه تناظر أو تشابه بين كل من الإسلام والمسيحية»؛ لأن مثل هذه المحاولة تقود، من حيث المبدأ، إلى الضلال.٥

يتضح من هذه النصوص المقتبسة أن الآراء التي يعبر عنها أصحاب هذه المجموعة تمتد جذورها في موقفهم الذي ربما لا ينكر وجود سمات مشتركة بين الأديان، ولكنه يعتبر هذه السمات أقل أهمية بكثير من الخلافات القائمة بينها.

إن من الواضح أن الأديان يختلف بعضها عن بعض من وجوه كثيرة اختلافات مهمة. ولكننا لو أمعنا النظر فيها عن قرب لتأكد لدينا كذلك أنها تتحد في عدد من السمات المشتركة ذات الأهمية البالغة. وتصدق هذه الملاحظة على مستوى البشرية بوجه عام، ولكنها تصدق بدرجة أكبر على الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام.

إن الدين يستجيب لحاجة عميقة في الإنسان. ولو شئنا أن نعبر عن هذا بمصطلحات الفلسفة الوجودية لقلنا إنها هي الحاجة لقوة الوجود التي تهزم اللا-وجود الذي نلقاه ونعانيه في تجارب الموت، والعذاب، والإخفاق، والظلم، والإثم، وفقدان المعنى. ولو شئنا أن نعبر بلغة بسيطة مألوفة لقلنا إن الدين يستطيع أن يمدَّنا «بالمعنى الأخير للحياة» … بمصدر وجودنا وغايته، أي بالإجابة عن السؤالين الخالدين: من أين؟ وإلى أين؟ وهو يستطيع أيضًا أن يضمن لنا «قيمًا عالية ومعايير غير مشروطة … أي علَّة مسئوليتنا والهدف منها». والأديان «حريصة على سعادة الإنسان»، وذلك بتقديم التوجه الديني الأساسي؛ أي السند، والعون، والأمل، ومنحنا الكرامة الإنسانية، والحرية الإنسانية، والحقوق الإنسانية … أي الأساس الذي يرتكز عليه العمق النهائي.٦
والنصوص الأخيرة قد صاغها «هانز كينج» بقلمه، وهو عالم لاهوت كاثوليكي، يؤمن بأن الديانات العالمية تشارك في المبادئ السابقة، وينطلق من هذا الإيمان لوضع مشروعه العظيم عن «أخلاق كوكبية» يمكن أن يتفق على مبادئها جميع المؤمنين في جميع الأديان — بل وأصحاب النزعة الإنسانية من غير المتدينين — ويكوِّنوا تحالفًا مشتركًا لخير البشرية، ومن فكرة كينج هذه خرج «الإعلان عن الأخلاق العالمية» الذي أقرَّه برلمان الأديان العالمية الذي انعقد في شيكاغو سنة ١٩٩٣م، وهذا البرلمان ليس مؤسسة رسمية، كما أن أعضاءه لا يمثلون سلطات دينية رسمية. ولكن هذا لا يجرِّد الإعلان من أهميته، وإنما يؤكد أن أفكار «كينج» تلقى ترحيبًا واسعًا وتقدم إمكانية حقيقية للتفكير بصورة تتفق اتفاقًا كاملًا مع المبادئ التي تقوم عليها الأديان المختلفة.٧

ولو رجعنا للحديث عن الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، لتأكدنا من وجود أرض مشتركة بينها، تقوم على العلاقة التاريخية التي تربط الأديان الثلاثة، وتدعمها حقيقة كونها ديانات تنتسب إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، كما تتفق جميعها على الإيمان بعقيدة التوحيد. إن المسيحية تعترف بالكتاب المقدس لليهودية، والإسلام يعترف بالكتب المقدسة لليهودية والمسيحية. وقد قامت على مر التاريخ علاقات وثيقة وعميقة بين المؤمنين بالأديان الثلاثة، أدَّت إلى مناقشات مستفيضة لأفكارهم وإلى تبادل الخبرات والتجارب بينهم. ولا يعني هذا عدم وجود اختلافات أساسية كثيرة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، فالمتوقع من الباحثين المتخصصين في هذه الأديان أن يحددوا هذه الاختلافات، والمتوقع منهم أيضًا أن يبيِّنوا أوجه التشابه والتناظر المشتركة بينها.

والواقع أن الاختلاف والتشابه كثيرًا ما يكونان متداخلين، ومسألة العلاقة بين الإنسان والله هي أحد الأمثلة الواضحة على هذا التداخل.٨ فاليهودية والمسيحية تسلمان بما جاء في التوراة (سفر التكوين ١، ٢٦-٢٧) من أن الله قد خلق الإنسان على صورته (أي على صورة الله سبحانه). ومن المستحيل على الإسلام الذي يتحاشى النزعة التشبيهية بالإنسان «الأنثروبومورفيزم» ويفزع منها، أن يسلم بالعبارة السابقة. ومع ذلك فقد عرف المسلمون العبارة على صورة حديث شريف ورد فيه ما معناه أن الله قد خلق آدم على صورته. ولكنهم (أي المسلمين) فهموا النص بطريقة مختلفة، إذ قالوا إن الله سبحانه قد اختار أن يسوِّي آدم على إحدى الصور التي في علمه جلَّ شأنه. وهكذا بقيت الآية الكريمة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى: ١١) فوق كل نقاش.

هل نستنتج من هذا، فيما يتصل بالعلاقة بين الله والإنسان، وجود فجوة سحيقة بين الإسلام والديانتين الإبراهيميتين الأخريين؟ ربما يبدو الأمر كذلك. ولكننا لو عرفنا أن خلق الإنسان على صورة الله، كما يتصوَّره اليهود والمسيحيون، لا يمكن أن يفهم منه التشابه في الشكل، بل يجب أن يفسَّر بوصفه استعارة تدل على علاقة وثيقة وحميمة هي علاقة القرب من الله، فإن المسلمين لن يختلفوا على ذلك. وآية ذلك أن الإمام الغزالي العظيم يذهب إلى وجود «مناسبة باطنة» بين الإنسان والله، أي علاقة قرب لا يصح أن تختلط مع التشابه في المنظر أو الشكل. ويذكرنا الغزالي في هذا السياق بوصية الصوفية: «تخلَّقوا بأخلاق الله» بما يفترض فيمن يأخذ بهذه الوصية الاستعداد والشوق للقرب من الله.

بيد أن أهم استعارة تشير إلى قرب الإنسان من الله تنطوي على فكرة أن الله قد جعل الإنسان خليفته على الأرض. والجدير بالملاحظة أن هذه الفكرة لا تستند إلى نص حرفي من القرآن الكريم، وإنما تعتمد على تفسير النص. وقد جاء في آيات كثيرة أن الله قد جعل البشر خلفاء على الأرض. وكلمة «الخليفة» تعني «اللاحق» أو «النائب». ومن المعروف أنها قد أطلقت على من رأس الجماعة الإسلامية الكبرى بعد انتقال محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى الرفيق الأعلى، وذلك على معنى «خليفة رسول الله». وربما وجب فهم الاستخدام القرآني لكلمة «خليفة» بمعنى مشابه: فالله قد جعل آدم أو داود على سبيل المثال، أو غيرهما من البشر، «خلفاء» لأشخاص، أو جماعات، أو أجيال عاشت قبلهم. ولا يوجد في القرآن الكريم أي نص يوجب فهم كلمة «الخليفة» بطريقة لا لبس فيها بأنه «نائب» عن الله؛ إذ إن من الواضح أن الله جلَّ شأنه لا يمكن أن يخلفه أحد أو أن يكون له «خليفة». ومع ذلك كله فإننا نجد لدى بعض العلماء المسلمين اتجاهًا واضحًا، تزايد نموه مع الزمن، لتفسير كلمة «الخليفة» كما وردت في القرآن الكريم بحيث تدل على «نائب الله» في أرضه. وفي الوقت الذي كانت فيه الكلمة لا تشير في البداية إلا إلى «خليفة رسول الله»، تزايد الميل مع مرور الزمن إلى الاستناد للقرآن الكريم في تفسيرها بحيث تعني أن الله سبحانه قد جعل بعض الناس، أو بعض المسلمين، «خلفاء» أو نوابًا له على الأرض.

لا شك في أن المجال يتسع لفهم وضع «خليفة» أو «نائب» الله على معانٍ مختلفة. وقد تساءلت من قبل عمَّا إذا كانت الكلمة تشير إلى البشر عامة أو إلى المسلمين فحسب. وأعود إلى الغزالي الذي ذهب إلى أن «المناسبة الباطنة» — أو علاقة القرب الحميم — بين الإنسان والله التي تؤهل الإنسان لكي يكون نائبًا لله على الأرض تتضمن بوضوح معنى البشر عامة. وفي العصر الحديث نجد مفكرين مرموقين، مثل محمد عبده ومحمد إقبال، يتخذون موقفًا مشابهًا، حين يؤكدان تفوق الإنسان على سائر المخلوقات. غير أننا نجد «أبو الأعلى المودودي» ينسب صفة «نائب الله» لجماعة المسلمين الذين يلتزمون التزامًا صارمًا بشريعة ثابتة لا تترك لهم سوى قدر ضئيل من حرية تشكيل العالم. كذلك نجد أن أحمد مصطفى المراغي يوجِّه الأنظار إلى أن إمكان تعيين نائب لله أمر مقصور على فرد واحد أي إلى حاكم معين. ومن جهة أخرى نرى المفكر التركي «زيا جو كالب» يعلن أن «الشعب» (أو «الناس») هم ممثلو الله على الأرض. ويذهب «علي شريعتي» إلى حدِّ اعتبار أن «الناس» والله في القرآن الكريم مترادفان، وأنهما مصطلحان يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر في كل ما يتعلق بقضايا المجتمع. إن عبارة «الحكم لله» تعني في رأيه أن الحكم للشعب، كما أن عبارة «المال لله» (أي الملك أو الثروة) معناها أنه ملك للشعب.

يتبين لنا الآن أن التفسيرات السابقة تختلف من مفكر إلى آخر حسب مواقفه الدينية والسياسية، وأن الذي يجمع بينهم هو فكرة أن الإنسان يحتل منزلة أسمى بكثير من سائر المخلوقات، وأنه شديد القرب من الله جل شأنه. وحتى إذا كان وصف الإنسان بأنه على صورة الله أو أنه يشبهه لا يزال أمرًا غير مقبول لدى المسلمين، فإن صورة الإنسان عندهم لا تبدو مختلفة تمام الاختلاف عن صورته في اليهودية والمسيحية. وليس صحيحًا، كما ذهب البعض إلى ذلك أحيانًا، أن الإسلام يرى أن الله سبحانه بعيد بعدًا لا متناهيًا عن الإنسان (لأن ذلك قد نتج عن فهم متطرف لفكرة تعالي الله أو علوِّه). وليس من الصحيح كذلك أن الإسلام لا يفتح الأبواب واسعة أمام أساليب التفكير ذات النزعة الإنسانية.

وأود الآن أن أقدم مثلًا آخر يمكن أن يساعدنا على تبين السمات المشتركة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، ولذلك أطرح هذا السؤال ثم أحاول الإجابة عنه: ما الذي يعطي الإنسان الأمل في الخلاص أو النجاة؟ ما الذي يحرره من الخطيئة والإثم ومن اللعنة والعذاب الأبدي؟

ربما نتوقع من علم العقيدة الإسلامي — على أساس أن الإسلام دين جاء بشريعة منزلة — أن يعتبر أن أعمال الإنسان هي أهم معيار يحتكم إليه في تقرير خلاصه أو نجاته. غير أن الحال يختلف عن ذلك، كما بيَّنت في مقال نُشر في هذا الكتاب الذي صدر تكريمًا لذكرى صديقنا الراحل الأب فريد جبر.٩ فحتى المفكرون الذين يقيمون وزنًا كبيرًا للأعمال، يضعون الإيمان في منزلة أعلى منها. ونجد على سبيل المثال أن حسن البنا يعلن في أحد كتبه التعليمية أن «العقيدة» هي أساس العمل، وأن عمل القلب أهم بكثير من عمل الجوارح. وبلوغ الكمال في كليهما أمر يقتضيه الشرع. أما الشيخ محمد الغزالي فيعتبر أن العمل هو أساس الإيمان، وأن الاعتقاد الخاطئ بأن الأعمال يمكن إهمالها هو علة الأزمة التي وقع فيها الدين في هذه الأيام — ومع ذلك فهو يسلم بأن المؤمن يمكن أن يرتكب الخطايا من دون أن يفقد الإيمان — ولكنه إذا تفاخر بخطيئته واستخف بإهماله لأداء الفرائض فإنه يكون قد تخلى عن الإسلام وحقت عليه اللعنة. وهناك إجماع على الاعتقاد بأن المؤمن يمكنه أن يتيقن من أن رحمة الله سوف تنقذه في كل الأحوال، ما دام قد بقي على إيمانه.

ومناقشة علماء اللاهوت المسيحي لهذه المشكلة معروفة ومألوفة، فهي المشكلة القديمة التي تتعلق بما إذا كان الخاطئ «يبرر» من خلال أعماله أم من خلال إيمانه، وما إذا كان من الممكن أن يتيقن من الخلاص أم يقتصر على أن يأمل فيه، وكلها أسئلة كان لها دور كبير في تعاليم مارتن لوثر في بداية عصر الإصلاح الديني وما زالت تناقش إلى اليوم.

يتبين من المثلين اللذين قدمناهما أن أوجه التناظر والتشابه بين المسيحية والإسلام لا يمكن إنكارها. ونستطيع أن نقرر على سبيل التعميم أن كثيرًا من الأسئلة التي تثار في الديانتين واحدة، على حين أن الإجابات عنها مختلفة. ويلاحظ في معظم الأحيان أنه لا توجد إجابة إسلامية واحدة، لأن الإسلام يفسح مجالًا واسعًا للتفسير والاختلاف في الآراء والاجتهادات. ولو نظرنا للقضية من هذه الزاوية، لرفضنا قبول الزعم القائل بعدم وجود أرضية مشتركة والتذرع به لرفض الحوار بين الأديان. ولا بد الآن من الإجابة عن الاعتراضات التي يثيرها أولئك الذين يخشون الحوار بحجة أنه يمكن أن يفسد الدين الذي يؤمنون به.

لا شك في أن الحوار بين الأديان يمكن أن يصبح شيئًا عقيمًا أو أسوأ من ذلك إذا لم يتجنب الأطراف المشاركون فيه بعض المواقف التي يمكن أن تفسده منذ البداية. فالاتجاه الطويل لتحويل الطرف الآخر عن دينه أمر يتعارض مع روح الحوار. ويصدق الأمر نفسه على غياب الاحترام لمعتقدات الطرف الآخر بسبب الجهل بأهميتها القصوى بالنسبة إليه أو عدم الاعتراف بها. وكل محاولة ﻟ «كسب النقاط» على حساب الطرف الآخر — حتى لو اقتصر ذلك على دائرة النقاش — سيؤدي حتمًا إلى إفساد جو الحوار. والحقيقة أن الصعوبة الأساسية في الحوار بين الأديان تكمن على وجه الدقة في أن الاقتناعات والاعتقادات الدينية ليست قابلة للنقاش أو للتفاوض على الإطلاق، أي لا يجوز أن تتعرض للمهانة أو التنازل أو غيرهما من التغيرات المشابهة في المواقف.

ويبدو من المناسب الآن أن نرجع لعلماء اللاهوت لتوضيح الموقف الذي نحن بصدده. وقد فحص «هانز كينج»، في كتابه السابق الذكر عن الأخلاق العالمية الجديدة، هذه المسألة فحصًا دقيقًا. فهو لا يريد ولا يتوقع من أي طرف من أطراف الحوار أن يتخلى عن معتقداته التي يؤمن بها، بل يقول على العكس من ذلك إن أي حوار لن تكون له في الأساس أي فائدة إذا افتقد تدين أي طرف من أطراف الحوار إلى «العنصر المعياري والمحدد تحديدًا نهائيًّا» في دينه أو في تدينه (ص١٠١ من كتابه السابق الذكر عن المسئولية الكوكبية)، كما لا يجوز في رأيه أن تسطَّح مسألة الحقيقة أو أن يضحَّى بها، ولو كان ذلك في سبيل «يوتوبيا» عالم مستقبلي موحَّد أو ديانة عالمية واحدة (ص٩٧) ويرفض كينج نزعة «اللامبالاة» التي تتساوى في نظرها قيم الأشياء، كما يستنكر النزعة النسبية التي ترفض الاعتراف بأي وجود مطلق، والنزعة التوفيقية التي تخلط بين كل ما هو ممكن وما هو مستحيل (ص٩٦).

ويطالب كينج من ناحية أخرى أطراف الحوار بأن يجمعوا بين أصدق ولاء ممكن لمعتقداتهم وبين أقصى انفتاح ممكن على الآخرين (ص١٠٠) وإذا كان من الطبيعي أن يتمسك كل طرف بدينه ويعتبر أنه هو الدين الوحيد الحق، فإن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى استبعاد الحقيقة من الأديان الأخرى، بل يمكن أن يؤيد صحتها وصحة وصفها بأنها ديانات حقيقية. وما دامت الأديان الأخرى لا تتناقض مع الرسالة المسيحية تناقضًا مباشرًا، ففي إمكانها أن تضيف إلى الديانة المسيحية وتصححها وتزيدها عمقًا (ص٩٩): «ينبغي علينا، انطلاقًا من التزام مسيحي أصيل واستعداد دائم للتعلم، أن نستمر في تغيير أنفسنا على طريقتنا، وأن نسمح لأنفسنا بأن ننصلح من خلال ما نتعلمه من الأديان الأخرى، بحيث لا يؤدي ذلك إلى تدمير إيماننا العريق، بل إلى إثرائه» (ص١٠٣).

ومن الطبيعي ألَّا تكون هذه المطالب موجهة إلى المسيحيين وحدهم، فهي توجه بالمثل إلى غير المسيحيين. ويعلم الأستاذ كينج مدى الاختلاف الشاسع بين موقف المسيحية المتماهية على نطاق واسع مع الغرب المهيمن والعدواني، وبين موقف «عالم ثالث لم ينسَ على الإطلاق تاريخ الاستعمار وتاريخ حركات التبشير التي امتزجت به. وإذا توقع البعض أن يتخلى الناس هناك (أي في العالم الثالث) عن شيء من معتقداتهم الإيمانية القديمة، فلا شك في أن ذلك سينظر إليه بحق على أنه تهديد لهويتهم الحضارية والدينية» (ص٩٧). والمهم في نهاية التحليل أن كينج، الذي يتكلم كمسيحي، تحركه دوافع مستمدة من ظروفنا التاريخية المعقدة: «في عصرنا الجديد — عصر ما بعد الكولونيالية (الاستعمار) وتعدد المراكز، وما بعد الحداثة — حان أوان إقامة الحوار بين المسيحية والأديان العالمية على أساس عريض وعلى نطاق واسع» (ص١٠٤).

إن حوارًا يتمُّ بهذه الروح السمحة يبدو أمرًا ممكنًا ومفيدًا. ومع ذلك فلا يجوز أن نطالبه بما هو فوق طاقته. فالصراعات الكبرى في عصرنا لا ترجع في الواقع لخلافات دينية، ولذلك فإن الأديان ستجد نفسها في موقف يتعذر معه أن تتمكن من حلها بصورة فعَّالة. ومع ذلك فإن الحوار بينها يمكن أن يصلح الأجواء ويمهِّد لإيجاد الحلول وإزالة العقبات. ولعل أهم نتيجة يمكن أن تتمخض عن مثل هذا الحوار هي في تقديري أن تتأكد جميع الأطراف المشتركة فيه من أن الأطراف المتعارضة لا تريد أن تدمرها أو تؤذيها، وأنها لا تهدف إلى الصدام معها، وإنما تسعى إلى تفهم الآخرين والتوصل إلى أسس مشتركة يقوم عليها التعايش البنَّاء والتعاون المثمر. ومثل هذا الحوار ينبغي أن يتمَّ على جميع المستويات الممكنة، كما ينبغي بطبيعة الحال أن يدور بين الممثلين الرسميين للجماعات الدينية المختلفة (ولذلك أعتقد أن الجهود الأخيرة التي بذلت بهذه الروح بين أئمة الجماعات الدينية في لبنان تستحق الثناء العظيم والمساندة القوية) وينبغي أخيرًا على رجال السياسة والاقتصاد أن يضعوا الحوار بين الأديان في تقديرهم ويجعلوه أحد اهتماماتهم في أثناء اللقاءات التي تتم بينهم، لا سيما عندما يلتقون لحل المشكلات الدولية. بل ينبغي أن يدور الحوار بين كل شعوب الديانات المختلفة الذين يلتقون ويتناقشون كل يوم وكل ساعة على مستوى العالم بأسره، وفي جميع المناسبات الممكنة، في الزيجات المختلطة والمشروعات الاجتماعية المشتركة، في الاحتفالات الدينية أو في المبادرات السياسية (ص١٣٨).

وأعتقد أخيرًا أن هناك دورًا خاصًّا يقع عبء القيام به على أكتاف الباحثين، ولا يقتصر الأمر في ذلك على علماء اللاهوت. بل يشمل المتخصصين في الأديان المختلفة والمعنيين بالدراسات المقارنة. صحيح أن الأمر يقتضي، حين تظهر الحاجة إلى الحصول على معلومات دقيقة عن أحد الأديان، أن يتوجه الناس في المقام الأول إلى أصحاب هذا الدين الذين يمكنهم أن يتحدثوا عنه «من داخله». غير أن الخبراء الذين يتحدثون «من الخارج» لهم كذلك أدوار ووظائف يمكنهم القيام بها. ومن الطبيعي ألَّا ننتظر الموضوعية الكاملة من كلا الفريقين، فتفكير الباحثين، شأنهم في هذا شأن جميع البشر، يتأثر بالضرورة بالبيئة المحيطة بهم ومعتقداتهم (التي يمكن أن تكون ديانة أخرى يعتنقونها أو اقتناعًا بأن الأديان في مجموعها لا قيمة لها أو أنها ضارة ومؤذية)، ولكن إذا كان هؤلاء الباحثون على درجة طيبة من الكفاءة، فإنهم سيسعون على الأقل للوصول إلى قدر من الموضوعية، وسيمارسون النقد الذاتي على أفكارهم وآرائهم، وسيكونون قادرين على التعبير عن معارفهم بلغة بسيطة يمكن أن تفهم بسهولة بدلًا من اللغة التقليدية التي يستخدمها أبناء ديانة معينة يتحدثون عنها «من داخلها». ويستطيع الباحثون فضلًا عن ذلك كله أن يستخدموا المناهج المتبعة في أنظمة معرفية أخرى، وبذلك يتمكنون من وضع كل ظاهرة في سياقها التاريخي الخاص، ومن تصحيح الطرق غير التاريخية في النظر والإدراك كما فعل هنتنجتون في كتابه عن صدام الحضارات.

وأخيرًا أذكِّر بأن ما قلته عن دور الباحثين العلميين يجب ألَّا يفهم منه أنه يسير في اتجاه واحد. فالمستشرقون الغربيون ليسوا هم وحدهم المطالبين بالمساهمة في حوار الأديان بدراستهم لأديان الشرق وحضاراته ولغاته.

إن الباحثين «الشرقيين» ينبغي عليهم أيضًا — بوصفهم مستغربين أو دارسين للغرب — أن يعكفوا على دراسة المسيحية والحضارة الغربية بحيث يمكنهم، من الخارج، أن يتعرفوا على مشكلات الغرب ويشاركوا على هذا الأساس بدورهم في الحوار. والواقع أن هذا التطور قد حدث منذ وقت طويل، والدليل على هذا أن عددًا غير قليل من الباحثين العرب قد دبجوا بحوثًا قيمة وجديرة بكل التقدير عن التاريخ الأوروبي والآداب الغربية … إلخ. ومن الواجب أن تجد مثل هذه البحوث الأخيرة المزيد من الالتفات والتشجيع.

وأخيرًا فسوف يسعدني كل السعادة أن يجد أعضاء المعهد الشرقي في بيروت، وأصدقاؤه وضيوفه، في هذه الملاحظات التي عبرت عنها شيئًا يدفعهم إلى البحث والمناقشة، مع أطيب تمنياتي القلبية للمعهد ومشروعاته العلمية المقبلة.

١  ألقيت هذه المحاضرة — باللغة الإنجليزية — في الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة ١٩٩٤م في بيروت بمناسبة إعادة افتتاح المعهد الشرقي (التابع لجمعية الاستشراق الألمانية) واستئناف نشاطه العلمي بعد انتهاء الحرب الأهلية المفجعة في لبنان، وقد أسس المعهد في سنة ١٩٦١م وتولى رئاسته المستشرق هانز روبرت رومر، ثم خلفه الأستاذ شتيبات التي تحمل بنفسه مع زوجته عبء نقل المعهد إلى مقرِّه الحالي وتجهيزه وإدارته من سنة ١٩٦٣ إلى سنة ١٩٦٨م. وقد دعي الأستاذ للمشاركة في ذلك الاحتفال وألقى فيه المحاضرة التي قمنا بعرضها على الصفحات السابقة.
٢  Samuel P. Huntingtan, the clash of civilizations? In: foreign affairs 72 (1993) 3, 22–49.
٣  التعبير بالألمانية Ruckhalt im Eigenen وقد أكده هذا المستشرق الكبير في كتابه «الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل – تحليل تاريخي وديني لوضعه في العالم المعاصر» بيرن وميونيخ، ١٩٦٠م، ص٧٣ وما بعدها.
٤  يقصد أن الخطوط الجغرافية الحالية ليست هي الخطوط الحقيقية التي تحددها في رأيه الأديان والحضارات.
٥  لم يذكر الأستاذ شتيبات اسم هذا الزميل وعنوان كتابه لا في المتن ولا في الهامش.
٦  Hans Kung, Global Responsibility – in search of a New World Ethic, London, 1991, 54 F.
هانز كينج، المسئولية الكوكبية. في البحث عن أخلاق عالمية جديدة، لندن، ١٩٩١م، ص٥٤ وبعدها.
٧  نُشر كتاب كينج الأول عن هذا الموضوع للمرة الأولى باللغة الألمانية تحت عنوان «مشروع الأخلاق العالمية» Projekt Weltethos في ميونيخ وزيوريخ عام ١٩٩٠م. أما الطبعة الإنجليزية للكتاب فقد سبق ذكرها في الهامش رقم (٥). وقد سمعت عن قرب صدور طبعة عربية في بيروت. أما عن إعلان برلمان الأديان العالمية فقد نشره هانز كينج بالاشتراك مع كارل-يوزيف كوشيل بالإنجليزية تحت عنوان أخلاق عالمية a global Ethic، لندن، ١٩٩٣م.
٨  أشير هنا إلى بحث قدمته لحلقة بحث مشتركة مع محمد أركون ونُشر في مجلة «شئون عربية» Arabica العدد ٣٦، ١٩٨٩م، ص١٦٣–١٧٢ تحت عنوان «خليفة الله»، قراءات عن صورة الإنسان في الإسلام. وتجد عرضًا لهذا البحث على الصفحات التالية.
٩  فريتس شتيبات: الإيمان يعطي الأصل في النجاة: مناقشات معاصرة في كتابات إسلامية رائجة، نُشر في كتاب «أمشاج» في تكريم الأستاذ والمفكر اللبناني فريد جبر، بيروت، ١٩٨٩م (منشورات الجامعة اللبنانية، قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية)، المجلد ٢٠، ص٢٤١–٢٤٨ وتجد عرضًا لهذا البحث في الفصل الخامس من هذا الكتاب.
Fritz Steppat, faith gives hope of salvation: contemporary Discussions in popular Muslim writings, in: Melanges en Hommage au professeur et au Penseur Libanais Farid Jabre, Beyrouth, 1989, Publications de L’université Libanaise, Vol 20, P. 241–48.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤