الفصل الثالث

عشر قضايا عن الأصولية الإسلامية

(١٩٩١م)

«إذا اعتبرنا أن الأصولية الإسلامية هي ردُّ فعل لموقف تاريخي محدد، فلا يجوز أن نتوقع لها أن تفقد أهميتها وتأثيرها قبل أن يتغير الموقف تغيرًا جذريًّا.»

شتيبات
يلاحَظ منذ وقت غير بعيد أن الحركات الأصولية قد استفادت أكثر من غيرها من مناخ الديموقراطية الذي أخذ ينتشر في بعض البلاد الإسلامية ويقطع خطوات طيبة إلى الأمام. وهذه الظاهرة تُلزمنا بأن نتدبرها ونفكر في المواقف التي ينبغي علينا أن نتخذها منها:
  • (١)
    إن «الأصولية» لا توجد في الإسلام وحده، وإنما هي موجودة في غيره من الديانات والأيديولوجيات. وتندرج تحت هذا المصطلح حركات متفرقة تجمع بينها الاتجاهات الثلاثة التالية:
    • (أ)

      الشمولية: وهي مفهوم مأخوذ عن الكاثوليكية، وتعبر عن وجهة النظر التي تقول بأن جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة الخاصة والعامة تتوافر الإجابات عنها في العقيدة أو بالأحرى في تعاليم الدين أو الأيديولوجية.

    • (ب)

      النصوصية: أي الرأي القائل بأن النصوص المقدسة ينبغي ألَّا تُمس، وينبغي أن تُفهم فهمًا حرفيًّا أو لفظيًّا.

    • (جـ)

      الانحياز المطلق: أي رفض أي مناقشة للمبادئ التي يعتنقها الأصولي والتعصب تجاه أي وجهة نظر أخرى مخالفة.

  • (٢)

    إن الإسلام، كظاهرة تاريخية، ليس بحكم طبيعته أصوليًّا على الإطلاق؛ صحيحٌ أنه ديانة ذات شريعة ويقدم للإنسان التعاليم التي توجه حياته بأكملها، ولكنه كان يضطر على الدوام للدخول في حوار مع الواقع التاريخي، ونصوصه المقدسة — وهي القرآن الكريم والسنة المشرَّفة — قد احتاجت على الدوام إلى التفسير. ومن أجل ذلك طوَّرت الشريعة الإسلامية عددًا من القواعد التي تتسم بمرونة شديدة، وذلك مثل الضرورات تبيح المحظورات، والتعاليم الشرعية تتغير بتغير الزمن، مع التأكيد المستمر بأن الشرع يجب أن يكون في خدمة المصلحة العامة، إلى جانب صياغة مجموعة كبيرة من «مقاصد الشرع»: كحماية الحياة، والعقل، والذرية، والملكية. وهكذا سمح الإسلام، في كل العصور، بالتفكير في مبادئه تفكيرًا عقلانيًّا مع وضع الواقع دائمًا موضع الاعتبار.

  • (٣)
    إن الأصولية تنشأ في وضع تاريخي محدد، وقد قام الأستاذ مارتن ريزنبروت، المتخصص في علم الاجتماع الديني، ببحث مقارن بين الأصولية المسيحية والأصولية الإسلامية، توصل منه إلى هذه النتيجة: «إن الفكر الأصولي يعبر عن تجربة عميقة بالأزمة، وهو يرى أن سبب الأزمة التي يمرُّ بها المجتمع هو الانحراف عن المبادئ الخالدة التي نزل بها الوحي الإلهي ودوِّنت في الكتب المقدسة وتحققت بالفعل في جماعة مثالية. والطريق الوحيد للخلاص من الأزمة الراهنة هو الرجوع إلى هذه المبادئ والتعاليم الإلهية.» ولا شك أن ما جاء في العبارات السابقة ينطبق تمامًا على الأصولية الإسلامية.١
  • (٤)

    لم تكن ردود فعل المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث على تفوق الغرب وأطماعه التسلطية، في كل الأحوال، ردود فعل ذات طابع أصولي؛ فقد بذلت معظم المجتمعات الإسلامية جهودًا متصلة لمواجهة هذه التحديات، وما زالت تبذل مثل هذه الجهود. ولم تبدأ الجماعات الأصولية في القيام بدور مؤثر إلا في القرن العشرين، كما لم تظهر على الساحة ظهورًا بارزًا إلا منذ منتصف القرن العشرين. ويترتب على ذلك ضرورة البحث عن أسباب الأزمة التي يشعر بها المسلمون الآن شعورًا واعيًا.

  • (٥)
    إن الشعور الحالي بالأزمة عند المسلمين قد نجم عن مجموعة من الإحباطات التي فجرته وغذَّته، وسوف نجملها في العناصر التالية:
    • (أ)

      محاولات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي بقيت حتى الآن قاصرة وعاجزة. فقد ظهر أن الاندماج في السوق العالمية لم يجلب معه غير الإضرار بالسوق المحلية، والاقتصاد القومي لم يستطع أن يتغلب على حالة التخلف، والإنتاج القومي لا ينمو نموًّا كافيًا ولا يوزع توزيعًا عادلًا، والشباب يكاد لا يرى في الأفق أي أمل في حياة طيبة ووجود جدير بكرامة الإنسان.

    • (ب)

      السخط على الحكومات المسئولة عن تعثر مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعن حرمان الشعب من المشاركة في القرارات السياسية المهمة، وفي تبادل السلطة أو السماح له بذلك في أضيق الحدود. ولا بد أن نقرر، بغير الدخول في موضوع التقاليد الديموقراطية وتاريخها في البلاد الإسلامية، أن الشعوب في هذه البلاد تشعر اليوم بأن الخضوع لهذه الحكومات الفاشلة يمثل عبئًا ثقيلًا عليها، وأنها لا تكف عن التطلع إلى المشاركة في تحديد مصيرها.

    • (جـ)

      النظام العالمي الظالم: لقد روَّجت القوى الغربية التي تهيمن على العالم لعدد من القيم والمثل العليا، مثل حق الشعوب في تقرير مصيرها، والشرعية التي يقوم على أساسها النظام العالمي الجديد. غير أن الواقع يدل على أن هذه القوى لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الأنانية، وأنها تلجأ عند تطبيق هذه المثل إلى معايير مزدوجة تضرُّ بمصالح الشعوب الإسلامية والعربية. والدليل الواضح على ذلك هو موقفها من مشكلة الصراع في الشرق الأدنى، أو مشكلة الصراع بين العرب وإسرائيل، ولو أمكن التوصل إلى حل لهذا الصراع لكان ذلك الحل بداية تحول نفسي عام.

    ولا مراء في أن المآسي التي عاناها مسلمو البوسنة تقدم دليلًا جديدًا على أن العالم يعامل المعتنقين للإسلام معاملة ظالمة.

  • (٦)

    إن عناصر الإحباط الثلاثة السابقة ليس لها أدنى علاقة مباشرة بالدين. فجو اليأس والقنوط الذي تخلفه يؤثر في المسيحيين العرب تأثيره في المسلمين سواءً بسواء. ولكن من الطبيعي أن يعبر المسلمون عن ردود أفعالهم من خلال المفاهيم المألوفة لديهم والمستمدة من ديانتهم.

  • (٧)
    لا يمكن الحديث عن حركة متجانسة للأصولية الإسلامية. فالواقع أن هناك اتجاهات وتنظيمات عديدة تكمن وراءها دوافع مختلفة بحيث نستطيع أن نميز بينها ثلاثة اتجاهات رئيسية:
    • (أ)

      فالمتطرفون بشكل مطلق يطالبون بنظام إسلامي لإنقاذ العالم. وهم يرفعون شعار التكفير والهجرة ليعلنوا أن المخالفين لهم في الرأي ملحدون، وجميع الدول الراهنة في رأيهم «كافرة»، لأنها جميعًا لا تطبق شرع الله. وينبغي، في نظرهم، على جميع المؤمنين أن يوحدوا صفوفهم في جماعة نشطة ويقضوا على الكفر عن طريق «الجهاد» أو الحرب المقدسة. وقد قامت هذه الجماعة في سنة ١٩٨١م باغتيال الرئيس المصري أنور السادات. والواقع أن هذا الاتجاه المتطرف ليس له أنصار كثيرون، كما أن الآراء ووجهات النظر التي يتبناها مرفوضة من جانب عدد كبير من المسلمين ذوي التفكير الأصولي. ومع ذلك فإن جرأتهم وصراحتهم تضمنان لهم قدرًا من الاهتمام والتأثير الذي يتخطى الدائرة المحدودة لأعضائهم العاملين.

    • (ب)

      والاتجاه الثاني يمثله المطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية، فهذا هو الاسم المشترك الذي يطلق على عدد كبير من جماعات الأصوليين وأنصارهم الذين لا يرتبطون في الحقيقة بأيديولوجية واضحة وموحدة. إن الشريعة، في نظرهم، هي التي توفر للمؤمنين نظامًا ثابتًا ومحددًا يهديهم إلى الحق في مواجهة المشكلات الحاضرة؛ لأنها نظام نابع من مصادر إلهية، ولا يشغل أصحاب هذا الاتجاه أنفسهم كثيرًا بأن النصوص المقدسة كانت تحتاج دائمًا إلى التفسير، كما أنهم يرفضون المناقشات المتحذلقة للفقهاء المتقدمين. ومع ذلك فقد تشتعل المجادلات العنيفة في بعض الأحيان حول ماهية الحل الإسلامي الصحيح. ويتفق جمهور الأصوليين في إحساسهم المشترك بأن الإسلام مهدد من الأعداء الذين يريدون القضاء عليه. ومن هؤلاء الأعداء اليهود والمسيحيون (على الرغم من أن هؤلاء يُعتبرون من أهل الكتاب، ومِن ثَمَّ فهم قريبون من الإسلام بحكم انتمائهم لديانة سماوية منزَّلة) ومنهم كذلك الشيوعيون، وأحيانًا الرأسماليون، والعلمانيون، بل إنهم يضعون الوطنيين أيضًا في صفوف الأعداء.

    • (جـ)

      أما الاتجاه الأصولي الثالث، فيمثله أولئك الذين يمكن تسميتهم بالباحثين عن الهوية. وهم لا يعتبرون مخالفيهم في الرأي من الأعداء لمجرد أنهم قد تنكبوا طريق الله، بل لأنهم يطالبون بالتبعية العقلية والحضارية للغرب.

    وفي غمرة الشعور القاهر بضرورة التكيف مع نظام عالمي تهيمن عليه المجتمعات الصناعية الحديثة الغريبة عنهم، نجدهم يحسُّون بالحاجة الشديدة إلى نظام خاصٍّ بهم، يميِّزهم عن كل ما هو أجنبي، ويمدُّهم بالقدرة على تأكيد ذواتهم، وتشتد هذه الحاجة ويزداد هذا الإحساس لدى المسلمين الذين تضطرهم ظروف حياتهم للحياة بعيدًا عن أوطانهم ووسط مجتمعات أجنبية، ولهذا ليس من المستغرب أن ينضم الكثيرون من هؤلاء المسلمين إلى صفوف الحركات الأصولية.

  • (٨)

    إن الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم. بل العكس من ذلك هو الصحيح: فالكثير من المسلمين يشعرون في عالمنا الحاضر بأنهم مهددون. ربما يتسبب هذا الشعور في ظهور بعض الاتجاهات اللاعقلية أو التصرفات العدوانية. ولكننا إذا اعتبرنا أن الأصولية الإسلامية هي ردُّ فعل لموقف تاريخي محدد، فلا يجوز أن نتوقع لها أن تفقد أهميتها وتأثيرها قبل أن يتغير الموقف تغيُّرًا جذريًّا.

  • (٩)
    إذا انسقنا تحت تأثير ظواهر الأصولية الإسلامية إلى رسم صورة الإسلام كعدو لنا؛ فسوف تترتب على ذلك ثلاث نتائج وخيمة العواقب:
    • (أ)

      إن هذه الصورة ستحول بيننا وبين البحث في الأسباب التي أدت إلى الأصولية الإسلامية وتدبر الوسائل التي تساعدنا على استبعاد هذه الأسباب.

    • (ب)

      وإذا روَّجنا هذه الصورة عن الإسلام كعدو فسوف يؤكد ذلك شعور المسلمين بأنهم محاطون بقوى معادية تتربص بالإسلام وتسعى للقضاء عليه. إننا بذلك ندفع المسلمين دفعًا إلى الأصولية.

    • (جـ)

      إن تصوير الإسلام في صورة العدو سيكون بطبيعة الحال أشبه بصب مياه جديدة في طواحين العداء للأجانب الذي تقاسي منه مجتمعاتنا.

  • (١٠)

    إن أهم شيء يجب علينا أن نراعيه في تعاملنا مع الأصوليين الإسلاميين هو أن نتفهم الدوافع التي تحركهم تفهُّمًا عميقًا، وأن نبيِّن للمسلمين بوجه عام أننا نريد أن نفهمهم، لا أن نحاربهم.

١  مارتن ريزنبروت. الأصولية كحركة احتجاج أبوية، توبنجن، ١٩٩٠م، ص١٩.
Martin Riesenbrodt: Fundamentalismus als Patriarchalische Protestbewegung T ubingen, 1990, 19.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤