الفصل التاسع

الدور السياسي للإسلام

(١٩٨٣م)

«لن ينصف الإسلام من يزعم أنه يطالب المؤمنين بمثل هذا الخضوع الأعمى.»

شتيبات

إن الحركة الإسلامية الكبيرة في هذه الأيام، وأقصد بها الموجة التي يُطلق عليها اسم «البعث أو الإحياء الإسلامي» أو «الصحوة الإسلامية»، تتكون في حقيقة الأمر من مجموعة متنوعة من الحركات الفردية التي تحددها الظروف المختلفة في البلاد الإسلامية. وليس من شكٍّ في أن العنصر الإسلامي الكامن في هذه الحركات، بل المصطلح الذي تعبر به عن أفكارها وأهدافها، يمثل بعض السمات المشتركة بينها، ومن أبرز هذه السمات ذلك الشعور المتجدد بالتضامن أو التكافل الإسلامي الذي يجمع بينها. ومع ذلك فلو نظرنا نظرة أعمق، لوجدنا أنها تشترك أيضًا في عنصر أهم وأخطر، يتجاوز دائرة الشعوب الإسلامية ليشمل الشعوب النامية، وذلك هو الموقف التاريخي العام لكل الشعوب التي ما زالت متخلفة بالقياس إلى الأمم الصناعية الحديثة، وما زالت تجد نفسها معتمدة عليها وتابعة لها، وإن كانت تسعى اليوم بكل السبل للتحرر من هذه التبعية.

ولست في حاجة للحديث عن الأسباب التي عملت على ظهور هذا الموقف: كيف وضعت الدول الأوروبية، وتبعتها بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، بقية دول الأرض تحت سيطرتها الاقتصادية والحضارية، وكيف أحكمت هذه السيطرة بعد ذلك بفرض هيمنتها السياسية على معظم هذه الشعوب. ويجب أن نكون على وعي تام بأن هذه السيطرة السياسية الأجنبية على معظم أجزاء الأرض لم تنتهِ إلا منذ وقت قصير نسبيًّا، وأن التخلف الاقتصادي والحضاري، الذي يعني التبعية، لم يزل قائمًا كما كان، بل لم يزل من الصعب أن نتبيَّن معالم الطرق التي يمكن أن تؤدي إلى تجاوز ذلك التخلُّف وتلك التبعية.

والواقع أن الشعوب المقصودة على وعي كامل بهذا الموقف، ويرجع هذا إلى أن معظمها لم يتخلص من السيطرة السياسية الأجنبية إلا منذ عهد قريب، ومن الطبيعي أن تتفاوت الأشكال التي يظهر بها هذا الوعي وأن تختلف من شعب إلى شعب.

لننظر، على سبيل المثال، إلى الشعوب العربية، فقد تصورت، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنها قد وجدت الطريق إلى الاستقلال الحقيقي في القومية العربية الشاملة تحت زعامة جمال عبد الناصر. ولكن خيبة الأمل سرعان ما نشرت ظلالها الكئيبة بعد حقبة غمرتها فيها نشوة وطنية عارمة. إن دولة إسرائيل، وهي جسم غريب زُرع في المنطقة العربية (وقد كان ولا يزال هو أقوى حافز لتحقيق القومية العربية) لا تزال قائمة، ولا يبدو في الأفق أي فرصة واقعية للخلاص منها وتجنب خطرها. بل إن الجبهة العربية الموحَّدة ضد إسرائيل قد تمزقت بعد خروج مصر منها.١ أضف إلى هذا أن الوحدة العربية قد أصبحت اليوم في وضع أكثر إشكالية من أي وقت مضى، كما أن حركة المقاومة الفلسطينية — التي استطاعت بغير شكٍّ أن تحافظ على طموحات الشعب الفلسطيني — قد عجزت عن تحقيق الأمل أن تكون نواة تجديد شامل للكيان العربي. وأما حزب البعث العربي — الذي كان مهيأً قبل غيره من الأحزاب لتولي زمام حركة القومية العربية بعد وفاة عبد الناصر — فهو عاجز حتى عن تحقيق الوحدة بين القطرين اللذين يحكمهما وهما سوريا والعراق. ووصلت الأزمة في لبنان إلى حدِّ نشوب حرب أهلية طاحنة لم تطفأ نيرانها إلى اليوم.٢ وها هي الصراعات العربية تشتعل في الشمال الأفريقي حول الصحراء الغربية، كما تتفجر الخلافات بين تونس وليبيا.

ويرجع جزء من هذه الظواهر المقلقة، في علاقات بعض الدول العربية ببعضها، بصورة مباشرة للتأثيرات الأجنبية، ولكن من الواضح أن جزءًا كبيرًا منها (أي من تلك الظواهر المقلقة) قد نجم عن تعثر خطوات التنمية والتقدم داخل تلك المجتمعات، وإن كانت أسباب ذلك غير مقطوعة الصلة بالتبعية للقوى الأجنبية. ويصدق هذا أيضًا على التطورات السياسية والاجتماعية في تلك الدول. صحيح أن معظم البلاد العربية قد مرَّت بفترات ليبرالية تحكمت فيها قوانين السوق الحرة في الاقتصاد، وعرفت فيها الحياة السياسية النظام البرلماني والنظم الحزبية. ولكن الاقتصاد الليبرالي أدى إلى تفاقم حدَّة الفروق الاجتماعية، والنظام البرلماني أثبت فشله وعجزه عن توجيه خطط التنمية ومشروعات التطوير لمصلحة المجتمع بأكمله، وكانت نتيجة ذلك أن حلَّت محلَّ النظم الليبرالية نظم عسكرية ارتكزت على نظام الحزب الواحد وتبنَّى معظمها الأهداف الاشتراكية، ومع ذلك بقيت النجاحات الاقتصادية لهذه النظم موضع شكٍّ من جوانب كثيرة، كما أنها عجزت عن التغلب بصورة فعالة على الفروق الاجتماعية، وذلك فضلًا عن تولُّد الانطباع بأن تلك النظم العسكرية مرتبطة ارتباطًا شديدًا بسيطرة البيروقراطية، وقمع الحريات المدنية، والإجراءات البوليسية المخيفة. ويبدو اليوم أن ذكرى تلك الوصمات ما زالت تجثم بثقلها على عهد عبد الناصر الذي يمثل ذروة القومية العربية. وما دمنا نواصل الكلام عن الحالة في مصر، فيمكن القول إن نظام أنور السادات — الذي يحاول أن يجمع بين السلطوية والليبرالية — لا يمثل بديلًا مقنعًا عن النظام الناصري.

والواقع أن هذه الأحكام السلبية عن التاريخ المعاصر للبلاد العربية لم تأتِ نتيجة تحليل موضوعي يمكن أن يكون أكثر دقة وتفصيلًا. فهي تكتفي بتقديم فكرة موجزة عن الوعي العام لدى العرب، وتستند هذه الفكرة إلى الشواهد العديدة المستمدة من الأدب والصحافة، ومنها ذلك الحوار المستفيض الذي دار في الفترة الأخيرة عن «ربع قرن من حركة التحرر العربي» منذ استيلاء الضباط المصريين على دفة الحكم في سنة ١٩٥٢م.٣

ولا يختلف عن ذلك حال البلاد الإسلامية الأخرى التي سادها مثل هذا الوعي العام الذي وصفناه. صحيح أن عناصر هذا الوعي قد تشكلت بصورة أخرى، ولكنها بقيت في مجموعها قائمة. لقد بدأ العصر الحديث في تركيا تحت ظل الروح الكمالية (نسبة إلى الثورة العلمانية لمصطفى كمال أتاتورك) باقتصاد الدولة وحزب الدولة. ثم ما لبثت أن أعقبتها حقبة تبادلت فيها الأحزاب الرأسمالية والأحزاب الاجتماعية الديموقراطية مقاليد السلطة تحت رقابة العسكريين، وذلك دون أن تنجح في حل مشكلات التنمية حلًّا مرضيًا. وكان من نصيب المبادرات الأولى لبناء نظم برلمانية في إيران أن تقضي عليها الحكومات الملكية المستبدة التي فشلت سياسات التحديث التي شرعت فيها — وكان من الممكن بفضل الدخول الضخمة من بيع النفط أن تحقق تقدمًا ملحوظًا — فشلًا ذريعًا في التأثير في جماهير الشعب العريضة وتحسين أوضاعها.

والواقع أن خيبة الأمل المريرة — التي يسهل أن تتحول إلى التمرد والثورة — لم توجه في الأساس إلى التحديث في ذاته، بل إلى نوع من التحديث الذي لم يجلب على الناس نفعًا ولم يشعرهم بأي تقدم ملموس، وإنما جلب عليهم الضرر الشديد وزاد من إحساسهم بالضياع. ويرتبط بخيبة الأمل في مثل ذلك النوع من التحديث الفاشل والثورة عليه شعور بالتمرد والاحتجاج على مصادره والممثلين له، أي على القوى الصناعية الغربية التي لم تكتفِ بجعل الشعوب الأخرى تابعة لها، بل إن مخترعاتها، وأفكارها، وخططها في التنمية قد جرَّت عليهم الشقاء والتعاسة. ويقترن بهذا شعور آخر بالتمرد والاحتجاج على الطبقات «المتغربة» داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها، وهي الطبقات التي سعت — سواء بحسن نية أو مدفوعة بأطماع أنانية — إلى إدخال تلك المخترعات والأفكار والخطط إلى بلادها وإغراء الشعوب بتبنيها.

ومن الطبيعي — إزاء تلك التبعية للقوى الأجنبية وخيبة الأمل في التصورات والأفكار الأجنبية — أن يتوجه الناس إلى المألوف لديهم، ويستمدوا القوة من منابعهم، ويلتمسوا «السند» في ما هو خاص بهم — وذلك على نحو ما عبر المستشرق فالتر براونه في كتابه عن الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل.٤ هذا المألوف وهذا السند الخاص — بالنسبة للشعوب الإسلامية — هو الدين الإسلامي.

وليس هذا شيئًا جديدًا على الجماهير العريضة؛ إذ كان الإسلام دائمًا هو العلامة الأساسية المميزة لهويتها الجماعية، وكان الانتماء للجماعات الدنيوية الأخرى، كالوطن أو الطبقة، أمرًا ثانويًّا يضاف للانتماء الإسلامي. أما الشعوب التي لا توجد بها أقليات دينية تستحق الذكر، فيلتقي عندها الوعي الوطني والهوية الدينية في وحدة واحدة، ويصدق هذا أيضًا على الوعي الطبقي، خصوصًا عندما تبدو الطبقات العالية متغرِّبة ومنبتة عن الإسلام. وتنشأ الصراعات بين الهويات المختلفة عندما يعلن أبناء الديانات الأخرى انتماءهم الصريح للوطن أو للطبقة، ولكن هذه الصراعات ظلت تكبت بوجه عام، بحيث لا يتم حسمها بوضوح ولا توجيهها وجهة جديدة.

وتختلف الظروف عن ذلك بالنسبة للمثقفين؛ إذ تميل هذه الفئة بحكم طبيعتها للتأمل في إشكالية التطورات الحديثة. لذلك سرعان ما أدرك المثقفون ضرورة التعلم من الأجانب المتفوقين والتكيف مع نظامهم العالمي الجديد ولو في حدود معينة، بينما أحسوا في الوقت نفسه بالحاجة الشديدة للجوء إلى «السند الخاص». وقد أدى الوعي بهذه المعضلة إلى مناقشات وخلافات في الرأي يمكن أن نميز فيها أربعة اتجاهات رئيسية،٥ وإن لم يكن من المستطاع الفصل بينها في الحالات الفردية فصلًا قاطعًا:
  • (١)

    الاتجاه الأول هو اتجاه أصحاب «النزعة التراثية» أو النزعة التقليدية الذين يسعون بكل ما في وسعهم للحفاظ على النتائج التي توصل إليها العصر الوسيط الإسلامي، وهذا الموقف المحبب إلى أصحاب التدين الفطري من أبناء الطبقات الشعبية العريضة يمثله علماء الدين بصور متفاوتة في فاعليتها. وهذه الفئة التي شغل أصحابها مراكز مرموقة وقوية التأثير في المجتمع التقليدي، تجد نفسها في الوقت الحاضر وقد زحزحت عن أماكنها، ويكفي لكي نفهم موقفها أن نفكر في النظام القانوني والقضائي وفي نظام التعليم. والواقع أن كل ما يهم هذه الفئة هو استعادة تأثيرها القديم.

  • (٢)

    أصحاب «النزعة الأصولية»، وينبغي أن نفرق بين أصحاب هذه النزعة وبين الممثلين للنزعة السابقة (التراثية أو التقليدية)؛ لأن الأصوليين بوجه عام ينفرون من علماء الدين التقليديين، بل ويحملونهم إلى حدٍّ كبير مسئولية الأوضاع المتردية للمسلمين. ويرجع السبب في هذا إلى أن الأصوليين يرفضون التاريخ (الإسلامي) الوسيط، ويرون أنه يمثل عملية تدهور مستمر للإسلام. ولهذا يدعون للرجوع إلى «الإسلام الأصلي» كما بلَّغ النبيُّ (عليه الصلاة والسلام) رسالته وأدَّى أمانته وحققه في عهده. ولما كانت الأصولية تعد الناس بتغييرات حاسمة، فقد عملت في أحيان كثيرة على تكوين منظمات نشطة وحركات شعبية ذات تأثير واسع. ويتميز الاتجاه الأصولي بتقديره لدور التعليم الحديث، ولذلك نجد بين أنصاره عددًا كبيرًا من المهندسين والأطباء والضباط والمعلمين … إلخ، وقبل كل شيء من طلاب الجامعات الحديثة.

  • (٣)

    أصحاب الاتجاه «الحداثي» يتفقون مع أصحاب الاتجاه الأصولي السابق في رفض التاريخ الإسلامي الوسيط، ولكنهم لا يرفضونه رغبة منهم في إحياء «الإسلام الأصلي» والرجوع إليه، بل للتحرر من عبئه التاريخي الضخم، ومحاولة تحقيق مبادئ الإسلام المتعالية على التاريخ في العصر الحاضر. ويكافح أفضل ممثلي الاتجاه الحداثي لتفسير الإسلام تفسيرًا جديدًا ونابعًا من المعارف المكتسبة في العصر الحاضر ومن حاجاته الملحة. لا شك في أن هذه مهمة صعبة، وأنها تقابَل في كثير من الأحيان بالسخط والنفور من جانب الشعب. ويكتفي بعض السطحيين من الحداثيين بنوع من التنوير الرومانسي للإسلام، فيؤكدون — بنبرة دفاعية — أن الإسلام ينطوي منذ نشأته على العقلانية، والعلم الحديث، والديموقراطية، والاشتراكية … إلخ، بحيث لا يحتاج المسلمون إلا لإحياء هذه العناصر الكامنة في دينهم وبعث النشاط فيها لكي يثبتوا وجودهم في العالم.

  • (٤)

    وهناك عدد لا يستهان به من المثقفين المسلمين الذين يتبنون «الاتجاه العلماني» ويؤمنون بأن على الإنسان في العالم الحديث أن يهتدي في كثير من مجالات العمل والحياة بالأطر الدنيوية والعلمانية، ويرى عدد كبير من العلمانيين ألا تناقض بين الدعوة لهذا الاتجاه وبين إيمانهم الشخصي بالإسلام، فهم يفصلون مجال الدين عن مجال العلم والعالم، على نحو ما تعلمنا، نحن المسيحيين، أن نفعل منذ زمن طويل. ولكن من الطبيعي أن نجد بين العلمانيين من لا يعنيهم الدين في شيء، أو من يرفضونه وينكرونه تمامًا.

إن العلمانيين والحداثيين يبذلون جهودهم لتقديم أفكار وتصورات تؤدي إلى التماهي مع الجماعات العلمانية كالوطن والطبقة. ولكن المثقفين والسياسيين من أصحاب الاتجاهين السابقين قد أصبحوا اليوم ضحايا خيبة الأمل الكبيرة في النتائج التي تمخضت عنها التطورات الحديثة، ولذلك يُتهمون — باعتبارهم يمثلون النخب المثقفة ثقافة غربية — بتحمل قدر كبير من الذنب أو من المسئولية عما حدث من فشل أو تراجع وانتكاس. ولهذا يميل اليوم عدد كبير من ممثلي هذه النخب إلى مداراة العناصر العلمانية في أفكارهم ومشروعاتهم وتأكيد العناصر الإسلامية بصورة متزايدة، إما كإجراء «تكتيكي»، وإما عن اقتناع بضرورة الاقتراب من الجماهير وبأن لا سبيل لتحقيق أي تقدم ملموس إلا بالوقوف مع الشعب لا ضده، وإما، أخيرًا، بسبب شعورهم أيضًا بخيبة الأمل الكبيرة فيما أسفرت عنه التطورات الحديثة من نتائج، ومحاولتهم البحث عن طريق أو توجه جديد، والواقع أن المشاركة المتزايدة للنخب الحديثة تمثل العنصر الجديد بحق في الحركات الإسلامية المعاصرة كما تضفي عليها دون شك قدرًا كبيرًا من النشاط والفاعلية.

إن اتخاذ مواقف مؤيدة لسياسة إسلامية أمر يتفق مع التصور التقليدي بأن الدين والسياسة في الإسلام لا ينفصلان. والواقع أن الجماعة الإسلامية لم تكن منذ البداية — أي منذ هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة في عام ٦٢٢م الذي يبدأ به التاريخ الهجري — جماعة دينية وحسب، وإنما كانت دولة كذلك (على العكس من المسيحية التي لم تصبح ديانة للدولة إلا بعد ثلاثة قرون ونصف القرن من نشأتها). ولكن كيف يكون شكل الدولة الإسلامية؟ إن المصادر الأولى للدين الإسلامي لا تقول إلا القليل في الإجابة عن هذا السؤال. أما القرآن الكريم فلا نجد فيه إلا الأمر الإلهي بطاعة أولي الأمر العادلين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (سورة النساء: الآية ٥٩)، وكذلك الأمر الإلهي بأن يتشاور المؤمنون فيما بينهم: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (سورة آل عمران: الآية ١٥٩)، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (الآية الكريمة ٣٨ من سورة الشورى) والمؤسسات «الحكومية» التي أوجدها الرسول، عليه الصلاة والسلام، في أثناء حياته مرتبطة أشد الارتباط بالظروف التاريخية بحيث لا يمكن — إلا بصورة عامة جدًّا — أن تكون نموذجًا لدستور دولة حديثة. لذلك فلا مفرَّ من أن تكون الإجابة عن السؤال عن شكل الدولة الإسلامية في العصر الحاضر من شأن الناس أنفسهم. والحركة الإسلامية نفسها هي وحدها التي يمكنها تقديم الجواب لمن يسألها عن أهدافها. ولكن سيتضح لمن يطرح السؤال — كما سبق القول — أنه لا توجد حركة واحدة بل عدة حركات.

بيد أن هناك نقطة واحدة يبدو أن الإجماع ينعقد عليها، وهي أن مهمة الدولة الإسلامية هي تطبيق الشريعة. والواقع أن الشريعة ذات أهمية عظمى في الإسلام إلى حد أن التعريف التقليدي (أو الكلاسيكي) للمسلم هو أنه ذلك الإنسان الذي يتمسك بالشريعة الإسلامية. والشريعة تطمح إلى أن تكون شمولية، أي أن تنظم حياة الإنسان بأكملها، سواء في ذلك صلاته أو سلوكه في المجتمع. ويلاحظ من جهة أخرى أن الدول الحديثة في العالم الإسلامي قد عمدت — متأثرة في ذلك بالغرب — في مجالات قانونية كثيرة إلى إدخال قوانين معتمدة كل الاعتماد على نماذج غربية، ولا يستثنى من هذا سوى قوانين الأسرة والميراث (أي قوانين الأحوال الشخصية) التي بقيت في جوهرها قوانين إسلامية، وهكذا يعتبر الرجوع إلى الشريعة الإسلامية — بطموحها الشمولي — مشروعًا بالغ الضخامة والأهمية، ومع ذلك فمما ييسِّر الأمر أن الشريعة الإسلامية ليست نظامًا جامدًا، صحيح أن الله وحده هو المشرِّع، وأن التعاليم الشرعية التي نزل بها الوحي الإلهي في القرآن الكريم تعاليم أبدية ثابتة؛ ولكن المسلمين، وعلى الرغم من ذلك، سرعان ما وجدوا أنفسهم مضطرين بحكم الضرورة للتوسع في هذه التعاليم، وذلك عن طريق الاقتداء بالسلوك الأمثل للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن خلال الإجماع واللجوء، في كثير من الحالات، إلى قياس الشبيه. وبذلك أحسوا بالحاجة الشديدة إلى الاجتهاد في تفسير التعاليم التي جاء بها القرآن الكريم، ووجدوا الطرق والوسائل التي تعينهم على ذلك.

لنأخذ، على سبيل المثال، مسألة قطع اليد عقابًا للسارق. فالآية الكريمة تقول بوضوح: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة المائدة: ٣٨) ولكن علماء الشريعة حددوا مجموعة من الشروط التي تجعل تنفيذ تلك العقوبة القاسية أمرًا عسيرًا. وهم يرجعون في ذلك — فيما يرجعون إليه — إلى قول الخليفة عمر بن الخطاب (وهو الرمز المجسِّد للعدالة الإسلامية) بألا تقطع يد في مجاعة، ثم يستخلصون القاعدة العامة التي تنص على إعفاء المحتاج من تلك العقوبة.٦

والمثل السابق يلقي الضوء على المستوى الرفيع لعلم الشريعة في الإسلام، وعلى قدرته الفائقة على أخذ الظروف الفردية والاجتماعية الخاصة بعين الاعتبار، وقد أكَّد هذا العلم على مقاصد الشرع والمصلحة العامة وجعلهما معيارين مهمين لتفسير النصوص، كما وضع مبادئ قيمة، مثل مبدأ تغيير التعاليم الشرعية وفقًا لتغير العصور والأزمان، بما يعني وضع الشريعة في التاريخ أو الإقرار ﺑ «تاريخيتها». بذلك أصبح التوصل — على مستوى آخر لا يقل أهمية، ومع الإجماع الكامل من حيث المبدأ على ثبات الأسس القرآنية وعلوها على الزمن — إلى تشريعات خلَّاقة وشديدة التنوع أمرًا «ممكنًا» وضروريًّا، كما نشأت في الوقت نفسه مشكلة كبيرة تتعلق بتحديد أولئك الذين يملكون الكفاءة والصلاحية لإصدار مثل هذه التشريعات الخلَّاقة.

كان الحل التقليدي المألوف لهذه المشكلة هو إسناد هذه الصلاحية لعلماء الشرع. والإسلام لا يعرف نظام الكهانة، ولكنه يعرف العلماء الذين يملكون العلم المطلوب لتفسير الشرع، صحيح أنهم فقدوا إلى حد كبير تلك المكانة المرموقة التي حظوا بها على مر التاريخ، ولقد كانوا في بعض الأحيان يجندون علمهم لوضع حد لسلطة الحكام والتدخل بذلك في أمور السياسة، ولكنهم صاروا في العهود المتأخرة تابعين للحكام الذين استغلوهم لتأييد مصالحهم. وفي العصر الحديث، كما سبق القول أدَّت «علمنة» الحياة إلى انكماش تأثيرهم. ومع ذلك فما زال علماء الإسلام، في نظر الجماهير الشعبية العريضة التي تستمد هويتها من الإسلام، يتمتعون بقدر كبير من الهيبة والاحترام والتأثير الذي قد يستغل أحيانًا لأغراض سياسية.

مهما يكن الأمر فهناك دولة إسلامية واحدة قامت في إيران على أساس تلك الهيبة وذلك الاحترام. ويمكن تفسير هذا من خلال الظروف الخاصة السائدة هناك. فالاتجاه الشيعي المهيمن يتيح لعلماء الشريعة وضعًا أسمى بكثير من وضعهم في البلاد التي يسودها الاتجاه السني. والواقع أن السلطة العليا عند الشيعة يمثلها الإمام المعصوم الذي وهبه الله المعرفة العميقة بالمعاني الخفية للقرآن الكريم. وهذا الإمام المعصوم هو وحده الذي يمكنه أيضًا أن يتولى مقاليد الحكم لدولة شرعية. غير أن هذا الإمام الثاني عشر والأخير قد اختفى، في نظر المذهب الشيعي، ولن يعود مرة أخرى لكي يحكم الأرض إلا في آخر الزمان، وحتى يحين ذلك الوقت فلا يمكن، أولًا: أن توجد دولة شرعية كما يجب، ثانيًا: على المؤمنين أن يسترشدوا في سلوكهم بعلماء الشرع الذين ينوبون عن الإمام المعصوم، بل يجب على كل مؤمن أن يتبع أحد علماء الشرع الأحياء ويجعله مرجعه وحجته.

بذلك استطاع علماء الشيعة أن يحتلوا مكانة مرموقة، ويمارسوا تأثيرًا غير عادي. وقد استطاعوا أيضًا أن يحافظوا على تلك المكانة ويثبتوا ذلك التأثير بنجاحهم في الاستقلال عن الدولة القائمة التي اعتبروها — بصورة قبلية — دولة غير شرعية، وبتحصيلهم لضرائب خاصة بهم، ووضعهم كل ثروتهم تحت إشرافهم ورقابتهم. وهكذا أمكنهم — وهم في ذلك يمثلون الجماعة الوحيدة في الإسلام — أن يقيموا ما يشبه الكنيسة أو المؤسسة الدينية التي تحافظ على استقلالها في مواجهة الدولة.

ولما ازداد اغتراب الجماهير العريضة عن الدولة واتخذ صورًا عنيفة، تقدمت هذه «المؤسسة الدينية الشيعية» لقيادة الحركة الشعبية الثائرة على الدولة التي كان رئيسها الأعلى، وهو الشاه، يعدُّ عدوًّا ﻟ «الدين». ومن ناحية أخرى خرجت من بين صفوف علماء الدين شخصية زعيم مقنع هو آية الله الخميني الذي نجح نجاحًا مذهلًا في معارضته للشاه. وقد استطاع الخميني، من خلال وعيه برسالته، أن يصبغ التصور الشيعي عن مهمة علماء الشرع بصبغة جديدة. فلم تقتصر مهمة العلماء على إصدار التعليمات الشرعية، بل امتدت إلى تولي مهام الحكم. وقد عبر دستور الجمهورية الإسلامية في إيران عن هذا التصور الجديد تعبيرًا واضحًا في المادة الخامسة التي تقول:

«في زمن غياب الإمام المعصوم (أي الإمام الثاني عشر في ترتيب الأئمة المعصومين) — عجل الله تعالى بعودته — يعهد بسلطة الحكم في جمهورية إيران الإسلامية وبقيادة الجماعة لواحد من علماء الشرع يتصف بالعدل، وتقوى الله، والشجاعة، والحكمة والبصيرة، بحيث تعترف به الجماعة وتقبله زعيمًا لها. وإذا لم يوجد عالم شرعي توافق عليه الأغلبية، يتولى مهمته زعيم أو مجلس زعماء مكون من صفوة علماء الشرع، وذلك وفقًا للمادة ١٠٧ من الدستور.»

هكذا يكون عالم الشرع قد وصل إلى أعلى سلطة، وتولى رئاسة الدولة وأضفى عليها الشرعية التي كانت تفتقدها. والواقع أن التركيب الملفت للنظر لهذه الدولة يعتمد اعتمادًا مباشرًا على المذهب الشيعي — أو بالأحرى على صورة خاصة من هذا المذهب — ولكنه كذلك يضم الشعب الذي يتحتم أن يعترف بالزعيم الديني، حتى لو كان ذلك الاعتراف بشكل غير رسمي؛ إذ يقتصر إجراء الانتخاب للزعيم أو لمجلس الزعامة على الحالات المشكوك فيها. ويعدُّ صوت الشعب هنا بمثابة صوت الله، وتلك فكرة يبدو أنها تملكت وجدان آية الله خميني بحيث جعلته يهتم أعظم اهتمام بالانتخابات والمظاهرات الشعبية أو بالطلاب الذين قاموا باحتلال مبنى السفارة الأمريكية في طهران. وقد أثبت الدستور — في المادة ٥٦ — مبدأ السيادة الشعبية، وينتظر كذلك تشكيل نظام من المستشارين على المستوى المحلي والمستوى الوطني بحيث يشارك السكان في تنظيم الشئون العامة وفي رئاسة المجلس الوطني الذي يملك الحق في تشريع القوانين (وذلك حسب المادة ٧١). وإذا بدا هذا مناقضًا للمعتقد الإسلامي الذي يقرر أن الله وحده هو المشرِّع، فإن المشكلة تُحلُّ بوضع جميع القوانين التي أقرها المجلس الوطني أمام «مجلس مراقبين» مكوَّن من علماء الشرع الذين يفحصون هذه القوانين ويحكمون بمطابقتها للشرع أو مخالفتها له (المادة ٩١).

من الواضح أن تركيب الجمهورية الإسلامية لا يخلو من مشكلات. فماذا يحدث مثلًا لو اختلفت آراء أغلبية الأعضاء المنتخبين من الشعب عن آراء علماء الشرع؟

والمشكلة الأعقد من ذلك تأتي من تدخل الزعيم الديني تدخلًا «مباشرًا» في المسئولية السياسية؛ إذ يجب عليه — بحكم الدستور — أن يقرَّ تعيين رئيس الدولة بعد انتخابه من قبل الشعب وكذلك إعفاءه من منصبه، إذا اقتضت الضرورة، كما يجب عليه أيضًا أن يشغل أعلى المناصب التشريعية والعسكرية بل أن يتولى وظيفة القائد الأعلى للجيش (المادة ١١٠) وفي هذه النقطة بالذات لا يتوفر الإجماع بين علماء الشيعة. وقد جاءت أقوى الاعتراضات على أفكار آية الله خميني من جانب الزعيم الشيعي اللبناني محمد جواد مغنية. فهو يعتقد أن صلاحية العالم الشرعي — وذلك على العكس من الإمام المعصوم — تقتصر على أمور شرعية محددة تحديدًا دقيقًا، وليس لأي إنسان من سلطان على أي إنسان آخر فيما يتجاوز هذه الأمور. والواجب على المسلمين أن يتخذوا قراراتهم السياسية بأنفسهم، بشرط أن يتم ذلك بطبيعة الحال في إطار الشرع.٧ ويبدي آية الله شريعة مداري — وهو يمثل القطب الديني المعارض للخميني — آراء مشابهة لرأي الزعيم اللبناني — وإذا غضضنا الطرف عن المبررات الدينية لهذه الاعتراضات، أمكننا القول بأنها تنطلق من الخوف من أن يؤدي انخراط علماء الدين في الأحداث السياسية الجارية إلى ضياع هيبتهم وسلطتهم. والواقع أننا نلمس لدى الخميني نفسه ميلًا واضحًا «للاعتكاف بعيدًا عن القضايا والأحداث اليومية، وذلك على الرغم من إصراره على ترك الباب مفتوحًا» للتدخل بنفسه في أي وقت يشاء.

يتضح مما سبق أن الجمهورية الإسلامية تجمع بين العناصر التقليدية والأصولية والحداثية. وهي تمدُّ جذورها في الأفكار والتصورات الشيعية القديمة عن عدم شرعية الدولة الدنيوية وعن الوظيفة الأساسية لعلماء الشرع. ولكنها طورت تلك الأفكار والتصورات وأضافت إليها — ولو في حدود معينة — فكرة السيادة الشعبية، والتمثيل النيابي، والمشاركة الشعبية. ونحن لا نعثر على الخطوات التمهيدية لهذه الإضافات الجديدة إلا في الدستور الفارسي الذي يرجع لعام ١٩٠٦-١٩٠٧م، ويتضح من هذا الدستور الأخير أننا بصدد تصورات ليبرالية مأخوذة عن أصول غربية، بل إن هذا ليتضح أيضًا في الشكل الذي كتب به ذلك الدستور. وأيًّا كان الأمر فالمؤكد أننا أمام تطور إيراني — شيعي — من نوع خاص.

وقد يجدر بنا أن نتوقع وجود النموذج الأمثل للدولة الإسلامية في باكستان، وهو النموذج الذي انبثق عن رغبة مسلمي الهند في أن يحددوا مصيرهم في دولة خاصة بهم. ولكن يظهر هنا أيضًا للعيان مدى صعوبة الاتفاق على ماهية الدولة الإسلامية وما ينبغي أو ما يمكن أن تكون طبيعتها في ظل الظروف الواقعية الملموسة في عصرنا الحاضر. لقد نشأت الحركة الباكستانية في الفترة الزمنية الواقعة بين الحربين العالميتين كرد فعل على محاولات إضفاء الطابع الهندوسي على الروح الوطنية الهندية، أي على المحاولات المستمرة للتوحيد بين هذه الروح الوطنية وبين الديانة الهندوسية. ولقد خرجت الطليعة الداعية للحركة الباكستانية من صفوف الطبقة الوسطى المثقفة ثقافة غربية، وقد تصوروا أن الجماعة التي يمكن أن تضم جميع مسلمي الهند لا يمكن أن تتحقق أو أن يكتب لها البقاء إلا في إطار دولة وطنية حديثة، غير أن الجماعات الإسلامية الأخرى وقفت ضد هذا التصور واعتبرته شكلًا «من أشكال» العلمانية «ونوعًا» من التخلي عن التصور القديم للجماعة الإسلامية العالمية. وقد كان من بين أعضاء هذا الاتجاه المعارض مثقفون أصوليون وبعض علماء الدين التراثيين أو التقليديين الذين تخوفوا من أن تؤدي مثل هذه الدول الحديثة إلى إضعاف تأثيرهم وتهديد مكانتهم. واستمرت الخلافات والصراعات بين الطرفين دون أن يجري تجاوزها أبدًا. وتسببت هذه الصراعات في أن تغير باكستان حتى الآن ثلاثة دساتير، وأن تنشق بنجلاديش عنها، وأن لا تعرف الدولة الباكستانية المتبقية بعد ذلك الانشقاق أي شكل من أشكال الاستقرار.

إن التصورات السياسية للحداثيين — في باكستان وفي غيرها — تستحق وقفة تأمل عن كثب، لأنها تبيِّن — بصورة أوضح مما حدث في الجمهورية الإسلامية في إيران — أن الإيمان الثابت بالإسلام يتسق مع السيادة الشعبية والديموقراطية ولا يتعارض معهما. والواقع أن هؤلاء الحداثيين أو المحدثين ينطلقون من تصور عن الإنسان يقوم على أساس أن البشر جميعًا متساوون أمام الله سبحانه، كما يؤكد بالإضافة إلى ذلك — ووفقًا للآيتين الكريمتين اللتين سبق الحديث عنهما وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً … (إلى آخر الآية ٣٠ من سورة البقرة)، ووَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ … (إلى آخر الآية ١٦٥ من سورة الأنعام) — أن الله جلَّ شأنه قد جعل الإنسان خليفته أو نائبه على أرضه. يضاف إلى ذلك أيضًا فهم جديد لأحد مصادر التشريع القديمة الثابتة، وهو الإجماع، فلا يمكن أن يتسق مع الإيمان بعدالة الله أن يسمح سبحانه بأن يجتمع المسلمون على ضلال أو خطأ. ويترتب على هذا أن يكون التشريع الذي تجمع عليه عامة المسلمين جزءًا «من التشريع الإلهي»، وإذا بحثنا الأمر من منظور التصور التقليدي وجدنا أن مثل هذا الإجماع ينبغي من ناحية أن يتوصل إليه علماء الشرع وحدهم، وأنه من ناحية أخرى أبديٌّ ثابت مثله في ذلك مثل الشرع في مجموعه. ويعترض الحداثيون على هذين المبدأين فيفترضون أن كل إنسان يملك الحق والقدرة على المشاركة في تكوين الإجماع، وأن الإجماع نفسه محدد بزمن معيَّن، بحيث لا يكون على الأجيال المقبلة أن تتقيَّد به، بل ينبغي عليها أن تجد الإجماع الخاص بها. بذلك ينطبع الإجماع بالطابع التاريخي والديموقراطي، ومِن ثَمَّ تكون المؤسسة الكفيلة بتحقيق الإجماع هي البرلمان.

استطاع الحداثيون الباكستانيون في البداية ومن حيث المبدأ أن يروِّجوا لهذا التصور. ولكن الأصوليين والعلماء التقليديين عارضوهم معارضة مريرة وتوصلوا إلى بعض التنازلات التي لم يرضوا عنها في النهاية رضاءً تامًّا. صحيحٌ أن الدساتير الباكستانية قد أقرَّت ضرورة اتفاق جميع القوانين مع تعاليم الإسلام، كما تشكل مجلس من علماء الدين مهمته فحص هذه القوانين والتأكد من شرعيتها، غير أن هذا المجلس لم يكن يتمتع — على العكس من نظيره في إيران — بحق الاعتراض (الفيتو). لذلك لم يكن غريبًا أن يبدو التنويه بالإسلام في منطوق القوانين مجرد زخرف جمالي خالٍ من أي مغزًى أو مضمون فعلي. ولذلك انهالت الاتهامات على الحداثيين بأنهم لا يختلفون في شيء عن العلمانيين، بل إن هؤلاء يستغلونهم في إخفاء رغبتهم الحقيقية في فصل الدين عن الدولة. أضف إلى هذا أن البرلمان لم تكد تقوم له قائمة؛ إذ دأبت الحكومات على التدخل في شئونه لتحقيق أغراضها، بل طالما لجأت إلى إلغائه. ومِن ثَمَّ تعذر أن يصبح التمثيل النيابي تجسيدًا للإجماع الذي يمكنه أن يضيف إضافات خلَّاقة للتشريع الإلهي.

وفي عام ١٩٧٧م استولت جماعة من الضباط على مقاليد الحكم وسارت على نهج أصولي واضح لكسب القاعدة الشعبية، التي كانت تفتقر إليها، إلى صفوفها. وقد استند القائمون بالانقلاب قبل كل شيء ﻟ «جماعتي إسلامي» أي الجماعة الإسلامية التي تُعتبر أهم منظمة إسلامية في باكستان. وقد سار الأصوليون إلى حد ما على المبادئ الدينية نفسها التي يسير عليها الحداثيون، ولكنهم توصلوا إلى نتائج مختلفة. فالمؤسس الأول ﻟ «جماعتي إسلامي» والمفكر الرئيسي فيها، وهو أبو الأعلى المودودي، يعتقد أيضًا أن الإنسان هو خليفة الله على أرضه، ويبرر بذلك إقامة شكل برلماني وانتخاب الحاكم انتخابًا شعبيًّا. ولكنه يُخضع الوظيفة التشريعية للبرلمان لحدود الشرع الإلهي وتعاليمه بصورة أكثر صرامة مما يفعل الحداثيون، كما يرفض فكرة إمكان التوسع في هذا الشرع عن طريق الإجماع. أما عن الحاكم المنتخب فإن المودودي يجعل له من الناحية الفعلية سلطة مطلقة، ويرى أنه ليس في حاجة إلا إلى استشارة البرلمان، وأن قراراته يجب أن تطاع، وأما عن مطالبة الحاكم بضرورة التخلي عن منصبه إذا فقد ثقة الشعب، فإنها تظل مسألة نظرية بحتة. والواقع أن تصورات المودودي تلتقي في نقاط كثيرة مع تصورات الجمهورية الإسلامية في إيران، والفارق الأساسي بينهما هو أن الدور الذي يقوم به علماء الدين عند المودودي ليس دورًا مهمًّا. والجدير بالذكر أن المودودي نفسه لم يكن من علماء الدين، وأنه يعارض مع الأصوليين — الذين يعدُّ واحدًا منهم — التأثير الكبير لعلماء الدين. وهكذا تصبح للحاكم سلطة يصعب وضع حدود لها أو الرقابة عليها والتحكم فيها.٨
وفي ليبيا نجد صورة جذرية متطرفة للأصولية عند العقيد معمَّر القذافي. إنه يذهب في مراجعته للمصادر الإسلامية الأولى إلى حدِّ عدم الاعتراف إلا بالقرآن الكريم وإهمال كل ما عداه حتى السنة النبوية الشريفة. وليس في وسع القذافي من حيث المبدأ أن ينكر السنة كمعيار ومصدر أساسي للتشريع ولحياة المسلمين، وإلا اعتُبر ذلك نوعًا من الإلحاد. ولكنه يرى أن المأثور السني لا يمكن الاطمئنان إليه، ولا يمكن اعتباره مصدرًا أساسيًّا للتشريع. والواقع أن شكوكه حول المأثور من الأحاديث النبوية قد يكون لها ما يبررها، وعلماء السنة أنفسهم يعرفون حق المعرفة أن هناك عددًا كبيرًا من الأحاديث والأخبار المكذوبة عن كلام الرسول، عليه الصلاة والسلام، وعن حياته وأعماله. ولكنهم (أي علماء السنة) قد وجدوا الحلَّ لهذه المشكلة؛ إذ اعترفوا بأصالة عدد محدد من المجموعات التي تضم تلك الأخبار والأحاديث الصحيحة الإسناد واعتمدوا عليها، وقد أدى تجاهل القذافي للسنة إلى أن يعلن أن تفسير العلماء التقليديين للسنة غير ملزم، وبذلك أعطى لنفسه مجالًا واسعًا لتفسير القرآن الكريم تفسيرًا خاصًّا.٩

والجدير بالذكر أن القذافي بدوره يعتبر أن الشعب هو خليفة الله في أرضه، وقد أقام على هذه الفكرة تصوُّرًا عجيبًا للديموقراطية: فهو يستنكر النظام النيابي بأعضائه وأحزابه وبرلمانه ويشيِّد بدلًا منه نظامًا للديموقراطية المباشرة يتكون من بناء معقد من المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية التي يحرص المشرفون عليها على أن يبقى المسئولون الكبار في الدولة خاضعين للإرادة الشعبية. وقد بدأ، إلى جانب ذلك، تغيير الأبنية الاقتصادية والاجتماعية تغييرات ذات صبغة اشتراكية؛ فنظام الأجور والمرتبات يُستبدَل به نظام تعاوني مشترك. وعلى الرغم من عدم المساس بالملكية الخاصة، فقد أمر بألا يملك أحد أكثر مما يحتاج إليه حاجة ضرورية. وهو يضع برنامجه الإصلاحي في مقابل الرأسمالية والشيوعية ﮐ «نظرية ثالثة». والواقع أن أهداف القذافي تستحق الاهتمام، ولكن جهوده لجعل نظريته أو برنامجه نموذجًا لبلاد أخرى تظل جهودًا محدودة التأثير بدرجة كبيرة، ويرجع ذلك إلى أن المصلح الليبي — بفضل الثروة النفطية لبلاده — لا يكترث بأي عائد يمكن في الظروف العادية أن يجنيه من وراء أهدافه الطموح، ولذلك يتعذر على غيره أن يجاريه. ثم إن من الصعب أن نعرف مدى تجذر أفكار القذافي في الدين الإسلامي، وأخيرًا فمما لا شك فيه أن وعي هذا القائد والمصلح برسالته يحمل صبغة إسلامية، ولا بدَّ أن حرصه على وصف أفكاره وتصوراته — بأنها إسلامية — يضمن شرعية طموحه للزعامة وتعبئة الجماهير الشعبية العريضة.

إن الدول الثلاث التي رصدنا أحوالها، وهي إيران وباكستان وليبيا، تطمح كلٌّ على طريقتها إلى أن تمد جذور أنظمة حكمها في العقيدة الإسلامية. ولا يسري هذا على الدول الأخرى التي تتألف غالبية سكانها من المسلمين، وإن كان عليها أن تحسب حساب هذه الأغلبية وتأخذها بعين الاعتبار. ذلك أن الرغبة الملحة في التمسك بأشكال الحياة الإسلامية، وربما أكثر من ذلك برموز الهوية الإسلامية، هي رغبة قوية وملحوظة في كل وقت وفي كل مكان على وجه التقريب من العالم الإسلامي. ولقد طال ما حاول المسلمون وبصور متكررة أن ينظموا أنفسهم لكي يحولوا تلك الرغبة إلى واقع فعلي.

وأشهر تلك المنظمات هي جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر في أواخر العشرينيات وتحولت في خلال الأربعينيات إلى حركة جماهيرية واسعة. ثم دخلت في صراع مع عبد الناصر الذي ضربها بقوة، ولكنها انتشرت في بلاد أخرى وما زالت قائمة في مصر على عهد السادات. ومع ذلك فلم يعد الإخوان المسلمون يمسكون بزمام الحركة الإسلامية؛ إذ يوجد إلى جانبهم عدد كبير من الحركات الصغيرة التي تفوقهم عنفًا وتطرفًا، مثل الحركة التي عُرفت باسم «جماعة التكفير والهجرة»، وهي تكفر المجتمع القائم وتدعو إلى الهجرة بعيدًا عنه. وقد تحولت الأصولية عند هذه الجماعة إلى «نحلة» أو «فرقة»، فأعضاؤها لا يتزوجون إلا من داخل الجماعة؛ إذ لا يعترفون بوجود مسلمين إلا في جماعتهم، ويعتبرون كل من عداهم من الكفار. وهم يرفضون قبل كل شيء أن تكون لهم أي علاقة مع الدولة المصرية، ويحظرون على أبنائهم دخول المدارس الحكومية أو الالتحاق بالخدمة العسكرية. وهدفهم هو تدمير الدولة وتدبير الخطط ووسائل العنف اللازمة لذلك، بل لقد قاموا بالفعل بتنفيذ بعض الهجمات الإرهابية.١٠ وحركة المقاومة الدينية التي دخلت في سوريا في صراع شديد مع الحكومة تحت اسم «الإخوان المسلمين» تدل على وجود مثل هذه الظاهرة وارتباطها في عدد من البلاد الإسلامية بحركات مشابهة.

ومن الواضح أن خيبة الأمل الكبيرة وراء هذه التطورات تتمثل في ثورة الغضب على أسلوب الحياة الحديث كله، والسخط على «المجتمع الاستهلاكي» الذي لا يقوم على أسس أخلاقية، والبحث عن «حياة بديلة» أصبحنا نبحث عنها أيضًا في أوروبا وأمريكا. وتبقى لهذه الأشكال المتطرفة أهميتها كأعراض مرضية قبل كل شيء، لأنها لم تكن لتظهر أصلًا لو لم توجد مواقف وحركات أخرى مقاربة لها — وإن تكن أقل منها تطرفًا — في دوائر شعبية واسعة، لا سيما بين الشباب.

وتحاول حكومات الدول «الدنيوية» بطبيعة الحال أن تقمع الحركات المتطرفة، كما تحاول في الوقت نفسه أن تستجيب لحاجة الطبقات الشعبية العريضة إلى تحقيق هويتها الإسلامية، وذلك لإبعادها عن التطرف وتقريبها من الدولة. ويتضح هذا بالفعل في نصوص الدساتير، وذلك باستثناء الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة وهي تركيا التي ينص دستورها على أنها علمانية ولا تفسح للدين أي مكان في مؤسساتها الرسمية.

وأما في إندونيسيا فنجد الدستور ينص على نوع من الارتباط العام بالدين، وذلك عندما يعلن أن الإيمان بالله هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة. ونلاحظ باستثناء هاتين الدولتين أن القاعدة العامة هي النص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وذلك حتى في البلد المصبوغ بصبغة ماركسية واضحة، وهو اليمن الجنوبي (راجع دستور الجمهورية الشعبية اليمنية الذي يرجع لعام ١٩٧٠م، المادة ٤٦).١١ أما في سوريا، التي يحافظ فيها عدد كبير من السياسيين على التراث العلماني، فقد تحاشى الدستور منذ وقت طويل الإعلان عن دين الدولة، وإن كان قد اشترط أن يكون رئيس الدولة المنتخب مسلمًا، كما نصَّ على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر، أو أحد مصادر، التشريع الأساسية. وقد مرَّ وقت على سوريا منعت فيه الإشارة في الدستور إلى دين رئيس الدولة (دستور ١٩٦٩م). وفي مصر لم ينصَّ على دين الدولة (دستور الجمهورية العربية المتحدة لعام ١٩٥٨م)، ولكن الدولة اضطرت بعد ذلك في كلتا الحالتين إلى النص على أن دين الدولة هو الإسلام، وذلك ترضية للشعب واستجابة لمشاعره.

وطبيعي ألا تقنع الحركات الإسلامية بالاكتفاء بالنص على الإسلام في الدساتير، فمطالبتها «بأسلمة» المجتمع والسياسة والدولة (أو صبغها بالصبغة الإسلامية) تذهب إلى أبعد من ذلك، وعلى الرغم من تفرق أهدافها وعدم وضوحها، فإنها تمارس على الحكومات ضغوطًا شديدة. ومع ذلك فهناك حدود تقف عندها هذه الضغوط مهما كان تأثيرها، وثمة حقائق واقعية تصد محاولات الأسلمة أو تعمل على الأقل على التصرف معها بطرق مختلفة.

لنلق الآن نظرة أخرى على مصر. فبعد وفاة عبد الناصر ساد جو بدا مناسبًا ﻟ «الأسلمة». صحيح أن دستور سنة ١٩٧١م قد أعلن — بشكل حذر نسبيًّا — أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع» (المادة رقم ٢)، ولكن ذلك فتح الباب أمام المطالبة الملحة بجعل الشريعة الإسلامية نفسها هي أساس التشريع بأكمله. ولما بلغت الإثارة ذروتها في سنة ١٩٧٧م، وساد الانطباع بأن الحكومة ستنظر في تلك المطالب، أعلن الأقباط احتجاجهم بكل حزم. وقد اعترضوا بوجه عام على أسلمة التشريع وبوجه خاص على المناقشات التي دارت حول تنفيذ عقوبة الإعدام في حالة الارتداد عن الإسلام، وهو إجراء لم يكن في الحقيقة موجهًا ضد المسلم المرتدِّ عن دينه، لأن هذا أمر لا وجود له من الناحية العملية، بقدر ما تصور الأقباط أنه موجه ضد المسيحيين الذين كانوا لأسباب شخصية بحتة يتحولون بصورة مؤقتة إلى الإسلام، وذلك — على سبيل المثال — لتيسير أحوال الطلاق، وسرعان ما نبَّه الاحتجاج القوي للكنيسة القبطية كبار المسئولين في الدولة إلى وضع حدٍّ لأي إثارة لهذه النقطة. ومع أن حركات الإثارة من جانب الإسلاميين المتطرفين لم تتوقف، فإنهم لم يستطيعوا في سنة ١٩٧٩م منع إصدار مجموعة من التعديلات المهمة في قانون الأحوال الشخصية لتحسين أوضاع المرأة فيما يتعلق بتعدد الزوجات، والطلاق، وسلطة الزوج … إلخ (وهي التي صدر بها القانون رقم ٤٤ لسنة ١٩٧٩م)، وقد أكدت الحكومة تأكيدًا «قاطعًا» أن التعديلات الجديدة لا تتعارض مع تعاليم الشرع، وطالبت أكبر علماء الدين بتأييدها، ومن الواضح أن جميع الاجتهادات الحديثة في التفسير قد طبقت بغية الوصول إلى حلول متطورة.١٢

لعل المثل السابق من مصر يوضح لنا كيف أنه لم يعد من الممكن، في الأوطان ذات التاريخ الحضاري العريق، تجاهل مصالح الأقليات غير المسلمة أو إغفالها عند اتخاذ القرارات والمواقف السياسية الحاسمة.

وربما كانت الحقيقة الأهم من كل ما سبق هي أنه توجد اليوم أكثر من أي وقت مضى مجالات حيوية واسعة لا يقدم فيها الدين توجيهًا كافيًا «للحسم في قضايا ومشكلات جزئية لا حصر لها وتفرضها ضرورات الحياة اليومية.» وهنا يكون ربط هذه القضايا والمشكلات بالدين أمرًا ممكنًا عندما يتوسع أصحاب القرار في تفسير المبادئ الدينية توسعًا شديدًا. وإذا كان من الأمور الطبيعية والمفهومة أن يجد المسلمون في الإسلام «السند الخاص» الذي يلجئُون له ويطمئنون إليه، فمن الخطر الشديد عليهم أن يتوهموا أنهم سيجدون الحل المناسب لمشكلات العصر كبيرها وصغيرها في الانصياع بلا تدبر كافٍ لتعاليم كساها القدم برداء الجلال والوقار. ولن ينصف الإسلام من يزعم أنه يطالب المؤمنين بمثل هذا الخضوع الأعمى. فالواقع أن الإسلام لا يسلب الإنسان حق البحث عن القرار الصحيح والكفاح في سبيل التوصل إليه.

وأخيرًا فقد حاولت أن أقدم بعض التأملات في الدور السياسي للإسلام في عصرنا الحاضر. وإني لأتمنى أن أكون قد وفقت على الأقل في توضيح نقطتين:
  • (١)

    ليس الإسلام هو القوة الأصلية المحركة لموجة البعث الإسلامي التي نلاحظها اليوم في العالم. صحيح أن الدين المشترك هو أساس الشعور بالتضامن بين الشعوب الإسلامية كافة. ولكن العامل المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لا يأتي من الدين، وإنما يأتي من الموقف التاريخي الذي تجد نفسها فيه مع كثير من الشعوب غير الإسلامية: وهو موقف التبعية للدول الصناعية الغربية، والبحث اليائس عن توجه يعينها على التحرر من تلك التبعية.

  • (٢)

    وبصرف النظر عن هذا العامل المشترك الذي يجمع بين الشعوب الإسلامية والشعوب غير الإسلامية، فلا يمكن الحديث عن حركة إسلامية واحدة. إن العقيدة الإسلامية ليست على الإطلاق نظامًا جامدًا متصلبًا يقسر المؤمنين به على سلوك محدَّد — كأن يقسرهم مثلًا على الرجوع للعصور الوسطى كما يقول أحد الأحكام المتحيِّزة المنتشرة لدينا — إن العكس من ذلك تمامًا هو الصحيح، فأمام المسلم مجال واسع لتقديم تفسيرات خاصة للعقيدة والشريعة، ولاتخاذ قرارات خاصة قد تتقدم به إلى الأمام أو ترجع به إلى الوراء. ولقد تكوَّنت لدى الشعوب المختلفة كما تكونت لدى الجماعات المتباينة حركات واتجاهات شديدة التنوع، وكلها تجد في الإسلام الثقة بالذات، والهداية، والشرعية، والقوة الدافعة لها على حل مشكلاتها وتحقيق مصالحها. وهي جميعًا تستحق من الغرباء عنها أن ينظروا إليها بعين الاحترام ويبذلوا الجهد الكافي لفهمها.

١  أرجو أن يلاحظ القارئ الكريم أن هذا المقال قد كتب قبل سنة ١٩٨٠م (أي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بقليل)، ثم ألقاه الأستاذ شتيبات على المشاركين في المؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الألمان الذي انعقد في برلين من الرابع والعشرين حتى التاسع والعشرين سنة ١٩٨٣م في ملحق مجلة المستشرقين الألمان، فيزبادن، ص٢٢–٣٦.
٢  أي إلى سنة كتابة هذه المحاضرة كما سبق القول (سنة ١٩٨٠م).
٣  قارن جريدة النهار العربي والدولي، باريس، عدد ٢٢ أكتوبر ١٩٧٩م و١٧ ديسمبر ١٩٧٩م.
٤  فالتر براونه، الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل، بيرن وميونيخ، ١٩٦٠م، ص٧٣.
Walter Braune, Der Islamische Orient Zwischen Vergangenheit und Zukunft. Bern, Munchen 1960, S 73.
٥  فكرة هذا التصنيف للاتجاهات الأساسية مستوحاة من كتاب ليونارد بيندر: الدين والسياسة في باكستان، بركلي، لوس أنجلوس، ١٩٦٣م، ص٧ وبعدها.
Leonard Binder, Religion and Politics in Pakistan. Berkeley, Los Angelos, 1963, 7 ff.
٦  ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، نشرة عبد الرحمن الوكيل، القاهرة، ١٣٨٩ﻫ/١٩٦٩م، ٣، ١٣، وبعدها.
٧  الخميني والدولة الإسلامية، بيروت، ١٩٧٩م، ص٥٥ وبعدها، وقد وضع هذا الكتاب ردًّا على كتاب الخميني عن الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه.
٨  يعبر أبو الأعلى المودودي، مؤسس «جماعتي إسلامي»، عن تصوره للدولة الإسلامية في كتابه حقوق الإنسان في الإسلام، المؤسسة الإسلامية، ليستر ١٣٩٦ﻫ/١٩٧٦م.
Abul Ala Mawdudi, Human rights in Islam, The Islamic Foundation, Leicester 1396-1976.
قارن كذلك م. د. أحمد، الأصولي الإسلامي مودودي وآراؤه عن الدولة الإسلامية، بحث ألقي في المؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الألمان. وقارن كذلك ديتليف خالد، الإحلال النهائي للنظام الإسلامي في باكستان محل الديموقراطية البرلمانية، مجلة أورينت (الشرق) العدد ٢٠ (ديسمبر ١٩٧٩م) المجلد الرابع، ص١٦ وبعدها.
N.D. Ahmed, Der Pakistanische Fundamentalist Maududi Uber den Islamischen Staat. Referat auf den XXI Deut schen Orientalistentag – Und Detlev Khalid. The Final Replacement of Parliamentary democracy by the Islamic system in Pakistan, Grient 20 (December 1979) 4, 16 ff.
٩  قارن إرفيه بلوشو وتوفيق منستيري: ليبيا: تطور المؤسسات السياسية (١٩٦٩–١٩٧٨م)، حولية شمال أفريقيا، العدد ١٦ (١٩٧٧م)، ص١٤١ وبعدها، وكذلك لإرفيه بلوشو: تواريخ سياسية، المرجع السابق، ص٤٨٥ وبعدها.
Vgl. Hervé Bleuchot. Taoutik Manastiri, Libye, Evolution des institutions Politiques (1969–1978), Amnuaire de Lafrique du Nord 16 (1977), 141 ff… sowie Hervé Bleuchot, chroniques Politiques: Libye, 425 ff.
١٠  راجع «ملف جماعة التكفير والهجرة»، روز اليوسف، القاهرة، ١١-٧-١٩٧٧م، وكذلك سير يس ويصا واصف، اضطرابات وقلاقل في مصر، مغرب–مشرق ٧٨ (٤، ١٩٧٧م). ٧ وبعدها.
Ceres Wissa Wassef, Remous et inquietudes en Egypte, Maghreb–Machrek 78 (4.Qu. 1977), 7 ff.
وإيزابيلا كاميرا دافليتو، «التكفير والهجرة» والشمولية الإسلامية في مصر، الشرق الحديث ٨٥ (١٩٧٨م)، ١٤٥ وبعدها.
Isahella, Camera dAfflitto, at-Takfir wa al-Higrah, Lintegralismo musulmano in Egitto. Oriente Moderno 85, 1978, 145 ff.
١١  وقد تغير هذا الوضع بعد تحقيق وحدة شطري اليمن. لاحظ أن المقال قد كتب سنة ١٩٨٣م، أي قبل ما يقرب من عشرين عامًا جرى فيها ما جرى من تغيرات وتطورات في نظم الدول التي يتناولها بالبحث والتحليل (وهي إيران وباكستان وليبيا) وفي أوضاع الجماعات والحركات الإسلامية نفسها التي زاد المدُّ المتطرف لبعضها بدعم من القوى الغربية نفسها قبل أن تعود هذه القوى — بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة ٢٠٠١م — إلى اتهامها بالإرهاب وشن الحرب على السلام والحرية والنظام العالمي.
١٢  جمهورية مصر العربية، مجلس الشعب، الفصل التشريعي الثالث، دور الانعقاد العادي الأول، مضبطة الجلسة الرابعة (٣ / ٧ / ١٩٧٩م)، جمهورية مصر العربية، قانون الأحوال الشخصية الجديد ومذكرته الإيضاحية، القاهرة، ١٩٧٩م، وأشكر للأديب الكبير يحيى حقي الذي أدين له بالفضل في هذه المعلومات، (والجدير بالذكر أن الأديب الكبير صاحب العصا والقنديل كان رحمه الله يقيم — في أثناء كتابة هذا المقال — في برلين بدعوة من بلدية برلين ومن معهد الدراسات الإسلامية التابع لجامعة برلين الحرة الذي كان الأستاذ شتيبات في ذلك الوقت عميدًا له (ع. م)).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤