السمُوُّ الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية

لما أردتُ أن أكتب هذا الفصل وهممت به، عرضت لي مسألة نظرت فيها جوابها، ثم قدَّرْت أن يكون أبلغ فلاسفة البيان في أوروبا لعهدنا هذا رجلًا يحسن العربية المُبِينة، وقد بلغ فيها مبلغ أئمتها علمًا وذوقًا، ودرَس تاريخ النبي درسَ الروح لأعمال الروح، وتفقَّه في شريعته فقْه الحكمة لأسرار الحكمة، واستوعب أحاديثه واعتبرها بفن النقد البياني الذي يبحث في خصائص الكلام عن خصائص النفس؛ وتمثَّلتُ أني لقيت هذا الرجل فسألته: ما هو الجمال الفني عندك في بلاغة محمد ؟ وماذا تستخرج لك فلسفة البيان منه؟ وما سِرُّه الذي يجتمع فيه؟

ولم يكد يخطر١ لي ذلك حتى انكشف الخاطر٢ عن وجه آخر، وذلك أن يكون معنى هذا السؤال بعينه قد وقع في شيء من حديث النفس لأبلغ أولئك العرب الذين رأوا النبي ، وآمنوا به، واتَّبعوا النور الذي أنزل معه، وقد صحبه فطالت صحبته، لا يفوته من كلامه في الملأ شيء، وخالطه حتى كان له في الإحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ، فتدبَّرَ ما عسى أن يكون سرُّ الجمال في بلاغته ، وما مرجعه الذي يردُّ إليه؟
لو دار السؤال دورتيه في هذه السليقة٣ العربية المحكمة التي رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتُحِسُّ، وفي تلك الفلسفة البيانية الملهمة التي بلغت أن تكون سليقة تدرس وتفكر لما خلص من كلتيهما إلا برأي واحد تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيها: وهو أن ذلك الجمال الفني في بلاغته إنما هو أثرٌ على الكلام من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها.
وبعدُ؛ فأنا في هذه الصفحات لا أصنع شيئًا غير تفصيل هذا الجواب وشرحه، باستخراج معانيه، واستنباط٤ أدِلَّته، والكشف عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درستُ كلامه ، وقضيت في ذلك أيامًا أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المُجدِب فأخصب به وأنبت للدنيا أزهاره الإنسانية الجميلة، فكانوا ناسًا إن عِبْتَهم بشيء لم تَعِبْهم إلا أنهم دون الملائكة؛ وكانوا ناسًا، دارت الكرة الأرضية في عَدِّهم ثلاث دورات: واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي .

ثم تركت الكلام النبوي يتكلم في نفسي ويلهمني ما أفصح به عنه، فلكأني به يقول في صفة نفسه: إني أصنع أمة لها تاريخ الأرض من بعد، فأنا أُقبل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا، مع القلوب والأنفس والحقائق، لا مع الكلام والناس والوقت.

إن ها هنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة التي من ذُرِّيَّتها أوروبا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنور مُتمِّم لما يعمله نور الشمس والقمر.

وقد كان المسلمون يغزون الدنيا بأسلحة هي في ظاهرها أسلحة المقاتلين، ولكنها في معانيها أسلحة الأطباء؛ وكانوا يحملون الكتاب والسنة، ثم مضوا إلى سبيلهم وبقي الكلام من بعدهم غازيًا محاربًا في العالم كله حرب تغيير وتحويل إلى أن يدخل الإسلام على ما دخل عليه الليل.

هذا مُنطَلَق الحديث في نفسي، وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثله مرسلًا بتلك الفصاحة العالية من فم النبي حيث يمر إعجاز الوحي أول ما يخرج به الصوت البشري إلى العالم، فلا أرى ثَمَّ إلا أن شيئًا إلهيًّا عظيمًا متصلًا بروح الكون كله اتصال بعض السر ببعض السر، يتكلم بكلام إنساني هو هذا الحديث الذي يجيء في كلمات قوية رائعة، فنها في بلاغتها كالشباب الدائم.

كنت أتأمله قِطَعًا من البيان، فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمل فيها روضة تتنفس على القلب، أو منظرًا يهز جمالُه النفسَ، أو عاطفة تزيد بها الحياة في الدم، على هدوءٍ وروحٍ وإحساسٍ ولذة؛ ثم يزيد على ذلك أنه يُصلِح من الجهات الإنسانية في نفسي، ثم يرزق الله منه رزق النور فإذا أنا في ذوق البيان كأنما أرى المتكلم وراء كلامه.

وأعجب من ذلك أني كثيرًا ما أقف عند الحديث الدقيق أتعرف أسراره، فإذا هو يشرح لي ويهديني بهديه؛ ثم أحسه كأنما يقول لي ما يقول المعلم لتلميذه: أفهمت؟

وقفت عند قوله : إن قومًا ركبوا في سفينة، فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن أخذوا على يده نجا ونجَوْا، وإن تركوه هلك وهلكوا.

فكان لهذا الحديث في نفسي كلام طويل عن هؤلاء الذين يخوضون٥ معنا البحر ويسمون أنفسهم بالمجددين، وينتحلون ضروبًا من الأوصاف: كحرية الفكر، والغيرة، والإصلاح؛ ولا يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه، أي بقلمه … زاعمًا أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولَّاه كيف أراد، موجهًا لحماقته وجوهًا من المعاذير والحجج، من المدنية والفلسفة، جاهلًا أن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه كما يُحكَم على الأعمال الأخرى؛ بل قبل وقوعه؛ والعقاب لا يكون على الجُرْم يقترفه المجرم كما يُعاقَب اللص والقاتل وغيرهما، بل على الشروع فيه، بل على توجُّه النية إليه، فلا حرية هنا في عمل يفسد خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بعد ما دامت مُلجِّجة في بحرها، سائرة إلى غايتها؛ إذ كلمة «الخَرْق» لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، وهنا لفظة «أصغر خرق» ليس لها إلا معنًى واحدٌ وهو «أوسع قبر» …

ففكِّر في أعظم فلاسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو ها هنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسيرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة وكما أن لفظة «الخرق» يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والهلاك، فكلمة «الفلسفة» يكون من بعض معانيها في الاجتماع الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة الحرية يكون من معانيها الجناية والزيغ والفساد، وعلى هذا القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكُتَّاب من معانيه الفأس، والكاتب من معانيه المُخرِّب، والكتابة من معانيها الخيانة؛ قال لي الحديث: أفهمت؟

هكذا يجب تأمل الجمال الفني في كلامه ، فهو كلام كلما زدته فكرًا زادك معنًى، وتفسيره قريب؛ قريب كالروح في جسمها البشري، ولكنه بعيد؛ بعيد كالروح في سرها الإلهي، فهو معك على قدر ما أنت معه، إن وقفت على حد وقف، وإن مددت مد، وما أديت به تأدَّى،٦ وليس فيه شيء مما تراه لكل بلغاء الدنيا من صناعة عبث القول، وطريقة تأليف الكلام، واستخراج وضع من وضع، والقيام على الكلمة حتى تُبيِّض كلمة أخرى … والرغبة في تكثير سواد المعاني، وترك اللسان يطيش طيشه اللغوي يتعلَّق بكل ما عرض له، ويحذو الكلام على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها ويستكرهها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن حيث كان ولم يكن؛ إنما هو كلام قيل لتصير به المعاني إلى حقائقها، فهو من لسان وراءه قلب، وراءه نور، وراءه الله — جلَّ جلاله — وهو كلام في مجموعة كأنه دنيا أصدرها عن نفسه العظيمة، لا تبرح ماضية في طريقها السويِّ على دين الفطرة؛ فلا تتَّسع لخلاف، ولا يقع بها التنافر؛ والخلاف والتنافر إنما يكونان من الحيوانية المختلفة بطبيعتها؛ لقيامها على قانون التنازع تعدو به وتجترم٧ وتأثم، فهي نازلة إلى الشر، والشر بعضه أسفل من بعض؛ أما روحانية الفطرة فمتَّسِقة٨ بطبيعتها، لا تقبل في ذاتها افتراقًا ولا اختلافًا؛ إذ كان أولها العلو فوق الذاتية، وقانونها التعاون على البر والتقوى؛ فهي صاعدة إلى الخير، والخير بعضه أعلى من بعض.

فكلامه يجري مجرى عمله: كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة؛ وإنه يُخيَّل إليَّ وقد أُخِذتُ بطهره وجماله أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ.

أما أسلوبه فأجد له في نفسي روح الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة؛ قوة أمر نافذ لا يتخلَّف، وإن له مع ذلك نسقًا هادئًا هدوء اليقين، مُبِينًا بيان الحكمة، خالصًا خلوص السرِّ، واقعًا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيف لا يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووحيه؛ ليتوجه بها العالم كأنه منه مكان المحور؛ دورته بنفسه هي دورته بنفسه وبما حوله، روح نبي مُصلح رحيم، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطباعه مجموع إنساني عظيم لو شُبِّه بشيء لقيل فيه: إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا.

ومَن درس تاريخه وأعطاه حقَّه من النظر والفكر والتحقيق، رأى نسقًا من التاريخ العجيب كنظام فلك من الأفلاك موجَّهٍ بالنور في النور من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي، فليس يمتري عاقل مميِّز أن هذه الحياة الشريفة، بذلك النظام الدقيق، في ذلك التوجُّه المحكم لا يطيقها بَشَر من لحم ودم على ناموس الحياة إلا إذا كان في لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموس أقوى من الحياة.

ولم يكن مثله في الصبر والثبات واستقرار النفس واطمئنانها على زلازل الدنيا، ولا في الرحمة ورقَّة القلب والسمو فوق معاني البقاء الأرضي؛ فهو قد خُلِق كذلك؛ ليغلب الحوادث ويتسلَّط على المادة؛ فلا يكون شأنه شأن غيره من الناس؛ تدفنهم معاني التراب وهم أحياء فوق التراب، أو يحدُّهم الجسم الإنساني من جميع جهاتهم بحدود طباعه ونزعاته؛ وبذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام منبع تاريخ في الإنسانية كلها دائمًا، ولِرأس الدنيا نظامُ أفكاره الصحيحة.

•••

عن عبد الله بن عمر — رضي الله عنهما — قال: سمعت رسول الله يقول: انطلق ثلاثة رَهْط٩ ممن كان قبلكم حتى أوَوا المبيتَ إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدَّتْ عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم! فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ لا أغبِق قبلهما أهلًا ولا١٠ مالًا فنَأَى١١ بي في طلب شيء يومًا فلم أُرِح عليهما حتى ناما، فحلبتُ لهما غَبوقَهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثتُ والقَدَحُ على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برَقَ الفجرُ،١٢ فاستيقظا فشربا غَبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنَّا١٣ ما نحن فيه من هذه الصخرة! فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج.
قال النبي : وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إليَّ، فأردتُها عن نفسها١٤ فامتنعت منِّي، حتى ألمَّتْ بها سَنَةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومائة دينار على أن تُخلِّي بيني وبين نفسها! ففعلَتْ، حتى إذا قدرتُ عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفُضَّ١٥ الخاتمَ إلا بحقِّه! فتحرَّجتُ١٦ من الوقوع عليها، فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ الناس إليَّ، وتركتُ الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرُج عنا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
قال النبي : وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجَرَاء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرتُ١٧ أجره حتى كثُرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق! فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك! فأخذه كلَّه فاستاقه فلم يترك شيئًا. اللهم فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرُج عنا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون. انتهى الحديث.

وأنا فلست أدري، أهذا هو النبي يتكلم في الإنسانية وحقوقها بكلام بيِّن صريح لا فلسفة فيه، يجعل ما بين الإنسان والإنسان من النية هو ما بين الإنسان وربه من الدين؛ أم هي الإنسانية تنطق على لسانه بهذا البيان العالي، في شِعْر من شعرها ضاربة فيه الأمثال، مشيرة فيه إلى الرموز، واضعة إنسانها بين شدة الطبيعة ورحمة الله، مُحْكِمة عناصر روايتها الشعرية، مُحقِّقة في بيانها المكشوف أغمض معانيها في فلسفة الحاسَّة الإنسانية حين تتصل بأشيائها فتظهر الضرورة البشرية وتختفي الحكمة، وفلسفة الروح حين تتصل بهذه الأشياء ذاتها فتظهر الحكمة وتختفي الضرورة — مُبيِّنة أثر هذه وتلك في طبيعة الكون، مقرِّرة أن الحقيقة الإنسانية العالية لن تكون فيما ينال الإنسان من لذَّته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يُقنِعه من منطقه، ولا فيما يلُوح من خياله، ولا فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السمو على هذه الحقائق الكاذبة كلها، وهي الرحمة التي تَغلِب على الأثرة فيسميها الناس بِرًّا، والرحمة التي تَغلِب على الشهوة فيسميها الناس عِفَّة، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة؛ وهي في ضبط الروح لثلاث من الحواس: حاسة الدَّعَة التي يقوم بها حظُّ الخُمول، وحاسة اللذَّة التي يقوم بها حظ الهوى، وحاسة التملُّك التي يقوم بها حظ القوة.

وتزيد الإنسانية على ذلك في نسق شعرها أنها تُثبِت أن البر من العفة والأمانة هو على إطلاقه كالأساس لهما؛ فمَن نشأ على بِرِّ أبويه كان خليقًا أن يتحقق بالعفة والأمانة، وأن العفة من الأمانة والبر هي مِسَاكُهما وجامعتهما في النفس، وأن الأمانة من البر والعفة هي كمال هذه الفضائل، وكلُّهن درجات لحقيقة واحدة، غير أن بعضها أسمى من بعض في الشأن والمنزلة، وبعضها طريق لبعض يجرُّ سببٌ منها سببًا منها، وأن الرحمة الإنسانية التي هي وحدها الحقيقة الكبرى إنما هي هذا الحب، بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته، وهو الحب الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحب مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كدرجات الحياة نفسها من طفوتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل.

ثم إنه ما دام كمال الفضيلة هو الأمانة، فما قبلها أنواع منها؛ فبر الولد أمانة الطبع المتأدِّب، وعفة المحب أمانة القلب الكريم، والثالثة أمانة الخُلُق العالي، وهي أسماهن؛ لأنها لن تكون خُلقًا ثابتًا إلا وقد خضع لقانونها الطبع والقلب، ودخل في أسبابها الأدب والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة بالمرء من أبعد جهاته، دون الإنسانية الخاصة بكل شخص من أب، أو أم، أو قريب؛ ودون التي هي أخص وهي إنسانية الحب.

ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤلاء الذين مَثَّلوا رواية الإنسانية الفاضلة في فصولها الثلاثة، لا يقول إنه فعل ما فعل من صالح أعماله: إلا إبتغاء وجه الله، وقد تَطابَقوا١٨ جميعًا على هذه الكلمة، وهي من أدقِّ ما في فلسفة الإنسانية في شعرها ذلك، فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاهدًا نفسه، يمنعها ما تحرص عليه من حظها أو لذتها أو منفعتها، أي: منخلعًا من طبيعته الأرضية المنازعة لسواها، المنفردة بذاتها، متحققًا بالطبيعة السماوية التي لا يرحم الله عبدًا إلا بها، وهي رحمة الإنسان غيرَه، أي: اندماجه باستطاعته وقوته، وإعطاؤه من ذات نفسه ومعاونتُه وكفُّ أذاه.

والحديث كالنص على أن هذه الرحمة في النفس هي الدين عند الله، لا يصلح دين بغيرها، ولا يقبل الله صرفًا ولا عدلًا من نفس تخلو منها؛ وإذا كانت بهذه المنزلة، وكانت أساس ما يُفرَض على الإنسان من الخير والحق، فهي من ذلك في معنى الحديث أساس ما يُصلِح هذه الإنسانية من الشر والباطل؛ وبهذا كله تكون الغاية الفلسفية التي ينتهي إليها كلامه ، أن تنشئة الناس على البر والعفة والأمانة للإنسانية هي وحدها الطريقة العملية المُمْكِنة لحَلِّ معضلة الشر والجريمة في الاجتماع البشري. وانظر كيف جعل نهاية السمو في رحمة المال الذي يصفونه بأنه شقيق الروح، فكأن الإنسان لا يخرج فيها لغيره من بعض ماله، بل ينخلع من بعض روحه؛ وهذا يُقرِّر لك فلسفة أخرى؛ أن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وأن الزائفة هي في الأخذ دون العطاء؛ وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق؛ فما المرء إلا ثمرة تنضج بموادها، حتى إذا نضجت واحلَوْلَت كان مظهر كمالها ومنفعتها في الوجود أن تهَبَ حلاوتها فإذا هي أمسكت الحلاوة على نفسها لم يكن إلا هذه الحلاوة بعينها سببٌ في عَفَنِها وفسادها من بعدُ. أفهمت؟ …

وما دُمْنَا قد وصفنا رحمة المال، فإنا نُتِمُّ الكلام فيها بهذا الحديث العجيب في فن تمثيله وبلاغة فنه: عن أبي هريرة — رضي الله عنه — أنه سمع رسول الله يقول: مثل البخيل والمُنفِق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد، من ثُدِيِّهما إلى تَراقِيهما؛ فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَتْ١٩ أو وَفَرَتْ على جلده حتى تُخفِي بنانه٢٠ وتعْفُو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لَزِقَتْ كل حَلْقة مكانها، فهو يُوَسِّعها فلا تتسع. انتهى.
فأنت ترى ظاهر الحديث، ولكن فنه العجيب في هذا الحديد الذي يراد به طبيعة الخير والرحمة في الإنسان، فهي من أشد الطبائع جمودًا وصلابة واستعصاء متى اعترضَتْها حظوظ النفس الحريصة وأهواؤها، ومع ذلك فإن السخاء بالمال يبسط منها وينتهي في الطبع إلى أن يجعلها ليِّنة، فلا تزال تمتد وتسبغ حتى يكون كمال طبع السخاء هو كمال طبع الخير في النفس الكريمة، فمن ألزم٢١ نفسه الجود والإنفاق راضها٢٢ رياضة عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد ومعاناة القوة في الصراع ونحوه؛ أما الشُّحُّ٢٣ فلا يناقض تلك الطبيعة ولكنه يدَعُها جامدة مستعصية لا تلين ولا تستجيب ولا تتيسَّر.
وقد جعل الجُبَّة من الثدي إلى التراقي، وهذا من أبدع ما في الحديث؛ لأن كل إنسان فهو منفق على ضروراته، يستوي في ذلك الكريم والبخيل، فهما على قدر سواء من هذه الناحية؛ وإنما التفاوت فيما زاد وسبغ من وراء هذا الحدِّ، فها هنا٢٤ يبسط الكريم بسطه الإنساني، أما البخيل فهو «يريد» لأنه إنسان، والإرادة علم عقلي لا أكثر، فإذا هو حاول تحقيق هذه الإرادة وقع من طبيعة نفسه الكزَّة فيما يُعانيه مَن يُوسِّع جبة من الحديد لزقت كل حلقة من حلقاتها في مكانها، فهي، مستعصية متماسكة، فهو يوسعها فلا تتسع.

ألا ترى كيف تتوجه الحجة، وكيف تدق الفلسفة وهي في أظهر البيان وأوضحه؟ وهل تحسب طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لو هي نطقت — بالغة من وصف نفسها هذا المبلغ من جمال الفن وإبداعه؟ وهو بعدُ وصفٌ لو نُقِل إلى كل لغات الأرض لزانها جميعًا، ولكان في جميعها كالإنسان نفسه: لا يختلف تركيبه فلن يكون بثلاثة أعين، لا في بلاد شكسبير ولا في بلاد الزنوج.

إن كلام نبينا يجب أن يترجم بفلسفة عصرنا وآدابه، فستراه حينئذٍ كأنما قيل مرة أخرى من فم النبوة، وستراه في شرحه الفلسفي كالأزهار الناضرة: حياتها بشاشتها في النور؛ وتعرفه إنسانيةً قائمة تصحح بها أغلاط الزمن في أهله، وأغلاط الناس في زمنهم؛ وتجده يرفُّ على البشرية المسكينة بحنان كحنان الأم على أطفالها، والناس الآن كالأطفال غابت أمهم، فهم في تنافر صبياني … وما الأم بطبيعتها إلا الميزان لاستبدادهم، والحكمة لطيشهم، والائتلاف لتنافرهم،٢٥ والنظام لِعَبَثهم؛٢٦ وبالجملة فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة.

وقد كتبْنا في فلسفة الأدب وحقيقته، ومعانيه الإنسانية، وأن الأديب التام الأداة هو الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط، وأن علم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار — وأن الأديب مكلَّف تصحيحَ النفس الإنسانية ونفيَ التزوير عنها، وإخلاصَها مما يلتبس بها على تتابُع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق.

فإذا تدبَّرتَ هذا المقال، واعتبرت كلام النبي على ما بيَّنا وشرحنا، وأخذته من عصره ومن العصر الذي نعيش فيه، ونظرت إلى ألفاظه ومعانيه، واستبرَأْتَ٢٧ ما بينها من خواص الفن بمثل ما نبَّهناك إليه من التأويل الذي مر بك، وعلمت أن كل حقيقة فنية لا تكون كذلك إلا بخاصة فيها، وأن سر جمالها في خاصتها — إذا جمعتَ ذلك لم تَرَ مذهبًا عن الإقرار بأن النبي كما هو أعظم نبي وأعظم مُصلح، فهو أعظم أديب؛ لأن فنه الأدبي أعظم فن يُحقِّق للإنسانية حياة أخلاقها، وهو بكل ذلك أعظم إنسان، .

•••

فالفن في هذه البلاغة هو في دقائقه أثر تلك الروح العُليا بكل خصائصها العظيمة التي يحتاج إليها الوجود الروحاني على هذه الأرض، ولذا ترى كلامه يخرج من حدود الزمان، فكل عصر واجد فيه ما يقال له، وهو بذلك نبوة لا تنقضي، وهو حي بالحياة ذاتها، وكأنما هو لون على وجه منها كما ترى البياض مثلًا هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري …

فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه، وفي عمله، وفي الدنيا التي ألَّفها من التاريخ تأليف القطعة البليغة النادرة من الكلام، ورُدَّ كلَّ ما تدبَّرته٢٨ من ذلك إلى تلك الروح الجديدة على تاريخ الأرض؛ فلَتَعلَمَنَّ حينئذٍ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صنعت لها مادة النور نورًا وجمالًا بجانب هذه الشمس التي خُلِقت فيها مادة النور نورًا وجمالًا وحياة وقوة؛ هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين، وذاك يتخايَل كالحُلم، وهذا يُفصح كالحقيقة، وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طرد الظلمة عن نصف الدنيا إلى نصف الدنيا؛ والأول نور بلا روح، والثاني هو روح النور.
تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمه بها أصحابه ، كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعانٍ من الزمان والمكان، ومن النفس والحالة، ومن الهيئة والشكل، ومن العين والفكر، ومن السماء والأرض، ففيه النور وزيادة، أي: الحقيقة وما ترتفع بها على نفسها؛ وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلاسفة الفن مع الفن إعجابًا وحبًا وانقيادًا وطاعة حتى انخلعوا٢٩ من عصرهم ودنياهم، وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم، وانجذبوا إليه أشد انجذاب عرفه التاريخ، وأصبحوا مصرَّفين معه تصريف الحوادث لا تصريف الأشخاص، وعادت أنفسهم وكأن تأثير الأرض يلتقي فيها بتأثير السماء فيُغسَل في سُحُب عالية فلا يكون فيها كما يريده الناس، بل كما يريد الله؛ ورجعت قلوبهم لا تلبس على دينها رأيًا ولا هوًى، وكأنما وُضع لها هذا الدين حرسًا على كل سمع وعلى كل بصر؛ وبالجملة فأولئك قوم كأنما تناولهم النبي فأفرغهم ثم ملأهم، وما انتقلوا إلى منزلتهم العالية في التاريخ إلا بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة.

وناهيك من رجال يُمثَّل لهم بهذا المثل الذي يضربه لهم في الإيمان ليبلغوه أو يُقاربوه، فعن خباب بن الأَرَتِّ — رضي الله عنه — قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض فيُجعَل فيه فيُجاء بالمنشار فيُوضَع على رأسه فيُشَقُّ باثنين وما يصُدُّه ذلك عن دينه، ويُمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه!

فانظر يا هذا، فإنه لو اجتمعت قوى الكون فجاءت يشد بعضها بعضًا فنزلت في عبارة من الكلام لتملأ نفوس المؤمنين بقوتها لما وُضِعت إلا هذا الوضع من هذا التمثيل بأمشاط المسامير وأسنان المنشار في عظم الإنسان الحي ولحمه. وظاهر التمثيل على ما رأيت من العجب، ولكن له باطنًا أعجب من ظاهره، وهو البلاغة كل البلاغة والبيان حق البيان، فإنما يريد أن الحديد لا يأكل ولا يمزع من أولئك الأقوياء بإيمانهم عظمًا ولحمًا وعصبًا، بل هو حديد يأكل حديدًا مثله أو أشد منه، فإن للروح المؤمنة المسلَّطة على جسمها قوة تصنع هذه المعجزة، فيمر الحديد في العظم واللحم والعصب يسلبها الحياة، ولكنها تسلبه شدته وجَلَده وصبره!

•••

وكل ما جاء من التمثيل في كلامه ينطوي فيه من إبداع الفن البياني وإعجازه ما يفوت حدود البلغاء، حتى لا تشك إذا أنت تدبرته بحقه من النظر والعلم أن بلاغته إنما هي شيء كبلاغة الحياة في الحي: هي البلاغة ولكنها أبدع مما هي؛ لأنها الحياة أيضًا.

وأنت خبير أن هذا النبي الكريم كانت تأخذه عند نزول الوحي عليه أحوال وُصفت في كتب الحديث: قالت عائشة — رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيُفصَم٣٠ عنه وإن جبينه لَيَتَفَصَّد٣١ عرقًا. وفي حديث آخر عنها قالت: فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء٣٢ حتى أنه ليتحدَّر٣٣ عنه مثل الجُمَان٣٤ من العرق في يوم شاتٍ. وفي حديث زيد بن ثابت: فأنزل الله — عز وجل — على رسوله ، وفخذه على فخذي، فثقلت عليَّ حتى خِفتُ أن تُرَضَّ٣٥ فخذي. وفي حديث يعلى بن أمية حين قال لعمر: أرني النبي حين يوحى إليه، فأشار عمر إليَّ، فجئت وعلى رأس رسول الله ثوب قد أُظِلَّ به فأدخلت رأسي، فإذا رسول الله محمَرُّ الوجه وهو يغطُّ،٣٦ أي: يُردِّد نَفَسَه من شدة ثقل الوحي. فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل ما فيه من جهد القوى العصبية؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لوعي الروح وحدها، لا يشاركها في هذا الوعي فكر ولا هاجس،٣٧ ولا يتصل به شيء من حياة الحي، فيتحقق للنبي وجود آخر غير وجوده المحدود بجسمه وطباعه ودنياه؛ ويخرج بوعيه من هذه الجاذبية الأرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قوى الغيب؛ وبذلك يتلقَّى عن روح الكون، ثم يُفصَم عنه وقد وعى ما أُوحي إليه. وما وصفه زيد بن ثابت من أن فخذه كادت تُرضُّ — بُرهان قاطع على أن روحه تنسرح٣٨ من جسمه ساعة الوحي فيثقل الجسم؛ لأنه إنما يخف بالروح وتبقى وظائف الحياة عاملة أعمالها بعسر وبُطء؛ لاتصالها بشعاع من الروح دون الروح بجملتها؛ ولسنا هنا بصدد الكلام عن الوحي، فله موضع إن شاء الله في كتابنا «أسرار الإعجاز» وإنما نريد أن ندلَّ على أن هذه التهيئة الإلهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم في فن بلاغته ، وبها امتاز عن كل بلغاء الدنيا؛ فإن المُلهَم٣٩ من أفذاذ العبقريين على هذه الأرض إنما يبْلُغ ما يَبلغه ببعض هذا الذي رأيت، وفي بعض هذا أبدع ما ورثت الدنيا من فنون البيان، وكأن في الدماغ مادة في موضع منه يميَّز بها من تختارهم السماء لحكمتها وإلهامها، وإذا كان فن العبقريين هو أسمى الكلام الإنساني؛ لما خُصوا به من هذه التهيئة، فإن فنه يكون ولا جرم من باب الأكبر مما هو أكبر في إلهام الإنسانية كلها.
ولهذه القوة النادرة كان بيانه قويًا على مزج معانيه بالنفس بما فيه من صنعة الحياة، وإنما فلسفة البيان الفني أن تمتد الحياة من النفس إلى اللفظ، فتصنع فيه صنعها، فتفصل العبارة الفنية عن كاتبها أو قائلها وهي قطعة من كلامه؛ لتستحيل عند قارئها أو سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور الإدراك؛ فالبيان الفني هو الوسيلة لحمل الوجود وبعثرته في مواضع غير مواضعه، وخلقه خلقًا آخر في النفس الإنسانية؛ وبذلك يُؤَوَّل٤٠ قوله : إن من البيان لَسحرًا. جَعَل نوعًا من البيان هو السحر، لا البيان كله، فالحديث كالنص على ما تسميه الفلسفة الأوروبية اليوم «بالبيان الفني»، كأنه قال: إن من البيان فنًّا هو سحر من عمل النفس في اللغة تُغيَّر به الأشياء، وله عجب السحر وتأثيره وتصرُّفه؛ وهذا معنًى لم يتنبَّه إليه أحد، ولا يُذكر معه كل ما قالوه في تفسير الحديث، وبذلك التأويل يكون هذا الحديث قد احتوى أسمى حقيقة فلسفية للفن.

ومن أثر تلك القوة أيضًا ما تراه من شدة الوضوح في كلامه ، ولقد رأينا هذه البلاغة النبوية العجيبة قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم الحقائق هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها؛ وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المعبَّر عنها، والكلمة الصادقة تُنطَق مرة واحدة؛ فصورتها اللغوية لا تكون إلا صريحة منكشفة عن معناها المضيء كأنما أُلقي فيها النور.

وهو معلوم أنه لا يتكلَّف ولا يتعمَّل، ولم يكتب ولم يؤلِّف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعًا يقبل التنقيح،٤١ أو تعرف له رقة من الشأن كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياس وميزان، أو كأن هذه البلاغة تنبثق بالكلام على طبيعة عاملة فيه بقواها الدائبة الثابتة، ففنها الجميل هو التركيب الذي تجيء فيه كما ترى الشجر مثلًا كاسيًا من ورقه وزهره، فأنت منه بإزاء عمل جميل لأنك بإزاء حقيقة طبيعية قد انفردت في ذاتها، ومعنى انفرادها في ذاتها أنها كذلك هي، فليس فيها موضع لشيء غير ما هو فيها؛ ثم لا تنسَ أن النبوة أكبر السبب في ذلك الوضوح البياني العجيب؛ فإن الحياة لا تستغلق في البلاغة بإنسان إلا وهي غنية عنه؛ ولعل غموض بعض الفلاسفة وبعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة … ألا ترى أن من أساليبهم الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحيانًا هو نقض معناها إذ يتصنعون للفكر ويستجلبون له ويُشقِّقون فيه كما يفعل أهل صناعة الألفاظ بالألفاظ، فها هنا البديع اللفظي؛ وهناك «البديع الفكري» ولا طائل وراءهما إلا صناعة وبهرجة.

ومتى كان النبي قسمًا من الحياة، بل مادة لمعانيها الجديدة، فلن يكون بيانه إلا على ما وصفنا لك جمالًا، ووضوحًا، ومنفعة، ودقة، وسموًّا بقدر ذلك كله.

•••

وهنا معنًى نريد أن ننبِّه إليه ونتكلم في سره وحقيقته، فإنك تقرأ ما جمع من الكلام النبوي فلا تصيب فيه ما تصيبه في بلاغة أدباء العالم مما فنه الكلام في المرأة، والحب، وجمال الطبيعة، وهو في بلاغة الناس كالقلب في الجسم: لا تخلو منه ولا تقوم إلا به، حتى تجد الكلام في المرأة وحدها شطر الأدب الإنساني، كما أن المرأة هي شطر الإنسانية، ولا يعرف له في هذه الأغراض إلا كلمات بيانية جاءت بما يفوت الوصف من الجمال والدقة، متناهية في الحسن، طاهرة في الدلالة، يظهر في وجه بلاغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعة الحياء والخفر؛ كقوله في النساء: «رفقًا بالقوارير»، وقوله لأسامة بن زيد، وقد كساه قُبطية٤٢ فكساها امراته: «أخاف أن تَصِفَ حَجْم عِظَامها.» قال الشريف الرضيُّ في شرح هذه الكلمة: وهذه استعارة، والمراد أن القُبطية برِقَّتها تلصق بالجسم، فتُبيِّن حجم الثديين، والرادفتين، وما يشتد من لحم العضدين والفخذين، فيعرف الناظر إليها مقادير هذه الأعضاء، حتى تكون كالظاهرة لِلَحْظِه، والمُمْكِنة لِلَمْسِه، فجعلها عليه الصلاة والسلام لهذه المَحَالِّ كالواصفة لما خلفها، والمخبرة عما استتر بها؛ وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، ولهذا الغرض رمى عمر بن الخطاب في قوله: «إياكم ولبس القباطي، فإنها إلَّا تشفَّ تصف.» فكان رسول الله أبا عُذْرة هذا المعنى، ومَن تبعه فإنما سلك فجَّه.
قلنا: وهذا كلام حسن، ولكن في عبارة الحديث سرًّا هو من معجزات البلاغة النبوية لم يهتدِ إليه الشريف، على أنه هو حقيقة الفن في هذه الكلمة بخاصتها، ولا نظن أن بليغًا من بلغاء العالم يتأتَّى لمثله، فإنه — عليه الصلاة والسلام — لم يقل: أخاف أن تصف حجم أعضائها، بل قال: حجم عظامها، مع أن المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السموِّ بالأدب، إذ ذكر «أعضاء» المرأة في هذا السياق، وبهذا المعرض، هو في الأدب الكامل أشبه بالرفث،٤٣ ولفظة «الأعضاء» تحت الثوب الرقيق الأبيض تُنبِّه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدَّها الرضيُّ في شرحه، وهي تومئ إلى صورة أخرى من ورائها، فتنزَّه النبي عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغوي على هذه المعاني السافرة … وجاء بكلمة «العظام»؛ لأنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كل نزغة، لا تقبل أن تلتوي، ولا تثير معنًى، ولا تحمل غرضًا؛ إذ تكون في الحي والميت، بل هي بهذا أخص؛ وفي الجميل والقبيح، بل هي هنا أَلْيَق؛ وفي الشباب والهرم، بل هي في هذا أوضح. والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام فالمجاز على ما ترى، والحقيقة هي ما علمت.
ومن كلماته في الوصف الطبيعي قوله وهو يذكر أوقات الصلاة: «العصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وكذلك ما دامت الشمس حية، والعشاء إذا غاب الشفق إلى أن تمضي كواهل الليل.» وكواهل الليل: أوائله وفروعه المتقدمة منه، كالذي يتقدَّم المطايا من أعناقها الممتدة بعض الامتداد؛ وقوله وقد سأله رجل متى يصلي العشاء الآخرة، فقال — عليه الصلاة والسلام: «إذا ملأ الليل بطن كل وادٍ.» وقوله: «إذا طلع حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى ترتفع.» وقوله: «إن رجلًا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألستَ فيما شئت؟ قال: بلى ولكني أحب أن أزرع. قال: فبَذَر فبادَر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصادُه فكان أمثال الجبال.» وقوله: «بينا رجل يمشي فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي! فملأ خُفَّه ثم أمسكه بفيه، ثم رَقِيَ٤٤ فسقى الكلب فشكر الله له، فغفر له.» قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كل كبد رطبة أجر.»
فهذا ونحوه من الفن البديع النادر، وهو مع ذلك لا يأتي في كلامه إلا في مثل ما رأيت، فلا يُراد منه استجلاب العبارة، ولا صناعة الخيال، فيظن مَن لا يُميِّز ولا يُحقِّق أن خُلُوَّ البلاغة النبوية من فن وصف الطبيعة والجمال والحب، دليل على ما يُنكِره أو يستجفيه،٤٥ ويقول: بداوة وسذاجة ونحو ذلك مما تُشبِّهه الغفلة على جَهَلَة المستشرقين ومَن في حكمهم من ضعاف أدبائنا وجَهَلَة كُتَّابنا، وإنما انتفى ذلك عن النبي لانتفاء الشعر عنه وكونه لا ينبغي له كما بسطناه في موضعه؛ فعمله أن يهدي الإنسانية لا أن يُزَيِّن لها، وأن يدُلَّها على ما يجب في العمل، لا ما يحسُن في صناعة الكلام، وأن يهديها إلى ما تفعله لتسمُوَ به، لا إلى ما تتخيله لتلْهُوَ به. والخيال هو الشيء الحقيقي عند النفس في ساعة الانفعال والتأثُّر به فقط، ومعنى هذا أنه لا يكون أبدًا حقيقة ثابتة، فلا يكون إلا كذبًا على الحقيقة.

ثم هو ليس كغيره من بلغاء الناس: يتصل بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليُمْلِي فيها، وقد كانت آخر ابتسامة له في الدنيا ابتسامته للصلاة يتهلَّلُ لطهارة النفس المؤمنة وجمالها قائمة بين يدي خالقها، منسكبًا في طهارتها روح النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما يشبه ما في نفسه، فكل ما رآه المصلي الخاشع في صلاته يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة على نحو من الدين، وكل ما رآه السكران في سُكْره يكاد يراه متخبِّطًا يُعربِد ما يتماسك!

ثم إن الكلام في وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة الأساليب البيانية، إنما هو باب من الأحلام؛ إذ لا بد فيه من عيني شاعر، أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يوحى إليه، فلا موضع للخيال في أمره، إلا ما كان تمثيلًا يراد به تقوية الشعور الإنساني بحقيقة ما في بعض ما يُعرَض من باب الإرشاد والموعظة، كما مر بك من أمثلته، وكقوله : «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه!» وهذا كلام أبلغ ما أنت واجد من تفسيره تلك النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق، كأنه حاسة من النور كُبَّت في شعورها، وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ، كأنه حاسة من التراب …

ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يذكِّره ذنوبه — أن يُحِسَّ بحركة جبل يهمُّ أن ينقلع فيميل عليه، أما الفاجر فيسمعه يذكِّره ذنوبه فإذا هي في خياله نُقَطٌ سُود تمُرُّ مرور الذباب، ليس منه الحس به، كما يحس من يُضرَب على أنفه برجل ذبابة … وجعل الذباب يمر على أنفه دون عينه أو فمه، وذلك منتهى الجمال في التصوير؛ لأن الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألحَّ، فإذا وقع على قصبة الأنف لم يكد يقف ومرَّ مروره.

الكون في نظر النبي آية الحكمة لا آية الفن، ومنظر المستيقن لا منظر المتخيل، ومادة العبودية لله لا مادة التألُّه للإنسان، وبذلك حرَّم الإسلام أشياء وكَرِه أشياء لا يكون الفن بغيرها فنًّا، في ضروب من الشعر والتصوير والموسيقى والحب؛ لأنه إنما ينظر للإنسان واحدًا وجمعًا، وحاضرًا وآتيًا؛ وواجبًا ومنفعة، ولذة وألمًا؛ وهذه كلها لا إطلاق فيها إلا من أجل القيد، على حين أن الفن لا قيد فيه إلا من أجل الإطلاق، وأساس الدين حظ الجماعة وقيودها، وأساس الفن الفرد وحريته؛ وهذه الحياة لا تبدو في حالة تركيب وانتظام إلا إذا كانت للكل، فإذا كانت لفرد ظهرت في هيئة انحلال وانتقاض، وأصبحت في الكون كله كأنها عُمْر إنسان واحد.

ثم إن للفن ألوانًا لا بد منها لتصويره الجميل الذي تُعجب به النفس، والشيطان هو اللون الأحمر فيها … أي: هو أشدها زهوًا وإشراقًا وجمالًا في التصوير الفني لكل ما في المرأة والحب والجمال وشهوات النفس، ولسنا نُنكر أن الحياة القوية حين تُمازجها هذه الفنون تكسب مرحًا ونشاطًا ويكون لها رونق، وفيها متاع؛ ولكن الحياة لا تكون بها كذلك إلا من أنها تحتسي٤٦ خمرها … فلها بعدُ من عاقبة هذه الفنون شبيه بما يكون للجسم القوي من عاقبة الخمر إذا تغلغلت الخمر في شعاب كبده وأحاطت رطوبتُها يابسَه، كما وقع في أطوار كثيرة من تاريخ الأمم؛ فليس الاعتبار في هذا التشبيه بما يعرض من تأثير الساعة الزائلة بأفراحها وفن حياتها، بل الشأن للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتها الباقية بأحزانها وفن هلاكها، فالإسلام فيما حرَّم وكره من ذلك لم يزد على أن أراد للحياة أن تحيا؛ لأنه لا يُقرُّ صورة من صور انتحارها.

ومن كان أكبر عمله إنشاء الحقائق الإنسانية وتقريرها شريعة وعاطفة وأعمالًا، فلا جرم كان فنه غير الذي أكبر عمله تمويه تلك الحقائق وزخرفتها؛ ليقع الإحساس بها على غير وجهها، فتخفَّ بالواقع منها على النفس خفة الكذب في ساعة تصديقه وهذا هو أكبر عمل الشعر.

وها هنا سرٌّ دقيق لا يتم كلامنا إلا بشرحه؛ لنقطع القول في هذا المعنى، فيظهر حقه من باطله؛ قلنا آنفًا: إن النبي ليس كغيره من بلغاء الناس؛ يتصل بالطبيعة يستملي منها، بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليُملِي فيها، ومعنى هذا أنه لا يعرض له من زيغ النفس ما يعرض لغيره من الناس، فأحكم حكماء الدنيا لا يستطيع أن يتبيَّن جزءًا صغيرًا من الكون على حقيقته؛ إذ كانت حواسُّ الجسم غير مُهيَّأة لذلك، ففهم جزء من الكون فهمًا صادقًا جزمًا لا يتمُّ إلا بفهم الكون بأجمعه، فهو كله ذرَّة مكبرة إلى ما لا ينتهي ولا يُحَدُّ، وليست النبوة شيئًا غير الاتصال بالسر.

والحاضر الذي يكون في إنسان من الناس، هو حاضر ليس غير؛ لأنه يتحوَّل ويفنى، فهو من الزيغ الذي يعتري النفس، ومنه كل أغراض الحياة البشرية الفانية؛ ولهذا كان طابع الله على نبينا هو تجريده من زيغ٤٧ الهوى وسرف الطبيعة، فهو من الناس ولكنه مُتخلِّق بأخلاق الله — سبحانه — وله في هذا الباب ما ليس لأحد ولا يُطيقه أحد، ويجب على مَن يقرأ سيرته وشمائله وحديثه أن يبحث دائمًا عن طابع الله في كل شيء منها، فإنه سيرى حينئذٍ كأنه يدرسها مع الملائكة لا مع الناس، وسيظهر له من تفسيرها أن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الأخلاقية العليا إلا فيها، وأنه كان إنسانًا، وكان أيضًا حركة في تقدم الإنسانية؛ وأن من معجزاته أنه أطاق في تاريخه ما عجزت عنه البشرية في تاريخها، وأن كل أموره موضوعة وضعًا إلهيًّا كأنها صفات كوَّنها الله وعلَّقها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة.
إن الشهوات والمصالح إنما هي حصر النفس في جانب من الشعور محدود بلذات وهموم وأحاسيس تجعل غرض الإنسان في الإنسان نفسه، فهو كما يملأ معدته ويتأنَّق في الاختيار لها، يريد من كل ذلك أن يملأ شخصه على هذه الطريقة بعينها، طريقة إشباع معدته … وبهذا تسخر منه حقائق الكون؛ لأنها لا تُحدُّ بشخص، ولا تنحصر في أحد، وكل مَن كانت حدوده الإنسانية جسمه ولذات جسمه، فهو في مقدار هذا الكون كالميت المحدود من الأرض كلها بقبره وتراب قبره؛ وإنه ليجد جسمه وأكاذيب الطبيعة عليه، ولكنه لن يجد الروح وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فلن يعرف الكون وأسراره؛ وإذا فقد هذا فهو الحاضر الضيق المشوَّه المكذوب، ومن ثَمَّ ففنُّه شهوة إحساسه وإن كان مخدوعًا، وشهوة نظره وإن كان مُلبَّسًا عليه، وشهوة خياله، وإن كان التمويه والزور والحاضر الضيق المشوه المكذوب الخادع هو المسمى في لغة القرآن والحديث «بالدنيا» فإذا اتسع الإنسان لروحه وأدرك حقيقتها، ووعى ما بينها وبين الكون؛ وأخذ يحقِّق هذه الروح السماوية في أعماله، وتخطَّى حدود جسمه إلى فكرة الخلود؛ فهذا كله هو المسمى في لغة القرآن والحديث «بالآخرة»؛ فهما كلمتان في منتهى الإبداع من الفن والفلسفة؛ وعلى ذلك يُؤَوَّل قوله في خطبته: من كان همُّه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتتْه الدنيا وهي راغمة؛٤٨ ومَن كان همه الدنيا فرَّق الله أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له.

وأنت إذا فسرت هذه الكلمات بما وصفنا لك ووجَّهْتَها على ذلك التأويل، رأيت عجائب معانيها لا تنقضي، وأدركت سر قوله : «إني على علم من الله علمنيه.» فاتساع الذات الإنسانية وممادَّتها لحقائق الكون، يجعل الإنسان كالكون نفسه، مجتمعًا غير مُفرَّق على هموم الحياة؛ ويجعل الغِنَى معنًى لا مادة؛ ولو امتلك إنسان من الناس كل ما طلعت عليه الشمس، وكان له كنز في المشرق وكنز في المغرب، لما بلغ شيئًا قليلًا من لذة هذا المعنى في قلبه؛ وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضة التي يهلك الناس في تحصيلها وليست إلا ضرورة صغيرة، قد تكون في ثوب ولقيمات ونحوها مما لا خطر له، وهذا هو إرغامها وهي مالكة الملوك، فإذا ضاق الإنسان عن روحه أصبحت النفس كالمُنْخُل يوضع الدقيق الناعم فيه؛ ليخرج منه فيمسكه كله ولا يمسك منه شيئًا، وُضع بين عينيها معنى الفقر، فهي تعمل أبدًا لتمتلئ، ولا تمتلئ أبدًا؛ وإذا كان المنخل متخذًا على الطريقة التي صُنع بها، ففقره ولا جرم معلَّق عليه من ذات تركيبه. «أفهمت»؟

ولما كان النبي متساوقًا٤٩ مع الحقيقة، متصلًا بها، محدودًا بربه لا بنفسه؛ كان لذلك خارجًا من حاضر ما نحن فيه، ممتدًا بمعناه الإنساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة، فما نحصره نحن بطبيعتنا في بعض الأسماء لا يَلتفِت هو إليه بطبيعته؛ ومن ذلك أوصاف الغنى والحلية والنعيم والمتاع والجمال والمطعم والمشرب، وما داخل الطبيعة من مثل معانيها، وما جرى هذا المجرى، فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليه والمطمع فيه؛ إذ كان ضعف إدراكهم وضيق وعيهم مما يبدع لهم أكاذيب الخيال، فتجيء من ذلك أوصافهم وفنون أوصافهم؛ أما النبي فيرى ذلك من ناحية الغنى عنه والسمو عليه؛ إذ كان لا ينظر بطبيعة روحه العظيمة إلا أعلى النظرين وأطهرهما، فآخر إدراكنا للحقيقة والطبيعة أول إدراكه هو الطبيعة والحقيقة، وما تعجز عنه الإنسانية تبدأ منه النبوة.

وعلى هذا فإن من أقوى البراهين على كماله ونبوته واتساع روحه ونفاذ إدراكه لحقائق الكون أنه لم يتبسَّط في تلك الفنون كما يصنع البلغاء، ولم يأخذ مأخذهم فيها؛ إذ كانت كلها من أكاذيب القلب والفكر والعين.

وفي قانون الحقيقة أن الأشياء هي كل الأشياء وهي كما هي، أما في قانون الكذب فالأشياء كلها هي ما تختاره أنت منها، وكما تختاره.

بحسب الدنيا من جمال فنه ما يضيف إلى الحياة عظمة الأشياء العظيمة، ويدفع الإنسانية في طريقها الواحد الذي هو بين الأب والأم، طريق الأخ إلى أخيه، يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدم بين القلبين رحمة ومودة؛ وبحسبنا من جمال هذا الفن ما يهدي الإنسان إلى حقيقة نفسه؛ فيُقرِّه في الحقيقي من وجوده الإنساني؛ ويجعل الفضائل كلها تربية للقلب؛ يكبر بها، ثم يكبر، ثم لا يزال يكبر حتى يتَّسع لحقيقة هذه الكلمة الكبرى: الله أكبر.

١  يخطر لي: يطرأ على بالي.
٢  انكشف الخاطر: ظهر وبان.
٣  السليقة: الموهبة اللغوية.
٤  استنباط: استخراج.
٥  خاض البحر: ركب متنه مغامرًا.
٦  تأدى: وصل إلى الغاية المرجوة منه.
٧  تجترم: تقع في الجريمة.
٨  متسقة: متجانسة.
٩  رهط: أفراد.
١٠  يقصد أنه كان لا يسقي أحدًا من عائلته قبل والديه. والغَبوق ما يُشرَب في العَشِيِّ.
١١  نأى: بعُد.
١٢  برق الفجر: انبلج، وأشرقت الشمس.
١٣  فرج عنا: اكشِف عنا.
١٤  أردتها عن نفسها: راوَدتُها.
١٥  تفض: تفتح.
١٦  تحرج: احترس وخشي.
١٧  ثمرت: جعلته ينمو.
١٨  تطابقوا: توافقوا.
١٩  سبغت النعمةُ: اتَّسَعَتْ.
٢٠  بنانه: أصبعه.
٢١  ألزم: أجبر.
٢٢  راضها: مرَّنها وعوَّدها.
٢٣  الشح: البخل.
٢٤  يبسط الكريم: يمدُّ يد المساعدة.
٢٥  تنافرهم: تنابذهم واختلافهم.
٢٦  عبثهم: لعبهم.
٢٧  استبرأت: خلَّصت.
٢٨  تدبرته: تدارسته.
٢٩  انخلعوا: خرجوا.
٣٠  يفصم البرد: يُقلع.
٣١  يتفصد عرقًا: يجري عرقه.
٣٢  برحاء الحُمَّى: شدتها.
٣٣  يتحدر: ينهمر.
٣٤  الجمان: اللؤلؤ.
٣٥  ترض: تُحطَّم.
٣٦  يغط: يغيب عن عالم المحسوسات.
٣٧  هاجس: فكر طاريء.
٣٨  تنسرح: تنفلت.
٣٩  الملهم: الموهوب.
٤٠  يئول: يُفسَّر ويتحوَّل.
٤١  التنقيح: التصحيح.
٤٢  ضرب من الأردية المصرية.
٤٣  الرفث: هو ما بذؤ من الكلام.
٤٤  رقي: صعد.
٤٥  يستجفيه: يجده قاسيًا جافيًا.
٤٦  تحتسي: تشرب قليلًا قليلًا.
٤٧  زيغ الهوى: ميله.
٤٨  راغمة: ذليلة، خاضعة.
٤٩  متساوقًا: منسجمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤