شيطاني وشيطان طاغور …

طاغور هذا شاعر الهند، مر بمصر مرور شمس الشتاء باليوم المطير؛ لا يقع نورها إلا في القلوب مما تستخفُّ وتستهوي، ومما تمتنع وتتأبَّى، ومما ترِقُّ وتلطُف؛ وتنقدح بين السحب الهامية فإذا لها من الجمال والسحر والعجب ما يكون لجمرة تُخرجها السماء معجزة للناس فيرونها ترسل الشعاع مرة وتمطر الماء مرة.

لم ألْقَ طاغور ولكني أنفذتُ إليه شيطاني وقلتُ أوصيه قبل أن يخرج لوجهه: قد علمتَ أن هذا الرجل هندي؛ ولكنه إنسان، فما أرضٌ أولى به من أرض؛ وأنه شاعر، ولكنه مخلوق، فما طبيعة أغلب عليه من طبيعة؛ وأنه حكيم، ولكنه تركيبُ ما جُبلت له طينة غير الطينة؛ وأنه سماوي، غير أنه سماوي كعلماء الفَلَك: سماؤه في منظارٍ وكتابٍ وقلمٍ وحبرٍ … فاذهب إليه فداخل شيطانه، فإنك واجد له من ذلك ما لكل الشعراء، وربما عرفتَ شيطانه من ذوي قرابتك أو خالصة أهلك، ثم ائتني كلامَه على جهة ما هو مفكر فيه، لا على جهة ماهو متكلم به؛ وخذ ما يهجس١ على قلبه، ودع ما يجري في لسانه؛ فإن هذا سيأتي به إخوانك من «مندوبي الصحف» … واعلم أن كل حكيم مُهيِّئ لمسائل مَن حولَه كلامًا. غير أن معاني مَن حوله مهيِّئة له مسائل أخرى يفكِّر في كل جواب عليها ولا ينطِق بجواب عليها.

•••

فحدثني شيطاني بعد رجوعه قال: حدثني شيطان طاغور قال: لمَّا هبط طاغور هذا الوادي نظر نظرة في الشمس، ثم قال: أنتِ هنا وأنتِ هناك، تقرُبين بأثر وتبعُدين بأثر، وتطلعين بجو وتغربين بجو، فلا تختلفين وتختلف بك الأقاليم، ثم تتغير بالأقاليم الأمم، ثم تتغير بالأمم الأفكار والمنازع ثم تتغير بالأفكار والمنازع أغراضها ومصالحها، ثم تتغير بمصالحها وأغرضها الحقائق الإنسانية؛ وإنما الباطل والحق فيما تستقبل هذه الحقائق أو تستدبر،٢ وقد غلبت السياسة على كل شيء حتى أصبحت هذه الحقائق الإنسانية جغرافية، لها شعوب ولها مستعمرات؛ فالإخاء في الغرب سيادة في الشرق، والمساواة هناك امتياز هنا، والحرية في مملكة استعباد لمملكة، والتحية في موضع صفعة في موضع والضيافة في مكان استئكال في مكان؛ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ، فلن يتصل الناس بالروح الأعلى إلا من الجهة الواحدة التي لم تتغير ولن تتغير فيهم، جهة الدموع التي لا تختلف في أسود ولا أحمر، والتي لا تنبعث إلا من الرقة والوجد والأحزان والآلام، وهي بذلك نسب كل قلب إلى كل قلب، فلو غمر العالم كله بلاء واحد لا تحرز منه أرض أهلها ولا تتحاجز الأمم فيه، لاستلب مطامع الناس بعضهم في بعض، وأرجع الإنسانية الزائغة إلى مستقرها، فتجرَّدوا من الدنيا وهم في الدنيا، فاتصلوا باللانهاية وهم في النهاية؛ فإن لم يكن بلاء عام ففكرٌ عام في بلاءٍ يُميت الشهوات المتطلِّقة ويكون كالداء تلبَّس بالجنس الإنساني كالذي تصِفه الأديان من جهنم والمصير إليها والحساب عندها والجزاء على الشر بها، حتى لا تَبقَى نفس إلا وهي في وثاق من حلالها وحرامها، ولا يبقى شرٌّ يُتخيَّل أو يُشتهى إلا وهو كالمتاع النفيس بين أربعة جدران تتساقط وتحترق لا يجد في كل اللصوص لصًّا، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فالحب العام حتى لا يبقى جيش ولا سلاح ولا سياسة ولا دول، ولا تكون الممالك إلا بيوتًا إنسانية بين الواحدة والكل من الشابكة واللُّحْمة ما بين الكل والواحدة، وحتى تقول مصر لإنجلترا: يا بنتَ عَمِّي … فإن استحال كل هذا فالحرية العامة على أن تكون محدودة من كل جهاتها بالشعر، وعلى أن يكون الشعر محدودًا بالطبيعة والطبيعة محدودة بالله، فينتزع النومَ من الأرض لتتصل اليقظةُ بالحُلم … من طريق غير النوم.

قال شيطان طاغور: ثم ابتأسَ طاغور وقال: كل ذلك مستحيل أو كالمستحيل ولكنه في الأمل ممكن أو كالممكن؛ وللفظ معنيان: أحدهما ما يكون، والثاني ما يحسن أن يكون؛ ذلك لا بد له منَّا؛ لأنه جانب النظام الإلهي، وهذا لا بد لنا منه؛ لأنه جانب الخيال الإنساني؛ ذلك من الطبيعة التي تعمل ولا تتكلم، وهذا من الشعر الذي يتكلم ولا يعمل. آه آه! إنما السلام العام أن يكون الوجود شركة إلهية إنسانية برضًا واتفاق بين الطرفين … ولَعَمْري إن كل المستحيلات ممكنة بالإضافة إلى هذا المستحيل. ثم تبسَّم طاغور إذ خطر له أنه شاعر عليه أن يصف الوردة ويقول فيها ما يجعلها بيت شعر في كتاب الطبيعة له وزن ونغم، ولكن على الطبيعة قبل ذلك أن تُنبِتها ناضرة عطرة جميلة تتميَّز عن غيرها برائحة ولون وشكل.

قال شيطانه: ولما انتهى من تأمُّله إلى هذه الخاطرة قدَّمتْ له سيدة هندية عقود الزهر، وبينا هي تُقلِّده إياها قال في نفسه: إن هذه الأزهار من معاني الماء العذب؛ فإذا انطلقنا في أوهامنا وراء الحب العام والسلام العام فلِمَن تكون معاني الماء المِلْح، وهو ثلاثة أرباع الأرض، ومِن أزهاره الأسطول الإنجليزي …

•••

حدثني شيطاني قال: حدثني شيطان طاغور قال: ولما استقر طاغور في قصر شوقي بك ورآه في مثل حُسن الدينار ونقْشِه ونفاسته، قال: لا جَرَم هذه أمةٌ أغنتْ شاعرها، فما أخطئ التقدير، وإن أخطأتُه فلا أبعد عن المقارنة إذا حسبتُ أن هذا الشاعر يطبع لهذه الأمة نصف مليون نسخة من كل ديوان شعر أو دفتر حكمة أو كتاب قصة، وليتَنِي أعرف العربية لأعرف كيف يُبدع هذا الشعب فلسفته في أغانيه المتصلة بغيوم السماء المتكلِّم بأحسن وأطهر ما يمكن أن يكون ترجمة للحقيقة الخالدة التي يتوارثها شعب خالد.

الشعر فكرة الوجود في الإنسان، وفكرة الإنسان في الوجود، ولا يكفي أن يُخلَق هذا الإنسان مرة واحدة من لحم ودم، بل لابد أن يُخلَق مرة أخرى من معانٍ وألفاظ، وإلا خرج حيوانًا أعجم؛ فالشاعر يبدع أمة كاملة، إن لم يخلقها فإنه يخلق أفكارها الجميلة وحكمتها الخالدة وآدابها العالية وسياستها الموفقة وما أحسب النهضة المصرية إلا بالأغاني والأناشيد، فتأتي من إنجلترًا جنود وتخرج لها من دُور الغناء والتمثيل جنود أخرى؛ لقد كنتُ ملهَمًا حين قلتُ مرة: «إن الله يخاطب الناس عن طريق الموسيقى.»

نعم عن طريق الموسيقى، فكل شيء هو موسيقى في نفسه حتى حين يتطاحن الناس ويذبح بعضهم بعضًا، فإن صلصلة٣ الأسلحة ودويَّ القنابل وأزيز الرصاص وتصايُح الجند — كل ذلك لحن أعدَّه الله — جلَّتْ قدرته — «وموسيقاه» … لجنازات الأمم.

•••

حدثني شيطاني قال: حدثني شيطان طاغور قال: ولمَّا رأى طاغور الأستاذ الفاضل مدير الجامعة المصرية — وهي التي دعتْه إلى إلقاء محاضرته — قال: نعم وحبًّا وكرامة، إنه لا يستقيم في العقل أن تدعو هذه الجامعة شاعرًا روحانيًّا مثلي إلا وهي فَلَكٌ نَيِّرٌ يعُدُّه الله من نجومه، وما أحسب أستاذ آدابها العربية إلا تلك الذرة اللؤلئية التي كانت تجاورني في طينة الخلق الأزلية، فلو أن الذرات الثماني التي كانت حولنا خُلقت في عصرنا هذا وتوزَّعت على الأمم الفلسفية لكنا وإياها كوصايا الله العشر في هذا العصر المادي … ولملأنا طياتها إيمانًا بالله، ولصار لله — تعالى — في أرضه عشر آلات سماوية لاسلكية بينه وبين الخلق، تُباهِي الجامعة المصرية بأن فيها إحداها … لقد نغَّص عليَّ هذه الشيخوخة أني لم أتعلم العربية، وكيف لي بأن أرتِّل أناشيد أستاذ الآداب في الجامعة المصرية لأستمتع بألحانه السماوية في شعره وأغانيه، وأسمع الملائكة من هذه المئذنة الإنسانية في الجامعة تهتف بكلمة الإسلام الرهيبة صارخة بحقيقة الوجود في الوجود: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله …

قال شيطاني: وكان شيطان الدكتور طه حسين أستاذ الجامعة حاضرًا معنا، فلما ألمَّ بما في نفس طاغور قال لي: حقًّا إنَّ من الخير ألَّا يعرف هذا الهندي اللغة العربية؛ لأنه لو عرف اللغة العربية لما أرضتْه اللغة العربية ولا أدابُ اللغة العربية ولا أستاذُ آداب اللغة العربية! فقلت: اسكُتْ ويحك ودع الرجل في أحلامه، ولا تكن غيمة سمائه المشرقة؛ أما تراه يحلم، أما سمعته يقول: «والحقيقة من حيث هي جمال ليس يعدله جمال؛ ألستَ ترى إلى صورة هذه المرأة العجوز أبدعها فنان ماهر، إنك تنظر إلى الصورة فتُقرُّ بجمالها، ولكن المرأة العجوز التي فيها ليست على شيء من الجمال؛ لكنما جمال الصورة أنها تمثل هذه المرأة العجوز على حقيقتها.» فهذه كلمات في سبحات النور، وهي من لغة السماء ذات الكواكب لا من لغة النفس ذات العواطف؛ وإلَّا فهل يصحُّ في العقل أن تصوير العجوز التي اضطرب ميزان الخَلْق فيها حتى لا يزن منها إلا بقايا الخلقة وأنقاض العُمر وخرائب المرأة … يكون بما يظهر من شوهتها وتهدُّمها وتشنُّن جلدها وموت ظاهرها — جمالًا في الصورة؛ لأنه قبيح في الأصل؟ أفليس لو كان ذلك صحيحًا لمُلِئت المتاحف والقصور بألواح العجائز، ولما بقيت على الأرض عجوز إلا ذهبتْ لأحد المصورين تقول له: اخلقني! …

•••

حدثني شيطاني قال: حدثني شيطان طاغور قال: وكان طاغور رطب اللسان في محاضرته كأن غابة من غابات الهند أمدَّتْه بكل ما اعتصرته الشمس فيها ماء وحياة ونضرة، فهو في كلامه ومعانيه ورق وزهر ونسيم وظل وحفيف وتغريد، يَسْحَر الناظر؛ إذ لا يرى الناظر شكله الإنساني فيه، بل يراه شيئًا من خياله كأنما انفصل منه فتمثَّل بشرًا سويًّا، ولو أنك اطَّلعتَ يومًا في المرآة فإذا خيالُك فيها يكلِّمك ويستأنسك ويلطف لك، لما أدهشك من ذلك ولا أطربك ولا استخرج من عجبك وذهولك إلا كالذي يعتري نفسك حين يكلمك طاغور؛ وتراه يستخلص آراءه المتصرفة بكلامه من روح النواميس الإلهية المدبِّرة للكون، فتُحِسه يضيف إليك زيادة ليست فيك؛ فمهما كبُرتَ به تصغُرْ نفسك عندك بين يديه؛ ثم هو يتصل بروحك مرة في جلال حب الأب لطفله، ومرة في رقة فرح الطفل بأبيه؛ فإذا أنت منه بموقف عجيب من معجزة إنسانية تروعك بطفل شيخ قد اجتمع فيه طرفًا العمر وجاء كأنه مظهر روحه التي لا عمر لها.

إنسان كهربائي يحاول أن يزيد في تركيب الناس عظْمة من حديد أو عَصَبًا من سلك؛ لتصل بهم جميعًا تلك الشعلة الطائفة؛ فإذا هم خلق آخر كأهل الجنة: يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ ولكنه بَصُرَ وهو خارج من المسرح بإعلان السيما التي تجاوره وما عليه من التصاوير والتهاويل، فقال في نفسه: بعد قليل تجيء إلى هنا لندن وباريس ونيويورك وغيرها من أرض الله بناسها وحيوانها ونباتها، يراها الجالسون رأي العين ويتصلون بها اتصالًا بعيدًا لا يجعلهم فيها ولكنه لا يُخليهم منها؛ ويجب لعمران هذه الأرض أن يبقى أهل مصر في مصر فلا يدعوها جميعًا؛ ليتصلوا جميعًا بما تشتاقه أنفسهم من باريس أو غير باريس من حقائق العالم الكبرى، ولا يحسن هذا الاتصال إلا إذا خصَّ ولم يعمَّ، فيقوم به الواحد والاثنان والجماعة وتبقى الأمة بما هي وكما هي؛ لأنها بذلك وحده أمة، كما أن الناس بطبائعهم ناس، والكون باختلافه كون، فهيهات هيهات الحب العام والسلام العام والاتصال العام بالحقيقة الروحية العليا. ثم تبسَّم وقال: ما أشبهني بهذه السيما، غير أن شريطي لا يرى فيه الناس رواية من لندن وباريس، بل رواية وقعت حوادثها في جنة الخلد …

١  يهجس: يخطر بباله ويحادث به نفسه.
٢  تستدبر: تتراجع.
٣  صلصلة الأسلحة: قعقعة السلاح وأصواته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤