أبو تمام الشاعر

تحقيق مدة إقامته بمصر
لم يبقَ بدٌّ من أن نبلغ بالكلام في هذا المعنى إلى مقطع الحق فيه، وأن ننفذ بتحقيقه إلى خاصته، وننتهي من خاصته إلى برهانه؛ فإن علماء الأدب قديمًا وحديثًا ألقَوْا خبر أبي تمام كلامًا مرسلًا يجري في الرواية على طرقها المختلفة، لا على التاريخ في وجهِهِ المتعيِّن، ويُؤخَذ على أنه خبر كالأخبار إن صدَقَ فقد صدق وإن كذَبَ فهو على ما يجيء؛ إذ لم يكن يَعنِيهم من الشاعر إلا شعرُه، يحملونه عنه أو يأخذونه من رُواته، أو يجِدونه في ديوانه؛ أما أخبار الشاعر فهي لا تتصل بالكتاب ولا بالسُّنَّة، فتجتمع لهم كما تجتمع ويتناولونها كما اتَّفَقَت بما دخلها من الكذب والتزيُّد والتلفيق، وما يكون فيها مما يُظاهِر بعضُه بعضًا أو ينقُض بعضه على بعض؛ والمحقِّق منهم من يروي الصدق والكذب معًا ليخرُج من التَّبِعة، فلا بد من تَبِعة في أحد النقيضين؛ وليبرأ بصِدْق أحدهما من كَذِب أحدهما كما صنع ابن خِلِّكان في سياقه خبرَ أبي تمام وهذا نص عبارته:

كانت ولادة أبي تمام … بجاسم وهو قرية بين دمشق وطبرية، ونشأ بمصر، قيل: إنه كان يسقي الماء بالجَرَّة في جامع مصر، وقيل كان يخدم حائكًا يعمل عنده بدمشق وكان أبوه خمَّارًا بها.

والذين يعرفون طُرُق الرواية ومصطلحاتها يُدرِكون من هذه العبارة أن ابن خِلِّكان ينتفي من أن تكون عليه تبعة أحد الخبرين أو كليهما، فإن الرواية متى افتتح الخبر «بقيل أو يقال» فقد دلَّ على أن هذا الخبر غير مقطوع به؛ إذ تُسمَّى هذه الصيغة عندهم صيغة التمريض، فهي لا تفيد الصحة ولا الجزم بها، وظاهرٌ أن أبا تمام لا يمكن أن يكون قد نشأ بمصر وبدمشق في وقت معًا.

وابن خِلِّكان قد وقف على الكتاب الذي عمله الصُّولي في أخبار أبي تمام ونقل عنه، وهو المرجع في هذا الباب؛ فلا بد أن يكون هذا الكتاب قد خلا من تحقيق هذه الرواية، بل نحن نرجِّح أنه قد خلا منها بتَّة، فلم يذكر أن نشأة أبي تمام كانت بمصر؛ لأن صاحب الأغاني أغفلها ولم يُشِر إليها بحرف، مع أنه ينقل عن الصولي نفسه ويقول في كتابه: «أخبرني الصولي» وكذلك أهملها صاحب «مروج الذهب»، وهو ينقل أيضًا عن الصولي، وهذا يُثبِت لنا أن الخبر لم يكن معروفًا يومئذٍ، وإلَّا هو التاريخ عند أبي الفرج والمسعودي إن لم يكن هو هذا؟

ولكن ذُكرَتِ الرواية في كتاب الأنباري «طبقات الأدباء»، واقتصر ناقلها على أنَّ أبا تمام نشأ بمصر، وأنه كان يسقي الماء بها، ولم يذكر رواية عمله بدمشق؛ والأنباري متأخِّر توفي سنة٥٧٧، فهو بعد موت أبي تمام بثلاثة قرون ونصف، فلا قيمة لروايته، وشأنه شأن غيره من الناقلين؛ ونحن نرى أن هذه الرواية قد صُنِعَتْ في مصر نفسها للغَضِّ١ من أبي تمام والزِّراية عليه، وبقيت مروية فيها ثم حُمِلت كما تحمل كل رواية لِذَاتِها لا لتحقيقها، سواء أكانت موجَّهة على الحق أم معدولًا بها عنه؛ ولا أوضعَ في المهنة من سقاية الماء في الجامع بالجَرَّة، ولَعَمْري ما ذُكِرتِ «الجرة» هنا عبثًا؛ والغلوُّ في التحقير هو بعينه الدليل على الكذب، فهذه الكلمة كأثر المجرم في جريمته …

وبعدُ، فإنا نُقرِّر أن هذا الشاعر العظيم لم ينشأ بمصر، وأنه وُلد وتأدَّب في الشام ثم قَدِم إلى مصر شاعرًا ناشئًا يتكسَّب بأدبه كما قدم عليها غيرُه من الأندلس والمغرب والشام، والعراق، وأنه لم يأتِ إلى مصر إلا في ولاية عبد الله بن طاهر الأديب الشاعر القائد العظيم، وقد جُعلتْ له ولاية مصر والشام والجزيرة في سنة ٢١٠ أو ٢١١ على خلاف بين المؤرخين، وكانت سنُّ أبي تمام يومئذٍ بين ٢١ و٢٣ سنة؛ وقد كان ابن طاهر مغناطيسًا للشعراء في كل مكان ينزله، حتى قال فيه بعضهم وعَزَم على الهجرة إلى مصر:

يقول رجالٌ: إنَّ مصرَ بعيدةٌ
وما بَعُدتْ مصرُ وفيها ابنُ طاهرِ
وأبعدُ من مصرَ رجالٌ نَرَاهُمُ
بحضرتِنا معروفُهُم غيرُ ظَاهِرِ
عن الخيرِ مَوْتَى ما تُبالِي أزُرْتَهُمْ
على طمعٍ أم زُرْتَ أهلَ المَقَابِرِ

وقد قصده أبو تمام إلى مصر، كما قصده بعد ذلك إلى خراسان في سنة٢٢٠، وهي السنة التي وَضَعَ فيها أبو تمام أو في التي تليها كتابَ «الحماسة» كما حقَّقْناه ولا محلَّ لذكره هنا.

ونحن نسوق أدلَّتنا على صحة ما ذهبنا إليه في نفي أن يكون أبو تمام قد نشأ بمصر أو جاءنا طفلًا، أو تكون منها طبيعتُه في الشعر، أو يكون لها أثر في عبقريته:
  • (١)

    المجمع عليه بلا خلاف أن الشاعر ولد في الشام، وما دام كذا لقد قالت الطبيعة كلمتها في أصل نبوغه وعبقريته، فإن الأديب يُولد ولا يُصنع كما يقول الإنجليز؛ وكل العلماء يعرفونه بالطائي! ولا يطعن في نسبه إلا مَن لا يحقِّق وهو نفسه يُباهِي بطائيته، وذلك كالشرح على كلمة الطبيعة في أسباب نبوغه الوراثية؛ وقد تنقَّل الرجل بين مصر والشام والعراق وخُراسان وأرمينيا وغيرها، فما بلدٌ أولى من بلد بأن يكون مثار عبقريته.

  • (٢)

    إن الشاعر إنما يتكسَّب من شعره يمدح مَن يهتزُّ له أو يُعطي عليه، ولم يمدح أبو تمام أحدًا من أهل مصر؛ فإن كان مدح فيها عبدَ الله بنَ طاهر فإنما إليه قَصَد وله جاء؛ وابن طاهر ليس مصريًّا، وقد جاء إلى مصر ورجع منها قبل أن يَحُول عليه الحوْل، فلو أن نشأة هذا الشاعر كانت بمصر وتأدُّبه كان فيها لأصبنا له مدحًا كثيرًا في أعيانها وعلمائها؛ إذ هو متى قال الشعر لا يتكسَّب إلا منه؛ وفي ديوان الشاعر هجاء لابن الجلودي نظمه في مصر، ولكن ابن الجلودي ليس مصريًّا بل هو قائد من قُوَّاد المأمون، ولَّاه محاربة الزطِّ سنة ٢٠٥، ثم أقدم بعد ذلك مصر، ثم ولي عليها في سنة ٢١٤؛ فكل المصرية في شعر أبي تمام هي في هجائه للشاعر المصري يوسف السراج، ولعلها في بعض مقاطيع أخرى من الغزل أو الوصف.

  • (٣)

    ولد أبو تمام في سنة ١٨٨ أو١٩٠، ومن الثابت أنه كان بمصر في سنة ٢١٤، حين نظم قصيدتَه الدالية والنونية في رثاء عمير بن الوليد — وعمير هذا ليس مصريًّا، بل هو من خراسان، وكان بمصر عاملًا لأبي إسحاق المعتصم بن الرشيد — فلو كان أبو تمام قد جاء إلى مصر طفلًا كما يقال لكانت مدة قوله الشعر فيها لا تقل عن عشر سنوات، مع أن كل ما نظمه وهو فيها لا يبلغ عشر قصائد؛ وهذا ديوانه بين أيدينا وإليه وحدَه المرجع في الدلالة على صاحبه.

  • (٤)

    روى المرزباني في «الموشَّح» عن العباس بن خالد البرمكي قال: أول ما نبغ — أي: قال الشعر — أبو تمام الطائي أتاني بدمشق يمدح محمد بن الجهم فكلمتُه فيه فأذن له؛ فدخل عليه وأنشده، ثم خرج فأمرَ له بدراهمَ يسيرة، ثم قال: إنْ عاش هذا ليخرجنَّ شاعرًا.

    فهذا نصٌّ على أن الشاعر لم يكن يومئذٍ إلا في ابتداء الشعر، ولم يكن قد خرج شاعرًا بعدُ وكان شعرُه من الطبقة التي يُثاب عليها «بدراهم يسيرة». وأبو تمام بعد ذلك هو نفسه الذي نَثَرَ عليه عبدُ الله بن طاهر ألفَ دينار فترفَّع أن يمسَّها وترك الخدَمَ ينتهبونها، وكان ذلك سببًا في تغيُّر ابن طاهر عليه.

  • (٥)

    نقل ابن خِلِّكان في ترجمة ديك الجن الشاعر الحمصي المشهور، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنتُ جالسًا عند ديك الجن — يعني: بحمص — فدخل عليه حدثٌ فأنشده شعرًا عمله، فأخرجَ ديكُ الجنِّ من تحت مصلَّاه دُرْجًا كبيرًا فيه كثير من شعره، فسلَّمه إليه وقال: يا فتى تكسَّب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتًى من أهل جاسم، يَذكُر أنه من طيِّئ، يُكنَى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع. فهذا نصٌّ آخر على أن أبا تمام كان يومئذٍ حدثًا — أي: غلامًا — وكان لا يزال يطلب الأدب، وقد أعانه أستاذُه بنُسَخ من قصائده يتخرَّج بها ويحذو عليها؛ فهو قد نشأ في الشام وتأدَّب فيها.

  • (٦)

    نظم أبو تمام قصيدته اللامية «أَصِبْ بحُمَيَّا كأسها مقتلَ العَذْلِ» يصفُ تقتير الرِّزْق عليه بمصر وخيبة أمله الذي أمله من المال، وفي هذه القصيدة يحنُّ إلى الشام ويستسقي لها ويذكر أرض البقاعين وقرى الجولان التي نشأ فيها: ولا يحن الشاعر لأرض إلا إذا كان فيها حبه أو شبابه وأدبه، أما الطفولة فمَنسِيَّة بآثارها؛ إذ لا آثار لها في النفس متى شبَّ المرء إلا بعيدًا بعيدًا، وإنما الحنين لما تتعلَّق به الغريزةُ المميِّزة.

  • (٧)

    في هذه القصيدة يقول أبو تمام يخاطب أحبابه:

    عدتْنِيَ عنكم مُكرَها غُرْبةُ النَّوَى
    لها وَطَرٌ٢ في أن تُمِرَّ ولا تُحْلِي

    والنوى في لغة الشاعر هي رحيله للتكسب بشعره؛ ولما رجع عوف بن مُحلِّم الشيباني إلى وطنه بعد وفادته على عبد الله بن طاهر في خُراسان؛ سُئِل عن حاله فقال: رجعتُ من عند عبد الله بالغنى «والراحة من النوى»؛ ويُؤيِّده قول أبي تمام في قصيدته تلك:

    نأيتُ٣ فلا مالًا حَوَيْتُ ولم أُقِمْ
    فَأَمْتَعَ، إذْ فُجِعْتُ بالمالِ والأهلِ

    يعني أنه اغترب مكرهًا يطلب الكسب لا غير، ولا كسبَ للشاعر إلا من شعره، فهو بنص كلامه عن نفسه قدم إلى مصر شاعرًا يتكسَّب ويتعرَّض للغِنى كما يصنع غيره.

  • (٨)

    في هذه القصيدة اللامية يقدم لنا أبو تمام — رحمه الله — دليلًا يأكل الأدلة، كأنما أُلهِم من وَحْيِ الغيب أننا سنحتاج إلى هذا الدليل يومًا لندفع به عنه؛ فهو يَحِنُّ إلى حيببٍ له في الشام، ويقول: إن غُرْبة النوى التي وصفها:

    أتَتْ بعدَ هَجْرٍ من حبيبٍ فحرَّكَتْ
    صبابةَ ما أبقَى الصدودُ من الوصلِ
    أخمسةُ أحوالٍ مضتْ لمَغِيبِه؟
    وشهرانِ بلْ يومانِ ثُكْلٌ من الثُّكْلِ!

    يعني أنه قال هذا الشعر وقد مضى على إقامته في مصر خمس سنوات، وكان قد جاء من الشام عاشقًا ذلك العشق الذي فيه «الصدود والوصل»، والطفل لا يحب مثل هذا الحب ولا يحن ذلك الحنين؛ فإذا كان الشاعر قدم إلى مصر في سنة ٢١٠، كما رجَّحناه، وسنُّه بين ٢١ و٢٣ سنة فيكون قد نظم هذه القصيدة في سنة ٢١٥، وعمره يومئذٍ بين ٢٦ و٢٨ سنة؛ فلو أن أبا تمام جاء من الشام طفلًا صغيرًا فكيف للطفل أن يقول مثل هذا الشعر بعد خمس سنوات؟ وما هجرُ الحبيب «وصبابة ما أبقَى الصدودُ من الوصلِ»؟

  • (٩)

    مدح شاعرُنا محمد بن حسان الضبي بقصيدة نونية يذكر فيها تنقُّله في البلاد فقال فيها:

    بالشام أهلي، وبغدادُ الهَوَى، وأنا
    بالرقتين، وبالفُسْطاط٤ إخواني
    وما أظنُّ النوى٥ ترضى بما صَنَعَتْ
    حتى تُشافِهَ بي أقصى خُراسانِ!

    فأنت ترى أنه جعل أهله بالشام، وجعل أصدقاءه بمصر؛ فلو أنه كان قد نشأ بها لجعل بها أهله؛ إذ لا ينشأ إلا مع أبيه وأمه، والبيت الثاني دليل منه هو على أنه لم ينزل بمصر مُقيمًا ولا متوطِّنًا، بل متنقِّلًا كما نزل بغيرها.

  • (١٠)

    تقول كتب الأدب في مدارس الحكومة: إن أبا تمام نُقِلَ إلى مصر صغيرًا فنشأ بها — وقد بينا فساد ذلك — ثم خرج إلى مقرِّ الخلافة فمدح المعتصم؛ وهذا غير صحيح؛ فإن أبا تمام خرج من مصر قبل أن يدخلها المأمون في سنة ٢١٦، حين جاءها وقَتَلَ بها عبدوسًا الفهري؛ فلو كان الشاعر يومئذٍ لمدح المأمون، وذكر هذه الواقعة، والمعتصم ولي الخلافة سنة ٢١٨، وديوان أبي تمام يُثبِت أنه في سنة ٢١٧، كان بالعراق، وقد مدح المأمون بقصيدته الميمية، وذكر في مدحه وقعة الروم، وهذه كانت في تلك السنة.

يُخلَص من كل ما تقدَّم أن أبا تمام وُلد في الشام وتأدَّب فيها، وقدِم إلى مصر كبيرًا يتكسَّب بالشعر، فأقام بها بين خمس سنين وستٍّ، ولم يجِد له عيشًا بها بعد قَتْلِ عمير بن الوليد الذي قُتِل في سنة ٢١٤؛ فإنه كان يعيش في كنفه، وقد صرَّح في قصيدته النونية التي رثاه بها أنه يأمل من بعده في ابنه محمد.

فقدومُ الشاعر إلى مصر كان في سنة ٢١٠ أو حواليها، وخروجه منها كان في سنة ٢١٥ أو حواليها، والله أعلم.

١  للغض: للانتقاص.
٢  وطر: غاية ونية.
٣  نأيت: بعدت.
٤  الفسطاط: مصر القديمة.
٥  النوى: البُعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤