الأجنَبيَّة

أحبَّها وأحبَّته، حتى ذهب بها في الحب مذهبًا قالت له فيه: «لو جاءني قلبي في صورة بشرية لأراه كما أحسُّه، لَمَا اختار غيرَ صورتك أنت في رقَّتك وعطفك وحنانك.» وحتى ذهبت به في الحب مذهبًا قال لها فيه: «إن الجنة لا تكون أبدع فنًّا ولا أحسن جمالًا، ولا أكثر إمتاعًا، لو خُلقتِ امرأةً يهواها رجلٌ إلا أن تكون هي أنتِ!» فقالت له: «ويكون هو أنتَ …!»

وتدلَّهت١ فيه، حتى كأنما خَلَبَها عقلها٢ ووضع لها عقلًا من هواه؛ فكانت تقول له فيما تَبُثُّهُ من ذات نفسها: «إن حبَّ المرأة هو ظهور إرادتها متبرِّئة من أنها إرادة، مُقرَّة أنها مع الحبيب طاعةٌ مع أمر، مذعنةٌ٣ أنها قد سلَّمَتْ كِبرياءَها لهذا الحبيب؛ لتراه في قوته ذا كبريائين.»

وافتتنَ بها حتى أخذتْ منه كل مأخذ، فملأت نفسه بأشياء، وملأت عينه من أشياء، فكان يقول لها في نجواه: «إني أرى الزمن قد انتسخ مما بيني وبينك، فإنما نحن بالحب في زمن من نفسَيْنا العاشقتين، لا يسمى الوقتَ ولكن يسمى السرورَ؛ وإنما نعيش في أيام قلبية، لا تدل على أوقاتها الساعةُ بدقائقها وثوانيها، ولكن السعادة بحقائقها ولَذَّاتها.»

وتحابَّا ذلك الحبَّ الفني العجيب، الذي يكونُ ممتلئًا من الروحين يكاد يفيض وينسكب، وهو مع ذلك لا يبرح يطلب الزيادة؛ ليتخيَّل من لذَّتها ما يتخيَّل السكِّير في نشوته إذا طفحتِ الكأس،٤ فيرى بعينيه أنها ستتَّسِعُ لأكثرَ ما امتلأَتْ به، فيكون له بالكأس وزيادتها سُكْرُ الخمر وسُكْر الوهم.

تحابَّا ذلك الحب الفَوَّار في الدم، كأن فيه من دورته طبيعة الفراق والتلاقي بغير تلاقٍ ولا فِراق؛ فيكونان معًا في مجلسهما الغزلي، جنبُهُ إلى جنبها وفاهها إلى فيهِ، وكأنما هربت ثم أدركها، وكأنما فرَّت ثم أمسكها، وبين القبلة والقبلة هِجران وصُلح، وبين اللفتة واللفتة غضب ورضًى.

وهذا ضرب٥ من الحب يكون في بعض الطبائع الشاذة المسرفة، التي أفرطت٦ عليها الحياة إفراطها فيلفُّ الحيوانية بالإنسانية، ويجعل الرجل والمرأة كبعض الأحماض الكيماوية مع بعضها؛ لا تلتقي إلا لتتمازج، ولا تتمازج إلا لتتحد، ولا تتحد إلا ليبتلع وجودُ هذا وجودَ ذاك.

•••

وضربَ الدهرُ من ضرباته في أحداثٍ وأحداثٍ؛ فأبغضتْهُ وأبغضها، وفسدتْ ذاتُ بَيْنِهما، وأدبر منها ما كان مُقبلًا؛ فوثب كلاهما من وجود الآخر وثبةَ فزعٍ على وجهه. أما هو فسَخِطها لعيوبِ نفسها، وأما هي … وأما هي فتكرَّهتْه لمحاسنِ غيرِه!

وانسربت أيامُ٧ ذلك الحب في مسارِيها تحت الزمن العميق الذي طوى ولا يزال يطوي ولا يبرح بعد ذلك يطوي؛ كما يغور الماءُ في طباق الأرض، فأصبحَ الرجلُ المسكينُ وقد نزلت تلك الأيامُ من نفسه منزلةَ أقارب وأصدقاء وأحباء ماتوا بعضهم وراء بعض، وتركوه ولكنهم لم يبرحوا فكرَه، فكانوا له مادة حسرة ولهفة. أما هي … أما هي فانشقَّ الزمن في فكرها بِرَجَّةِ زلزلة، وابتلع تلك الأيام ثم التأم …!

•••

فحدَّثَنا «الدكتورُ محمد» رئيس جماعة الطلبة المصريين في مدينة … بفرنسا، قال: وانتهى إليَّ أن صاحبنا هذا جاء إلى المدينة وأنه قادم من مصر، فتَخَالجني٨ الشوقُ إليه، ونزعتْ إلى لقائه نفسي، وما بيننا إلا معرفتي أنه مصري قَدِم من مصر؛ وخُيِّل إليَّ في تلك الساعة مما اهتاجني من الحنين إلى بلادي العزيزة، أن ليس بيني وبين مصرَ إلا شارعان أقطعُهما في دقائق؛ فخففْتُ إليه من أقرب الطرق إلى مثواه،٩ كما يصنع الطير إذا ترامى إلى عُشِّهِ فابتدره من قُطْر الجو.
قال: وأصبتُه واجمًا١٠ يعلوه الحزن، فتعرَّفت إليه، فما أسرع ما ملأ من نفسي وما ملأتُ من نفسه، وكما يَمَّحي الزمانَ بينَ الحبيبين إذا التقيا بعد فُرْقَةٍ، يتلاشى١١ المكانُ بين أهل الوطن الواحد إذا تلاقَوْا في الغربة. فذابتِ المدينةُ الكبيرةُ التي نحن فيها، كأن لم تكن شيئًا؛ وتجلَّى سِحْرُ مصرَ في أقوى سَطْوتِهِ وأشدِّها فأُخذَنا كِلَينا، فما استشعرنا ساعتئذٍ إلا أن أوروبا العظيمة كأنما كانت موسومةً على ورقة، فطويناها وأحللنا مصرَ في محلها.
وطغى علينا نازع الطرب طغيانًا شديدًا، فأرسلتُ مَن يجمع الإخوان المصريين، واخترتُ لذلك صديقًا شاعر الفطرة، فنزا به الطرب،١٢ فكان يدعوهم وكأنه يؤذِّن فيهم لإقامة الصلاة، وجاءوا يُهَرْوِلُونَ١٣ هَرْوَلَةَ الحجيج، فلو نطقتِ الأرضُ الفرنسية التي مشوا عليها تلك المِشْية لقالت: هذه وطأةُ أسودٍ تتخيل خيلاءها من بَغْيِ النشاط والقوة.

ألا ما أعظمك يا مصر! وما أعظم تعنُّتك في هذا السحر الفاتن! أينبغي أن يغتربَ كلُّ أهلِكِ حتى يدركوا معنى ذلك الحديث النبوي العظيم: «مصر كنانة الله في أرضه»، فيعرفوا أنكِ من عزتك معلَّقة في هذا الكون تعليقَ الكنانة في دار البطل الأروع؟!

قال «الدكتور محمد»: واجتمعنا في الدار التي أنزلُ فيها، فراع ذلك صاحبةَ مثواي، فقلتُ لها: إن ها هنا ليلةً مصريةً ستحتل ليلتكم هذه في مدينتكم هذه، فلا تجزعوا. ثم دعوتُها إلى مجلسنا لتشهد كيف تستعلِنُ الروحُ المصريةُ الاجتماعيةُ برقِّتها وظرفها وحماستها، وكيف تفسِّر هذه الروح المصرية كلَّ جميل من الأشياء الجميلة بشوقٍ من أشواقها الحنانة، وكيف تكون هذه الروح في جو موسيقيَّتها الطبيعية حين تناجي أحبابها، فيجيء حديثها بطبيعته كأنه ديباجة شاعر في صفائها وحلاوتها ورنين ألفاظها!

وقالت السيدة الظريفة: يا لها سعادة! سأتَّخِذُ زينتي، وأُصلح من شأني، وأكون بعدَ خمسِ دقائق في مصر!

قال الدكتور: وأخذنا في شأننا، وكان معنا طالبٌ حسن الصوت، فقام إلى البيانة١٤ وغنَّى مقطوعة (طقطوقة) مصرية من هذه المقاطيع التي تُطَقْطِقُ فيها النفس، فجعلَ يمطُلُ صوتُه بآه وآه، ودارَ اللحنُ دورةً تأوَّهت فيها الكلمات كلها، ثم اعتور البيانة طالبٌ آخر فما شذَّ عن هذه السُّنَّة، وكان بعدَ الأول كالنائحة تجاوب النائحة! فمالت عليَّ السيدةُ الفرنسية وأسرَّت إليَّ: أهاتان امرأتان أم رجلان …؟ فقلت لها: إن هذا لحنٌ تاريخيٌّ ذو مقطوعتين، كانت تتطارحه كيلوباترة وأنطونيو، وأنطونيو وكيلوباترة … فأُعْجِبَتِ المرأةُ أشدَّ الإعجابِ، وأكبرتْ منَّا هذا الذوق المصري أن نُكرمَها لوجودِها في مجلسنا بألحان الملكة المصرية الجميلة، وطربتْ لذلك أشدَّ الطرب، وملكها غرور المرأة، فجعلت تستعيد: «يا لوعتي يا شقاي يا ضنى حالي …» وتقول: ما كان أرقَّ كيلوباترة! ما كان أرقَّ أنطونيو! يا لَفِتْنَةِ الحب الملكي …!
قال «الدكتور محمد»: ثم خجلتُ — والله — من هذا الكلام المخنَّث، ومن تلفيقي الذي لفَّقتُهُ للمرأة المخدوعة، فانتفضتُ انتفاضةَ من يملؤه الغضب، وقد حَمِي دمه، وفي يده السيف الباتر،١٥ وأمامه العدو الوقح؛ وثُرتُ إلى البيانة فأجريتُ عليها أصابعي، وكأن في يديَّ عشرة شياطين لا عشر أصابع، ودوَّى في المكان لحن: «اسلمي يا مصر»، وجَلْجَلَ كالرعد في قبة الدنيا، تحت طِبَاق الغيم، بين شَرار البرق، فكأنما تَزَلْزَلَ المكانُ على السيدة الفرنسية وعلينا جميعًا، وصرخ أجدادنا يزأرون من أعماق التاريخ: «اسلمي يا مصر …»١٦

ولما قطعتُ التفتُّ إليها في كبرياء تلك الموسيقى وعظمتها، وقلت لها: هذا هو غناؤنا نحن الشبانَ المصريين.

ثم راجَعْنا صاحبَنا الضيفَ، وأحفيناه بالمسألة، فقال بعد أن دافَعَنَا طويلًا إنه يُحْسِنُ شيئًا من الموسيقى، وإن له لحنًا سيطارحنا به لنأخذه عنه. فطِرْنا بلحنه قبل أن نسمعه، وقلنا له: افعل متفضلًا مشكورًا. وما زلنا حتى نهض متثاقلًا، فجلس إلى البيانة وأطرق شيئًا، كأنه يسوِّي أوتارًا في قلبه، ثم دقَّ يتشاجى بهذا الصوت:

أضاعَ غَدي مَن كان في يَدِهِ غَدِي
وحطَّمني مَن كان يجهدُ في سَبْكي!
فإن كنتُ لا آسى لنفسي فمن إذن؟
وإن كنتُ لا أبكي لنفسي فمَن يبكي؟
قال «الدكتور محمد»: فكان الغناء يعتلج١٧ في قلبه اعتلاجًا، وكانت نفسُه تبكي فيه بكاءَها وتَغَصُّ من غُصَّتِها، وكأنَّ في الصوت فكرًا حزينًا يستعلن في همِّ موسيقى، وخُيِّلَ إلينا بين ذلك أن البيانة انقلبت امرأةً مغنية تطارح هذا الرجل عواطفها وأحزانها، فاجتمع من صوتهما أكمل صوت إنساني وأجمله وأشجاه وأرقه!

فأطفنا به وقلنا له: لقد كتمْتَنا نفسَك حتى نَمَّ عليها ما سمعْنَا، وما هذا بغناء، ولكنه همومٌ مُلَحَّنَةٌ تلحينًا، فلن ندعَكَ أو تخبرَنَا ما كان شأنك وشأنها.

فاعتلَّ علينا ودافَعَنا جهدَه، فقلنا له: هيهات؛ والله لن نُفْلِتَكَ وقد صِرْتَ في أيدينا، وإنك ما تزيد على أن تَعِظنا بهذه القصة؛ فإن أمسكتَ عنها فقد أمسكتَ عن موعظتنا، وإن بخلتَ فما بخلتَ بقصتك، بل بعلمٍ من علم الحياة نفيده منك؛ وأنت ترانا نعيش ها هنا في اجتماع فاسد كأنه قِصَصٌ قلبية، بين نساءٍ لا يَلْبَسْنَ إلا ما يعرِّي جمالَهن، وفي رجالٍ أفرطتْ عليهم الحرية، حتى دُخِل فيها مَخدعُ الزوجة …!

قال الدكتور: ونظرتُ فإذا الرجل كاسفٌ١٨ قد تغيَّر لونه وتبيَّن الانكسار في وجهه، فألممت١٩ بما في نفسه، وعلمتُ أنه قد دُهِيَ في زوجة من هؤلاء الأوروبيات اللواتي يتزوَّجْنَ على أن يكون مخدعُ المرأةِ منهن حرًّا أن يأخذ ويدع، ويغيِّر ويبدِّل، ويقسم كلمة «زوج» قسمين وثلاثة وأربعة وما شاء …

وكأنما مَسَسْتُ البارودَ بتلك الشرارة، فانفجرتْ نفسُ الرجلِ عن قصةٍ ما أفظعَها!

•••

قال: يا إخواني المصريين، قبل أن أنْفُضَ لكم ذلك الخبرَ أُسديكم هذه النصيحة التي لم يضعها مؤلفٌ تاريخيٌّ لسوء الحظ، إلا في الفصل الأخير من رواية شقائي: إياكم إياكم أن تغترُّوا بمعاني المرأة، تحسبونها معاني الزوجة؛ وفرِّقوا بين الزوجة بخصائصها، وبين المرأة بمعانيها؛ فإن في كل زوجة امرأة، ولكن ليس في كل امرأة زوجة.

واعلموا أن المرأة في أنوثتها وفنونها النسائية الفردية، كهذا السحاب الملون في الشفق حينَ يبدو؛ له وقتٌ محدودٌ ثم يُمْسَخُ مَسْخًا؛ ولكنَّ الزوجة في نسائيَّتها الاجتماعية كالشمس؛ قد يحجبها ذلك السحاب، بيد أن البقاء لها وحدها، والاعتبار لها وحدها، ولها وحدها الوقت كله.

لا تتزوجوا يا إخواني المصريين بأجنبية؛ إن أجنبيةً يتزوَّج بها مصري، هي مسدس جرائم فيه ست قذائف:
  • الأولى: بَوارُ امرأةٍ مصرية وضياعُها بضياع حقها في هذا الزوج؛ وتلك جريمة وطنية، فهذه واحدة.
  • والثانية: إقحامُ٢٠ الأخلاق الأجنبية عن طباعنا وفضائلنا في هذا الاجتماع الشرقي، وتوهينُهُ٢١ وصدعُهُ؛٢٢ وهي جريمة أخلاقية.
  • والثالثة: دسُّ العروق الزائغة في دمائنا ونسلنا؛ وهي جريمة اجتماعية.
  • والرابعة: التمكين للأجنبي في بيت من بيوتنا، يملكه ويحكمه ويصرِّفه على ما شاء؛ وهي جريمة سياسية.
  • والخامسة: للمسلم منا إيثارُهُ غير أخته المسلمة، ثم تحكيمه الهوى في الدين، ما يعجبه وما لا يعجبه؛ ثم إلقاؤه السم الديني في نبع ذريته المقبلة، ثم صيرورته خِزيًا لأجداده الفاتحين الذين كانوا يأخذونهن سبايا، ويجعلونهن في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد الزوجة؛ فأخذته هي رقيقًا لها، وصار معها في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد٢٣ … وهذه جريمة دينية.
  • والسادسة: بعد ذلك كله: أن هذا المسكين يُؤثر أسفلَه على أعلاه … ولا يبالي في ذلك خمس جرائم فظيعة.

وهذه السادسة جريمة إنسانية!

•••

ما كنتُ أحسب يا إخواني، وقد رجعتُ بزوجتي الأوروبية إلى مصر، أنِّي أحضرتُ معي من أوروبا آلةً تصنع أحزاني ومصائبي! ولم يكن وَعَظَني أحدٌ بما أَعِظكم به الآن، ولا تَنَبَّهْتُ بذكائي إلى أن الزوجة الأجنبية تُثْبِتُ لي غربتي في بلادي! وتُثبت عليَّ أني غيرُ وطنيٍّ أو غيرُ تامِّ الوطنية، ثم تكون مني حماقةً تثبت للناس أني أحمق فيما اخترت؛ ثم تعود مشكلةً دولية في بيتي، يزورها أبناء جنسها ويستزيرونها رغم أنفي وفمي ووجهي كله! ويستطيلون بالحماية، ويستترون بالامتيازات، ويرفعون ستارًا عن فصل، ويُرخون ستارًا على فصل … وأنا وحدي أشهد الرواية …!

إن الشيطان في أوروبا شيطانٌ عالمٌ مخترعٌ؛ فقد زيَّن لي من تلك الزوجة ثلاثَ نساءٍ معًا: زوجة عقلية، وزوجة قلبية، وزوجة نفسية؛ ثم نَفَث اللعينُ في رُوعي أن المرأة الشرقية ليس فيها إلا واحدة، وهي مع ذلك ليست من هؤلاء الثلاث ولا واحدة. قال الخبيث: لأنها زوجة الجسم وحده، فلا تسمو إلى العقل، ولا تتصل بالقلب، ولا تمتزج بالنفس؛ وأنها بذلك جاهلة، غليظة الحسن، خَشِنة الطبع، لا تكون مع المصري إلا كما تكون الأرض المصرية مع فلَّاحها …

لعنةُ الله على ذلك الشيطان الرجيم العالم المخترع! وما علمتُ إلا من بعدُ أن هذه الشرقية الجاهلة الخشنة الجافية، هي كالمنجم الذي تِبْرُهُ في ترابه، وماسُهُ في فحمه، وجوهرُهُ في معدنه؛ وأن صعوبتها من صعوبة العفة الممتنعة، وأن خشونتها من خشونة الحب المعتز بنفسه، وأن جفاءها٢٤ من جفاء الدين المتسامي على المادة؛ وأنها بمجموع ذلك كان لها الصبر الذي لا يدخله العجز، وكان لها الوفاء الذي لا تلحقه الشُّبهة، وكان لها الإيثار الذي لا يُفسده الطمع.
هي جاهلةٌ، ولها عقل الحياة في دارها، وغليظةُ الحس ولها أرقُّ ما في الزوجة لزوجها وحدَه، وخشنةُ الطبع؛ لأنها تَتَنَزَّهُ٢٥ أن تكون ملمسًا ناعمًا لهذا وذاك وهؤلاء وأولئك … لا كامرأة الحب الأوروبية، التي تجعل نفسها أنثى الفن، وتريد أن تعيش دائمًا مع زوجها الشرقي من التفضيل والإيثار والإجلال والإباحة في كلمة «أنا» قبل كلمة «أنت» … امرأةٌ أنشأتها الحرب العظمى بأخلاق مخرِّبة مدمِّرة تنفجر بين الوقت والوقت.

عندنا يا إخواني تعدُّدُ الزوجات، يتهموننا به من عمًى وجهل وسخافة. انظروا، هل هو إلا إعلان لشرعية الرجولة والأنوثة، ودينيةِ الحياة الزوجية في أي أشكالها! وهل هو إلا إعلان بطولة الرجل الشرقي الأَنُوفِ الغَيور، أنَّ الزوجة تتعدد عند الرجل ولكن … ولكن ليس كما يقع في أوروبا من أن الزوج يتعدد عند المرأة …!

يتهموننا بتعدد المرأة على أن تكون زوجةً لها حقوقها وواجباتها — بقوة الشرع والقانون — نافذةً مؤدَّاة؛ ثم لا يتهمون أنفسهم بتعدد المرأة خليلةً مخادنةً ليس لها حقٌّ على أحد، ولا واجبٌ من أحد، بل هي تتقاذفها الحياة من رجل إلى رجل، كالسِّكِّير يتقاذفه الشارعُ من جدار إلى جدار.

لعنةُ الله على شيطان المدنية العالم المخترع المخنَّث، الذي يجعل للمرأة الأوروبية بعد أن يتزوجها الرجل الشرقي أصابع «أوتوماتيكية»، ما أسرع ما تمتدُّ في نَزْوَةٍ من حماقاتها إلى رجلها بالمسدس، فإذا الرصاص والقتل! وما أسرع ما تمتد في نزوة من عواطفها إلى عاشقها بمفتاح الدار، فإذا الخيانةُ والعُهر!

ماذا تتوقعون يا إخواني من تلك الرقيقة الناعمة، المتأنِّثة بكل ما فيها من أنوثة تكفي رجالًا لا رجلًا واحدًا، وقد ضعُفتْ روحية الأسرة في رأيها، وابتُذلتِ الروحية في مجتمعها ابتذالًا، فأصبح عندها الزواج للزواج على إطلاقه، لا لتكون امرأة واحدة لرجل واحد مقصورة عليه؟! وبذلك عاد الزواج حقًّا في جسم المرأة دون قلبها وروحها؛ فإن كان الزوج مشئومًا منكوبًا لم يستطع أن يكون رجل قلبها، فعليه أن يدع لها الحرية لتختار زوج قلبها …! ومعنى ذلك أن تكون هذه المرأة مع الزوج الشرعي بمنزلة المرأة مع فاسق؛ ومع الفاسق بمنزلة المرأة مع الزوج الشرعي …! وإن كان الرجل منحوسًا مُخَيَّبًا، وكان قد بلغ إلى قلبها زمنًا ثم ملَّه قلبها، فعليه أن يدع لها الحرية لتتنقَّل وتلذَّ بلذات الهوى، ويقول لها: شأنك بمن أحببتِ! فإن هذا المنحوس المخيَّب ليس عندها إنسانًا، ولكنه رواية إنسانية انتهى الفصل الجميل منها بمناظره الجميلة، وبدأ فصل آخر بحوادث غير تلك. فَلِمَنْ يشهد الرواية أن يتبرَّمَ ما شاء، ويستثقل كما يشاء، ومتى شاء انصرف من الباب …!

امرأةُ هذه المدنية هي امرأة العاطفة؛ تتعلَّق باللفظ حين تُلبِسُهُ العاطفة من زينتها، وإن ضاع فيه المعنى الكبير من معاني العقل، وإن فاتت به النعمة الكبيرة من نعم الحياة.

تقوى العاطفةُ فتجيء بها إلى رجلٍ، ثم تقوى الثانية فتذهبُ بها مع رجلٍ آخر …! وتُقَيِّدُ نفسَها إن شاءت وتُسَرِّح نفسها إن شاءت؛ وما بدٌّ من أن تبلوَ الحياةَ كما يبلوها الرجل وأن تخوض في مشاكلها؛ وإذا شاءت جعلت نفسها إحدى مشاكلها …! ولا مندوحة٢٦ من أن تتولى شأنَ نفسِها بنفسِها، فإذا خاست٢٧ أو غدَرت فكلُّ ذلك عندها من أحكام نفسها، وكل ذلك رأيٌ وحقٌّ؛ إذ كان محورها الذي تدور عليه هو عاطفتها وحرية هذه العاطفة، فمَن هذا يُقرر لها خطتها، ويملي عليها واجباتها، ويُزَوِّرُ لها الأسماء على إرادته دون إرادتها، فيُسمي لها نكد قلبها باسم فضيلة المرأة، وحرمان عاطفتها باسم واجب الزوجة الشريفة؟
ومَن ذا خَوَّله الحق٢٨ أن يقرر وأن يملي؟
وهذا الشرقي العتيق المأفون٢٩ الذي قَبِلَها سافرةً لا تعرفُ رُوحُها ولا جسمُها الحجابَ؛ ما باله يريد أن يضرب الحجاب على عاطفتها، ويتركها محبوسة في شرفه وحقوقه وواجباته، وإن لم تكن محجوبة في الدار؟
ما علمتُ يا إخواني إلا مِن بعدُ أن الزوجة الغربيَّة قد تكون مع زوجها الشرقي كالسائحة مع دليلها. هيهات هيهات،٣٠ إنَّهُ لن يُمسكَها عليه، ولن يُكرهها على الوفاء له، إلا أن تكونَ حثالةً يزهدُ فيها حتى ذُبابُ الناس؛ فيأسها هو يجعل هذا المسكينَ مطمَعَها، وهي مع ذلك لو خلطتْهُ بنفسها لبقيتْ منها ناحيةٌ لا تختلط؛ إذ ترى أمَّتَه دون أمَّتِها، وجنسَه دون جنسِها؛ فما تَسُبُّ أمَّةَ زوجِها وبِلادَهُ بأقبحَ من هذا!

أما — والله — إن الرجل الشرقي حين يأتي بالأجنبية لتلوين حياته بألوان الأنثى … لا يكون اختار أزهى الألوان إلا لتلوين مصائب حياته! وقد يكون هناك ما يشذُّ، ولكن هذه هي القاعدة.

•••

أما قصتي يا إخواني …

قال الدكتور محمد: قد حَكَيْتَها — يرحمك الله!

١  تدلَّهت فيه: هامت به حبًّا.
٢  خلبها عقلها: استحوذ عليه.
٣  مذعنة: خاضعة.
٤  طفحت الكأس: امتلأت.
٥  ضرب: نوع.
٦  أفرطت: غالت.
٧  انسربت أيام: انصرمت.
٨  خالج: داخل.
٩  مثواه: بيته.
١٠  واجمًا: صامتًا.
١١  يتلاشى: يضمحل.
١٢  نزا به الطرب: هزَّه واستولى على مشاعره.
١٣  يهرولون: يسرعون.
١٤  البيانة: كلمة استعملها الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه «السحاب الأحمر» تعريبًا لكلمة «بيانو» الأجنبية، وتجمع على بيانات.
١٥  السيف الباتر: القاطع.
١٦  هو النشيد الوطني لمصر.
١٧  يعتلج: يصطرع ويمور.
١٨  كاسف: مستحٍ.
١٩  ألممت: علمت واطلعت.
٢٠  إقحام: إدخال بالقوة.
٢١  توهينه: إضعافه.
٢٢  صدعه: تشققه.
٢٣  يريد: بعد عشيقها.
٢٤  جفاءها على المادة: بعدها عنها.
٢٥  تتنزه: تترفع.
٢٦  لا مندوحة: لا مجال ولا جدال.
٢٧  خاست: غدرت ونكثت بالعهد.
٢٨  خوَّله الحق: أعطاه وأوكل إليه.
٢٩  المأفون: الضعيف الرأي.
٣٠  هيهات: اسم فعل ماضٍ بمعنى بَعُد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤