الجمال البائس (٥)

قلت لها: إن كلمة الكفر لا تكون كافرةً إذا أُكْرِهَ عليها من أُكره وقلبُهُ مطمئنٌّ بالإيمان، وكلمة الفجور أهون منها وأخف وزنًا وشأنًا، ثم لا تكون إلا فاجرة أبدًا؛ إذ لا إكراه على هذه الدعارة إكراهًا لا خيار فيه، وما أول الدعارة إلا أن تمدَّ المرأة طرفها من غير حياء، كما يمد اللص يده من غير أمانة.

ومن اضطُرَّ إلى الكفر استطاعَ أن يخبأ مِحْرابَ المسجدِ في أعماقه فيصلي ثمة، ولكن الفجور لا يترك في النفس موضعًا لدين ولا إيمان؛ إذ هو دائبٌ١ في إثارة الغرائز الطبيعية الحيوانية المسترسلة٢ بلا ضابط، فيجعل المرأة تحيا بعيدة عن ضميرها؛ فيُضْعِفُ منها أولَ ما يُضْعِفُ آثارَ الآدابِ والأخلاق، فيُهْلِكُ فيها أولَ ما يُهْلِكُ إحساسَها بمعنى المرأة الإنسانية وشعورَها بمجد هذا المعنى.

فإذا انتهت المرأة إلى هذا، لم يكن لها مبدأ ولا عقيدة إلا أنَّ على غيرها أن يتحمَّل عواقبَ أعمالها، وهذه بعينها هي حالة المجنونِ جنونَ عقلِه؛ أفلا تكونُ المرأةُ حينئذٍ مجنونةً جنونَ جسمِها …؟

•••

فساءها ذلك وبان فيها، ولكنها أمسكت على ما في نفسها؛ والمرأة من هؤلاء لا يمشي أمرُها في الناس ولا يتصل عيشُها، إلا إذا كَثُرَتْ طباعُها كثرةَ ثيابِها، فهي تخلع وتلبس من هذه وتلك لكل يوم ولكل حالة ولكل رجل؛ فينبعثُ منها الغضب وهي في أنعم الرضى، كما ينبعث الرضى وهي في أشد الغيظ، كأنْ لم تغضب ولم ترضَ؛ لأنها ليست لأحد ولا لنفسها.

وتُساير غضبَها ثم قالت: كأن كلامك أنَّ لك رجاءً إليَّ، فأنا أحبُّ … أحبُّ أن أعلم.

قلت: وأنا كذلك أحب أن أعلم.

فضَحِكَتْ وسُرِّيَ عنها،٣ وثبتت على شفتيها ابتسامةٌ لو جاء مَلَكٌ من السماء ليضع في ثغرها ابتسامةً أجمل منها، لما وجد أجمل منها.

ثم قالت: تحبُّ أن تعلم ماذا؟

قلت: أُحِبُّ أن أعلم منكِ قصةَ هذه الحياة، ما كان أولها؟

قالت: لقد قضيتَ من حكمك فينا، ولكنَّك أخطأتَ، فلكل ليل مظلم كوكبُه؛ والكوكب الوقَّاد المعلَّق فوق ليل المرأة منا هو إيمانها؛ نعم إنه ليس كإيمان الناس في واجباته، لكنه كإيمان الناس في تعزيته، والله ربنا وربكم!

قلت: لو أُطيع اللهُ بمعصيته لاستقام لك هذا، وإنما أَنْتِ تَصِفين الإيمان الأول الذي كان عملًا، فصار ذكرى، فصارت الذكرى أملًا، فظننتِ الأملَ هو الإيمان.

قالت: ثم إننا جميعًا مُكرَهات على هذه الحياة، فما نحن إلا صرعى المصادمة بين الإرادة الإنسانية وبين القدر.

قلت: ولكن لم تهفُ واحدةٌ منكنَّ في غلطتها الأولى وهي مستكْرَهَةٌ على غلطة؛ بل هي راغبةٌ في لذَّة، أو مبادِرة لشهوة، أو طالبة لمنفعة.

قالت: هذا أحدُ الوجهين؛ أما الآخرُ فالتماسُ الرزق وصلاح العيش؛ فالرجل مع الرجل رأس ماله قوته، وعمله بقوته؛ ولكن المرأة مع الرجل رأس مالها أنوثتها وعمل أنوثتها، وفي الوجه الأول — وجه اللذة والمنفعة — تحتال كلمة الفجور على المرأة بكلمات رقيقة ساحرة، منها الحب والزواج والسعادة، فتستسلم المرأة مضطرة ليقع شيء من هذا. وفي الوجه الثاني — وجه الرزق والعيش — تحتال الكلمة الخبيثة الفاجرة على المرأة المسكينة المستضعفة بكلمات رهيبة قاتلة، منها الجوع والفقر والشقاء، فتسقطُ المرأةُ مضطرةً؛ خِيفة أن يقع شيء من هذا؛ وفي أحد الوجهين يكون الرجل هو الفاجر لفساد آدابه، وفي الوجه الآخر يكون الفاجر هو المجتمع لفساد مبادئه.

•••

قلت: أنا لا أنكر أن المرأة إذا سقطت في هذه المدنية، لم تقع أبدًا إلا في موضع غلطة من غلطات القوانين؛ وآفة هذه القوانين أنها لم تُسنَّ لمنع الجريمة أن تقع، ولكن للعقاب عليها بعد وقوعها، وبهذا عجزتْ عن صيانة المرأة وحفظها، وتركتْها لقانون الغريزة الوحشي في هؤلاء الوحوش الآدميين، الذين يأخذهم السُّعَارُ من هذه الرائحة التي لا يعرفونها إلا في اثنين: المرأة الجميلة والذهب. فما ألجأتِ المرأةَ حاجتُها أو فقرُها إلى أحدهم ورأى عليها جمالًا، إلا ضربه ذلك السعار؛ فإن استخفَّتْ بنَزَوَاتِه وتَعسَّرَتْ عليه، طردها إلى الموت، ومنعها أن تعيش من قِبَلِه؛ وإن صلحتْ له وتيسَّرت، آواها هي وطرد شرفها …

وبخلاف ذلك الدين؛ فإنه قائم على منع الجريمة وإبطال أسبابها، فهو في أمر المرأة يُلْزِمُ الرجلَ واجباتٍ، ويُلزم المجتمعَ واجباتٍ غيرها، ويُلزم الحكومة واجبات أخرى:

أما الرجل فينبغي له أن يتزوَّج، ويتحصَّن، ويغار على المرأة، ويعمل لها؛ وأما المجتمع فيجب عليه أن يتأدَّب، ويستقيم، ويُعين الفرد على واجبات الفضيلة، ويتدامج٤ ويشدَّ بعضه بعضًا؛ وأما الحكومة فعليها أن تحميَ المرأةُ، فتُعاقِب على إسقاطها عقابَ الموتِ والألم والتشهير؛ لتقيم من الثلاثة حُرَّاسًا جبابرة، من لا يخشَ الله خشيها؛ فليس يمكن أبدًا أن يكون في ديننا موضع غلطة تسقط فيه المرأة.
قال الأستاذ «ح»: صدقْتَ، فالحقيقة التي لا مِرَاء فيها،٥ أن فكرة الفجور فكرة قانونية؛ وما دام القانونُ هو أباحها بشروط، فهو هو الذي قرَّرَها في المجتمع بهذه الشروط؛ ومن هذا التقرير يُقْدِمُ عليها الرجل والمرأة كلاهما على ثقة واطمئنان؛ ومن ثم تأتي الجرأة على اندفاع الناس إلى ما وراء حدود القانون، ومن هذا الاندفاع تأتي الساقطة بآخِر معانيها وأقبح معانيها.

وتقرير سيادة المرأة في الاجتماع الأوروبي، وتقديمها على الرجال، والتأدُّب معها؛ كل ذلك يجعل جراءة السفهاء عليها جراءة متأدِّبة، حتى كأن المتحكِّك منهم في امرأة يقول لها: من فضلك كوني ساقطة … أما هنا فجراءة السفهاء جراءة ووقاحة معًا؛ وذلك هو سرُّها.

القانون كأنما يقول للرجال: احتالوا على رضى النساء، فإن رضينَ الجريمة فلا جريمة؛ ومن هذا فكأنه يعلمهم أن براعة الرجل الفاسق إنما هي في الحيلة على المرأة وإيقاظ الفطرة في نفسها بأساليبَ من المَلَق والرياء والمكر، تتركها عاجزة لا تملك إلا أن تذعن٦ وترضى؛ وبهذا ينصرف كل فاجر إلى إبداع هذه الأساليب التي تُطلق تلك الفطرة من حيائها، وتُخرِجها من عفتها؛ «تطبيقًا للقانون» …

ولا سيادة في اجتماعنا للمرأة، ولكن القانون جعلها سيدة نفسها، وجعلها فوق الآداب كلها، وفوق عقوبة القانون نفسه إذا رضيَتْ؛ إذا رضيَتْ ماذا …؟

•••

قلت: فإذا كان القانون هنا في مسألتنا هذه يعدِل بالظلم، ويحمي الفضيلة بإطلاق حرية الرذيلة؛ فهو إنما يُفسدُ الدين، ويَصرفُ الناسَ عن خوف الله إلى خوف ما يخاف من الحكومة وحدَها؛ وبهذا لا يكون عمله إلا في تصحيح الظاهر من الرجل والمرأة، ويَدَعُ الباطنَ يُسرُّ ما شاء من خبثه وحيلته وفساده؛ فكأنه ليس قانونًا إلا لتنظيم النفاق وإحكام الخديعة؛ فلا جرم٧ كان قانونًا لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها؛ فإذا أُخِذَتِ المرأةُ ملايَنةً ورضى فهذا فجور قانوني … وإن كانت الملاينة هي عمل الحيلة والتدبير، وإن كان الرضى هو أثر الخداع والمكر، وإن ضاعت المرأة وسقطت، وذهب شرفها باطلًا، وألحقه الناس بما لا يكون من توبة إبليس فلا يكونُ أبدًا. أما إذا أُخِذَتِ المرأةُ مُكارَهةً وغَصْبًا، فهذه هي الجريمة في القانون؛ ويسميها القانونُ جريمةَ الاعتداءِ على العِرْضِ، وهي بأن تُسَمَّى جريمةَ العجزِ عن إرضاء المرأة، أحقُّ وأولى.
على أن المسكينةَ لم تُؤْخَذْ في الحالتين إلا غَصْبًا، ولكن اختلفت طريقةُ الرجلِ الغاصبِ؛ فإن كلتا الحالتين لم تَتَأَدَّ٨ بالمرأة إلا إلى نتيجة واحدة، هي إخراجها من شرفها، وحرمانها حقوق إنسانيتها في الأسرة، وطردها وراء حدود الاعتبار الاجتماعي، وتركها ثمة مُخَلَّاةً لمجاري أمورها، فلا يتيسَّرُ لها العيش إلا من مثل الرجل الفاجر، فلا تكون لها بيئة إلا من أمثاله وأمثالِها، كما يجتمع في الموضعِ الواحدِ أهلُ المصيرِ الواحدِ، على طريقة القطيع في المجزرة …

•••

فقالت هي: الحقُّ أن هذه الجريمة أولها الحب؛ وهي لا تقع إلا من بين نقيضين يجتمعان في المرأة معًا: كبر حبِّها إلى ما يفوت العقل، وصغر عقلِها إلى ما ينزل عن الحب. والمرأة تظل هادئة ساكنة رزينة، حتى تصادفها اللِّحاظُ الناريةُ من العين المقدَّرة لها، فلا يكون إلا أن تملأها نارًا ولهبًا؛ ولتكن المرأة من هي كائنة، فإنها حينئذٍ كمستودع البارود، يَهُولُ عِظَمُهُ وكِبَرُه، وهو لا شيء إذا اتصلت به تلك الشرارة المهاجِمة.

وليست حراسة المرأة شيئًا يؤبه به٩ أو يعتدُّ به أو يسمَّى حراسة، إلا إذا كانت كالتحفظ على مستودع البارود من النار؛ فيستوي في وسائلها الخوف من الشرارة الصغيرة، والفزع من الحريق الأعظم؛ فيُحتاط لاثنيهما بوسائل واحدة في قدر واحد، واعتبار واحد.

وإذا تُركت المرأة لنفسها تحرسها بعقلها وأدبها وفضلها وحريتها؛ فقد تُرك لنفسه مستودع البارود تحرسه جدرانه الأربعة القوية …

والرجال يعلمون أن للمرأة مظاهرَ طبيعيةً، من الخُيَلاء والكبرياء والاعتداد بالنفس والمباهاة بالعفة؛ لكن هؤلاء الرجال أنفسهم يعلمون كذلك، أن هذا الظاهر مخلوقٌ مع المرأة كجِلْدِ جسمِها الناعم، وأن تحته أشياء غير هذه تعمل عملها وتصنع البارود النسائي الذي سينفجر …

•••

قلت: إذا كان هذا، فقبَّح الله هذه الحرية التي يريدونها للمرأة! هل تعيش المرأة إلا في انتظار الكلمة التي تحكمها بلطف، وفي انتظار صاحب هذه الكلمة؟

قالت: إنه هذا حق لا ريب فيه، وأوسع النساء حرية أضيعهن في الناس؛ وهل كالمومس١٠ في حريتها في نفسها؟

ولكن يا شؤمها على الدنيا! إنها هي بعينها كما قلتَ أنت: حريةُ المخلوقِ الذي يُترك حرًّا كالشريد؛ لِتُجَرِّبَ فيه الحياةُ تجاريبَها. وماذا في يد المرأة من حرية هي حرية القدر فيها؟

قلت: ولهذا لا أرجع عن رأيي أبدًا، وهو أنه لا حريةَ للمرأة في أمَّة من الأمم، إلا إذا شعر كل رجل في هذه الأمة بكرامة كل امرأة فيها، بحيث لو أُهينتْ واحدةٌ ثارَ الكلُّ فاستقادوا لها،١١ كأن كرامات الرجال أجمعين قد أُهينت في هذه الواحدة؛ يومئذٍ تصبح المرأة حرة، لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسة بملايين من الرجال …

فضحكت وقالت: «يومئذ»! هذا اسم زمان أو اسم مكان …؟

•••

قال الأستاذ «ح»: ولكِنَّا أبعدنا عن قصة هذه الحياة، ما كان أولها؟ قالت: إن الشبان والرجال عِلْمٌ يجبُ أن تعلمه الفتاةُ قبلَ أوانِ الحاجةِ إليه؛ ويجب أن يَقَرَّ في ذهن كل فتاة أن هذه الدنيا ليست كالدار فيها الحب، ولا كالمدرسة فيها الصداقة، ولا كالمحل الذي تبتاع منه منديلًا من الحرير أو زجاجة من العطر، فيه إكرامها وخدمتها.

وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياءُ؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمتْ؛ أي توقَّحت، أي تبذَّلت، استوى عندها أن تذهب يمينًا أو تذهب شِمالًا، وتهيَّأت لكلٍّ منهما ولأيهما اتفق؛ وصاحبات اليمين في كَنَف١٢ الزوج وظِلِّ الأسرة وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال …!
قلت: هذا هذا، إنه الحياء، الحياء لا غيره؛ فهل هو إلا وسيلةٌ أعانتِ الطبيعةُ بها المرأةَ لتسمو١٣ على غريزتها متى وجب أن تسموَ، فلا تلقى رجلًا إلا وفي دَمِها حارسٌ لا يَغفُل. وهل هو إلا سَلَبٌ جمعته الطبيعة إلى ذلك الإيجاب الذي لو انطلق وحده في نفس المرأة لاندفعت في التبرج والإغراء، وعَرْضِ أسرارِ أنوثتها في المعرض العام …؟
قالتْ: ذاك أردتُ، فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق، فلا تَعُدَّنَّهُ من فَرْط الجمال،١٤ بل من قلة الحياء.

واعلم أن المرأة لا تخضعُ حقَّ الخضوع في نفسها إلا لشيئين: حيائها، وغريزتها.

قلت: يا عجبًا! هذا أدق تفسير لقول تلك المرأة العربية: «تجوعُ الحرةُ ولا تأكلُ بثدييها.» فإن اختضعتِ المرأةُ للحياء كفَّت غريزتها …

قالت: … وجعلها الحياء صادقة في نفسها وفي ضميرها، فكانت هي المرأة الحقيقة الجديرة بالزوج والنسل وتوريث الأخلاق الكريمة وحفظها للإنسانية.

قلتُ: ومن هذا يكون الإسراف في الأنوثة والتبرج أمام الرجال كذبًا من ضمير المرأة.

قالت: ومن أخلاقها أيضًا؛ ألا ترى أن أشدَّ الإسراف في هذه الأنوثة وفي هذا التبرج لا يكون إلا في المرأة العامة …؟

قلت: والمرأة العامة امرأة تجارية القلب، فكأن المسرِفة في أنوثتها وتبرجها، هذه سبيلها، فهي لا تُؤمَنُ على نفسها.

قالت: قد تُؤمَنُ على نفسها، ولكنها أبدًا مُومِس الفكر في الرجال، فيوشك ألا تُؤمَن؛ وهي رهن بأحوالها وبما يقع لها؛ فقد يتقدم إليها الجريء وقد لا يتقدم، ولكنها بذلك كأنها مُعلِنة عن نفسها أنها «مستعدة ألا تُؤْمَن» …

قال «ح»: لكن يقال إن المرأة قد تتبرجُ وتتأنَّث لترى نفسها جميلة فاتنة، فيعجبها حسنُها، فيسرُّها إعجابُها.

قالت: هذا كالقول إن أستاذ الرقص الذي رأيتَهُ هنا، ينظر إلى نفسه كما ينظر رجل إلى راقصة تتأوَّدُ١٥ وتهتزُّ وتترَجْرَجُ. إن هذا الرَّقَّاصَ فيه الحركة الفنية كما هي حركة ليس غير؛ فهو كالميزان أو القياس أو أي آلات الضبط؛ أما فتنة الحركة وسحرها ومعناها من المرأة الفاتنة في وهم الرجل المفتون بها؛ فهذا كله لا يكون منه شيء في أستاذِ الرقصِ؛ وإن كان أستاذَ الرقصِ.

إن أجمل امرأة تَبصُق بفمها على وجهها في المرآة، إذا مُحِي الرجل من ذهنها، أو لم يُطلَّ بعينيه من وراء عينيها، أو لم تكن ممتلئةَ الحواسِّ به، أو بإعجابه، أو بالرغبة في إعجابه. فمهما يكن من جمال هذه فإنها لا ترى وجهها حينئذٍ إلا كالدنيا إذا خلت من العدل …

•••

قلتُ: ولكنَّا أبعدنا عن «قصة هذه الحياة ما كان أولها؟»

قالت: سأفعل ذلك لموضعك عندي: إنَّ قصتي في الفصل الأول منها هي قصة جمالي؛ وفي الفصل الثاني هي قصة مرض العذراء؛ وفي الفصل الثالث هي قصة الغفلة والتهاون في الحراسة؛ وفي الفصل الرابع هي قصة انخداع الطبيعة النسوية المبنية على الرقة وإيجاد الحب وتلقِّيه والرغبة في تنويعه أنواعًا للأهل والزوج والولد؛ ثم في الفصل الخامس هي قصة لؤم الرجل: كان محبًّا شريفًا يقسم بالله جَهْدَ أيْمانِه، فإذا هو كالمزوِّر والمحتال واللص وأمثالهم ممن لا يُعرَفون إلا بعد وقوع الجريمة.

ثم سكتتْ هُنَيْهة، فكان سكوتُها يُتِمُّ كلامَها …

وقال «ح»: فما هو مرض العذراء الذي كان منه الفصل الثاني في الرواية؟

قالت: كل عذراء فهي مريضة إلى أن تتزوج؛ فيجب أن يُعْلِمَها أهلُها أن العلاجَ قد يكون مسمومًا؛ وينبغي أن يَحُوطوها١٦ بقريب من العناية التي يُحاطُ المريضُ بها، فلا يُجعَلُ ما حوله إلا ملائمًا له، ويُمنَعُ أشياءَ وإن أحبَّها ورَغِبَ فيها، ويُكْرَهُ على أشياءَ وإن عافها وصَدَف عنها.
قال «ح»: فيكون القانون الاجتماعي تصديقًا للقانون الديني من أن الذكورة هي في نفسها عداوة للأنوثة، وأن كل رجل ليس ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ١٧ يجبُ أن يكون مرفوضًا إلا في الحالة الواحدة المشروعة؛ وهي الزواج.

قالت: فتكون المشكلة الاجتماعية هي: من ذا يُرغم الذكورة على هذه الحالة الواحدة المشروعة كيلا تضيع الأنوثة؟

قال: ولكن إذا كان سقوطُ الفتاةِ هو جنايةَ «الزواجِ المزوَّر»، فما عسى أن يكون سقوط بعض المتزوجات؟

قالت: هو جناية «الزواج المنقَّح» … تريد أنفسهن الخبيثة تنقيح الزوج؛ والمومسات أشرف منهن؛ إذ لا يعتدين على حق ولا يَخُنَّ أمانة.

•••

ورفَّ على وجهها في هذه اللحظة شعاعٌ من الشمس كان على جبينها كصفاء اللؤلؤ، ثم تحول على خدِّها كإشراق الياقوت؛ ورأتْني أتأمَّلُه، فقالتْ: أنا مُنْتَشِيَةٌ بحظي في هذه الساعات؛ وهذا الشعاع إنما جاء يختمُ نورَها.

ثم كانت السخرية العجيبة أنها لم تتم كلمة النور حتى جاء حظُّها الحقيقي من حياتها … وهو رجل يتحظَّاها؛١٨ كلما أخذَتْهُ عينُها ابتسمتْ له ابتسامًا من الذل، لو لم تجعله هي ابتسامًا لكان دموعًا؛ ثم وقفت وما تتماسك من الهم، كأنها تمثال «للجمال البائس»؛ ثم حَيَّتْ وسَلَّمَتْ ووَدَّعَتْ؛ وبعد «واوات» أخرى مشتْ ساكنةً، ومرآها يَضِجُّ ويبكي.

فوداعًا يا أوهامَ الذكاءِ التي تلمِس الحقائق بقوةٍ خالقة تزيد فيها!

ووداعًا يا أحلامَ الفكرِ التي تضع مع كل شيء شيئًا يُغَيِّرُهُ!

ووداعًا يا حبَّها …

١  دائب: مستمر.
٢  المسترسلة: المستمرة والغارقة في ذلك العمل.
٣  سُرِّي عنها: انكشفت أساريرها تعبيرًا عن سرورها.
٤  يتدامج: يمتزج.
٥  لا مراء فيها: لا جدال فيها ولا شك.
٦  تذعن: تخضع.
٧  لا جرم: لا شك.
٨  تتأدى: تصل وتؤدي
٩  يؤبه به: يهتم بأمره.
١٠  المومس: المرأة العاهر الفاسدة.
١١  استقادوا لها: أخذوا بثأرها. والقود معناه الثأر.
١٢  كنف: حفظ وصيانة وحماية.
١٣  تسمو: ترتفع.
١٤  فرط الجمال: كثرته.
١٥  تتأوَّد: تتمايل راقصة.
١٦  يحوطوها: يصونوها ويحفظوها بالرعاية والعناية.
١٧  المحرم هو من لا يحل للمرأة الزواج منه كالأخ والأب والعم والخال.
١٨  يتحظاها: أي يجعلها حظه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤