سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم (٢)

قالت عائشة — رضي الله عنها: لم يمتلئ جوفُ النبي شبعًا قط، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعامًا ولا يتشهَّاه؛ إن أطعموه أكل، وما أطعموه قَبِل، وما سقَوْه شَرِب.

وقالت: ما شَبِع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول الله .

وعنها: كنَّا آل محمد نمكث شهرًا ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء.

وقالت: ما رفع رسول الله قط غداءً لعشاء، ولا عشاءً لغداء، ولا اتخذ من شيء زوجين؛ لا قميصين، ولا ردائين، ولا إزارين، ولا زوجين من النعال.

ويُروى عنها، قالت: تُوفي رسول الله وليس عندي شيء يأكله ذو كَبِد، إلا شطرُ شعير في رفٍّ لي.

وقالت: تُوفي رسول الله ودرعُهُ مرهونةٌ عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير.

وعن ابن عباس: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاويًا١ لا يجدون عشاءً، وإنما كان خبزهم الشعير.

وعن الحسن، قال: خطب رسول الله فقال: «والله ما أمسى في آل محمد صاعٌ من طعام، وإنها لتسعة أبيات!» والله ما قالها استقلالًا، ولكن أراد أن تتأسَّى به أمَّته.

وعن ابن مجير قال: أصاب النبي جوعٌ يومًا، فعَمَدَ٢ إلى حجر فوضعه على بطنه، ثم قال: «ألا ربَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة؛ ألا ربَّ مُكرِم نفسه وهو مُهين لها؛ ألا ربَّ مُهين نفسه، وهو مُكرِم لها.»

وخيِّر أن يكون له مثل «أُحدٍ» ذهبًا فقال: «لا يا ربِّ؛ أجوع يومًا فأدعوك، وأشبع يومًا فأحمدك»!

وكان يقول في دعائه ويُكثر منه: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة٣ المساكين.»

•••

هذا هو سيِّد الأمة، يُمسكه في الحياة نبيًّا عظيمًا ما يُخرج غيرَه منها ذليلًا محتقَرًا، وكأنما أشرق صفاء نفسه على تراب الأرض فردَّه أشعة نور، على حين يُلقي الناسُ على هذا التراب من ظلام أنفسهم فلا يبقى ترابًا، بل يرجع ظلامًا، فكأنهم إذ يمشون عليه يطَئُون المجهول بخوفه وروعته؛ ثم لا يستقرُّ ظلامًا، بل يرجع آلامًا، فكأنهم يَنبُتون على المرض لا على الحياة؛ ثم لا يثبت آلامًا، بل يتحول فورة وتوثُّبًا تكون منه نزوات٤ الحمق والجنون في النفس.
هؤلاء الذين تعيش أنفسهم في التراب، ويتمرَّغون بأخلاقهم فيه، ينقلبون على الحياة من صنع التراب ناسًا دودًا كطبع الدود لا يقع في شيء إلا أفسده أو قذَّره؛ أو قومًا سوسًا كطبع السوس لا ينال شيئًا إلا نخره أو عابه، فهم يُوقِعون الخلل في نظام أنفسهم، فإذا هي طائشة تخيِّل لهم كأنما اختلَّت نواميس الدنيا، وكأن الله قبضهم وبسط غيرهم، وشغلهم وفرَّغ مَن عداهم، وابتلاهم على مُسْكة الرزق٥ بالشهوة المسعورة٦ التي لا تتحقق، فضربهم بالمجاهدة التي لا تنقطع؛ وأنعم على غيرهم في بسطة الرزق بالشجرة المسحورة التي لا تُقطع منها ثمرةٌ إلا نبت غيرها في مكانها.
إن ما وصفناه من فقر النبي ، وأنه لم يكن له عتيدٌ حاضرٌ، وأنه لم يجعل نفسه في همِّ المال، ولا جعلتْهُ نفسه في همِّ الفقر، وأنه لقي الحياة حاملًا لا محمولًا، واستقرَّ فيها هادئًا لا مضطربًا؛ كل ذلك إنما يُثبِت للدنيا أنه خُلِق وبُعِث وعاش ليكون درسًا عمليًّا في حل المشكلات الاجتماعية، يُعلِّم الناس أنها لا تتعقد بطبيعتها، ولكن بطبائعهم فيها، ولا تستمر بقوتها، ولكن بإمداد قواهم لها؛ ولا تغلب بصولتها،٧ ولكن بجزعهم٨ منها؛ ولا تُعضِل٩ من ذات نفسها، ولكن من سوء أثرهم عليها وسوء نظرهم لأنفسهم ولها.

فإذا قرأتَ الأحاديث التي أسلفناها فلا تقرأها زهدًا وتقللًا، ولا فقرًا وجوعًا، ولا اختلالًا وحاجة، كما تُترجمها نفسك أو تحسُّها ضرورتك؛ بل انظرْ فيها واعتبِرْها بنفسِهِ هو ، ثم اقرأها شريعة اجتماعية مفصَّلة على طبيعة النفس، قائمة على أن تأخذ نفس الإنسان من قُوى الدنيا عناصرها الحيوية، لتعطي الحياة من ذلك قوة عناصرها.

والحياة العاملة غير الحياة الوادعة، هما ذكر وأنثى؛ فأمَّا الأولى فهي ما وصفنا وحكينا، وأما الثانية فهي تغلُّل النعمة، وإطلاق قانون التناسل في المال ينمِّي بعضه بعضًا، وينبت بعضه على بعض، ثم إقامة الحياة على الزينة ومقوماتها، وقيام الزينة على الخداع وطباعه، فيُقبِل المرء من دنياه على ما هو جدير أن يصرفه عنها، ويحبُّ منها ما كان ينبغي أن يباغضه فيها. وكلُّ ما رأيتَ وعلمت في رجلٍ، قوَّته القوة فهو هناك؛ وكلُّ ما علمتَ ورأيت في أنثى، قوتها الضعف فهو هنا.

فالسواد الذي تراه في فقرِهِ هو السواد الحي؛ سوادُ الليل حول الروح النجمية الساطعة؛ وذلك التراب هو التراب الحي؛ تراب الزرع تحت النضرة والخضرة؛ وتلك الحاجة الجسمية هي الحاجة الحية الدافعة إلى حرية النفس؛ وذلك الإقلال من فهم اللذة هو الإقلال الحي الذي يزيد قوة فهم الجمال في السماء والأرض وما بينهما، وذلك الضيق في حيِّز١٠ المتاع للحاسة هو الضيق الحي الذي يوسِّع حيز المتاع للروح. وبالجملة فذلك النقص من المادة لم يكن إلا لنفي النقص عن الفضيلة، وذلك الاحتقار للعَرَض الفاني الزائل هو المعنى الآخر لتقديس الخالد الباقي.
فليس هناك خبزُ الشعير، ولا الجوع، ولا رهنُ الدرع عند اليهودي. كلا، كلا، بل هناك حقيقة نفسية عقلية، ثابتة متزنة، قائمة بعناصرها السامية: من اليقين والعقل والحكمة، إلى الرفق والحلم والتواضع. تُخبر هذه الدنيا العلمية الفلسفية المفكِّرة أن ذلك النبي العظيم هو الرجل الاجتماعي التام بأخلاقه وفضائله، وهو الذي بُعث لتنقيح غريزة تنازع البقاء، وكسر هذه الحيوانية، وقمع١١ نزواتها، وإماتة دواعيها، والسمو بخواطرها؛ فهو بنفسه صورة الكمال الذي بُعث لتحقيقه وإثبات أنه الممكن لا الممتنع، والحقيقي لا الخيالي.
ليس هناك درعٌ مرهونة في ثلاثين صاعًا، ولا الفقر ولا خبز الشعير. كلا، كلا، بل هناك تقريرُ أن النصر في معركة الحياة لا يأتي من المال والثراء والمتاع، ولكن من المعاناة والشدة والصبر؛ وأن التقدم الإنساني لا يباع بيعًا، ولا يؤخذ هونًا؛١٢ بل هو انتزاعٌ من الحوادث بالأخلاق التي تتغلب على الأزمات ولا تتغلب الأزمات عليها، وأن هذا المال وهذه الشهوات — في حقائق الحياة ومصائرها — ككنوز الأحلام: لا تكون كنوزًا إلا في مواضعها من أرض الغفلة والنوم، فلا لذة منها إلا بمقدار خفيف من هذه الغفلة. وليس إلا الأحمق أو المخذول أو الضائع هو الذي يقطع العمر نائمًا أبدًا ليظل مالكًا أبدًا لهذه الكنوز، وهو يعلم أنه لا بدَّ مستيقظ، وأنه متى انتبه في آخرته لم يجد منها شيئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ.

كلا، كلا، ليس هناك فقرٌ ولا جوعٌ وما إليهما، بل هناك وضع هذه الحقيقة: ينبغي أن تجد نفسك، وموضع نفسك، وإيمان نفسك، وعزة نفسك. فإذا أدركتَ ذلك ورفعتَ نفسك إلى موضعها الحق، وأقررتَها فيه، وحبستَها عليه، وحدَّدتَها بالإنسانية من ناحية وبالله من الناحية المقابلة، رأيت إذن أن قيمتك الصحيحة في أن تكون وسيلة تعطي وتعمل لتعطي، لا غايةً تأخذ وتعمل لتأخذ، ومهما ضُيِّق عليك فإنما أنت كالشجرة الطيبة تأخذ ترابًا وتصنع حلاوة.

وما قطُّ نبتت شجرةٌ في مكانها لتأكل وتشرب وتختزن السماد والتراب وتحصِّنهما وتمنعهما عن غيرها، ولو قد فعلَتْ ذلك شجرةٌ لكان هلاكها فيما تفعل؛ إذ تحاول أن تضاعف فائدتها من قانون العالم، فيكون طمعها سريعًا في إفساد الصلة بينهما، فلا يجد القانون فيها نظامه، ومن ثم لا تجد في القانون نظامها، فيُهلكها الذي كان يُحييها، وتستعبد لحظ نفسها، فيفقدها ذلك حرية الحياة التي كانت لها في نفسها.

•••

يقول نبينا : «إن المؤمن بكل خير على كل حال؛ إنَّ نفسه تُنزَع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل.» فهذا هو أسمى قانون اجتماعي يمكن أن تظفر به الإنسانية، وما يأتي لها ذلك إلا إذا أصبحت تلك المعاني التي أومأنا١٣ إليها شعورًا اجتماعيًّا عامًّا مقررًا في النفس، قائمًا فيها على إيمان راسخ بأن الفرد هو صورة المجتمع لا صورة نفسه وحدها، وأن الناس كحَبِّ القمح في السنبلة، ليس لجميعه إلا قانون واحد، فموضع كل حبة من السنبلة هو ثروتها، عَلَتْ أو سَفُلتْ، وكثُر ما تأخذه أو قلَّ؛ وإذا كان أساس الحياة في الحبة منها أن تجد قوامها وكفايتها من مادة الأرض، فتمام الحياة فيها أن يغمرها النور من حولها، وأن يستمر النور من حولها يغمرها.

فالحبة من السنبلة بكل خير على كل حال، إنها لتُنزع وما بها أنها نُزعتْ، ولكنها أدَّت ما تؤدِّي، وانقطعتْ من قانون لتتصل بقانون غيره، وما اغتنتْ ولا افتقرتْ، ولا أكثرتْ ولا أخفَّتْ، بل حقَّقت موضعها، فإنها ما نبتت لتبقى، وما نمت إلا لينقطع نماؤها؛ وكذلك المؤمن الصحيح الإيمان الصادق النظر في الحياة، هو أبدًا في قانون آخرته، فهو أبدًا في عمل ضميره.

والناس في هذه الحياة كحشد عظيم يتدفَّق من مضيق بين جبلين ينفُذُ إلى الفضاء؛ فإذا هم أدركوا جميعًا أنهم مُفضُون١٤ إلى هذه النهاية مرُّوا آمنين وكان في يقينهم السلامة، وفي صبرهم الوقاية، وفي نظامهم التوفيق، وفي تعاونهم الحياة؛ فهم بكل خير على كل حال، ما دام هذا قانون جميعهم؛ فأيما رجلٍ شذَّ منهم فاضطرب فطاش،١٥ هلك وأهلك مَن حوله، ومن عكس منهم موضعه ونكص على عقبيه، أهلك مَن حوله وهلك. والموتُ، أشقى الموت هنا في هذا المضيق بين الجبلين، اعتبارُ الحاضر حاضرًا فقط، والضجر منه، وجعلُ كلِّ إنسان نفسه غاية. والحياة، أهنأ الحياة، اعتبارُ الحاضر بما وراءه، والصبر على شدته، وجعل الإنسان نفسه وسيلة.

•••

فذلك معنى خبزِ الشعير، والقلة والضيق، ورهنِ الدرع عند يهودي من سيد الخلق وأكملهم، ومَن لو شاء لمشى على أرضٍ من الذهب. فهو يعلِّم الإنسانية أن الرجل العظيم النفس لا يكون في الحياة إلا ضيفًا نازلًا على نفسه.

ومن معاني ذلك الفقر العظيم أن خبزَ الشعير هو رمزٌ من رموز الحياة على التحلل من خُلُق الأثرة، والبراءة من هوى الترف؛ ورهنُ الدرع رمز آخر على التخلص من الكبرياء والطمع؛ والعُسرة رمز ثالث على مجاهدة الملل الحي الذي يفسد الحياة كما يُفسد بعضُ النبات النباتَ. ومجموع هذه الرموز رمزٌ بحاله على وجوب الإيقاظ النفسي للأمة العزيزة التي تقود أنفسها بمقاساة الشدائد ومجاهدة الطباع، لتكون في كل فرد مادةُ الجيش، وليصلح هذا الجيش قائدًا للإنسانية.

على أنه حثَّ على طلب اليسار،١٦ والتغلُّل من الأعمال الشريفة بالغَلَّة والمال، فقال: «إنك إن تدع عيالك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون١٧ الناس.» ورأى عابدًا قد انقطع للعبادة حتى أكلتْ نفسُه جسمَه، ووصفوا له من زهده وعبادته، فقال : «مَن يعوله؟» قالوا: كلنا نعوله. فقال: «كلكم خير منه! …» إلى أحاديث كثيرة مرويَّة، هي تمام القانون الأدبي الاجتماعي في الدنيا، تُثبت أن الحي إن هو إلا عمل الحي.
ولكن حين يكون سيد الأمة وصاحب شريعتها رجلًا فقيرًا، عاملًا مجاهدًا، يكدح١٨ لعيشه، ويجوع يومًا ويشبع يومًا، فلم يقلِّب يده في تِلاد١٩ من المال يرثه، ولم يجمعهما على طريف٢٠ منه يورِّثه، فذلك هو ما بيَّناه وشرحناه، وذلك كالأمر نافذًا لا رُخصة فيه، على ألا يتَّخذ الغني من الفقير عبدًا اجتماعيًّا لفقر هذا ولمال ذاك؛ بل هي المساواة النفسية لا غيرها وإن اختلفت طبقات الاجتماع. والأكرم هو الأتقى لله بمعنى التقوى، والأقوم بالواجب على معنى الواجب، والأكفأ للإنسانية في معاني الإنسانية.

فقرُ ذلك السيد الأعظم ليس فقرًا، بل هو — كما رأيتَ — ضبط السلطة الكائنة في طبيعة التملُّك، لقيام التعاون الإنساني على أساسه العملي؛ هو المحاجزة العادلة بين المصالح الاقتصادية الطاغية: يمنع أن تأكل مصلحة مصلحة فتهلك بها، ويُوجب أن تلد المصلحة مصلحة لتحيا بها.

والنبي الفقير العظيم هو في التاريخ من وراء كل هذه المعاني، كالقاضي الجالس وراء مواد القانون. صلى الله عليه وسلم.

١  طاويًا: جائعًا لم يأكل شيئًا.
٢  عمد إلى حجر: أتى بحجر.
٣  زمرة: جماعة.
٤  نزوات: رغبات.
٥  مُسكة الرزق: ضيق العيش.
٦  الشهوة المسعورة: الجامحة.
٧  الصولة: الغلبة.
٨  بجزعهم: بخوفهم.
٩  تعضل: تشتد وتقوى.
١٠  حيز: ملك.
١١  قمع: ضرب وقهر وأذل.
١٢  هونًا: سهلًا.
١٣  أومأنا: أشرنا.
١٤  مفضون: واصلون، منتهون إلى.
١٥  طاش: انحرف.
١٦  اليسار: الغنى.
١٧  يتكففون: يعيشون على الكفاف وشظف العيش.
١٨  يكدح: يتعب ويجد في عمله.
١٩  تلاد المال: المال الموروث.
٢٠  طريف المال: حديثه وجديده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤