الزاهدان (٢)

قال أحمد بن مسكين: انتشر حديث السمكة في أهل «بلخ»، واستفاض١ بينهم، وكنت قصصته عليهم يوم السبت، فلما دار السبت من أسبوعه لقيني شيخهم حاتم بن يوسف «لقمان الأمة» ومعه صاحبه أبو تراب، فقال: يا أحمد، لكأنك في هذه المدينة قمر طلع بليل فلا يعظ الناس في يوم السبت غيرك؛ ومن سمع فكأنه عاين،٢ وليس على ألسنة أهل بلخ منذ تحدثت إلا بشر وابن حنبل، ولا على بال أحد منهم إلا موعظتك وحديثك.

والكلام عن الصالحين في مثل ما وصفت وحكيت قُرْبٌ من حقائقهم، وسُمُوٌّ إلى معانيهم، وليس في القول باب له موقع كموقع القصة عن هؤلاء الذين يخلقهم الله في البشرية خلق النور؛ يضيء ما حوله من حيث لا يُرى، ويعمل فيما حوله من حيث لا يرى، وفي ظاهره الجمال والمنفعة، وفي باطنه القوة والحياة. ولست أقول لك: اذهب فحدث الناس، ولكني أقول: اذهب فأعطِ الناس عقلًا من الحديث.

قال ابن مسكين: فلما صلينا العصر، قدَّمَني أبو تراب فجلست في مجلسي ذاك، وهتف بي الناس يريدون الحديث عن بشر الحافي وما سقط لي من أخباره، على الطريقة التي حدثتهم بها من قبل، فابتدأت بذكر موته — رحمه الله — وأن يومه كأنما اجتمع له أهل خمس وسبعين سنة، إذ خرجتْ جنازته بعد صلاة الصبح، فلم يحصل في قبره إلا في الليل مما احتشد٣ في طريقه من الخلق، حتى لكأن في نعشه سرًّا من أسرار الجنة يطالعهم به الموت فخرجوا ينظرون إليه، وكانوا يصيحون في جنازته: هذا — والله — شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.

ثم قلت: حدَّثَني حسينٌ المَغَازلي: أن بِشْرًا — رحمه الله — كان لا يأكل إلا الخبز تورعًا عن الشبهات واكتفاء لضرورة الحياة بالأقل الأيسر، وكاني يقول في ذلك يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة. وسئل مرة: بأي شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافية فأجعلها إدامًا. وقد أعانه على ذلك أنه لم يتزوج، وكان يرى هذا نقصًا في نفسه حتى فضَّل الإمام أحمد بن حنبل بأشياء: منها أنَّ له أهلًا؛ غير أنه قيل له ذات يوم: لو تزوجتَ تَمَّ نسكك، فقال: أخاف أن تقوم الزوجة بحقي ولا أقوم بحقها، فكانت هذه النية في نفسه أفضل من زواجه.

وكان مع هذا لا يؤاكل أحدًا، ولا يسعى إلى لقاء أحد، حتى أنه لما رغب في مؤاخاة الزاهد العظيم «معروف الكَرْخي»، أرسل إليه «الأسودَ بن سالم» وكان صديقًا لهما، فقال لمعروف: إن بشر بن الحارث يريد مؤاخاتك وهو يستحيي أن يشافهك٤ بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعقد له فيما بينه وبينك أخوة يحتسبها ويعتد بها؛ إلا أن يشترط فيها شروطا؛ أولها: أنه لا يحب أن يشتهر ذلك، وثانيها: ألَّا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة. فقال معروف: أما أنا فإذا أحببت أحدًا لم أحب أن أفارقه ليلًا ولا نهارا، وأزوره في كل وقت، وأوثره على نفسي في كل حال؛ وأنا أعقد لبشر أخوة بيني وبينه، ولكني أزوره متى أحببت، وآمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها إذا هو كره زيارتي.

قال حسين المغازلي: وكان هذا كله من أمر بشر معروفًا في بغداد، لا يجهله أحد من أهلها، إذ لم يكن لبغداد إمام غيره وغير ابن حنبل؛ فما كان أكثر عجبي حين كنت عنده يومًا وقد زاره «فتح الموصلي»، فقام فجاء بدراهم ملء كفه ودفعها إلي وقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام، وأطيب من ما تجد من الحلوى، وأطيب ما تجد من الطيب، وما قال لي مثل ذلك قط، وهو الذي رأى الفاكهة يومًا فقال: ترك هذه عبادة! وهو القائل لأبي نصر الصياد: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة.

فذهبت فاشتريت وانتقيت وتخيرت، ثم وضعت الطعام بين أيديهما، فرأيته يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، ورأيته منبسطًا إليه وما لي عهد كان بانبساطه إلى أحد. وقد كنت أخبرته في ذلك النهار بخبر أحمد بن حنبل، علمتُه من إدريس الحداد؛ فإنه لما زالت المحنة بعد أن ضُرب بين يدي المعتصم وصُرف إلى بيته، حُمل إليه مال كثير من سَرَوات٥ بغداد وأهل الخير فيها، فردَّ جميع ذلك ولم يقبل منه قليلًا ولا كثيرا، وهو محتاج إلى أيسره، وإلى الأقل من أيسره، وإلى الشيء من أقله، فجعل عمه إسحاق يحسب ما ورد ذلك اليوم، فكان خمسين ألف دينار، فقال له الإمام: يا عم، أراك مشغولا بحساب ما لا يفيدك. قال: قد رددت اليوم كذا وكذا ألفًا وأنت محتاج إلى حبة من دانق. فقال الإمام: يا عم، لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه.

•••

قال المغازلي: فنمت تلك الليلة وأنا أفكر في صنيع الشيخ، وقد تعلق خاطري به: كيف انقلبت الحال معه، وأي شيء هذا الحال؟ وجعلت أكِدُّ ذهني لأعرف الحقيقة العقلية التي سلطت عليه هذه الضرورة فتسلط النعيم على نفسه، وأنا أعلم أن للقوم علوما روحانية ليست في الكتب، فمنها ما لا يتعلمونه إلا من الفقر، ومنها ما لا يتعلمونه إلا من البلاء، ومنها، ومنها؛ ولكن ليس منها ما يتعلمونه من اللذات والشهوات؛ وذهب قلبي إلى أوهام كثيرة ليس في جميعها طائل ولا بها معرفة، حتى غلبتني عيناي، وأنا من وهج الفكر نائم كالمريض، وقد ثقل رأسي واختلط فيه ما يُعقل بما لا يُعقل.

فرأيت أول ما رأيت ملكًا جبارًا يحكم مدينة عظيمة، وقد أطلق المنادي في جَمْع كل أطفال مدينته، فجيء بهم من كل دار، ثم رأيته قد جلس على سريره وفي يده مقراض عظيم، قد اتخذه على هيئة نصلين٦ عريضين لو وُضعت بينهما رقبة لفصلاها عن جسمها، فكان هذا الجبار يتناول الطفل من أولئك فيضع أصابع إحدى قدميه في شقي المقراض فيقرضها، فإذا هي تتناثر أسرع مما يقرض المِقَصُّ الخيط، ثم يرمي بالطفل مغشيا عليه، ويتناول غيره فيبتر٧ أصابعه، والأطفال يصرخون، وأنا أرى كل ذلك ولا أملك إلا غيظي على هذا الجبار من حيث لا أستطيع أن أُمضِي فيه هذا الغيظ فأقرض عنقه بمقراضه.
ثم رأيته يأخذ طفلا صغيرًا، فلما جاءت قدم الطفل بين شقي المقراض صاح: يا ربِّ، يا ربِّ، فإذا المقراض يلتوي فلا يصنع شيئًا، وكأن فيه حجرًا صلدًا لا قدما رخصة.٨ فتميز الجبار من الغيظ وقال: مَن هذا الطفل؟ فسمعت هاتفًا يهتف: هذا بشر الحافي! لا يبلغ تاج ملك في الأرض أن يكون لقدمه الحافية نعلًا عند الله!
وكان إلى يميني رجل يتوضأ وجهه صلاحًا وتقوى، فقلت له: مَن هذا الطاغية؟٩ ولِمَ اتخذ المقراض لأقدام الأطفال خاصة؟
فقال: يا حسين! إن هذا الجبار هو ذل العيش، وهذا وَسْمه لأهل الحياة على الأرض، يحقق به في الإنسان معنى البهيمة أول ما يدِبُّ١٠ على الأرض، حتى كأنه ذو حافر لا ذو قدم.

قلت: فما بال هذا الطفل لم يعمل فيه المقراض؟

قال: إن لله عبادًا استخصهم١١ لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل؛ فإذا اطرح أحدهم للشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد نيةٍ وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكنه رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة، كما يحمل البطل الأروع أسلحة الجسم في معاركه الدامية؛ هذا يُتَعَلَّم منه فنٌّ، وذلك يتعلم منه فن آخر، وكلاهما يرمى به على الموت لإيجاد النوع المُستعَزِّ من الحياة، فأول فضائله الشعور بالقوة، وآخر فضائله إيجاد القوة.

•••

قال المغازلي: وضرب النوم على رأسي ضربة أخرى، فإذا أنا في أرض خبيثة داخنة، قد ارتفع لها دخان كثيف أسود يتضرب بعضه في بعض وجعلت أرى شُعَلًا حُمْرًا تذهب وتجيء كأنها أجسام حية، فوقع في وهمي أن هؤلاء هم الشياطين؛ إبليس وجنوده، وسمعت صارخًا يقول: يا بُشرَى! فلتبك السماء على الأرض، لقد أكل بشر الحافي من أطيب الطعام وأطيب الحلوى بعد أن استوى عنده حجرها ومدرها،١٢ وذهبها وفضتها! فعارضه صائح أسمع صوته ولا أرى شخصه: ويلك يا زلنبور!١٣ إن هذا شرٌّ علينا من عامة نسكه وعبادته؛ فهذا — ويحك — هو الزهد الأعلى الذي كان لا يطيقه بِشْرٌ؛ إنه إعناتٌ١٤ سلَّطه على نفسه، فإني دفعت هذا «المغازلي» الأعمى القلب ليزين له ما فعل أحمد بن حنبل من رده خمسين ألف دينار على حاجته، زهدًا وورعا، وقوة عزم، ونفاذ إرادة؛ وقلت: عسى أن تتحرك في نفسه شهوة الزهد فيحسد أو يغار، أو تعجبه نفسه فيكون لي مِن ذلك لَمَّة١٥ بقلبه فأوسوس له، فإنا نأتي هؤلاء من أبواب الثواب كما نأتي غيرهم من أبواب المعاصي، ونتورع مع أهل الورع كما نتسخَّف مع أهل السُّخف؛ ولكن الرجل رجل وفيه حقيقة الزاهد، فقد أُعطِي القوة على جعل شهوات نفسه أشخاصًا حية يعاديها ويقاتلها، فإذا أنا جعلت شهوته في اللذة قتل اللذة، وإذا جعلتها في الكآبة قتل الكآبة، وليس الزاهد العابد هو الذي يتقشف ويتعفف، ويتخفف ويتلفف، فإن كثيرًا ما تكون هذه هي أوصاف الذل والحمق، ويكون لها عمل العبادة وفيها إثم المعصية. ولكن الزاهد حقَّ الزاهد من أدار في هذه الأشياء عينا قد تعلمت النظر بحقه والإغضاء١٦ بحقه؛ فهذا لا يخطئ معنى الشر إن لبَّسْناه١٧ عليه في صورة الخير ولا معنى الخير إن زوَّرناه في صورة الشر، وبذلك يضع نفسه في حيث شاء من المنزلة، لا في حيث شاءت الدنيا أن تضعه من منازلها الدنيئة.

وما أكل بشر هذه الطيبات إلا ليبادر بها وسوستي ويردني عن نفسه وعن اللمة بقلبه، فلو أنه أعجبه زهد ابن حنبل ونظر من ذلك إلى زهد نفسه لحبط أجره؛ فبهذه الطيبات عالج نفسه علاج مريض، وقد غير على جوفه طعاما بطعام، كما يبدل على جلده ثوبًا بثوب؛ ولا شهوة للجلد في أحدهما.

•••

قال المغازلي: وثقل النوم علي ثقلة أخرى، فرأيتني في وادٍ عظيم، وفي وسطه مثل الطود١٨ من الحجارة قد ركم بعضها على بعض، ورأيتني مع بشر أقص عليه خبر أحمد بن حنبل؛ فقال: انظر، ويحك! إن الناس يسمونها خمسين ألف دينار، وهي هنا في وادي الحقائق خمسون ألف حجر لو أصابت أحمد لقتلته ولكانت قبره آخر الدهر.
إن المال يا بني، هو ما يعمله المال لا جوهره من الذهب والفضة، فإذا كنت بمفازة١٩ ليس فيها مَن يبيعك شيئًا بذهبك؛ فالتراب والذهب هناك سواء؛ والفضائل هي ذهب الآخرة؛ فهنا تجدد بالمال دنياك التي لا تبقى أكثر من بقائك، وهناك تجدد بالفضائل نفسك التي تخلد بخلودها.

ومعنى الغنى معنى ملتبس على العقول الآدمية لاجتماع الشهوات فيه، فحين يرد أحمد بن حنبل خمسين ألفا، يكون هذا المعنى قد صحح نفسه في هذا العمل وجها من التصحيح.

•••

قال حسين المغازلي: وغطني٢٠ النوم في أعماقه غطة أخرى؛ فإذا أنا في المسجد في درس الإمام أحمد، وهو يحدث بحديث النبي : «إذا عظَّمت أمتي الدنيار والدرهم، نُزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرموا بركة الوحي.» وهمَّ أن يتكلم في تفسيره ولكنه رآني فأمسك٢١ عنه وأقبل عليَّ فقال: يا حسين، إذا اجتزأ شيخك بالرغيف فهذا عنده هو قدر الضرورة؛ فإن أكل الطيبات فقد عرضتْ حالٌ جعلت هذه الطيبات عنده هي قدر الضرورة؛ وفي هذه النفوس السماوية لا يكون الجزء الأرضي إلا محدودًا، فلا يكون محصوله إلا ما ترى من قدر الضرورة.

ولما صغر الجزء الأرضي في نفوس المسلمين الأولين ملكوا الأرض كلها بقوة الجزء السماوي فيها، إذ كانت إرادتهم فوق الأطماع والشهوات، وكانت بذلك لا تذل ولا تضعف ولا تنكسر؛ فالآدمية كلها تنتهي إلى بعض صور، وهؤلاء هم الذين محلهم في أعلاها.

يا حسين، ألا وإن رد خمسين ألف دينار هو كذلك قدر الضرورة.

قال حسين: وذهبت أعترض على الإمام بما كان في نفسي من أن هذا المال وإن لم يكن من كسبه، فقد كان يتحول في يده عملًا من أعمال الخير؛ وأنسيت أن هذه الصدقات هي أوساخ الناس وأقذار نفوسهم، فلم أكد أفتح فمي حتى رأيت الكلام يتحول طينا في فمي ليذكرني بهذا المعنى؛ وكدتُ أختنق فانتفضت أتنفس، فطار النوم والحلم.

١  استفاض: انتشر.
٢  عاين: رأى.
٣  احتشد: تجمهر، اجتمع.
٤  يشافهك: يحدثك.
٥  السروات: الأغنياء.
٦  نصل السيف: المكان القاطع منه.
٧  بتر: قطع.
٨  رخصة: طرية لدنة.
٩  الطاغية: الظالم.
١٠  يدب: يمشي.
١١  استخصهم: استخلصهم.
١٢  مدرها: مدنها وحضرها.
١٣  زلنبور: هو اسم لبعض ولد إبليس.
١٤  إعنات: إتعاب.
١٥  اللمة: مس الجنون.
١٦  الإغضاء بحقه: الزراية وعدم تقديره.
١٧  لبسناه: موَّهْناه.
١٨  الطود: بسكون الواو: الجبل.
١٩  المفازة: الطريق الضيِّق.
٢٠  غطني النوم: غلبني.
٢١  أمسك: توقف وانقطع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤