فاتح الجوِّ المصري

يا طير المثَل الأعلى!

لقد انفلتَّ١ من رذيلة الخوف وتركتها في التراب موطئ القدم، وقلتَ لها: ويحكِ! لقد آنَ للشباب المصري؛ فهو مُغامِس٢ في ماء الصواعق،٣ متطوِّح٤ في اللُّجَّة الأزلية٥ التي تغوص فيها الكواكب،٦ يطير بروح الشرارة، ويهبط بروح الغيث،٧ ويُلْجِم٨ الجو ويُسْرِجه،٩ ويتعلم كيف يشْوِي عدوَّه في عين الشمس.

وكنتَ بطلًا مغامرًا فخطوت في طريق الملائكة بهذه الفضيلة وحملك الجو؛ ولو أنك خفت وكنت على جناحي جبريل لا على طيَّارة، لخاف جبريل على جناحيه من حَطْمة هذا المعنى الترابي الطاغية الذي يحكم على الأحياء بالموت بلا موت؛ لأنه الذلُّ والخضوع والرذيلة.

وحملك الجوُّ إلى قُبَّة السماء، وهنالك نظر العالم فرأى لمصر الناهضة عَلَمَها الإنساني يتنفس تحت الكواكب.

وحملك الجو إلينا، فلما رفعنا رءوسنا لنراك، رفعناها في الوقت بين شعوب الأرض.

•••

وضربتَ يا جناح مصر في الهواء، وأعنانُ السماء١٠ مملوءة بالزَّعْزَع١١ والهوجاء والعاصف، والسماء في فصلها المكفَهِرِّ الذي تخلع فيه كل ساعة وتلبس وتمزِّق١٢ وتَطوِي، فزدتَ بجرأتك في براهين القضية المصرية برهان قوة المخاطرة، وأضفتَ إلى منطقها وضعًا جديدًا مفحِمًا من روح التضحية.

وطرت بين حياة وموت فجعلتهما يستويان في اعتقادك؛ إذ وصلت فكرة الموت بسِرِّ الإيمان، والحياة بسر العزيمة.

وكنت رجل أمتك بإنكار ذات نفسك من أجلها.

واتسعتَ للتاريخ بوضعك عمرَك المحدود على الطيارة، وقذْفِك بها وبه في مسبح الأجل.

وتجردت للأبَدِية لتعطي بلادك: إمَّا شهيدَ مجدٍ في الآخرة، وإما شهادة فخر في الدنيا.

وكنت على طيارتك الصغيرة المتطاردة تحت الريح، وحولك روح الهرم الأكبر القائم بإرادة مصر وكأنه مسمار مدقوق في كرة الأرض بين القطب والقطب.

•••

وأنت يا «فائزة» يا هذه الصغيرة الخارجة من مال صاحبها وجهده وعزيمته كما تخرج القوة من ضعف، أَعَلِمْتِ إذ أنت ترتفعين وتهبطين بين السحب كما تتواثب الفراشة على النوَّار في روضة مزهرة، وإذا أنت تفتُقين وتحوكين في ملاءة السحاب كأنك بمحركك الدوَّار تنسجين في السماء بمغزل، وإذ أنت بين صفْق الرياح الهُوج،١٣ تحت السماء المُدَجَّجة،١٤ في كُبَّة الشتاء،١٥ كأنك مناظرة تجري بين العزيمة في الإنسان والعزيمة في الطبيعة، وإذ أنت بين ذئاب الأعاصير، ونمور السحاب١٦ وسباع الغيم ذوات اللِّبْدة الكثيفة المتشَعِّثة، كأنك بصوتك وأزيزك تُطلِقين على وحوش الجو مدفعًا رشاشًا يتركها صرعى.

وإذ تراك الريح فتقول عنك: ريح صنعها الإنسان. ويراك النجم فيقول: نجم أفلت من النظام الأرضي. وتراك الملائكة فتقول: ويحك يابن آدم، كأنك بما خلقه العقل تطمع منا في سجدة أخرى كالتي سجدناها لآدم يوم خلقه الله.

… أعلمت إذ أنت كذلك يا «فائزة»، أن التاريخ المصري سيُحوِّلك من طيارة إلى آية كآية بدء الخلق؛ لأن فيك بدء الطيران في مصر؟

•••

سلامًا يا فاتح الجو المصري، لقد أجالت الأيام قِدَاحها١٧ فخرجت القرعة عليك، وأوحى إليك الواجب آية: باسم الله مصعدها ومجراها.

وطرتَ فإذا أنتَ بها عابر فوق الحاضر لتجيئنا من جانب المستقبل.

وهبطت علينا كأنك في بريد السماء كتاب مجد حي للوطنية الظافرة.

بل كتاب قصة رائعة ألَّفتْها العواصف من فنَّيْن: ثورة الجو وثورة نفسك المصرية. وحَكَتْها في صوتين: زفيف الطيارة وصرخة ضميرك الوطني. وجعلتها فصلين: أنتَ والمجهول. ألا حسبك مجدًا أن يحيا الشعب كله بِضْعَة أيامٍ في قصَّتِك!

•••

فعلى مهد الجو، وفي حرير الشعاع، وتحت كِلَّة السحاب — ولد لمصر يوم تاريخي.

وخرجت التهانئ التي طال احتباسها١٨ في القلوب المصرية لا يُفرَج عنها لأن سجانها ظُلْم السياسة.

واتجهت أفراح شعب كامل إلى الفتى الجريء الذي رمت به همته فوق هاوية الموت فتخطاها.

وتلقى شعور الأمة رسوله المقدام الذي لم يكن له ملجأ في خِطَاره إلا شعوره بهذه الأمة.

وارتجَّ الوادي كله كأنه غِمْد يتقلقل حين يُسَلُّ منه السيف.

ثم أُهدِيَتْ كلمةُ مصر لابنها الذي كتب في جوها الكلمة السماوية الأولى. وكانت ساعة تلاشى عندها الزمن فارتفعت منه أربعة آلاف سنة وهتف معنا الفراعنة: بوركتَ يا «صدقي»!

•••

لله درُّك أيما ابن عزيمة! كأنما كشفت أهاويل الوحي وهبطت في سحابة مجلجلة إن لم تحمل كتابا منزلًا فكأنما حملت شخصًا منزلا.

ولعلك رسول الغيم العابس لهذا الجو المصري الذي يضحك دائمًا ضحكة الفيلسوف الساخر في حين أصبحت الحياة قوة لا فلسفة …

ولعلك مبعوث البرق والرعد لهذا السكون النائم الذي يطوي كل يوم في طي النسيان ما حدث في اليوم الذي قبله …

ولعلك نبي الجدية والمرارة لهذه الحلاوة النيلية المفرطة التي كاد منها الشعب أن يكون سُكَّر أخلاق يُذاب ويُشرَب …

ولعلك تفسير مصحح لعقيدتنا المغلوطة في القضاء والقدر، أنَّ القضاء أن تُقْدِم بلا خوف، وأن القدر أن تَثِقَ بلا مبالاة.

أما — والله — لقد غمرتَ الشعب بموجة هواء جديدة جئت بها في جناحيك، ونفخت روح طيارتك المجيدة في القلوب فجعلتها كلها ترفرف كأن لك في ضلوع كل مصري طيارة.

١  انفلت: تخلصت.
٢  مغامس: مبلَّل.
٣  تلك كناية عن السحاب.
٤  متطوح: متمائل في كل اتجاه.
٥  اللجة الأزلية: السماء.
٦  تلك كناية عن أجواز الفضاء.
٧  الغيث: المطر.
٨  يلجم: يضع اللجام للحصان.
٩  يسرجه: يضع السرج للحصان.
١٠  أعنان، مفرده عَنان، بالفتح: نواحيها.
١١  الزعزع: تردد الصوت كالجلجلة.
١٢  كناية عن المطر وطبيعة الشتاء.
١٣  الهوج، مفرده هوجاء أي المجنونة التي لا تستقر ولا تهدأ.
١٤  المدججة: المفعمة.
١٥  كبة الشتاء: عنفه وغزارته.
١٦  السحاب: الغيم.
١٧  قداحها: كأسها لتقرع فيه على طريقة الجاهلية.
١٨  احتباسها: سجنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤