اللسان المُرَقَّع

وقال صاحب سِرِّ «م» باشا: جاء «حضرة صاحب السعادة» فلان لزيارة الباشا؛ وهو رجل مصري ولد في بعض القرى، ما نعلم أن الله — تعالى — ميَّزه بجوهر غير الجوهر، ولا طبعٍ غير الطبع، ولا تركيب غير التركيب، ولا زاد في دمه نقطةَ زَهْوٍ، ولا وضعه موضع الوسط بين فنَّيْنِ من الخليقة. غير أنه زار فرنسا، وطاف بإنجلترا، وساحَ في إيطاليا، وعاجَ على ألمانيا، ولوَّن نفسه ألوانا، فهو مصري ملوَّن. ومن ثَمَّ كان لا يرى في بلاده وقومه إلا الفروق بين ما هنا وبين ما هناك. فما يَظْهَر له دِينُ قومه إلا مقابِلًا لشهوات أحبَّها وغامر فيها، ولا لغةُ قومه إلا مقرونة بلغة أخرى ودَّ لو كان من أهلها، ولا تاريخُ قومه إلا مُغْمًى عليه … كالميت بين تواريخ الأمم.

هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعَّمين: مصري المال فقط، إذ كانت أسبابهم ومستغَلَّاتهم في مصر؛ عربي الاسم لا غير، إذ كانت أسماؤهم من جناية أهليهم بالطبيعة؛ مسلمُ ما مضى دون ما هو حاضر؛ إذ كان لا حِيلَةَ في أنسابهم التي انحدروا منها.

هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعَّمين المفتونين بالمدنية، لكل منهم جنسه المصري ولفكره جنس آخر.

قال: وكان حضرة صاحب السعادة يكلم الباشا بالعربية التي تلْعَنُها العربية، مرتفعًا بها عن لغة الفصيح ارتفاعًا مُنْحَطًّا … نازلًا بها عن لغة السُّوقة نزولًا عاليا … فكان يَرْتَضِخ لُكْنَةً أعجمية،١ بينا هي في بعض الألفاظ جرس عالٍ يطِنُّ، إذا هي في لفظ آخر صوت مريض يئِنُّ، إذا هي في كلمة ثالثة نغمٌ موسيقيٌّ يرِنُّ. ورأيته يتكلَّف نسيان بعض الجمل العربية ليَلْوِيَ لسانه بغيرها من الفرنسية، لا تظَرُّفًا ولا تملُّحًا ولا إظهارًا لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه. فكانت وطنية عقله تأبى إلا أن تُكَذِّب وطنية لسانه، وهو بإحداهما زائف على قومه، وبالأخرى زائف على غير قومه.

•••

فلما انصرف الرجل قال الباشا: أفٍّ لهذا وأمثال هذا! أفٍّ لهم ولما يصنعون! إن هذا الكبير يُلَقِّبونه «حضرة صاحب السعادة»، ولَأشرفُ منه — والله — رجل قروي ساذج يكون لقبه «حضرة صاحب الجاموسة» … نعم إن الفلاح عندنا جاهلُ عِلْم، ولكن هذا أقبح منه جهلا، فإنه جاهل وطنية.

ثم إن الجاموسة وصاحبها عاملان دائبان مخلصان للوطن؛ فما هو عمل حضرة «صاحب اللسان المُرَقَّع» هذا؟ إن عمله أن يُعلِن برطانته٢ الأجنبية أن لغة وطنه ذليلة مهينة، وأنه متجرد من الروح السياسي للغة قومه؛ إذ لا يظهر الروح السياسي للغة ما، إلا في الحرص عليها وتقديمها على سواها.

كان الواجب على مثل هذا ألَّا يتكلم في بلاده إلا بلغته، وكان الذي هو أوجب أن يتعصب لها على كل لغة تزاحمها في أرضها، فترك هذا وهذا وكان هو المزاحم بنفسه؛ فهو على أنه «حضرة صاحب سعادة»، لا ينزل نفسه من اللغة القومية إلا منزلة خادم أجنبي في حانة.

أتدري ما هو سِرُّ هؤلاء الكبراء وهؤلاء السَّراة الذين يُطَمْطِمون٣ إذا تكلموا فيما بينهم؟ إنهم عندنا طبقات:
أمَّا واحدة: فإنهم يصنعون هذا الصنيع منجذبين إلى أصل راسخ في طباعهم، مما تركه الظلم والاستبداد والحمق في زمن الحكم التركي؛ فهم يُبدون جوهر نفوسهم لأعينهم وأعين الناس، كأنه اللغة الأجنبية فيما بينهم علامة الحكم والسلطة واحتقار الشعب واستمرار ذلك الحمق في الدم … وهم بها يتنَبَّلون.٤

وأما طبقه، فإنهم يتكلَّفون هذا مما في نفوسهم من طباع أحدثها النفاق والخضوع والذل السياسي في عهد الاحتلال الإنجليزي؛ فاللغة الأجنبية بينهم تشريف واعتبار، كأنهم بها من غير الشعب المحكوم الذي فقد السلطة، وهم بها يتمجَّدون.

وأما جماعة، فإنهم يتعمَّدون هذا يريدون به عيبَ اللغة العربية وتهجينها،٥ إذ اتخذوا من عداوة هذه اللغة طريقة انتحلوها٦ ومذهبًا انتسبوا إليه، وفيهم العالِمُ بعلوم أوروبا، والأديب بأدب أوروبا؛ وذلك من عداوتهم للدين الإسلامي، إذ جعل هذه اللغة حكومة باقية في بلادهم مع كل حكومة وفوق كل حكومة؛ وهم يزدرون هذا الدين ويُسقِطون عن أنفسهم كل واجباته. وهؤلاء قد خلطوا عملًا صالحا وآخر سيِّئًا، إذ يُغْلون في مصريتهم غُلُوًّا قبيحًا ينتهي بهم إلى سفه الآراء، وخفة الأحلام، وطيش النزعات، فيما يتصل بالدين الإسلامي وآدابه ولغته. وما أرى الواحد منهم إلا قد غطَّى وصفه من حيث هو رقيعٌ، على وصفه من حيث هو عالمٌ أو أديبٌ أو ما شاء. إن هذا لَمَقْتٌ كبر مقتًا عن الله وعند الذين أمنوا.
ومن أثر تلك الفئات الثلاث نشأت فئة رابعة، تحوَّل فيهم ذلك الخلط من الكلام إلى طريقة نفسية في النفس؛ فهم يُقْحِمون٧ في كتابتهم وحديثهم الكلمات الأجنبية، ويحسبون عملهم هذا تظرُّفًا ومُعابَثة ومُجُونًا، على أنه هو الذي يُظْهِر لعين البصير مواضع القطع التاريخي في نفوسهم، وأماكن الفساد القومي في طبيعتهم، وجهات التحلُّل الديني في اعتقادهم، وهؤلاء يكتب أحدهم: «النَّرْفَزَة» وهو قادر أن يقول الغضب، «والفلير» وهو مستطيعٌ أن يجعل في مكانها المُغَازَلة، «وسكالنس» وهو يعرف لفظة أنواع وألوان، وهكذا وهكذا؛ ولا — والله — أن تكون المسافة بين اللفظين إلا المسافة بعينها بين قلوبهم ورشد قلوبهم.

وما برح التقليد السخيف لا يعرف له بابًا يلِجُ منه إلى السُّخَفاء إلا باب التهاون والتسامح؛ ونحن قوم ابتُلِينا بتزوير العيوب على أنفسنا وعدِّها في المحاسن والفضائل، من قِلَّة ما فينا من الفضائل والمحاسن، وبهذه الطبيعة المعكوسة نُحاوِل أن نقتبس من مزايا الأوروبيين، فلا نأخذ أكثر ما نأخذ إلا عيوبهم، إذ كانت هي الأسهلَ علينا، وهي الأشكلَ بطبعنا الضعيف المتسامح المتهاون.

ومن هذا تجد مشاكلنا الاجتماعية — على أنها أهون وأيسر من مشاكل الأوروبيين، وعلى أن في ديننا وآدابنا لكل مشكلة حلَّها — تجدها هي علينا أصعب وأشدَّ، لأننا ضعفاء ومتخاذلون ومقلِّدون ومفتونون، وكل ذلك من شيء واحد، وهو أن أكثر كُبَرائنا هم أكبر بلائنا.

•••

قال صاحب السر: ثم ضحك الباشا ضحكته الساخرة وقال: كيف تصنع أمةٌ يكون أكثرُ العاملين هم أكبرَ العاطلين، إذ يعملون ولكن بروحٍ غير عاملة …

١  يرتضخ لكنة أعجمية: يلهج لهجة أوروبية.
٢  رطانة: لهجة.
٣  يطمطمون: يجعلون في ألسنتهم عجمة وكلمات منكرة.
٤  يتنبلون: يرتفعون.
٥  تهجينها: تقبيحها.
٦  انتحلوها: اتخذوها نِحْلة وعملًا.
٧  يقحمون: يُدْخِلون بالقوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤