المقدِّمة

من عادات الغربيين الحميدة أن سُيَّاحهم وسائحاتهم لا يقتصرون على اللهو والنزهة في رحلاتهم، بل إنهم يضيفون الفائدة العلمية والتاريخية إلى ذلك. ولهذه الفائدة لذة خاصة بها لا يدركها إلا مَنْ نالها؛ فهي لا تقل عن لذة التنزُّه وتسريح النظر في طلاوة الجديد. وهؤلاء ضيوف مصر من الإفرنج نراهم بين ظهرانينا في شتاء كلِّ سنة، الواحد منهم لا يكاد يخرج من فندقه إلا متأبِّطًا كتاب دليل مصر يستطلع منه شأن ما يزوره من آثار ومعالم هذه الديار كالأهرام وأبي الهول والقلعة وبعض المساجد الأثرية وسواها. وقد يسترسل في البحث والسؤال والتنقيب بحيث يرجع من زيارته مزوَّدًا من المعلومات عن نفائسنا ومفاخرنا وهو لم يستغرق من الزمان إلا أيامًا معدودة. مع أن الشرقيين قد يشبُّون ويشيبون في بلادهم وهم لا يعرفون عنها شيئًا يستحقُّ الذكر، وإن ذهبوا إلى البلاد الأجنبية فلا يقرنون النُّزْهة بطلب الفائدة.

وقد التفتَ الغربيون ولا سيما الإنكليز والألمان إلى رغبةِ مواطنيهم الشديدة فيما ذكرنا من فوائد السياحات؛ فوضعوا كتاب دليل لكلِّ قُطْرٍ على حِدَتِه يكشف الحِجَاب عن معظم محتوياته؛ فراجَتْ هذه الكتب عند القوم أيَّما رَوَاج وألِفُوها فهم لا يستغنون عنها في رحلاتهم، وربما افتقدها أحدهم ساعة السفر قبل أن يفتقد كيس دراهمه وحقبة ثيابه.

وقد دفعتني الغيرة الوطنية إلى الضرب على هذا المنوال؛ فألَّفت منذ سنوات كتاب «مشاهد أوروبا وأميركا» على إثر رحلات لي ودوَّنت فيه الشيء الكثير من الحقائق والخواطر. وبعد أن نفدت الطبعة الأولى من كتابي المذكور عزمتُ على إعادة طبعه مع زيادات في أصله وإضافة أشياء كثيرة عن الممالك والأقاليم التي لم تُذْكَر فيه، ومعظمها يتعلَّق بالحوادث الكبيرة التي جَرَتْ بعد طبعه أول مرة؛ مثل وفاة الملكة فكتوريا وإفضاء العرش إلى ولدها الملك إدورد السابع، وتتويج ملك إسبانيا، ووفاة البابا لاون الثالث عشر وخلافة البابا بيوس العاشر له، والرسوم والتقاليد التي أُجْرِيَتْ عند الوفاة والتنصيب، وانفصال نورويج عن السويد، ووفاة ملك الدنمارك وتتويج ولده، وزواج ملك إسبانيا، ووفاة ملك السويد وتتويج ولده، إلى غير ذلك من الحوادث المهمة التي اشتملت عليها الطبعة الأولى من الكتاب.

ثم عزمتُ على سياحات أخرى فزرتُ معرض باريس الأخير ومدينة فيشي المشهورة بمياهها والجبل الأبيض وبلاد المغرب — أي الجزائر ومراكش وتونس — وطرابلس الغرب، ووصفت أهم مدنها وصفًا واضحًا جليًّا، وكتبت مقدِّمة تاريخية لبلاد المغرب أتيتُ فيها على ذكر الدول التي تعاقبت على البلاد من الفينيقيين فالرومانيين فالفندال فالروم فالعرب فالأتراك، مع إيراد الأسباب لقيام وسقوط كلِّ دولة. ثم بسطتُ الكلام في دخول الفرنسويين بلاد الجزائر ومحاربتهم للأمير عبد القادر مدة تزيد عن عشرين سنة. ثم عرَّجتُ على مالطة فوصفت تاريخها من أيام احتلَّها فرسان مار يوحنَّا بعد أن طردهم السلطان محمود الثاني سنة ١٥٢٢ من رودس، ومحاربتهم فيها للعرب والأتراك والفرنسويين وأسباب احتلال الإنكليز لها.

وبعد انتهاء رحلتي في المغرب سافرتُ إلى بلاد اليونان فذكرتها وجبل لبنان فوصفتُ سلسلة جباله وعلوَّها، وذكرتُ أنهاره في منابعها ومصابِّها وطولها وتعداده ومذاهبه ومساحته وحكومته ومصايفه التي يؤمُّها كثيرون من القُطْرِ المصري. وتطرَّقتُ من ذلك إلى وصف مدن بيروت ودمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب، وفي العام الماضي قصدتُ بلاد البلقان فزرتُ رومانيا وسربيا وبلغاريا وذكرتُ أهم مشتملاتها، وجعلتُ لكلٍّ منها مقدِّمة تاريخية ترتقي إلى القرن الرابع للمسيح، وصدَّرتُ الكلام عن كلِّ قطر بخلاصة تاريخية؛ حتى يقفَ القارئ على ما مضى ويدرك كثيرًا مما يلي ذكره في وصف المشاهد والمعارض والآثار. وحلَّيتُه بستِّين رسْمًا جميلًا لأعاظم الرجال والمشاهد؛ لكي تستعين البصيرة بالبصر في استيعاب المبنى وتصوُّر المعنى. ولقد تحاشيتُ في عبارة الكتاب الإسهاب المملَّ والإيجاز المُخلَّ، فلم أدوِّن في فصوله إلا الذي شهدتُه بعينيَّ في خمس سياحات طويلة؛ حتى إنِّي ضربت صفحًا عن ذكر كثيرٍ من المشاهد المهمة لأني لم أرها رأي العين؛ مثال ذلك: أن في بطرسبورج عاصمة روسيا عشرات من القصور المَنِيفة ولكنني لم أكتب إلا عن ثلاثة منها وهي أشهرها؛ لأني ذهبتُ إليها وشاهدتُّها من دون بقية القصور، وكان هذا شأني في جميع السياحات، وقد سمَّيتُه «مشاهد الممالك».

ولمَّا كان سموُّ مولانا الخديوي المعظَّم عبَّاس الثاني ذا منن على العلم والآداب؛ بدليل انتشار المعارف في هذا القُطْرِ على عهده، فقد جعلت الكتاب تقدمة لسموِّه تيمُّنًا باسمه وإقرارًا بفضله، وصدَّرتُه برسْم ذاته الكريمة، فتنازل — حفظه الله — إلى قبول هذه التقدمة الوضيعة. واللهَ أسأل أن يجعل خدمتي مقبولة لدى القارئين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤