الفصل الأول

تطور ملكية الأرض في مصر

مصر صاحبة أقدم مجتمع زراعي في العالم، أتاح لها أن تنتج حضارةً من أرقى حضارات العالم القديم. ولمَّا كانت الزراعة فيها تعتمد على نهر النيل، فقد ارتبطت الحضارة المصرية بابتكار الإنسان لكل ما من شأنه تحقيق الاستفادة المُثلى من النهر المبارك الذي احتلَّ مكانةً مقدَّسةً عند المصريين، مثل إقامة نظام دقيق للري، ووضع أُسس العلوم المتعلقة بالتحكم في النهر كالرياضيات والفَلَك وغيرها من العلوم. وكما أتاح النهر لمصر فرصة إقامة مجتمعٍ حضاريٍّ متميز، فقد كان عاملًا مساعدًا لقيام أقدم حكومة مركزية عرفها العالم، جاء قيامها وتطورها من خلال ما يتطلبه النيل من سُلطة تُعنَى به وبالزراعة. واقتضى تنظيم الاستفادة من مياه النيل وتنفيذ مشاريع الريِّ المختلفة أن تكون للدولة السيطرة المطلقة على الأراضي الزراعية وعلى مَن يقومون بفلاحتها، حتى تضمن الموارد المالية الكفيلة بتغطية ما يتطلبه الحفاظ على نظام الريِّ وتطويره والقيام بنفقة الإدارة. لذلك كانت الأراضي الزراعية منذ أقدم العصور — نظريًّا — ملكًا للدولة، إذ تحفل أدبيات مصر القديمة بالإشارات الواضحة إلى أن أرض مصر منحها الإله للفرعون، وظلَّ حكام مصر، على اختلاف العهود، يرون للدولة هذا الحق، يستخدمونه عندما تدعو الحاجة إلى إعادة تنظيم المجتمع وترتيب قُواه الاجتماعية، أو عندما تقع أزماتٌ اقتصاديةٌ ذات بال.

ولا يعني ذلك أن الدولة شغلت نفسها بإدارة الزراعة إدارة مباشرةً، فقد أوكلت للفلاحين زراعة الأرض مقابل ما يدفعونه من ضريبة قامت — على ما يبدو — مقام الإيجار، مثلت مقابلًا ماديًّا لحقِّ الانتفاع (usufruct). ولكن ثمة شواهد واضحة منذ العصور القديمة على أن حقَّ الانتفاع كان ينتقل بالإرث إلى وَرَثة الفلاح، كما كان باستطاعته أن يرهن الأرض، أو حتى يبيع حقَّ الانتفاع لغيره من الفلاحين. كما عرفت مصر القديمة ظاهرة منح الحاكم مساحاتٍ من الأراضي لكبار موظفيه لتصبح ضِياعًا خاصةً لهم يتمتعون بعائدها ويُعفون من ضرائبها، وقد ينتفعون بها مدى حياتهم ثم تعود للدولة — أحيانًا — وقد يُورثونها لأبنائهم أو يبيعونها لغيرهم. وكان الحاكم دائمًا يحتفظ بمساحاتٍ واسعةٍ من الضِّياع لنفسه ولأُسرته. وقد عُرفت تلك الضِّياع الخاصة في العصر الروماني باسم الوسية (ge ousiake)، كان بعضها في الأصل أرضًا بورًا مُنحت لكبار رجال الدولة لاستصلاحها وزرعها. كما كانت المؤسَّسة الدينية منذ أقدم العصور تستحوذ على أراضٍ واسعةٍ منحها الحكام لها للإنفاق على دُور العبادة، ورجال الدين.١
وعندما فتح العرب مصر (٦٤١م)، أبقى العرب أراضي مصر بأيدي أهلها، وأقرُّوا نظام الحيازة الذي كان قائمًا زمن البيزنطيين، ومن ثَم كانت الأرض ملكًا لبيت المال، يؤدي عنها الفلاحون الخَراج، ثم أقطع بعض الخلفاء مزارعَ كبيرةً من أرض مصر خُصِّصت لضريبة العشر، كانت ملكًا حرًّا لأصحابها تُورث وتُباع وتُشترى، كوَّنت قطاعًا تزايد على مرِّ العصور اتساعًا عُرف بالأرض العشرية. وكان موقف فقهاء المذاهب السُّنية الثلاثة؛ المالكية والشافعية والحنابلة وكذلك فقهاء الشيعة أن الأرض ملكٌ لبيت المال، للفلاح حقُّ الانتفاع بها مقابل أداء الخَراج، بينما انفرد فقهاء المذهب الحنفي باعتبار الأرض ملكًا لزراعها وأن الخَراج ضريبةٌ يؤدُّونها مقابل ما تقوم به الدولة من حفظٍ للمنافع العامة. ولم يمنع ذلك الدول الإسلامية المتعاقبة من الاحتفاظ بالأقسام الثلاثة الموروثة منذ القدم لحيازة الأرض؛ أرض الحاكم، والأرض الخَراجية، والملكيات الخاصة الممنوحة من الحاكم لبعض كبار رجال الدولة. ولم يطرأ على ذلك النظام تعديلٌ إلا زمن الأيوبيين والمماليك عندما أدخل نظام الإقطاع كمقابلٍ لأداء الخدمات العسكرية والمدنية، وإن ظلَّ حقُّ الفلاح في الانتفاع بالأرض على ما كان عليه من قبل، وحدث توسُّع في وقف الأراضي على دور العبادة وأعمال الخير.٢
وقد طبق نظام الالتزام (tax–farming) في العصر العثماني منذ عام ١٦٥٨م، فكانت الأراضي الخَراجية تمثل أراضي الالتزام وقسمت أراضي كل قرية إلى قسمين؛ أحدهما عُرف بأرض الفلاحة، والآخر عُرف بأرض الوسية، تفاوتت نسبة كلٍّ منهما إلى الآخر. وكان القسم الأول يُعطى للفلاحين لزراعته، وعُرف في الوجه البحري باسم «أرض الأثر»، وفي الوجه القبلي باسم «أرض المساحة». أمَّا أرض الوسية فكانت تمنح للملتزم مقابل ما يتحمله من أعباء، وظلَّت مُعفاةً من الضرائب حتى فرضت الإدارة الضرائب عليها من زمن الحملة الفرنسية (١٧٩٨–١٨٠١م)، وكان الملتزم يتولى زراعة الأوسية لحسابه، إما بالسُّخرة أو يؤجرها للفلاحين. كذلك كانت هناك أطيان الرزق الموقوفة على دُور العبادة وأعمال الخير، ثم أراضي الإطلاق أو «تلاق» التي كانت تخصَّص كمَراعٍ لخيل الباشا، وسُمح لبعض الملتزمين بضمِّ مساحاتٍ منها إلى أواسيهم.٣
وكانت حصص الالتزام تُعطَى للملتزمين — في البداية — لمدة سنة أو لمدة سنوات يُنصُّ عليها بالتقسيط الذي يتم بين الملتزم والروزنامة، ولكن بمرور الزمن أصبح حقُّ التوريث شائعًا في الالتزامات، فكان للملتزمين حقُّ توريث حصصهم لأولادهم ثم لعبيدهم البِيض في حالة انقراض الذريَّة، كما كان لهم حقُّ البيع والشراء والتنازل.٤ أمَّا الفلاح فلم يكُن له حقُّ التصرف في أثره (أيْ حقِّه في الانتفاع بالأرض) بالبيع أو الشراء، فهو يزرعها، وله محصولها، وعليه أن يسدِّد المال المقرَّر عليه للملتزم، فإذا لم يدفع الفلاح مال الأرض أو تسبَّب في بوارها، كان من حقِّ الملتزم أن ينتزعها منه ويعطيها لمَن لديه القدرة على زراعتها والوفاء بالتزاماته. وإذا مات الفلاح انتقل أثره إلى ذريته وأقاربه، فإن لم تكُن له ذرية أو عقب، انتقل الأثر إلى الملتزم، يعطيه لمَن يشاء مقابل «حلوان»٥ لذلك كان باستطاعة الفلاح أن يرهن جزءًا من أطيانه الأثرية ليستعين بذلك على زراعة بقية المساحة المُعطاة له، وعُرفت تلك الأطيان المرهونة باسم «غاروقة» وكان له الحقُّ في استرجاعها عندما يتمكن من سداد قيمة الرهن. كما كان للفلاح الحقُّ في تأجير أثره لمدة سنة بالتراضي بينه وبين المستأجر، كما كان له حقُّ التنازل (الإسقاط) عن أثره لمَن يشاء إذا حصل على موافقة الملتزم على ذلك.٦
وكان الملتزمون خليطًا من طوائف متعدِّدة، فمنهم أفراد الحامية العسكرية (الأوجاقات)، وأمراء المماليك، والتجار، و(الأفندية) من رجال الإدارة، وبعض النساء، وبعض العلماء ومشايخ الطرق الصوفية، وبعض شيوخ القبائل البدوية، وبذلك تحول نظام الالتزام عمَّا كان عليه في الأصل ليصبح نوعًا من الانتفاع بالأرض، وذلك نتيجة لضعف سلطة الدولة، وعزوفها عن الاهتمام بالشئون الداخلية للولايات. وما كاد يهلُّ القرن الثامن عشر، حتى ظهر الملتزم وكأنه المالك الفعلي للأرض التي تدخل في حدود التزامه، بمعنى أنه كانت له سلطة زيادة أو إنقاص بعض الرسوم والضرائب، والتنازل عن الالتزام لغيره، أو التوصية به لأبنائه، أو وقف أراضي الوسية عليهم ثم على وجوه الخير بعد انقراض الذريَّة، بشرط الحصول على موافقة الدولة على كل تصرف من تلك التصرفات، فإذا مات الملتزم، ولم يعقب ذريَّة، ولم يكُن له مماليك بِيض، يصبح إلزامه «محلولًا»، أيْ شاغرًا، ويئول بذلك للدولة، التي تعطيه لمَن يدفع أكبر قدرٍ من الحلوان في مزادٍ علني.٧
وكان الفلاح المصري — في ظلِّ نظام الالتزام — مرتبطًا بالأرض، رغم أنه كان باستطاعته — من الناحية النظرية — أن يترك الأطيان وقتما يشاء، وأن ينقل ملكية حقِّ الانتفاع إلى غيره، ورغم ما كان له من حرية اختيار المحاصيل التي يزرعها دون تدخلٍ من جانب الملتزم، فقد كانت الدولة تصدر الأوامر التي تقضي بضرورة إعادة الفلاح إلى حقله في حالة هروبه، ومعاقبته على ذلك، وإجباره على زراعة الأرض وأداء ما عليها من أموال،٨ ولما كانت القرائن التاريخية تشير إلى أن مشكلة الهروب من الأرض كانت من المشكلات القائمة التي واجهت الحكومات المصرية منذ القرن الأول من الحكم الإسلامي، فإنه يبدو — في رأي جب وبون — أن ارتباط الفلاح بالأرض كان يقوم في مصر على عادةٍ قديمةٍ، ثم أبقى عليه العثمانيون بما عُرف عنهم من المحافظة على الأوضاع القائمة.
وحين احتلت الحملة الفرنسية مصر ١٧٩٨م وشكل بونابرت الديوان العام، كان من بين أهدافه إعادة النظر في قوانين الملكية والمواريث والضرائب، ولكنه لم يعرض هذه المسألة على الديوان؛ لأن مستشاريه لم يتفقوا فيما بينهم على ما يُتبع بهذا الصدد، فقد كان هناك عددٌ كبيرٌ من القُرى بدون ملتزمين، نتيجة قتل ملتزميها من المماليك في المعارك الحربية التي واجهوا بها قوات الفرنسيين، أو نتيجة لفرار البعض منهم، ورأى بعض مستشاري بونابرت أن الفرصة سانحة لإدخال إصلاح عام في ملكية الأرض الزراعية، ولجعل الفلاحين مُلَّاكًا حقيقيين، وبذلك تضمن فرنسا ولاءهم، بينما رأى البعض الآخر منهم الإبقاء على النظام القديم؛ لأن الملتزمين أقدر على إدارة دفَّة الأمور المالية في الريف، ولأن من الأفضل للفرنسيين كسب ولاء الطبقة صاحبة المصلحة بدلًا من أن يحاولوا كسب ولاء الفلاحين، وأخيرًا صُرف النظر عن الأمر برمَّته،٩ وربما كان ذلك بسبب الظروف التي واجهتها الحملة.
ثم عادت فكرة إصلاح نظام حيازة الأرض من جديدٍ في عهد مينو الذي شكَّل في ٢ مارس ١٨٠١م لجنةً لمساحة الأراضي الزراعية، وكان مشروعه يهدف إلى إلغاء نظام الالتزام، وجعل أرض الوسية ملكًا للملتزمين، وأرض الفِلاحة ملكًا للفلاحين، وتوحيد الضريبة على الأرض، وإعطاء جميع مُلَّاك الأراضي مطلق الحرية في زرع أطيانهم كما يشاءون، ولكن قدوم القوات العثمانية والإنجليزية إلى مصر في نفس الشهر عطَّل مشروع مينو فلم يُقدَّر له أن ينفذ.١٠ وبذلك بقيت أوضاع حيازة الأراضي الزراعية على ما كانت عليه منذ الفتح العثماني حتى تولى محمد علي حكم مصر في عام ١٨٠٥م، فأحدث ما يمكن أن نسمِّيه «انقلابًا» في أوضاع حيازة الأراضي الزراعية.
وكانت رغبة محمد علي في زيادة موارده المالية، وفي بسط نفوذ الحكومة وسلطتها من أهمِّ الأسباب التي حبَت بمحمد علي إلى إحداث ذلك الانقلاب، فقد كان الباشا في حاجةٍ ماسةٍ إلى الأموال لتثبيت مركزه في مصر وتقوية نفوذه ولمحاربة أعدائه، ولكنه وجد أن أطيان الرزق مُعفاة من الضرائب، وأن الملتزمين يأخذون لأنفسهم جانبًا كبيرًا من ضرائب أطيان الفِلاحة، وأن نفوذ هؤلاء على الفلاحين بلغ شأوًا كبيرًا، حتى إنهم حلُّوا محلَّ سلطة الحكومة في الريف، لذلك ألغى محمد علي نظام الالتزام، كما وضع يده على أطيان الرزق.١١
وقد بدأ هذا الانقلاب في أغسطس ١٨٠٨م حين فرض محمد علي على البلاد ضريبةً باسم «كلفة الذخيرة»، فكتب إليه الروزنامجي مبينًا صعوبة تحصيل هذه الضريبة لأن الخراب أصاب الكثير من البلاد، فأمره الباشا بتوزيع البلاد العاجزة عن سداد الضريبة، وعددها ١٦٠ قريةً، على أولاده وأتباعه وكتابة تقاسيطها بأسمائه، فخرجت بذلك من أيدي ملتزميها الأصليين. وحدث في نفس العام أنْ عجز ملتزمو إقليم البحيرة عن دفع الضرائب بسبب سوء الأحوال المالية، فانتزع محمد علي حصص التزامهم ووزَّعها على رجاله.١٢
ثم أصدر الباشا أمرًا — في يوليو ١٨٠٩م — قضى بإلغاء نصف الالتزام، وربط المال على أطيان الوسية كغيرها من أطيان الناحية.١٣ وبذلك فقد الملتزمون نصف الفائض كما حُرمت أطيان الوسية من امتيازها السابق حين كانت مُعفاةً من الضرائب.

وفي مارس ١٨١٠م فرض الباشا ضريبةً استثنائيةً على القُرى، فآثر بعض الفلاحين الهرب من قُراهم، وتظلَّم الملتزمون من الضريبة، فطلب منهم تقاسيط التزامهم، وبعد أن قام بفحصها حرم الكثير منهم من حصصهم، وأعطى البعض تعويضًا عن حصصهم، ولم يُعطِ البعض الآخر أيَّ تعويض، كذلك اضطرَّ بعض الملتزمين إلى التنازل عن حصص التزامهم للحكومة نظير ما تراكم عليهم من الضرائب.

وبعد مذبحة القلعة (في عام ١٨١١م)، التي قضي فيها على المماليك، استولى محمد علي على حصص التزامهم، وبذلك لم يبقَ من أراضي الالتزام، بالوجه القبلي، إلا القليل.١٤
وفي فبراير ١٨١٤م، أصدر الباشا أمرًا ﺑ «ضبط جميع الالتزام لطرف الباشا ورفع أيدي الملتزمين من التصرف»١٥ في حصص التزامهم، على أن يُصرف لهم ما تبقَّى من فائض الالتزام من الخزانة، وتظلُّ أطيان الوسية في أيديهم طوال حياتهم مع إعفائها من الضرائب، فثار الملتزمون، واحتجُّوا لدى الكتخدا على هذا التصرف،١٦ ولكن ذلك لم يجد نفعًا، وأصبحت الدولة على صلةٍ مباشرةٍ بالفلاحين، فتدخلت في شئون الزراعة، وحدَّدت عدد الأفدنة التي يجب تخصيصها لهذا المحصول أو ذاك في كل قريةٍ من القُرى، وأشرفت على صيانة التُّرع والجسور، إلى غير ذلك من مظاهر التدخل.
وكان لإلغاء الالتزام أثرٌ كبيرٌ على الفلاح المصري، فقد تخلَّص من مظالم الملتزمين، حتى إن بعض الفلاحين كانوا يرفضون العمل لدى الملتزم بالأجر في أطيان الوسية التي بقيت بأيديهم بعد إلغاء النظام، وكان ذلك بمثابة ردِّ الفعل، لما كانوا يلاقونه من عنت الملتزمين وظلمهم، ولكنهم بعدما أصبحوا «فلاحي الباشا»١٧ كانوا يواجهون — لأول مرة — سلطة الحكومة المركزية ويحسُّون بوجودها، لكن لم يكُن عمَّال الحكومة أرفق بهم من عمَّال الملتزم.
ومهما يكُن من أمر، فقد صارت الأطيان الأثرية (أي الخَراجية) بعد مساحة ١٨١٣م مقيدة بأسماء من وُزِّعت عليهم من الفلاحين، فأُعطي لكل أُسرةٍ ما يتراوح بين ثلاثة وخمسة أفدنة، كان لهم حقُّ الانتفاع بريعها، وأعطتهم اللائحة التي صدرت في ٢٣ من ذي الحجة ١٢٦٣ﻫ/نوفمبر ١٨٤٧م حقَّ رهن الأرض أو التنازل عنها للغير بمُوجِب حجَّةٍ شرعيةٍ أو أمام شهود، كما نصَّت على أنه لا يمكن انتزاع الأرض من واضع اليد عليها إلا إذا كان غير قادرٍ على زراعتها وأداء خَراجها، وأباحت له استرداد الأرض متى دفع ما عليه من متأخر الخَراج، فإذا ترك الفلاح أرضه الأثرية وهرب، تعيده الحكومة إليها وترغمه على زراعتها. وكان لا بدَّ أن يثبت كل تصرف مما أباحته تلك اللائحة في سندٍ مدموغٍ يُرجَع إليه عند وقوع أيِّ نزاعٍ حول الأثر.١٨

ولم يكسب الفلاح — في تلك اللائحة — حقوقًا جديدةً على أرضه، بل فقد حقًّا كان يتمتع به في ظلِّ نظام الالتزام وهو حقُّ توريث الأثر لذريته في حالة مقدرته على زراعة الأرض وأداء ما لها، أمَّا بقية الحقوق التي كفلتها اللائحة للفلاح، فقد كان الفلاح يتمتع بها منذ زمنٍ بعيد (عُرفًا لا قانونًا)، فكان صدور اللائحة بمثابة تقنينٍ لأوضاعٍ سائدةٍ بحكم العُرف.

أما بالنسبة لأطيان الرزق، فقد أمر محمد علي ابنَه إبراهيم — في ديسمبر ١٨١٢م — بالاستيلاء على أطيان الرزق الموقوفة على أعمال البرِّ ودُور العبادة بالصعيد،١٩ ولم يكَد عام ١٨١٣م يبلغ غايته حتى كانت جميع أطيان الرزق تحت يد الحكومة، وعند إجراء مساحة الأراضي الزراعية في عام ١٨١٣م سُجِّلت أطيان الرزق ﺑ «اسم واضع اليد عليها واسم واقفها وزارعها»، وفُرِضَت عليها الضرائب كسائر الأراضي الخَراجية، وقامت الحكومة بمراجعة سندات تلك الأراضي، فإذا استطاع واضع اليد على الرزقة إثبات أحقيَّته فيها سُجِّلت باسمه، وإذا لم يستطع قُيِّدت لديوان الروزنامجة كبقية الأراضي الخَراجية. واستولت الحكومة على ما ظهر من الزيادة في أطيان الرزق عند إجراء المساحة،٢٠ ووزعتها على الأهالي لزراعتها، ولكن حق الوقف فيها بقي ثابتًا.٢١

واستحدث محمد علي نوعًا جديدًا من أطيان الرزق، فقد أنعم على بعض المقرَّبين من رجاله وكبار موظفيه وبعض الأجانب وبعض قبائل البدو بأطيان «الأبعادية»؛ وهي الأراضي التي كانت زائدةً في زمام القُرى، ونص في تقاسيط الروزنامجة الخاصة بتلك الأراضي على أنها «رزقة بلا مال»، وعُرف قسمٌ من تلك الأراضي ﺑ «الجفالك»؛ وهي مساحات واسعة من الأطيان استولى عليها الباشا لنفسه ولأفراد أُسرته.

ولما كان هذا النوع من أطيان الرزق يتسم — في معظمه — باتساع المساحة فإن لتطور حقوق الملكية عليه أهميةً خاصةً بالنسبة لنشوء الملكيات الكبيرة. وقد أعطى القرار الصادر في يناير ١٨٣٧م٢٢ للمُنعَم عليه بأطيان الرزق بلا مالٍ حقَّ توريثها لأولادهم وأحفادهم، فإن انقرض نسلهم انتقل التصرف فيها إلى عتقائهم البِيض وذريَّتهم من بعدهم، فإن انقرض نسلهم أُلحقت الأطيان بأوقاف الحرمين الشريفين، وبذلك نشأت حقوقٌ ثابتةٌ على الأرض لفئةٍ معيَّنةٍ من الناس، وقد تدعم وضع تلك الفئة بالحصول على حقِّ الملكية التامة لتلك الأراضي بمُوجِب قانون فبراير ١٨٤٢م، وبذلك أصبحت هذه الأطيان «رزقة بلا مال إلى ما شاء الله تعالى»، وانتفع بنفس القانون أصحاب الأواسي.٢٣

وبذلك وضع محمد علي أساس الملكية الخاصة للأرض، ذلك التطور الذي ساعد — إلى جانب غيره من العوامل — على تداعي نظامه الاحتكاري فيما بعد، وقد دُعمت هذه الأسس على أيدي خلفائه.

ففي عهد محمد سعيد باشا (١٨٥٤–١٨٦٣م) صدرت لائحة الأطيان في ٢٧ يناير ١٨٥٥م، ثم عُدِّلت هذه اللائحة في ٥ أغسطس ١٨٥٨م، وقد نصَّت على توسيع حقوق الفلاحين في الأطيان الأثرية (الخَراجية)، فأصبح من حقِّ أولاد صاحب الأثر وراثة أبيهم (البند الثاني، لائحة ١٨٥٥م)، أمَّا بناته فلم يكُن لهن هذا الحقُّ إلا إذا كان أخذهن الأرض ضروريًّا لمعاشهن، فلهنَّ عندئذٍ أن يأخذن من الأرض جزءًا يسمح بتوفير ضرورات الحياة لهن (البند الثالث، ١٨٥٥م)، ثم أصبح الأثر يورث طبقًا للشريعة الإسلامية (البند السابع، لائحة ١٨٥٨م)، كما أصبح لكل مَن يفلح الأرض ويؤدي ضريبتها مدَّة خمس سنواتٍ حقُّ ملكيتها، وله حقُّ رهنها ضمانًا لقرض، أو استبدالها، ونقل ملكيتها (وهو ما عرف بالإسقاط)، على أن يسجل كل تصرف من هذه التصرفات أمام المحكمة الشرعية.

ولكن ذلك لم يكُن يعني أنه قد أصبح للفلاح حقُّ الملكية التامة على الأطيان الخَراجية (أيْ ملكية الرقبة)، فقد بقي هذا الحقُّ للدولة، فهي حين تنزع الأطيان من أجل المنفعة العامة لشقِّ تُرعةٍ أو نحوها، لا تعوِّض الفلاح عنها، كما لم يكُن من حقِّ الفلاح أن يوقفها، واستمر أفراد القرية مسئولين مسئوليةً جماعيةً عن أداء الضرائب المقرَّرة على قريتهم (البند العاشر، ١٨٥٨م).٢٤

وتضمَّنت اللائحة السعيدية أحكامًا تتعلق بالدائنين المرتهنين، رجحت كفَّة الدائنين على حساب الفلاحين الذين كانوا — من الناحية النظرية — أصحاب الحقِّ الأصلي على الأرض، فقد أباح البند الثامن من اللائحة رهن هذه الأطيان «غاروقة» بشرط إخطار المديرية التي تقع الأطيان في دائرتها، وتكلف الأطيان باسم الدائن المرتهن على أن يُشار بالتكليف إلى أن الأرض «أثر» المدين. أمَّا الرهون التي قدُم بها العهد، فإنه إذا كان قد مضى على الرهن خمسة عشر عامًا وكانت الأرض تحت يد الدائن المرتهن، «فلا يسمع دعوى من المدين، الراهن لاسترداد تلك الأرض»، أيْ إنها تصبح أثرًا خالصًا للدائن. أمَّا إذا لم تكُن قد مضت على الدَّين مدَّة خمسة عشر عامًا، وكان بدون إخطار المديرية، فإن حقَّ المدين في استرداد أرضه مشروطٌ بأن يحدِّد سندات الدَّين خلال سنة من تاريخ صدور اللائحة، بحيث إنه «إذا كان بعد هذا الميعاد أحدٌ يدَّعي أنه رهن أطيانًا، ويريد أداء رهنيتها، وحصل توقُّف من المرتهن في تسليمها إليه، ولم يكُن بيده سند ديواني باطِّلاع المديرية، فلا تُقبل له دعوى»، أيْ تصبح الأرض من حقِّ الدائن المرتهن.

كذلك فرقت اللائحة السعيدية في المعاملة بين الدائن المرتهن وبين المدين الراهن في حالة وفاة أحدهما بدون وريثٍ، وصارت حقوقه لبيت المال «فإذا كان الراهن توفي عن بيت المال فتبقى الأطيان تحت يد واضع اليد (أي الدائن) أثريةً ولا يُؤخذ منه رسم»، أي إن حقَّ الدائن يتحول إلى أثرٍ ثابتٍ يبيح له الانتفاع بالأرض دون قيدٍ أو شرط. ويختلف الأمر في حالة وفاة الدائن المرتهن؛ ففي تلك الحالة لا يسترد المدين أرضه إلا إذا دفع قيمة الرهن لبيت المال، وإلا يُعاد رهن الأرض لشخصٍ آخر يدفع قيمة الرهن لبيت المال، ولا يستطيع صاحب الأرض أن يستردَّها إلا إذا سدَّد قيمة الدَّين للدائن الجديد، فإذا لم يتقدم أحدٌ لارتهان الأرض تصبح «الأطيان محلولة لبيت المال يوجهها لمَن يشاء بالرسم المقرَّر …» أيْ إن اللائحة السعيدية وضعت الأسس القانونية لسلب الفلاحين المَدينين أطيانهم وتسليمها للدائنين. ولعلَّ التمادي في تدعيم حقوق الدائنين راجعٌ إلى أن هؤلاء كانوا — في معظمهم — من الأجانب الذين حرص سعيد على توفير الضمانات لهم ولأموالهم المستثمَرة في مصر.

وثمة ملاحظةٌ أخيرةٌ على الأحكام الخاصة بالأطيان الخَراجية التي وردت باللائحة السعيدية؛ هي أنها وسعت حقوق صاحب الأثر على الأطيان الخَراجية تبعًا لدرجة ثرائه، فقد نصَّ البند الحادي عشر على أن مَن يغرس أشجارًا أو يقيم ساقيةً في أرضٍ أو يُنشئ أبنيةً عليها يكون له حقُّ التصرف في تلك الأرض ﺑ «سائر التصرفات الشرعية من بيعٍ وهبةٍ وغير ذلك من سائر التمليكات». وبديهيٌّ أن مَن في استطاعتهم الإنفاق على غرس الأشجار أو إقامة السواقي والمنشآت هم أصحاب الحيازات الكبيرة من المصريين والأجانب.

أمَّا أطيان الرزق — وهي تتضمن الأباعد والأراضي والجفالك — فقد أصبح يُطلق عليها منذ عام ١٨٥٤م (الأطيان العشورية)؛ لأن سعيد فرض عليها في تلك السنة ضريبة (العشر)، بعد أن كانت مُعفاةً من الضرائب. ونصَّت اللائحة السعيدية الصادرة في ١٨٥٨م (البند العاشر) على تعويضهم عمَّا يؤخذ من تلك الأراضي للمنفعة العامة، وبذلك تأكد حقُّ أصحاب الأطيان العشورية في ملكية رقبتها، بينما ظلَّ أصحاب الأراضي الخَراجية محرومين من هذا الحق.

•••

وقد أدخل الخديو إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩م) تعديلًا على اللائحة السعيدية — في ديسمبر ١٨٦٥م — وجعله ذيلًا لها. وقد أضاف ذلك التعديل إلى اللائحة بعض الأحكام التي تنظم كيفية التصرف في أطيان «المتسحبين» (وهم الأفراد الذين يهربون من قُراهم ويتركون أرضهم الأثرية تخلصًا من أعبائهم المالية)، كما نظمت تلك الأحكام طريقة تصرف الفلاح في أثره أثناء استدعائه للخدمة العسكرية، وقد رُوعي في تلك المواد الاحتفاظ للمتسحب وللمجنَّد بحقِّهما في الأثر عند العودة إلى القرية.

وأضاف القرار الصادر في يناير ١٨٦٦م إلى الحقوق التي كسبها أصحاب الأطيان الخَراجية حقًّا جديدًا، إذ أباح لهم الوصية بالأرض لمَن يشاءون من الناس، ما دام الموصى له يستطيع أداء الضرائب المقرَّرة على الأرض، غير أن القرار أكد عدم جواز وقف الأطيان الخَراجية.٢٥

ولكن تدعيم حقوق الأفراد على الأطيان الخَراجية كان من شأنه أن يؤدي إلى انهيار «الاقتصاد العائلي» الذي عرفته مصر حتى العقد الأول من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين كان ربُّ الأُسرة يتولى إدارة شئون الإنتاج الزراعي، ويقع على أفرادها عبء العمل لتوفير احتياجات العائلة كلها، وكان طبيعيًّا أن يتداعى هذا النظام في مصر نتيجة التطور الذي طرأ على الإنتاج الزراعي — منذ منتصف القرن التاسع عشر— من حيث زيادة الاهتمام بإنتاج المحاصيل النقدية، فأصبح كل فردٍ من أفراد العائلة يتطلَّع إلى التخلص من سيطرة ربِّ العائلة، وينشُد الاستقلال عن عائلته اقتصاديًّا.

غير أن رؤساء العائلات الكبيرة من شيوخ القُرى وأعيانها الذين كانوا يشكلون — كما سنرى — غالبية أعضاء مجلس شورى النواب في عهد الخديو إسماعيل، واجهوا هذا التحدي ونجحوا في استصدار قرارٍ قضى بتكليف الأطيان الخَراجية — اعتبارًا من عام ١٨٦٩م — باسم أكبر أولاد صاحب الأثر المُتوفَّى، الذي عليه أن يتولى إدارة شئون الزراعة ورعاية أمور أفراد العائلة الذكور والإناث، ويجب أن يعيش الجميع في بيتٍ واحدٍ ويخضعوا لإمرة ربِّ العائلة، فيؤدون الأعمال التي يسندها إليهم، ويتولى توزيع ما تبقَّى من الرِّيع عليهم، كلٌّ حسب حصته في الأرض، وذلك بعد استيفاء نفقات المعيشة وتكاليف الإنتاج، ولا يجوز لربِّ العائلة أن يرهن الأطيان أو يبيعها دون الحصول على موافقة كتابية من جميع أفراد العائلة، فإذا انقرض الذكور من أفراد العائلة جاز تكليف الأطيان باسم أكبر بنات صاحب الأثر المُتوفَّى، ويتولى أعيان القرية وعُمدتها تعيين وكيلٍ عنها لإدارة الأطيان، حتى إذا أنجبت ذكرًا كلفت الأطيان على اسمه.

وأدت عودة سلطة أرباب العائلات على أفرادها إلى الإجحاف بحقوق الآخرين، واستأثر الأولون بأكبر قدرٍ من ريع الأطيان الخاصة بالأُسرة، وكثرت تظلُّمات الناس إلى الحكومة، فاضطرَّت إلى إصدار قرارٍ — في ٩ يوليو ١٨٨١م — قضى بتكليف الأطيان على اسم كل فردٍ من أفراد الأُسرة — ذكورًا كانوا أم إناثًا — كلٌّ حسب حصته في الأطيان، وبذلك صار نظام «الاقتصاد العائلي» في طريق الاضمحلال بخطًى سريعة.٢٦
وشهد عهد إسماعيل — أيضًا — تطورًا هامًّا بالنسبة لحقوق الملكية الفردية للأطيان الخَراجية، فقد حملت الأزمة المالية الخديو على أن يُصدِر «لائحة المقابلة» — في ٢٠ من أغسطس ١٨٧١م — وهي بمثابة قرضٍ وطني. وتعهدت الحكومة في تلك اللائحة لكل مَن يدفع المقابلة — وهي ستة أمثال الضريبة المقرَّرة على الأرض سنويًّا — أن يُعفى من نصف الضريبة إلى الأبد، ولا تزداد ضريبة أرضه مستقبلًا، ويحصل على حجَّةٍ تفيد دفع المقابلة وتقرُّ له حقَّ الهبة والتوارث وإسقاط المنفعة (التنازل) والوصية على الأرض، وكذلك حق وقفها على الأغراض الخيرية أو الأهلية بعد استئذان الخديو.٢٧
وقد أقبل بعض الأهالي على دفع المقابلة التي كان دفعها اختياريًّا في بداية الأمر، ثم أجبر الأهالي على دفعها فيما بعد (١١ مايو ١٨٧٤م)، وبذلك تحول جزءٌ كبيرٌ من الأطيان الخَراجية إلى ملكيةٍ خاصة، واختفت معظم أوجه التفرقة التي كانت موجودةً بين الأطيان العشورية والأطيان الخَراجية، ولكن بقيت تفرقةٌ واحدةٌ نصَّ عليها في المادة السادسة من قانون المقابلة، وهي تعليق حقِّ وقْف الأطيان الخَراجية على موافقة الخديو.٢٨
وقد أُوقف العمل بقانون المقابلة في ٧ مايو ١٨٧٦م، ثم أُعيد العمل به في ١٨ نوفمبر من نفس السنة، وأُوقف العمل به مرةً أخرى بقرار ٦ يناير ١٨٨٠م الذي نصَّ على إعادة أموال الأطيان الخَراجية إلى قيمتها الأصلية التي كانت عليها قبل دفع المقابلة، واعترف القرار — في نفس الوقت — لمَن دفع المقابلة كلها أو بعضها بحقوق الملكية التامة على الأرض، وتضمن قانون التصفية الصادر في ٧ يوليو من نفس السنة ما جاء بفحوى هذا القرار.٢٩

وبذلك تمتَّع معظم ملَّاك الأراضي الزراعية في مصر بحقِّ الملكية التامة عليها (بما في ذلك حق الرقبة)، وذلك اعتبارًا من ١٨٨٠م، وكانت الأراضي المُستثناة من ذلك الحقِّ هي تلك التي لم تُدفع عليها المقابلة.

وكانت الخطوة التالية هي صدور قرار (١٥ أبريل ١٨٩١م) الذي أعطى أرباب الأطيان الخَراجية التي لم تُدفع عنها المقابلة حقوقَ الملكية التامة، أسوةً بأرباب الأطيان التي دُفعت عنها المقابلة كلها أو بعضها.٣٠
وفي ٢٦ أبريل ١٨٩٣م أعلنت محكمة استئناف الإسكندرية المختلطة أن استئذان الخديو في وقف الأرض ليس له سندٌ من القانون، ما دامت الأرض مملوكةً ملكيةً تامةً لذويها.٣١

كذلك تلاشت الفوارق بين الأطيان العشورية والأطيان الخَراجية — من ناحية الضرائب — فعُدِّلت ضرائب الأطيان اعتبارًا من مايو ١٨٩٩م، إذ قُدِّرت الضريبة على جميع الأطيان بواقع ٦٤٫٢٨٪ من القيمة الإيجارية للفدَّان، وبدأ ربط الضرائب الجديدة بعمل مساحة لأراضي الدولة في العقد الأول من القرن العشرين.

•••

وهكذا سجل العقد الأخير من القرن التاسع عشر استقرار أوضاع الملكية العقارية الخاصة في مصر، وما كان ذلك إلا صدًى للتحول الاقتصادي الذي طرأ على البلاد منذ منتصف ذلك القرن، حين أخذ نظام الإقطاع الذي عاشت مصر في ظلِّه تحت الحكم المملوكي، ونظام الاحتكار الذي فرضه محمد علي على البلاد، يفسحان الطريق لنظام الاقتصاد الفردي الحر، نتيجة جهود خلفاء محمد علي، وفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية من ناحية، ونتيجةً للسياسة الاقتصادية التي اتبعها الاحتلال البريطاني من ناحيةٍ أخرى. وكانت الثمرة التي أخرجها هذا التطور في حقوق الملكية هي الملكيات الزراعية الكبيرة التي نتناولها بالدراسة في الفصول التالية.

١  For details see: Pirenne, J., Histoire des Institution et du Droit Privé de l’Ancienne Egypte, Bruxelles 1936, II, pp. 48–52, 358; Rostovtzeff, M., The Social and Economic History of the Hellenistic World, Oxford 1964, pp. 268, 284, 289, 411, 677, n. 52.
٢  For delated documents, see: Grohmann, A., Arabic Papyri in the Egyptian Library, vol. II, pp. 57–69. vol. III, pp. 67–93, 102–106, vol. IV, p. 70.
٣  عبد الرحيم عبد الرحمن، الريف المصري في القرن الثامن عشر، جامعة عين شمس ١٩٧٤م، ص٦١–٦٧.
٤  نفس المرجع، ص٧٦–٧٨.
٥  محمد شفيق غربال: «مصر في مفترق الطرق ١٧٩٨–١٨٠١م»، مجلة كلية الآداب، مجلد ٤، العدد ١، ١٩٣٦م، ص٥٠.
٦  أحمد أحمد الحتة، تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، القاهرة ١٩٥٥م، ص١٩.
٧  عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار، طبعة بولاق، ج١، ص٩٩، ج٢، ص١٥٢.
٨  يصور الجبرتي أحوال الفلاحين في ظلِّ الالتزام ليقول: «… كانوا مع الملتزمين أذلَّ من العبد المُشترى؛ فربما العبد يهرب من سيِّده إذا كلفه فوق طاقته أو أهانه بالضرب، وأمَّا الفلاح فلا يمكنه ولا يسهل به أن يترك وطنه وأولاده وعياله ويهرب، وإذا هرب إلى بلدةٍ أخرى، واستعلم أستاذه مكانه أحضره قهرًا، وازداد ذلًّا ومقتًا وإهانة …» (انظر: المصدر السابق، ج٤، حوادث ربيع الأول ١٢٢١ﻫ، ص٢٠٧).
٩  هرولد ح. كرستوفر، بونابرت في مصر، ترجمة فؤاد أندراوس، دار الكاتب العربي ١٩٦٧م، ص٢٤٦.
١٠  الحتة، تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، ص٤٤.
١١  المصدر السابق، ص٧٧-٧٨.
١٢  الجبرتي، عجائب الآثار، ج٤، حوادث رجب ١٢٢٣ﻫ، ص٨١.
١٣  المصدر السابق، نفس الجزء، ج٤، حوادث جمادى الأول ١٢٢٤ﻫ، ص٩٣.
١٤  المصدر السابق، نفس الجزء، حوادث صفر ١٢٢٥ﻫ، ص١٠٩-١١٠.
١٥  المصدر السابق، نفس الجزء، حوادث ربيع الأول ١٢٢٩ﻫ، ص٢٠٣.
١٦  المصدر السابق، نفس الجزء، حوادث جمادى الأولى ١٢٢٩ﻫ، ص٢٠٨.
١٧  يصور الجبرتي أحوال الملتزمين بعد إلغاء نظام الالتزام، فيقول: «… أمَّا الملتزمون فبقوا حيارى وارتفعت أيدي تصرفهم في حصصهم ولا يدرون عاقبة أمرهم منتظرين رحمة ربهم، وحان وقت الحصاد وهم ممنوعون من زرع وساياهم إلى أن أذن لهم الكتخدا بذلك وكتب لهم أوراقًا وتوجهوا بأنفسهم أو بمَن ينوب عن مخدومه، وأراد ضمَّ زرعه ولم يجد مَن يطيعه منهم، وتطاولوا عليهم بالألسنة، فيقول الحرفوش منهم إذا دُعي للعمل بأجرته روح انظر غيري، أنا مشغول في شغلي، أنتم إيش بقالكم في البلاد؟ قد انقضت أيامكم، إحنا صرنا فلاحين الباشا …» (انظر: عجائب الآثار، ج٤، حوادث جمادى الأولى ١٢٢٩ﻫ، ص٢٠٢).
١٨  Artin, Y.: La Propriété Foncière en Egypte, La Caire 1883, pp. 100-101.
١٩  الجبرتي، عجائب الآثار، ج٥، حوادث ذي الحجة ١٢٢٧ﻫ، ص١٤١-١٤٢.
٢٠  المصدر السابق، نفس الجزء، حوادث جمادى الأولى ١٢٢٩ﻫ، ص٢٠٨.
٢١  الحتة: تاريخ الزراعة المصرية في عهد محمد علي الكبير، ص٥٣.
٢٢  أخطأ يعقوب أرتين عند تحديد تاريخ صدور ذلك القرار، فذكر أنه صدر في عام ١٨٣٦م وتبعه بعض الباحثين، ولمَّا كان القانون قد صدر في ٢٧ شوال ١٢٥٢ﻫ، فإن ذلك التاريخ يوافق يناير ١٨٣٧م (انظر: Artin; Op. Cit., p 96).
٢٣  جرجس حنين «الأطيان والضرائب في القُطر المصري» بولاق ١٩٠٤م، ص٢٢١.
٢٤  نظارة المالية، لوائح الأطيان المصرية، نص اللائحة السعيدية، بولاق ١٨٨٢م، ص٢–٧.
٢٥  الحكومة المصرية، القوانين العقارية في الديار المصرية، مجموع يشتمل على القوانين واللوائح والتعليمات الإدارية المتعلقة بالعقارات، بولاق ١٨٩٣م، ص٤.
٢٦  فيليب جلاد، قاموس الإدارة والقضاء، ج١، ص٩٧.
٢٧  الحكومة المصرية، القوانين العقارية في الديار المصرية، ص٥.
٢٨  لوائح الأطيان، نص لائحة المقابلة، ص٨.
٢٩  الحكومة المصرية، المرجع السابق ص٥.
٣٠  المصدر السابق، ص٦.
٣١  يذكر جبريل بير أنه صدر قرار في ٣ سبتمبر ١٨٩٦م ساوى الأطيان الخَراجية بالأراضي المملوكة التي لأصحابها جميع حقوق التصرف فيها، وقد رجعنا إلى مجموعة الدكريتات الخاصة بعام ١٨٩٦م، فلم نعثر على هذا القرار الذي لم يكُن ثمة حاجةٌ لإصداره بعد ما كفل قرار ١٥ أبريل ١٨٩١م لأرباب الأطيان الخَراجية حقوق الملكية الكاملة. انظر:
Bear, G. A History of land ownership in Modern Egypt, p. 11.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤