مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فقد سبق لنا في خاتمة كتابنا «أمين الريحاني»، أننا وعدنا القراء بإطلاعهم على شيء من أساليب النبوغ العربي، فيما وراء البحار، ووفاءً بوعدنا نشرع في تقديم مختاراتنا، من كتابات أساطين الأدب العربي في البلاد الأمريكية، ولا يعزب عن فكر المطالع اللبيب أننا أشرنا هنالك إلى سبب تقديم الأستاذ الريحاني وإفراده بكتاب خاص، وهو حلوله دار الضيافة بالشرق، وسبقه غيره من أدباء السوريين في الاهتمام بزيارة بلاده الشرقية؛ مسقط رأسه ومهد طفولته، الذي منه درج، للوقوف على حالها، واكتناه مسائلها. وما فاتنا الإشارة إلى أننا نعرف من أدباء السوريين في مهجرهم من هم والريحاني رضيعًا لبان أو فرسا رهان، إن لم نقل بتفوقهم على الريحاني نفسه، فوفاء للأدب بحقه، وتكريمًا للعلم وأهله، من الزائدين عن حقيقته، والمانعين لحرمته، والحافظين لمودته؛ وجب علينا أن نبادر فنشفع كتاب «أمين الريحاني» بكتاب النبوغ العربي؛ ليطلع الشرقيون على مبلغ علم أحفاد الفينيقيين في مهجرهم، فيعرف مقدار نهضتهم وكيفية منازعهم، فلا يبخس الناس أشياءهم.

وحسبنا فخرًا أن الريحاني، وكل من نختار له شيئًا في كتابنا هذا، ممن ترعرع في بلادنا، وتغذى بغذائنا، ونَشَق ريح لبناننا. ودليلنا أن القراء الكرام قريبو عهد بما كتبناه عن حياة الريحاني، وكيفية نشأته، ومبدأ هجرته، وهو أحد رجال تلك النهضة العلمية، التي تضم بين أحنائها نبغاء السوريين في دار هجرتهم، وفي طليعتهم الأديب النابغة جبران خليل جبران، فهو أحد أعضاء الرابطة القلمية، وابن لبنان الجميل، ورضيع ثدي العلم في الرياض البيروتية. وقد قاسمهما النشأة والنبوغ زميلهما النحرير مخائيل نعيمة. فبعد أن ارتشف من معين العلم في سوريا، هاجرها إلى البلاد الروسية؛ طلبًا لمزيد العلم، وتجويد الاطلاع، ثم أم البلاد الأمريكية، وهناك تجلى نبوغه وأدبه، بعد أن دخل إحدى جامعاتها، فزاع صيته وعلا قدره بين جميع من يتذوق طعم الآداب. ولا يغيبنَّ عن بال القارئ ذاك النابغة، وعضو تيك الجامعة إيليا أبو ماضي، شاعر العرب الأمريكي، وحفيد لبنان الكبير، وربيب الدراسة في البلاد المصرية، ونزيل القارة الأمريكية، وصاحب أحد الدواوين الشعرية. وما أنسَ من الأمجاد، لا أنسَ المتأدب الهمام عبد المسيح حداد، صنو هؤلاء الأعضاء الناهضين، وكذلك النوابغ: رشيد أيوب، وأمين مشرق، ووليم كاتسفليس، ونسيب عريضة؛ أركان الأدب القوي، وحصنه الحصين.

وحسبنا من سيرة هؤلاء الأفذاذ النابغين، أنهم أنصار الآداب العربية، في بلاد لا صلة بينها وبين آداب الشرقيين، فقد كتبوا وجَودوا، ونظموا فأبدعوا، وترنموا فأطربوا، ونادوا فأسمعوا. بيد أنا ونحن في مقام الاعتراف بالجميل، وحب اطلاع القراء على شيء من مختاراتنا من كلام أولئكم الأدباء، رأينا من الحسن، أو مما لا مندوحة لنا عنه، أن نلفت ذهن قارئنا الفطن إلى نقطة هامة، وبودنا أن نجعلها نصب عينيه، وأمام خاطره، حين مطالعته كتابنا هذا، بل ومطالعة كل ما نختاره من كتابات إخواننا في المهجر، وهي أن هذه الطائفة المتأدبة، قد تضلعت بعد هجرتها بآداب الغربيين، فخالطت تلك الآداب نفوسهم، وانطوت عليها جوانحهم، فربما تغالوا فيها حينما يريدون مزجها بالآداب العربية، فلا يراعون في شعرهم قوانين القريض العربي، ولا يتقيدون بأوزانه وقوافيه، بل يطلقون لملكاتهم الأعنة خلف الأساليب الغربية، فيجيء شعرهم ونثرهم رافلًا في حلله الغربية، أكثر منه اتشاحًا بالحبرات اليمانية، والبُرد النجدية، والأكسية العراقية، والسمات العربية، ولكل وجهة هو موليها.

على أننا لو أرجعنا البصر إلى تاريخ الآداب العربية، لرأينا من رجالات الأدب العربي وفحول القرون الأُول، من قد سرَّى إلى أذهانهم شيء من هذه الأساليب، وقتما استوطنوا الجزيرة الأندلسية، إلا أنهم أدخلوه على الأدب العربي، مع مراعاة مقومات اللغة التي ينتمون إليها، ويحافظون على مشخصات آدابها.

وقصارى القول، أننا نغبط أنفسنا بنشر هذه الآثار، التي نرى فيها نفعًا كبيرًا لجمهور أهل الأدب، فثقتنا بالقراء الكرام، وحبهم للاطلاع على نافع الموضوعات، وحسن مؤازرتهم لنا، بإقبالهم على مطبوعاتنا؛ حبَّب إلينا إجهاد النفس في هذا العام، بطبع عدد غير قليل من الكتب الاجتماعية، والسياسية، والأدبية، والتاريخية.

وإنا نختم مجهودنا، بهذا السِّفر النافع لمن يطلع عليه، وينظر في صفحاته بإمعان، ثم ندع اليراع في هذا العام، طلبًا لراحة الجسم وترويح الفكر؛ فإن لبدنك عليك حقًّا، والسلام.

توفيق الرافعي
القاهرة في مايو سنة ١٩٢٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤