إيليا أبو ماضي

(١) نحن

كم خفضنا الجناح للجاهلين
وعذرناهم فما عذرونا
خبروهم يا أيها العاقلونا
إنما نحن معشر الشعراء
يتجلى سر النبوة فينا
ذكروهم فرب خير كبير
فعلته الهداة بالتذكير
إنما الناس من تراب ونور
فبنوا النور يعبدون النور
وبنو الطين يعبدون الطينا
قيل عنا: قصورنا من هباء
تتلاشى في ضحوة ومساء
أو سطور بالماء فوق الماء
لو سكنتم قصورنا بعض ساعة
لنسيتم شهوركم والسنينا
لو دخلتم هياكل الإلهام
وسبحتم في عالم الأحلام
واجتليتم سر الخيال السامي
وعرفتم كما عرفنا الله
لخررتم أمامنا ساجدين

(٢) ابنة الفجر

إن أنا أَغمَض الحمام جفوني
ودوى صوت مصرعي في المدينة
وتمشي في الأرض دارًا فدارا
فسمعت دويه ورنينه
لا تصيحي وا حسرتاه لئلا
يدرك السامعون ما تضمرينه
وإذا زرتني وأبصرت وجهي
قد محا الموت شكه ويقينه
ورأيت الصحاب جاثين حولي
يندبون الفتى الذي تعرفينه
وتعالَى العويل حولك ممن
مارسوه وأصبحوا يحسنونه
لا تشُقِّي علي ثوبك حزنًا
لا ولا تذرفي الدموع السخينة
غالبي اليأس واجلسي عند نعشي
بسكون إني أحب السكينة
إن للصمت في المآتم معنى
تتعزى به النفوس الحزينة
ولقول العذال عنك «بخيل»
هو خير من قولهم «مسكينه»
وإذا خفت أن يثور بك الوجد
فتبدد أسرارنا المكنونه
فارجعي واسكبي دموعك سرًّا
وامسحي باليدين ما تسكبينه

•••

يا ابنة الفجر من أحبك ميت
ولانت بمثل هذا رهينه
زايل النور مقلتيه وغابت
تحت أجفانه المعاني المبينه
فأصيخي هل تسمعين خفوقًا
كنتِ قبلًا في صدره تسمعينه؟
وانظري ثم فكري كيف أمسى
ليس يدري عدوه وخدينه
ساكتًا لا يقول شيئًا ولا يسمع
شيئًا وليس يبصر دونه
لا يبالي أأودعوه الثريَّا
أم رموه في حمأة مسنونه
وإذا الحارسان ناما عياء
ورأيت أصحابه يتركونه
فتعالي وقلبي شفتيه
ويديه وشعره وجبينه
قبل أن يُسدل الحجاب عليه
ويوارَى عنكِ فلا تبصرينه
واحذري أن تراك عين رقيب
ولئن كان حل ما تحذرينه
فإذا ما أمنت لا تتركيه
قبلما يفتح الصباح جفونه

•••

وإذا الساعة الرهيبة حانت
ورأيت حراسه يحملونه
وسمعت الناقوس يقرع حزنًا
فيرد الوادي عليه أنينه
زوِّدي الراحل الذي مات وجدًا
بالذي زوَّد الغريب السفينه
نظرة تعلَم السموات منها
إنه مات عن فتاة أمينه

•••

طوت الأرض من طوى الأرض حيًّا
وعلاه من كان بالأمس دونه
واختفى في التراب وجه صبيح
وفؤاد حر ونفس مصونه
فإذا ما وقفت عند السواقي
وذكرت وقوفه وسكونه
حيث أقسمت أن تدومي على العهد
وآلي بأنه لن يخونه
حيث علمته القريض فأمسى
يتغنى كي تسمعي تلحينه
فاذكريه مع البروق السواري
واندبيه مع الغيوث الهتونه
وإذا ما مشيت في الروض يومًا
ووطأت سهوله وحزونه
وذكرت مواقف الوجد فيه
عندما كنت بالهوى تغرينه
حيث علمته الفتون فأضحى
يحسب الأرض كلها مفتونه
حيث وسدته يمينك حتى
كاد ينسى شماله ويمينه
حيث كنت وكان يسقيك طورًا
من هواه وتارة تسقينه
حيث حاك الربيع للروض ثوبًا
كان أحلى لديه لو ترتدينه
فالثمي كل زهرة فيه أني
كنت أهوى أزهاره وغصونه
ثم قولي للطير مات حبيبي
فلماذا يا طير لا تبكينه؟

•••

وإذا ما جلست وحدك في الليل
وهاجت بك الشجون الدفينه
ورأيت الغيوم تركض نحو الغر
ب ركضًا كأنها مجنونه
ولحظت من الكواكب صدًّا
ونفارًا، وفي النسيم خشونه
فغضبت على الليالي البواقي
وحننت إلى الليالي الثمينه
فاهجري المخدع الجميل وزوري
ذلك القبر ثم حيي قطينه
وانثري الورد حوله وعليه
واغرسي عند قلبه ياسمينه

(٣) فلسفة الحياة

أيها ذا الشاكي وما بك داء
كيف تغدو إذا غدوت عليلًا؟
إن شر الجناة في الأرض نفس
نتوقى قبل الرحيل الرحيلًا
وترى الشوك في الورود وتعمى
أن ترى فوقها الندى إكليلًا
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظن الحياة عبئًا ثقيلًا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئًا جميلًا
ليس أشقى ممن يرى العيش مرًّا
ويظن اللذات فيها فضولًا
أحكَم الناس في الحياة أناس
عللوها فأحسنوا التعليلا
فتمتع بالصبح ما دمت فيه
لا تخَف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أظل رأسك همٌّ
قصر البحث فيه كيلا يطولا
أدركت كنهها طيور الروابي
فمن العار أن تظل جهولًا
ما تراها؛ والحقل ملك سواها
اتخذت فيه مسرحًا ومقيلًا
تتغنى، والصقر قد ملك الجو
عليها والصائدون السبيلا
تتغنى وقد رأت بعضها يؤخذ حيًّـ
ـا والبعض يقضى قتيلًا
تتغنى، وعمرها بعض عام
أفتبكي وقد تعيش طويلًا؟
فهي فوق الغصون في الفجر تتلو
سور الوجد والهوى ترتيلًا
وهي طورًا على الثرى واقعات
تلقط الحَب أو تجر الذيولا
كلما أمسى الغصون سكون
صفقت للغصون حيث تميلا
فإذا ذهب الأصيل الروابي
وقفت فوقها تناجي الأصيلا
فاطلب اللهو مثلما تطلب الأطـ
ـيار عند الهجير ظلًّا ظليلًا
وتعلَّم حُب الطبيعة منها
واترك القال للورى والقيلا
فالذي يتقي العواذل يلقَى
كل حين في كل شخص عذولًا
كن هزارًا في عشه يتغنى
ومع الكبل لا يبالي الكبولا
لا غرابًا يطارد الدود في الأ
رض وبومًا في الليل يبكي الطلولا

•••

كن غديرًا يسير في الأرض
رقراقًا فيسقي من جانبيه الحقولا
تستحم النجوم فيه ويلقى
كل شخص وكل شيء مثيلًا
لا وعاء يقيد الماء حتى
تستحيل المياه فيه وحولًا

•••

كن مع الفجر نسمة توسع الأ
زهار شمًّا وتارة تقبيلًا
لا سمومًا من السواقي اللواتي
تملأ الأرض في الظلام عويلًا
ومع الليل كوكبًا يؤنس الغا
بات والنهر والربى والسهولا
لا دجى يكره العوالم والنا
س فيلقي على الجميع سدولًا

•••

أيها ذا الشاكي وما بك داء
كن جميلًا ترَ الوجود جميلًا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤