شاعر وملك

صوت : أشهدُ كان كتابُكَ الأخير من أَحسنِ ما ظهر في ميدان الأدب.
آخر : هذا أول كتابٍ لك، أليس كذلك؟
آخر : إنه لكذلك.
آخر (في وقار) : ما أجدرَكَ بقول البحتري:
هذي مخايلُ برقٍ خلفَه مطَرٌ
جودٌ ووَريُ زنادٍ خلفَه لهبُ
وأزرقُ الفجرِ يأتي قبل أَبيضِه
وأوَّلُ الغيثِ طَلٌّ ثم ينسكِبُ
آخر : هذا والله هو الشعر.
آخر : إنكَ يا صديقي لن تقرأ البحتري حتى تجد السبكَ الرصين والعربية الجزْلة والألفاظ المُستقرَّة، وكأنما هي خُلقَت ليقولها البحتري في هذه المواضع.
آخر (صاحب الكتاب) : البحتري صانع الشعر وجوهره، يختار من أوزان الشعر أنسبها لموضوع قصيدته، ثم يختار من القافية أجملها، وبين القافية والوزن يُنزِل الألفاظ منازلها ويُجريها مجراها بغير جهدٍ تلمسه، وإنما يُخيَّل إليكَ أنه يُرسِل الشعر كما نُرسِل نحن جاريَ الحديث.
آخر : سمعتُ عن البحتري وما درستُ من أمره شيئًا، فمن هو أو أين وُلد؟ وماذا دعاه إلى قول الشعر؟ وكيف قاله؟ وعلى من أخذَه؟ وفيمن قال؟
آخر : على رِسلكَ يا أخي، فإنه البحتري، وما هو بمن يجمُل الحديث عنه إجمالًا.
آخر : فَصِّله إذن بربك تفصيلًا.
آخر : هو أبو عبيدة البحتري، وُلد ببلدة منبج، ثم خرج إلى العراق.

(موسيقى عنيفة.)

البحتري : ويلي من الشعر يا مبرد.
ابن شراعة : بل ويلٌ للشعراء من شعركَ يا بحتري.
البحتري : أخاف الشعراء يا ابن شراعة.
ابن شراعة : أتخافهم أنت؟! فماذا يقولون هم؟!
البحتري : لا وربك ما خوفي من شعرٍ لهم أخشى أن يغضَّ من شعري أو ينال منه، وإنما أخاف الحقد في نفوسهم ونحن أبناء صنعةٍ واحدةٍ، تتزاحم على المال.
ابن شراعة : على المال وحده؟ ألا تختار لمديحكَ يا بحتري؟
البحتري : أختار الغني واسع الغنى، فأنا إنما أمدَح ماله ولا شأن لي به.
ابن شراعة : أتجعل من الغنى ذكرًا خالدًا من أجل المال؟!
البحتري : يا صاحبي أرأيتَ هذا الدرهم، لو أنني وضعتُ عليه الطين، أيُغيِّر هذا من شأنه أمرًا؟ هو الدرهم في أي مكانٍ.
ابن شراعة : ولكن الشعر، أليس للشعر كرامته؟
البحتري : يا صديقي الطيب، متمنَّاي والله أن أقيم للشعر كرامته، ولا أقول حين أقول إلا عن صدق إحساس، ولكن ذلك أمرٌ عسير المنال.
ابن شراعة : عسير المنال؟
البحتري : أي وربك، فإنه لا بد لي أن آكل لأعيش، لأصبح ذا كرامة؛ فإنه لم يقل الشعرَ شاعرٌ بغير تكسُّب إلا كان القائل أميرًا موفور الغنى واسع البحبوحة.
ابن شراعة : أعانكَ الله.
البحتري : لكم أحتاجُ إلى هذا العونِ من الله يا صديقي الأوفى. أنا أحتاج إلى عونه لأتغلَّب على ضميري، ثم لأتغلَّب على بخلٍ في ذوي الغنى، ثم لأُوسِع لنفسي مكانًا بين الشعراء.
ابن شراعة : إن شعركَ يُوسع لك المكانَ يا بحتري.
البحتري : بل لا بد لاسمي أن يُوسعَ لي.
ابن شراعة : تقول اسمك؟
البحتري : نعم، ألا ترى إلى هؤلاء الشعراء وقد وقفوا بأبواب الأمراء تسدُّ أسماؤهم الكبيرة أقطار الأرض، فما أنا بواجدٍ بينهم فرجةً؟ وأين أضع نفسي وقد تزاحمَت الأسماء وتكالبَت على الرزق حتى لقد ضاقت بهم أبواب الأمراء؟
ابن شراعة : فماذا أنت صانعٌ؟
البحتري : سمعتَ عن أبي تمام؟
ابن شراعة : ومن ذاك الذي لم يسمع بالطائي؟
البحتري : فإني قاصدٌ إليه.
ابن شراعة : ألا تخشى حقده؟
البحتري : حقد من؟ أبو تمام! يا ليته يحقد عليَّ، أمَا والله لتكونن مثار عجبي ومبعث مفاخري، وأين أنا من الطائي وقد ملك أسباب الإبداع وأعجز الشعراء حتى لم يبقَ إلا من يعترف له بالسبق؟
ابن شراعة : إنك لن تخسر شيئًا.
البحتري : فأنا ذاهبٌ إليه، ثم أعود فأروي لك ما كان.
ابن شراعة : فإني هنا لن أبرح مكاني.

(موسيقى.)

البحتري : ولقد وجدتُ عنده خلقًا كثيرًا وكلٌّ منهم يقول له الشعر وهو يصغي صامتًا، حتى إذا انتهى منشده أرشدَه إن كان في شعره صبابة من أمل، حتى التفَت إليَّ فقلتُ:
رأى البرقَ مجتازًا فبات بلا لُبِّ
وأصباه من ذُخر البخيلة ما يُصبي
وقد عاجَ في أطلالها غير مُمسكٍ
لدمعٍ ولا مُصغٍ إلى عذَل الركبِ
وكنتُ جديرًا حين أعرف منزلًا
لآلِ سُليمى أن يُعنِّفني صَحْبي
عدَتنا عوادي البُعد عنها وزادنا
بها كلفًا أنَّ الوداع على عَتبِ
ولم أكتسب جرمًا فتَجزيَني به
ولم أجترم ذنبًا فتعتبَ من ذَنبي
وبي ظمأٌ لا يملكُ الماءُ دفعَه
إلى نهلةٍ من ريقها الخصر العذبِ
أبو تمام : ذاك هو الشعر، فمن أنت؟
البحتري : البحتري. أنا أبو عبيدة البحتري الطائي.
أبو تمام : لأنتَ والله خليفتي. لقد نعيتَني إلى نفسي يا أبا عبيدة؛ فما أُحب أن أعيش بعد أن نبتَ في قبيلتي مَن هذا شعره.
البحتري : أبقاك الله أبا تمام، إنما أنت موئلنا وإمامنا.
أبو تمام : وكيف حالك يا ابن الأخ؟
البحتري : من شر حالٍ أبا تمام. الشعراء يزحمون الطريق فما أجد لنفسي سبيلًا.
أبو تمام : لقد وقعتَ على سبيلكَ يا فتى. خذ هذا كتابي إلى قومٍ يُكرِمون وفاء الشعر.
البحتري : بقيتَ مقصد آمالٍ، أبا تمام.

(موسيقى.)

البحتري : وكان خطاب أبي تمام إلى قوة معرة النعمان، فذهبتُ إليهم ومدحتُهم.
المبرد : وكم أعطَوك؟
البحتري : أربعة آلاف درهم. هي أوَّل ما كسبتُ من الشعر.
المبرد : ولم يزيدوا؟
البحتري : بل زادوا، وما علموا أنهم زادوا.
المبرد : كيف؟
البحتري : ذاع اسمي من عندهم، وتَيسَّر لي الطريق بعد أن كان وَعْر المسالك عسير الدروب.
المبرد : فإن سألتُكَ اليوم أن تُقارنَ شِعرك بشِعر أبي تمام.
البحتري : لك الله يا مبرد. أوتَظن السنواتِ تمحو الحقائق؟ رحم الله أبا تمام؛ فإنه واللهِ الأستاذ الرئيس، وما نلتُ الخير إلا به.
المبرد : تأبى إلا شرفًا من جميع جوانبك أبا عبيد.
البحتري : هو الحق يا أخي، وما اصطنعتُه.
المبرد : وأين ستُقام بك الطريق؟
البحتري : إلى المتوكِّل.
المبرد : إن لك فيه القصائدَ الخالدات.
البحتري : إني لا أُخفيك الحق يا مبرد. لقد قلتُ الشعر تكسُّبًا فما كان يعنيني أن يكون الممدوح مستحقًّا لما أقوله فيه من الشعر أو غير مستحقٍّ غير أني كنت أجد في ذاك، غُصَّة، ما أحسب إلَّا أنك تعرفه. تخيَّلْ نفسك يا صاحبي تسكُب الجواهر الفريدة على حمارٍ لا يجد فيها إلا الحصى.
المبرد (يضحك) : جزاك الله يا بحتري.
البحتري : حتى مدحتُ المتوكل، وجدته يستجيب للمديح، صادق النظرة في الشعر، طيب الرؤية فيه، بارع النقد، فاستَرحتُ إليه، وأصبَحتُ أقول الشعر فيه وأنا مرتاح الضمير هادئ النفس طيِّب الخاطر.
المبرد : ما أحسنُ شِعركَ فيه؟
البحتري : أقول حين قمع المتوكل الفتنة التي كادت تضطرم بين ربيعة:
نَزورُ أمير المؤمنين ودونَه
سهوبُ البلاد رحبُها ووسيعُها
إذا ما هبَطنا بلدةً كَرَّ أهلُها
أحاديثَ إحسانٍ نَداه يُذيعها
حمى حوزةَ الإسلام فارتدَع العِدا
وقد عَلِموا أنْ لن يُرام منيعُها
ولمَّا رعى سِربَ الرعية ذادها
عن الجدب مُخضَرُّ التلاع مريعُها
علمتُ يقينًا مذ توكَّل جعفر
على الله فيها أنه لا يُضيعها
أسيتُ لأخوالي ربيعة إذ عفَت
مصايفُها منها وأقوَتْ ربوعُها
بكُرهيَ إن باتت خلاءً ديارُها
ووحشًا مغانيها وشتَّى جميعُها
وفرسانُ هيجاءٍ تجيشُ صدُورُها
بأحقادها حتى تضيقَ دروعُها
تُقتِّل من وِترٍ أعزَّ نُفوسِها
عليها بأيدٍ ما تكادُ تطيعُها
المبرد (مكملًا بإعجاب) :
إذا احتربَت يومًا ففاضَت دماؤها
تذكَّرتِ القُربى ففاضَت دُموعُها
شواجرُ أرماحٍ تُقطِّع بينَهم
شواجرَ أرحامٍ ملومٍ قُطوعُها
فلولا أميرُ المؤمنين وطَولُه
لعادت جيوبٌ والدماءُ رُدوعُها
تألَّفَهُم من بعدِ ما شردَت بهم
حفائظُ أخلاقٍ بطيءٍ رجوعُها
فأبصَر غاويها المحجَّة فاهتدَى
وأقصَر غاليها ودانى شَسوعُها
البحتري : إني والله لا أعلم أنني أحسنتُ، فبالله ألا قلتَ لي أحسنت فلقد أحسنت.

(موسيقى.)

صوت : يا بحتري، مولاي المتوكل يطلبك.
البحتري : إني إليه شاخصٌ.

(موسيقى.)

البحتري : مولاي.
المتوكل : أين كنت؟
البحتري : إني في حمى مولاي أينما أذهب.
المتوكل : هل من شِعرٍ جديدٍ؟
صوت (يقطع الحديث) : مولاي، إنه الأمر الجليل.
المتوكل : فقُلْه.
صوت : لو أَمَر مولاي فأخلى القاعة.
المتوكل : إنها لخالية.
البحتري : أيأذنُ لي مولاي؟
المتوكل : بل أقم، فما عليك سرِّي أبا عبيد.
الصوت : إنها المؤامرة حُبكَت خيوطها، التأم شرُّها هنا في قصر مولاي.
المتوكل : مؤامرة، ما أهدافها؟
الصوت : قتل مولاي.
المتوكل : قتلي؟
البحتري : قتل مولاي؟ والعياذُ بالله.
المتوكل : فمن حامل عبئها؟
الصوت : أخاف يا مولاي أن أقول.
المتوكل : فماذا أنت قائل إذن إن لم تذكُر المتآمرين.
الصوت : إنه يا مولاي. إنه يا مولاي.
المتوكل : ألا قل.
الصوت : المنتصر، ابنك يا مولاي.
المتوكل : ابني المنتصر، ما خطبه؟ أأصابه المتآمرون؟ ويل لهم منِّي، هل مسُّوا منه شعرةً، من هم المتآمرون، من زعيمهم؟
الصوت : ابنك يا مولاي.
المتوكل : الويل لك انطق، ماذا به، ماذا أصابه؟
الصوت : يتآمر عليك.
المتوكل (مذهولًا غير مصدقٍ) : ماذا، تقول مَن، مَن يتآمر؟
الصوت : أعلم هول الوقع يا مولاي، تمنَّيتُ والله لو متُّ قبلها.
المتوكل : ولدي؟!
الصوت : عفوك يا مولاي، ما على مثل هذا نسكت، فإنا إذن خوَنة.
المتوكل : ألقيتَ بالقول ولم تشفعه ببرهان. والآن حياتك أو البرهان على ما تقول.
الصوت : أعلم يا مولاي أنك سوف تسألني على ما قلتُ دليلًا.
المتوكل : إليَّ به أسرع.
الصوت : فهم الساعة مجتمعون، فلو تفَضَّل مولاي.
المتوكل : إني ذاهبٌ إليهم، فقد الطريق. هلُم يا بحتري.

(موسيقى عنيفة.)

صوت : يا ولي العهد، إن حرس الخليفة ينامون عند الفجر.
ولي العهد : فعند زرقة الفجر إذن (في سذاجة).
آخر : لا بد لكلٍّ منكم أن يعرف مكمنه، وحذارِ أن يعلو منكم صوت.
ولي العهد : وبعد أن تنتهوا؟
صوت : نخرج إلى المدينة فنؤذِّن الفجر، وفي الصلاة ندعو لك بالخلافة.
ولي العهد : هكذا، هكذا (في فرحةٍ بدائية).
الصوت : بل إننا سوف نترحَّم على الخليفة القتيل، ونذكُر مناقبه ونتعهَّد أمام الناس بأن نُدرِك الثأر.
ولي العهد (في سذاجة) : نعم الثأر، الثأر.
صوت الخليفة (في شدةٍ عنيفة قاسية) : مَن ينال ثأري إذن يا منتصر؟ ويلي منك وويلي عليك.
أصوات (في هرج وخوف) : الخليفة، المتوكل.
المنتصر (ولي العهد) : أبي.
المتوكل : ليتني ما كنتُ يا ابن العقوق، خلافة سوف تُفضي في غدٍ إليك، فما بالك تتعجَّلها اليوم، وا حربا، فبمن أثق؟
المنتصر : أبي!
المتوكل : خذوه إلى السجن.

(أصوات خشخشة حديد.)

المنتصر : أبي، أبي!
المتوكل : خذوه. أمَّا أنتم، فإن لي معكم شأنًا.

(موسيقى.)

البحتري : وأرسل الخليفة المتآمرين إلى الموت. أمَّا ابنه فإننا تشفَّعنا عنده حتى رضي ألا يقتُله وأبقاه سجينًا.
المبرد : ويحكَ يا بحتري، إنك لترى الكثير في قصر المتوكل.
البحتري : إيه يا مبرد! إنك صديق الطفولة، فحذارِ أن يعرف أحد عنِّي أني نقلتُ الحديث.
المبرد : هيهات! إن سرك في مكانه يا أبا عبيد. ألم أخبرك بما سمعتُه عنك اليوم؟
البحتري : أخَيرًا سمعتَ؟ أم شرًّا؟
المبرد : الحق أنني سمعتُ الخير والشر.
البحتري : فبالله ألا أسمعتني الخير.
المبرد : والشر؟
البحتري : احبسه عنِّي.
المبرد : أمَّا الخير فقد سمعتُ اليوم أن أحد تلاميذ أبي العلاء سأله عنكَ وعن المتنبي وعن أبي تمام.
البحتري : أشيخ المعرة تقصد؟
المبرد : هو أبو العلاء المعري، ومن غيره؟
البحتري : أمَا والله فإنما مثل هذا من يُسأل، ومثل هذا من أحب أن أسمع رأيه. عجل بربك، فماذا قال؟
المبرد : قال المتنبي وأبو تمام حكيمان، والبحتري هو الشاعر.
البحتري : أمَا والله إنها لمِدحةٌ يقصر دونها كلُّ ما سمعتُ من مديح.
المبرد : ألم أقل لك إنه الخير.
البحتري : والشر، ما الشر الذي سمعتَه؟
المبرد : ألم تقل احبِسْه عني؟
البحتري : قُله؛ فإني إن لم أعلمه منك علمتُه من غيرك.
المبرد : سمعتُ فيك هجاء.
البحتري : ممن؟
المبرد : وممن تنتظر؟
البحتري : والله إن قُربي من المتوكل أوغل عليَّ أحقادًا كثيرة.
المبرد : وأي حاقدٍ تنتظر شعره؟
البحتري : اللهم اجعله من أي شاعرٍ إلا من ابن الرومي.
المبرد : بل هو والله مَن هجاك.
البحتري (آسفًا) : فماذا قال؟
المبرد : يقول:
البحتري ذَنوبُ الوجه تعرفه
ومن يكون ذنوبَ الوجه ذا أدبِ؟
أحرى بمن عظُمَت في الناس لحيته
من نحلةِ الشعرِ أن يُدعى أبا العجَبِ
البحتري : لقد غاظه شعري؛ فهو يعلم أنه الذهب المُذاب.
المبرد : نعم، لقد أغاظه شعرك، وغاظه قربك إلى المتوكل.
البحتري : فهو إذن يسخر من لحيتي. والله لأُجيبنَّه إجابةً لم يتوقَّعْها.
المبرد : وما هي؟
البحتري : أتُراكَ تلقاه؟
المبرد : لعلِّي ألقاه، أو أنني أعرف من سيلاقيه.
البحتري : بربك إلا أرسلتَ إليه هذه (يسمع صوت النقود).
المبرد : ما هذا؟
البحتري : كيس فيه مائة دينار.
المبرد : وهو من هجاك؟!
البحتري : وما البأس؟
المبرد : والناس يقولون عنكَ بخيلٌ تخاف على دراهمك خوف الطاهي على الماء.
البحتري : بل إنني والله لأكثر بخلًا مما يقولون.
المبرد : فما هذه الدنانير؟
البحتري : إنني أعلم حُرقة الفقر، فقد عانيتُه أكثر أيامي، وأعرف الطريق المسدود إلى أعتاب الأمراء، وأعرف أن ابن الرومي شاعر على طبيعة الشعراء، وهو لم يقل ما قال إلا فقرًا وحقدًا وغيظًا.
المبرد : والله ما كذب القائل:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ
وإن خالها تَخفى عن الناس تُعلَم
إنما البخل فيك صناعةٌ والطبع كرمٌ. جزاك الله خيرًا أبا عبيد، جزاك الله خيرًا.

(موسيقى.)

البحتري : ماذا قال ابن الرومي حين وافاه المال؟
المبرد : ويحَه قد قال أفحش القول!
البحتري : لقد غاظه إحساني إليه أكثر من غيظه لإحساني في الشعر. ماذا قال؟
المبرد : قال أيُحاول البحتري أن يرشُوَني بمالٍ هو مستجديه، والله لا أسكتُ عنه أبد الدهر.
البحتري : مرحبًا به.
المبرد : سمعتُ اليوم قومًا يمدحونك يا بحتري، ويقولون إنك أحببت فتاة، فماذا قلتَ فيها؟
البحتري : ألا والله إنما لنا نحن — مادحي الأمراء — مداخل إلى الكلام تبدأ بالغزل وتنتهي إلى المديح.
المبرد : ومن ذلك؟
البحتري : من ذلك قولي:
ألا هل أتاها بالمغيبِ سَلامي
وهل خَبرَتْ وجدي بها وغرامي؟
وهل علمَتْ أني ضنيتُ وأنها
شفائيَ من داءِ الضنَى وسقامي؟
ومهزوزةٍ هز القضيبِ إذا مشَت
تثنَّت على دلٍّ وحُسنِ قوامِ
أحلَّت دمي من غير جُرمٍ وحرَّمَت
بلا سببٍ يوم اللقاء كلامي
فداؤكِ ما أبقيتِ منه فإنه
حشاشةُ جسمٍ في نُحولِ عظامي
صِلي مغرمًا قد واتَر الشوقُ دَمعَه
سجامًا على الحدَّين بعد سجامِ
فليس الذي حلَّلتِه بمحلَّلٍ
وليس الذي حرَّمتَه بحرامِ
وإني لأبَّاءٌ على كل لائمٍ
عليكِ وعصَّاءٌ لكل ملامِ
هل العيشُ إلا ماءُ كرمٍ مُصفَّق
يُرقرِقه في الكأس ماء غَمامِ؟
المبرد : ذاك والله الشعر، فسلامٌ عليك.
البحتري : إلى أين؟
المبرد : إلى بيتي، فلقد والله سَكِرتُ بخير خمرٍ، فما أدري هل أنا بالغٌ أم أنني أتوه عنها.
البحتري (ضاحكًا) : فامكث حتى تُفيق، فإني لأنتظر شيخًا شاعرًا.

(طرق على الباب.)

البحتري : هذا هو، ادخل.
صوت : السلام عليكم.
البحتري : وعليك السلام، يا غلام، هاتِ غَدائي.
المبرد : ويحك! أتأكل الآن غذاءك، وقد آذنت الشمس بمغيب؟
البحتري : لعلِّي لا أجد أحدًا يُشاركني في طعامي؟
المبرد : أمَّا أنا فمحقِّق لك أمنيتَك.
الصوت : وأمَّا أنا فلا.
البحتري (في حزن) : فأنت ستأكل معي؟
الصوت : نعم.
البحتري : أتعرف يا مبرد من الشيخ؟
المبرد : لا والله.
البحتري : فإنه من بني الهجيم الذين يقولون فيهم شاعرٌ يعرفهم وبنو الهجيم قبيلةٌ ملعونةٌ، شُعثُ اللحى متشابهو الألوانِ، لو يسمعون بأكلة أو شربةٍ، بعمان أصبح جمعُهم بعمانِ (ضحك شديد).

(ضحكٌ مستمر، طرقٌ شديد على الباب.)

صوت (من الخارج) : يا بحتري، الخليفة يطلبك.
البحتري : لبَّيه. أكمل أكلتَكَ أيها الشيخ، فلقد والله أديتَ ثمنها بما أضحكتَنا الساعة.

(موسيقى.)

البحتري : مولاي.
المتوكل : تشوَّقتُ والله أن أسمع منك شعرًا.
البحتري : أُنشِد قصيدتي في البِركة يا مولاي؟ لهفي على لغة العرب كلَّما قلت البِركة أحسستُ بالحسرة.
المتوكل : ولمه؟
البحتري : عرفنا البِركة يا مولاي ماءً راكدًا أغبرُ الصفحة أخرس الوجه، ولكنكَ يا مولاي صنعتَها من الزئبق، فكأني بكَ مولاي أمرت النور أن يُسكَب فيها ثم أمرت لا يبرحها فأطاع يا مولاي منسكبًا وماكثًا. لقد والله أحسنتُ حين وصفتُها بقولي:
ميلوا إلى الدارِ من ليلى نُحييها
نعم ونسألها عن بعضِ أهليها
يا دمنة جاذَبتْها الريحُ بهجتَها
تبيتُ تنشُرها طورًا وتطويها
لا زلتَ في حُللٍ للخير ضافيةٍ
يُنيرها البرقُ أحيانًا ويُسديها
ما لكم لا تقولون أحسنتَ؟! فلقد والله أحسنتُ وأحسنتُ.

(أصوات ضحك.)

يا من رأى البركةَ الحسناءَ رؤيتُها
والآنسات إذا لاحت مغانيها
بحسبها أنها في فضل رُتبتِها
تُعدُّ واحدةً والبحر ثانيها
كأن جنَّ سليمانَ الذين ولُوا
إبداعَها فأدقُّوا في معانيها
فلو تمُر بها بلقيسُ عن عَرضٍ
قالت هي الصرحُ تمثيلًا وتشبيهَا
تنصبُّ فيها وفودُ الماء معجلةً
كالخيل خارجةً من حَبلِ مجريها
أمَا والله لقد أحسنتُ وأحسنت.
المتوكل : أمَا والله لقد صدقتَ، فهكذا الإحسان يكون، وإن كان شِعرُكَ يحتاج إلى منشد!
البحتري : ألا أُحسِن إنشاد شعري يا مولاي؟
المتوكل : بل إنكَ والله تُسيء إليه أبلغ إساءة، أو لعل غرورك هو المسيء.
البحتري : يا مولاي، إنني أنثُر بين يدَيك نفسي في كل كلمة. أكثيرٌ إذن أن هذا أحبُّ الأجزاء من نفسي وهي تنفصل عني لِتَسُرَّكم.
المتوكل : لم تخبرني يا بحتري، أيهما أشعر؟
البحتري : أنا أم أبو تمام؟
المتوكل : نعم، هذا ما أردتُه أن أسألكَ فيه.
البحتري : أحمد الله أنني ما قُرنتُ بغيره. إن أردتَ الحقَّ يا مولاي بغير تواضُعٍ أو غرور، فإنني أرى جيد أبي تمام خيرًا من جيدي، ورديئي خيرٌ من رديئه.
المتوكل : لقد عدلتَ والله أبا عبيد. أسمعنا إذن ما قلتَ في عرش كسرى.
البحتري : شكر الله لكَ يا مولاي، ذلك والله هو الشعر.
صنتُ نفسيَ عما يُدنِّس نفسي
وترفَّعتُ عن جدا كل جبسِ
وتماسكتُ حين زعزعَني الدهـ
ـرُ التماسًا منه لتعسي ونَكْسي
حضَرتْ رحليَ الهمومُ فوجَّهـ
ـتُ إلى أبيضِ المدائنِ عَنْسي
أتسلَّى من الحظوظ وآسى
لمحلٍّ من آلِ ساسانَ دَرسِ
ذكَّرتْنيهِمُ الخطوبُ التوالي
ولقد تُذكِر الخطوبُ وتُنسي
لو تراهُ علمتَ أن الليالي
جعلَت فيه مأتمًا بعدَ عُرسِ
وهو يُنبيكَ عن عجائبِ قومٍ
لا يُشاب البيانُ فيهم بلَبسِ
فإذا ما رأيتَ صورةَ أنطا
كيةَ ارتعتَ بين رُومٍ وفُرسِ
والمنايا موائلٌ وأنوشِرْ
وانَ يُزجي الصفوفَ تحت الدِّرَفسِ
تصفُ العينُ أنهم جِدُّ أحيا
ءٍ لهم بينهُم إشارةُ خُرسِ
يغتلي فيهم ارتيابيَ حتى
تتقرَّاهُمُ يدايَ بلَمسِ
صوت : تأذن لنا يا مولاي؟
المتوكل : على بركة الله (أصوات انصراف القوم).
البحتري : أرأيتَ يا مولاي؟ غاظهم أن تُؤثِرني وحدي باهتمامك.
المتوكل : دَعْ عنك أمرهم؛ فلقد خلونا، فليلنا شعرٌ حتى الصباح.
البحتري : رضاك يا مولاي حسبي.
المتوكل : أكمل القصيدة. آه! قتلَني الكافر. إليَّ يا بحتري، إليَّ، ابني قتلني.
البحتري : مولاي.
صوت : إياك أن تتقدَّم.

(موسيقى عنيفة.)

البحتري :
حرامٌ على الراحُ بعدكَ أو أرى
دمًا بدمٍ يجري على الأرضِ مائرُه
وهل أرتجي أن يطلبَ الدمَ واترٌ
يدَ الدهر والموتورُ بالدم واترُه
أكان وليُّ العهد أضمر غدرةً
فمن عجَبٍ أنْ وُلِّيَ العهدَ غادرُه
فلا مُلِّي الباقي تُراثَ الذي مضى
ولا حملَت ذاكَ الدعاءَ منابرُه

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤