الفصل العاشر

ما فارقت جوكوندا فينوموس حتى التقت برسبوتين بزيه الكهنوتي، فرحب بها قائلًا: كنت أبحث عنك لكي أسلم عليك؛ إذ بلغني أن جلالة ملكة الجمال القديسة العجائبية في زيارة قصيرة إلى جهنم، فرأيت من الواجب أن أضع نفسي تحت أمرك لخدمتك يا سيدتي.

– شكرًا لك أيها الأب الموقر، ولكني استغربت أن تكون من نصيب جهنم، وأنت راهب ناذر العفة والطاعة والفقر لتكون مرشدًا الأنام إلى الصلاح وقدوة لهم بحياتك التقوية.

– آه، لقد كنت يا سيدتي أكثر من ذلك.

– عجبًا! ماذا أكثر من ذلك ومجموع تلك النذور الثلاثة هو التقوى؟!

– كنت أدعو إلى الاتحاد الروحي،١ وأرشد الأتقياء إلى ممارسته، ولكن هؤلاء أساءوا الممارسة.

– كيف كانت الممارسة؟ وكيف أساءوها؟

– كانت بإيحاء الأنفاس رمزًا إلى إيحاء الأرواح.

– لا أفهم كيف يكون ذلك.

– يعني تتنفسين في وجهي، وأتنفس في وجهك، فأتنشق نفسك وتتنشقين نفسي، وتضمينني وأضمك، وذلك رمز لاتحاد روحينا.

– وما الغرض من هذا الاتحاد الروحي؟

– ليس الاتحاد سببًا لغرض، بل هو الغرض بعينه بمقتضى المحبة الإلهية التي هي سببه.

– فكرة حسنة، وفضيلة مبرورة، فما الذي قذف بك إلى هنا إذن؟

فقال رسبوتين بتذلل وتألم: مظلوم يا سيدتي، عوقبت بجريرة غيري.

– مستحيل! إن الله لعادل وعالم ولا يخطئ حكمًا.

– إنه لكذلك تقدَّسَ اسمه، وإنما الأشخاص الذين اعتنقوا مذهبي أساءوا استعماله، فعوقبت أنا لأن المذهب مذهبي، وقد أفضى إليَّ الإثم.

– كيف استعملوه؟

– لم يقتصروا على الاتحاد الروحي، بل تمادوا إلى الاتحاد الجسدي، فأفسدوا غاية المحبة الإلهية.

– فاستحقوا العقاب طبعًا، وأما أنت فما ذنبك؟

– ذنبي أنهم شياطين بأثواب أتقياء، فوسوسوا لي وهوروني معهم، وانقلب اتحادنا الروحي إلى اتحاد جسدي، أفٍّ، تبًّا لهم، لقد دنسوا طهارتي، نجسوا قداستي، لطخوا نفسي بأدران الشهوات.

– أوه لو تبت لغفر الله لك!

– لم يمهلني البرنس ديمتري لكي أتوب، بل غدر بي واغتالني قبل التوبة.

– تبًّا له! لماذا غدر بك؟

– اتهموني زورًا بأني خنت القيصر والقيصرة والدولة بالتجسس لمصلحة الألمان.

– لماذا لم تدفع التهمة عنك إذا كنتَ بريئًا؟

– قلت لك غدروا بي من غير أن يحاكموني.

– حقًّا إنك مظلوم يا أبانا المحترم، سأتشفع بك.

فانقض رسبوتين على يدي جوكوندا يقبلهما قائلًا: ألف شكر لعطفك يا ذات الجلالة، ما أطيب قلبك النقي الطاهر، أجل لقد أبلغني الرجيم أرجنتوس عطفك العظيم على أهل جهنم، وأنك جئت لكي تدعيهم إلى التوبة على أمل أن يقبل الله شفاعتك بهم، ولا ريب أنه تعالى سيتقبلها، ما أمجد مسعاك هذا، سيكافئك الله عليه بأن يمنحك لقب ملكة الجمال في السماء كما على الأرض وفي جهنم أيضًا، وإنَّ بهاءَك هذا لهو السبيل القويم إلى المحبة الإلهية بواسطة الاتحاد الروحي. دعيني أتوسل به إلى محبة الله ورضاه.

ثم طوقها بذراعية الحديديتين، وضغطها على صدره، ولثم فمها، وتنشق أنفاسها، فانتفضت بين يديه ونفرت قائلة: ما هذا أيها الأب المحترم؟ كدت تسحقني سحقًا بضغط ذراعيك.

فقال: لا بد من هذا الضغط لكي تتحد الروحان، أما شعرت بروحك تتحد بروحي!

– بل شعرت بهيكل عظامي يتزلزل، وبأوتار أعصابي تنسل من جسدي، وبدماغي يترنح في جمجمتي. آه، وهت قواي، انحلت مفاصلي. وكادت تقع إلى الأرض فتلقاها رسبوتين قائلًا: هذه كلها مفاعيل الاتحاد الروحي يا سيدتي، فلا تجزعي، سرِّي وافرحي أنَّ روحك لقيت أليفتها فاضطربت حين الاتحاد بها.

ثم قبَّلها قبلة أخرى فردتها عنه مرتجفة قائلة: دَعْ هذا الاتحاد الروحي الآن، يتراءى لي أنه مزعج في جهنم، ودعني أمضي بمهمتي عسى أن أنجح.

– تنجحين بلا شك، وقد بحثنا المشروع أرجنتوس وأنا جيدًا وتأكدنا نجاحه؛ لذلك تبرعنا بمساعدتك فيه.

– ألف شكر يا أبت رسبوتين، مَن تظنه يكون عَقَبة في السبيل.

– لا أحد اللهم الرئيس بعلزبول.

– تعهدت الملكة فينوموس بإقناعه.

– لا أدري إن كانت تستطيع إقناعه.

– لماذا؟

– لأن الزعامة عَقَبة في السبيل، فلا يتنازلان عنها بسهولة.

– فلتبقَ لهما زعامتهما.

– أتقبلين أن يدخلا الملكوت الأرضي ملكين متوَّجين.

– ماذا يضرني؟

– عجبًا! إذا كان الله قد جعلك ملكة على الأرض وفي السماء، أتكفلين رضاه تعالى إذا سمحت أن يدخلا الملكوت الأرضي متوَّجَيْن، هذا لا يكون.

ففكرت جوكوندا ثم قالت: ولكني وعدت فينوموس بأن يتقدما الموكب كملكين.

– ويحك! تدعين رجيمين، وهما أشر الرجماء، أول مَن يواجه الله! هل خلا القوم الأرضيون من أناس يتصدرون الموكب لمواجهة الله؟ هذا إذا فرضنا أنك ارتكبت هذه الغلطة، وتنكبت أنت عن تصدر الموكب؛ لأنك أنت أحق وأوجه مَن يتصدرونه.

– إذن رأيك؟

– بالطبع رأيي أن تتصدري الموكب كله أنت ملكة له، الله منحك هذه النعمة، فهل تزدرين نعمته؟

– أتهيب هذا الموقف العظيم الجليل يا رسبوتين.

– إذا أذنت أكون إلى جنبك مشجِّعًا لك وناطقًا بإرادتك حين يقتضي الأمر الكلام.

– لا بأس بهذا! ولكن ماذا يبرر وجودك إلى جنبي دون غيرك من الأرضيين الأقل إثمًا؟

– المسألة بسيطة جدًّا، إذا شئت نعقد زواجنا.

– ويحك! كلانا راهبان ناذرا العفة! فكيف نعقد زواجًا.

– هذا النذر انتهى على الأرض يا قديسة وانقضى بالموت، وهنا نستطيع أن نتزوج بشكل الاتحاد الروحي.

– ولكن يسوع قال: هناك لا يتزوجون!

– يسوع عنى بقوله: «هناك» السماء، فنحن نخرج من جهنم زوجين، وينحل زواجنا على الأرض قبل الصعود إلى السماء.

ففكرت جوكوندا برهة ثم قالت: لا يدخل هذا التدبير دائرة عقلي أيها الأب رسبوتين! لا أقدر أن أتصور أننا زوجان في حين أننا رحلنا إلى الآخرة من صميم الدير عفيفين.

– وحين نعود إلى الدنيا من الآخرة نمثل دور زوجين، ماذا يمنع؟

فضحكت جوكوندا وقالت: إني أستهجن فكرة التمثيل في الزواج كل الاستهجان.

– لأنك تجهلين أن الزواج ليس إلا دور تمثيل يمثله الزوجان.

– غريب.

– أجل! معظم الأزواج أزواج بالاسم.

– كيف يكونون أزواجًا بالفعل إذن؟

– يكونون كذلك متى كانوا غير أزواج، لذلك يجب أن نكون زوجين ولو بالاسم؛ لأنه لا بد من الزواج لأجل قانونية الموكب، لا يجوز قَطُّ أن يتصدر الموكب بلعزبول وفينوموس، وأنت القديسة العظيمة والملكة البهية تكونين فيه بالتبعية؛ لئلا تثيري غضب الله! يجب أن تتصدري الموكب وإلى جنبك راهب يسر الله بتوبته، لا شيطان ينفر الله من شيطنته!

ففكرت جوكوندا هنيهة، ثم قالت: حلٌّ لا بأس به، ولكن كيف نستطيع أن نقنع فينوموس وبلعزبول بالتسليم لنا برياسة الموكب؟

– أوه! هذه مسألة أسهل من السهولة، في إمكاني أن أَدَع الرجماء يقنعوهما.

– إذا كان هذا في إمكانك، فقد توفقت كل التوفيق.

– يد العهد!

تصافحا وافترقا على موعد لقاءٍ آخَر.

•••

ومضى رسبوتين بين الجماهير إلى أن عثر على أرجنتوس، وانفرد به وقال له: تعال إلى هنا، المشروع ناجح إن شاء الله.

فقال أرجنتوس متهللًا: كذا أرى، فما خاطبت به رجيمًا من الرجماء الذين يودونني إلا استحسنه مسرورًا وحكم بنجاحه، وإنما لا يجسر أحد أن يتقرب به إلى بعلزبول.

– فينوموس تعهدت بإقناعه بمشروع التوبة.

– لا أثق كثيرًا بوعد فينوموس، كلاهما يحرصان على الزعامة الجبارة، ويخافان أن تضيع زعامتهما متى انتقلنا إلى الأرض، إذا لم تضع في ثنايا المشروع قبل أن نرحل من هنا.

– لا يهمنا رضاهما، يجب أن تسقط زعامتهما.

– ويحك! إنهما جباران.

– أجل، ليس لبعلزبول المزايا ولا الجدارة التي لك في نظر الشعب، يسقط جبروتهما لدى دهائك الفائق، الشعب معجب بك.

فحملق أرجنتوس قائلًا: تعني؟

– أعني أنت أجدر منه بالزعامة.

– ويحك! ماذا تقول؟!

– أقول أنت الزعيم، أنت ملك مملكة جهنم، الشعب الجهنمي كله أصبح مدرِكًا مقدرتك العجيبة، أية ساعة تنادي بنفسك ملكًا تهتف لك الأبالسة «فليحيَ أرجنتوس الملك» ويبايعك الشعب.

– ويحك! إذا لم تحسب حسابًا لبعلزبول، فلا بد من أن نحسب لفينوموس حسابًا.

– فينوموس تبقى الملكة، أما شعرت أنت أنها معجبة بك، تكاد تبجلك إعجابًا بدهائك، تكاد تعيدك حبًّا.

وكان أرجنتوس متعمقًا في التفكير إلى أن قال: تكاد تزيِّن لي مكيدة سأقع فيها.

– لا تهب، لا تخف، أنا كفيل بإقناع الرجماء جميعًا، وحينئذٍ يسقط بعلزبول، وتبقى فينوموس على العرش، فتجلس أنت إلى جنبها.

– علامَ تستند بهذه الكفالة؟

– لقد جسست نبض بعض الرجماء «وترسملت» منهم.

– ومن فيرومارس وزير الحرب أيضًا؟

– لم يَبْقَ إلا هذا لم أكلمه بعدُ.

– طبعًا لا تجرؤ أن تكلمه؛ لأنه معروف بولائه لبعلزبول.

– لا، بل هو موالٍ لفينوموس يحبها.

– هي تقرِّبه إليها لكي تعتمد عليه حين الدفاع عن العرش.

– وهو مغترٌّ بجبروته الحربي، فهو يحب جبروته وأبهته ومجده؛ ولذلك لي أسلوب خاص بمفاوضته بالموضوع.

– أي موضوع؟!

– موضوع تعديل الحكم.

– أتعني أن تزيِّن له العرش!

– لا، بل أزين له الدكتاتورية المستقبلة.

– أرى تناقضات ومضادات في برنامجك يا رسبوتين، كيف أكون ملكًا ويكون فيرومارس دكتاتورًا؟!

– لا تكون ملكًا في أول الأمر بالاسم والفعل والحرف.

– ماذا إذن؟

– تكون رئيس الجمهورية أولًا، ثم تحوِّل كرسي الرئاسة إلى عرش تدريجيًّا.

– في ظل ديكتاتورية فيرومارس؟

– فيرومارس لن يكون دكتاتورًا، وإنما يوعد بها وعدًا، أو يوهم بها إيهامًا، والدكتاتورية الحقيقية تكون لك.

– بأي ضمانة.

– بضمانة دهاء مثلث.

– كيف يثلث الدهاء؟

– دهاؤك ينضم إليه دهاء فينوموس ودهاء «محسوبك».

– تعني نكون «تريومفير» روحاني!

– بالفعل نكون كذا، وأما بالاسم فتعرف أنت الحاكم الأعلى. الشعب يحبك، وأنت ساحره، فلا تقف صولة فيرومارس ولا ألاعيب فينوموس أمام دهائك في جمع كلمة الشعب حولك.

– ففكر أرجنتوس ثم قال: الأفضل أن لا تكلم فيرومارس؛ لئلا يفشي السر لبعلزبول.

– لن أمسَّ سلطة بعلزبول بحديثي البتة، وإنما أزيِّن لغيرومارس الدكتاتورية تحت سيادة بعلزبول، دَعِ التدبير لي.

– بقي أمر لم تحسب حسابه يا رسبوتين.

– ماذا؟

– لم تفرض فشل المكيدة ووقوعنا في الحفرة التي نحفر.

– هذا محسوب حسابه في رأس القائمة، وتداركه في رأس برنامج التدبير.

– كيف تتداركه؟

يثور الشعب في طلب الدستور الديموقراطي البحت، فإذا استطاع بعلزبول قمع الثورة تظاهرنا بالنقمة على الشعب المتطرف في طلباته، نحن لا نظهر في الميدان إلا إذا رأينا الثورة ناجحة فنقبض على الناصية.

– إلى هنا التدبير حسن، ولكن كيف يثار الشعب.

– أصبح الشعب متشبعًا بروح الديموقراطية التي ما فتئنا نحن الدهاة الأرضيين نبثها منذ جئنا لاستعمار جهنم، والمظاهرة التي حدثت اليوم هي طلائع الثورة، فالثورة مضمونة على الأبواب، وعندي رهط من الدهاة جنود الثورة الدعاة لها، ونجاحها أرجح جدًّا من فشلها؛ لهذا وددت أن نغنم فرصة الانتقال إلى الأرض لكي نغير نوع الحكم، وما دام الحكم بيد بعلزبول، فلا رجاء بنجاح مشروع التوبة الذي ينيلنا الملكوت الأرضي؛ لأن هذا الشخص رجعي متصلب الرأي، ولا يفهم شيئًا من تطور الأكوان والعوالم، فبقاؤه في الحكم عثرة في سبيل الارتحال من هنا إلى نعيم الأرض، كما كان عبد الحميد الرجعي عقبة في سبيل تقدُّم تركيا. ثِقْ أننا إذا دخلنا الملكوت الأرضي بزعامتك استطعنا أن نجعل الأرض أجمل وأسعد من جنة عدن قبل السقوط.٢

وكان أرجنتوس يسمع مفكرًا إلى أن قال: مَن هم جنود الثورة الذين تعتمد عليهم؟

– كثيرون مثل: نيرون، وأتيلا، وكليوبترا، وتيودورا، ومازرين، ونابوليون … إلخ.

– حسن، إذن أترقب نجاح الثورة، فأظهر حينئذٍ في صف القيادة.

– اتفقنا.

•••

وافترق رسبوتين عن أرجنتوس، وما عتم أن التقى بفيرومارس، فحيَّاه باشًّا وهو يقول: السلام على دكتاتور جهنم العظيم.

فتعجرف فيرومارس معرضًا صدره مصعرًا خده وقال: لماذا الدكتاتورية؟!

– لأن مظاهرة اليوم تنذر بثورة تتمخض عن دكتاتورية.

– لكن رشاشًا من دهاء فينوموس أطفأها قبل اندلاع لهيبها.

– لا تصدق أن نفسية الشعب المتقدة يطفئها دهاء، الشعب متنور وسيدنا رجعي، الشعب يطلب حكمًا ديموقراطيًّا وسيدنا يراوغ، الشعب يثور وأنت تقمع الثورة، لا بالسلاح بل بالحكم بين العرش والشعب، وإذا بك ترى نفسك ديكتاتورًا.

فضحك فيرومارس وقال: أَنَبِيٌّ أنت؟!

– نعم، ونبوءتي صادقة، غدًا تستل سيف الحكم أيها الدكتاتور العظيم، وإذا احتجت إلى مشورتي تجدني إلى جنبك، ولكن القوم يتحدثون الآن بحفلة توبة لأن الله سيقبلها بشفاعة القديسة جوكوندا. عندي الخبر اليقين، والحفلة بدء الثورة؛ لأن قبول التوبة مستحيل ما دام سيدنا … وبقية الكلام عندك، السلام عليكم.

وما ولي رسبوتين ظهره حتى أمسك فيرومارس بثوبه قائلًا: ويحك! ما هي بقية الكلام؟

– تأهب للقبض على الزمام غدًا، اسمح لي، عليَّ مقابلة هامة الآن للقديسة جوكوندا؛ لأجل ترتيب برنامج حفلة التوبة، إلى اللقاء.

١  انظر فصل «رسبوَتين» في دائرة المعارف البريطانية.
٢  إشارة إلى سقوط الجدين آدم وحواء بالخطية وانطرادهما من جنة عدن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤