الفصل الحادي عشر

لم تمهل العاصفة السفينة إلى أن تصل إلى الشاطئ، وكذا لم تمهل الثورة حفلة التوبة إلى أن تنعقد.

في اليوم التالي زحف موكب الشعب بقضه وقضيضه، وراياته تخفق فوقه وقد كُتِب عليها على أساليب مختلفة الكلمات الفخمة: الدستور، الديموقراطية، البرلمان، الجمهورية، الحكم الذاتي، اللامركزية، الحرية، المساواة، الإخاء، الاتحاد، إلى غير ذلك مما اخترعه قادة الأمم على الأرض لإثارة الغوغاء أو الرجماء.

وكانت الهتافات المتوالية تناسب هذه الكلمات، وازدحمت الجموع في الميادين والشوارع وفي ميدان قصر البعلزبولي، فاضطرب بعلزبول وفينوموس، ولا سيما إذ لم يجدا حولهما من الرجماء كبار الدولة إلا النزر اليسير يأتون بأخبار متناقضة وآراء متضاربة، ويعودون بحجة السعي إلى إخماد الهياج حتى كادا يقنطان من تفريج الأزمة.

في إبَّان قلقهما جاء عبد الحميد آل عثمان وهمس في أذن بعلزبول: مؤامرة! فاحذرها!

– ويحك! ما هي معلوماتك؟

– دسيسة سرية.

– ويحك! مَن يدسها؟

– رجالك!

– أصادق أنت؟

– كاذب إلا اليوم تقطع رأسي إن كنت كاذبًا.

– ماذا يريدون؟

– خلعك بحجة مماطلتك بالدستور.

– أعلنه في الحال!

أعلنته قبلك فمهدت السبيل لخلعي! فحاذِرْ …

– إذن! ماذا يرضيهم؟

– لا شيء.

– ما العمل إذن؟

– فرِّقْ تَسُدْ.

– كيف؟

– استدع كل واحد من قادة الثورة على حدة، وعِده وعدًا كاذبًا بأن تستوزره أو ترقيه إلى منصب أعلى من منصبه، حتى متى خمدت الثورة تقبض عليه وتزجه في السجن، ثم في بحيرة الرصاص المصهور.

وكان بعلزبول يسأل ويسمع مضطربًا فقال: مَن تعرف من زعماء الثورة؟

– ربما كان مدير حركتهم في الخفاء أقرب الأبالسة إليك.

– ويحك! مَن تعني.

– اسحق رأس الحية، لا أقدر أن أقول أكثر من ذلك.

فازداد اضطراب بعلزبول وقال: تبًّا لك! أي حية أقرب إليَّ من فينوموس؟ أأسحق رأسك؟

– لك أن تسحقه لكي تخسر مَن يصدقك أخبار الأسرار.

– ويحك! أي أسرار؟!

– كيف تنتظر أخباري وعنقي تحت سيف تهديدك المصلت.

– عليك الأمان، ماذا عندك من الأسرار.

– أَمِثْل الأمان الذي كان عندي في يلدز؟

– خسئت، بعلزبول لا ينكث عهده، ما هي أسرارك؟

– ليس عندي أكثر مما أفصحت.

– ويحك يا إنسان! أيمكن أن تخونني فينوموس؟

– مهلًا إلى أن تخمد الثورة وتشرع بالتحقيق.

– عمَّ ينجلي التحقيق يا خبيث؟

– عن تنازع الحكم في ساحة الغرام.

– سحقًا لك، إلامَ تكلمني بألغاز؟ أفصح.

– لا أفصح إلا بعد أن أجمع البينات، وثمت تكون شهادتي صادقة. فأمهلني إذا كنت تعتمد على مشورتي.

– ماذا يطمنني في الاعتماد على مشورتك؟

– إن تراجع التاريخ تعلم أنك وقعت على خبير.

– كيف أثق أنك تمنحني خبرتك الصادقة؟

– لست أمنحك منحًا، وإنما أبيعك بثمن.

– حسنًا، الثمن مكافأتك بمنصب عظيم إن أصدقتني الخبرة النافعة، أو قطع عنقك إن كذبتني الخبر الصحيح.

– اتفقنا، دعني أسعَ سعاياتي ريثما تتدارك التهاب الهشيم.

•••

وتوارى عبد الحميد، وجال بعلزبول يبحث عن فينوموس، فما عتم أن رآها عن بُعْدٍ تماشي فيرومارس وبينهما حديث تنمُّ إشاراته عن اهتمام، فتركها ليرى ماذا يكون من أمرهما، وإذا رسبوتين يبدو لديه ويبادره وبصوت خافت: حاذر من دكتاتورية فيرومارس.

فازداد اضطراب بعلزبول وقال: كيف يمكن أن يكون دكتاتورًا؟

– يكون دكتاتورًا إذا وليته قمع الثورة.

– كيف عرفت أنَّ فيرومارس ينويها؟

– نزف من سوائل مؤامرة.

– ويحك! ماذا تعرف عن المؤامرة؟

– لا شيء سوى النزف.

– تقيأه حالًا وإلا فأنت تعلم عقاب النم والوشاية.

– غريب أمرك يا سيدي الملك، أليس بصرك أنم من كلامي.

– ويحك ماذا أبصر؟

– أتريد تلسكوبًا أم ميكورسكوبًا أم كليهما، لكي ترى نزيف المؤامرة؟!

– تبًّا لك! أتلفت نظري إلى مسايرة فينوموس لفيرومارس؟

– لا، بل مسايرة فيرومارس لها.

– ماذا فيها؟

– مساومة.

– علامَ؟

– ستنجلي لك إن قمع فيرومارس الثورة.

– ويحك! أتحرضني على الشك بفينوموس؟

– لست أحرِّضك بل أحذرك.

– وممَّ؟

– من تولية فيرومارس قمع الثورة لئلا يقمعها لحسابه.

فاشتد قلق بعلزبول وقال: تبًّا لك! مَن أولى منه بقمعها وهو وزير الحربية؟ ومن أجدر وهو قائد الجيش؟

– أرجنتوس أولى؛ لأنه أدهى، والدهاء أفعل إذا كانت الثورة في الجيش نفسه.

– ما الضمانة على صدق نصيحتك؟

– صدق أخباري التي أبلغتها إليك.

– لم تخبرني سوى نية فيرومارس الطمع بالدكتاتورية، فكيف أتحقق صدق هذا الخبر؟

– ستتحققه من فينوموس نفسها وتتحقق معه أمورًا كثيرة.

– ماذا غير ذلك يا هذا؟

– ستتحقق أن الغرام ينقب تحت العرش.

– سحقًا لك! أي غرام هذا؟

– سأشرحه لك متى توفرت عندي أدلته.

– كيف أثق بصدق أدلتك.

– بالوعد أو بالوعيد.

– تعني …

– الوعد بالمكافأة على الصدق، والوعيد بالقصاص على الكذب.

– حسنًا، متى تعود بالأخبار اليقينية؟

– قبل اندلاع اللهيب، اسمح الآن.

– امضِ، أنتظرك.

•••

والتفت بعلزبول، وإذا فينوموس مُقْبِلة وفي وجهها أمائر التفكير العميق، فلما التقيا قال متجهمًا: ماذا ترين؟

– أرى أن نتأهب لمقاومة المظاهرة بالقوة المسلحة؛ لأن دلائل المتمرد أصبحت واضحة.

– مَن يتولى قيادة القوة المسلحة؟

– مَن غير فيرومارس وهو ابن بَجْدَتِها؟

– أرتاب به.

– لماذا؟

– لأنه إلى الآن لم يبدُ منه اهتمام.

– لأنه يشترط أن يُقلَّد السلطة المطلَقة.

فقال بعلزبول مضطربًا: وماذا قلتِ له؟

– فَلْتكن له.

– ويحك! تتواطئين معه على دكتاتورية؟

فتجهمت فينوموس وقالت: ماذا تقول؟

– أقول إني علمت بمؤامرة.

– لا علم لي بمؤامرة، فأنبئني ماذا علمت؟

فقال يجاهر بغضبه: أتتجاهلين؟

– ويحك! أبلغ منك سوء الظن أن تستخونني! ما هي المؤامرة التي اكتشفتَ أني أعلم بها وأكتمها عنك.

– ليس الآن وقت الحساب.

– طبعًا ليس الآن وقته والثورة على الأبواب، يجب أن نطلق يد فيرومارس عاجلًا وإلا سادت الفوضى.

– لن يقود فيرومارس الجيش.

– مَن يقوده إذن؟

– أرجنتوس!

– بئس الرأي.

فازداد تغيظ بعلزبول وقال: لقد صدقت الأخبار!

فقالت ساخطة: أية أخبار؟

– أخبار المؤامرة التي تعرفينها.

– تكاد تخرجني عن دائرة صبري، وتدفعني إلى خصومة مدبرة! أفصح ماذا تعلم من مؤامرة؟

– ليس الآن وقت الإفصاح، ندعه إلى أن نقمع الثورة، يجب أن يتولى أرجنتوس قمعها.

– مستحيل!

•••

عند ذلك بدا جستوس بينهما مضطربًا: أتختصمان ولهيب الثورة يكاد يندلع!

فقال بعلزبول: إني أحس بمؤامرة، فما وراءك؟

– نعم! الثورة بنت مؤامرة هائلة.

– أجل! وفينوموس تكتمها عني.

– معاذ الله! لا علم لها بها في ظني.

– إذن ماذا تعلم عنها أنت؟

– ليس وقت التحقيق الآن، بل وقت المبادرة إلى العمل.

– هذا ما أبتغيه، ولذلك قررت أن أولي أرجنتوس قمع الثورة.

– كلا! بل تقبض على أرجنتوس الآن.

فقالت فينوموس: أما قلت لك إنه ليس غير فيرومارس جديرًا بقمع الثورة!

فقال جستوس: واقبض على فيرومارس أيضًا.

– واعجباه! لقد صدق عبد الحميد ورسبوتين.

– وعليهما اقبض أيضًا فهما نواة الثورة.

فدهش بعلزبول وقال: وعلى مَن أيضًا؟

– على كبار الدهاة الأرضيين جميعًا، اقبض على الجميع في الحال.

– ومَن يتولى قيادة الجيش؟

– أنتَ. أبرز حالًا إلى الميدان وأصدر الأوامر، وإلا أَضَعْتَ الملك والدولة، وأصبحت المملكة الجهنمية ملك دولة بشرية، هاك قائمة بأسماء مَن يجب أن تقبض عليهم، فمتى اعتقلوا تخمد الثورة من تلقاء نفسها.

فقال بعلزبول وهو في شديد الاضطراب: ومَن يتولى عملية القبض؟

– أي مَن تأمره من الشرطة يتولاها.

– لا أدري مَن هو المخلص منهم.

– المخلص لك مَن يهابك ويخاف بطشك؛ فأصدر أمرك بحزم وشدة يطعك كل مأمور مخلصًا برغم أنفه.

– وإن خان؟

– مُرْه بتهديد فلا يجسر أحد أن يخون، مُرْه بشدة؛ ألست الملك أنت؟ استعمل حق حولك وطولك، أسرع؛ ابطش ولا تخف!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤